الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-27-8
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٦

موقوفا على عدم جريانه فلا يمكن ان يكون مانعا من جريانه.

وهذا كله بخلافه في الصورة الثانية فإنّ جريان الأصل لا يحقق موضوع وجوب الحج ولا يحرزه وجدانا وإنّما يحرزه تعبدا إذ المفروض توقف وجوب الحج على العدم الواقعي لوجوب الوفاء لا على العدم الظاهري ، وواضح إن الأصل لا يحرز العدم الواقعي إحرازا وجدانيا وإنّما يحرزه ظاهرا وتعبدا. ومن هنا يتضح ان تحقق العلم الإجمالي وثبوته حقيقة في هذه الصورة لا يتوقف على عدم جريان الأصل لأنّ جريانه لا يزيله حقيقة حتى يكون ثبوته الحقيقي موقوفا على عدم جريانه.

وفي هذه الصورة الثانية يمكن ان تتم الشبهة المتقدمة ـ التي كانت تقول انّه بناء على مسلك العلية لا يمكن جريان الأصل حتى في الطرف الواحد ـ لأن العلم الإجمالي ما دام باقيا حقيقة حتى بعد جريان الأصل فيمكن ان يكون مانعا من جريانه.

٢ ـ انّه في الصورة الاولى إذا جرى الأصل ثبت العدم الظاهري لوجوب الوفاء ويزول به العلم الإجمالي زوالا حقيقيا من دون فرق بين ان يكون الأصل تنزيليا أو لا (١) ، إذ على كلا التقديرين يتحقق العدم الظاهري لوجوب الوفاء ،

__________________

(١) المقصود من الأصل التنزيلي ما يعم الأصل المحرز ، أي الذي به يحرز به الواقع تعبدا كالاستصحاب مثلا فانه ناظر إلى الواقع ويحرزه تعبدا وليس المقصود منه خصوص المعنى المصطلح للأصل التنزيلي وهو ما ينزل الظاهر منزلة الواقع ، كأصالة الحلية ، حيث إنّ مفادها في رأي بعض تنزيل الحلية الظاهرية منزلة الحلية الواقعية.

ومما يؤكد ما نقول تفسيره قدس‌سره للأصل التنزيلي بما كان « مفاده التعبد بعدم التكليف ـ

٤٠١

وهذا بخلافه في الصورة الثانية فإنّ الأصل الجاري لنفي وجوب الوفاء لا بدّ ان يكون تنزيليا حتى يحرز به العدم الواقعي لوجوب الوفاء ، وأمّا إذا لم يكن تنزيليا فلا يكون جريانه نافعا لزوال العلم الإجمالي زوالا حكميا لأنّ وجوب الحج في الصورة الثانية مترتب على العدم الواقعي لوجوب الوفاء فلا بدّ وإن يكون الأصل ناظرا إلى الواقع ومحرزا له حتى يكون حاكما على الأصل المسببي الجاري في وجوب الحج.

قوله ص ١٤٦ س ١٥ : بأحد الأمرين : أي إمّا وجوب الحج أو وجوب الوفاء بالدين.

قوله ص ١٤٧ س ١٠ : واستناد عدم جريان الأصل إلخ : عطف تفسير لسابقه.

قوله ص ١٤٨ س ٦ : ينقح بالتعبد : أي يثبت بسبب التعبد.

قوله ص ١٤٨ س ٨ : والأصل السببي مقدّم إلخ : علل المشهور تقدم الأصل السببي على المسببي بإنّ الأصل السببي إذا جرى زال الشكّ المسببي ، واذا زال لم يجر الأصل فيه لأنّ جريان الأصل موقوف على الشكّ فاذا زال لم يجر ، فالأصل إذا جرى لنفي وجوب الوفاء زال الشكّ في وجوب الحج وتبدل إلى العلم تعبدا بوجوبه.

قوله ص ١٤٩ س ٢ : ومن أجل ذلك : أي من أجل انّ جريان الأصل لا

__________________

ـ المشكوك واقعا » وواضح ان هذا تفسير للاصل المحرز لا للتنزيلي بالمعنى المصطلح.

ولمزيد الاطلاع على مصطلح الأصل التنزيلي والمحرز يمكن مراجعة القسم الثاني من الحلقة الثالثة ص ١٦

٤٠٢

يوجب انحلال العلم الإجمالي انحلالا حقيقيا.

قوله ص ١٤٩ س ٧ : عن وجوب الحج : الصواب : عن وجوب الوفاء.

قوله ص ١٤٩ س ١٥ : بل معارضا : فإنّ الأصلين في الطرفين إذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر فهو معارض له.

٤٠٣
٤٠٤

الدوران بين

الوجوب والحرمة

٤٠٥
٤٠٦

الوظيفة عند الشك في الوجوب والحرمة معا

قوله ص ١٥٥ س ١ : حتى الآن كنا نتكلم :

الشك في التكليف له حالات أربع : ـ

١ ـ الشكّ في أصل ثبوت التكليف وعدمه كالشكّ في حرمة التدخين وعدمها مثلا. وهذا ما يصطلح عليه بالشك البدوي في ثبوت التكليف. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ص ٢٩ من الحلقة ، واتضح ان حكمها بحسب الوظيفة العقلية يختلف فيه السيد الشهيد مع المشهور ، فالمشهور يرى البراءة تمسكا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان بينما هو قدس‌سره يرى الاشتغال لمنجزية الإحتمال. وأما بحسب الوظيفة الشرعية فالكل متفق على البراءة.

ثم ان حالة الشكّ البدوي في ثبوت التكليف هي عبارة اخرى عن مبحث أصل البراءة.

٢ ـ ان يعلم بثبوت التكليف ويشكّ في متعلقه ، كما إذا علم يوم الجمعة بثبوت وجوب الصلاة وشكّ في تعلقه بصلاة الظهر أو بصلاة الجمعة. وهذا ما يصطلح عليه بالعلم الإجمالي بالتكليف. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ص ٧٣ من الحلقة.

وهذه الحالة هي عبارة اخرى عن مبحث أصالة الاشتغال.

٣ ـ ان يعلم بثبوت التكليف ولكنه لا يعلم هل هو الوجوب أو الحرمة ،

٤٠٧

فالأمر يدور بين الوجوب والحرمة ، بينما في الحالة الاولى كان الأمر يدور بين الوجوب والإباحة مثلا ، فثبوت التكليف ليس جزميا لإحتمال ثبوت الإباحة بخلافه في هذه الحالة فإنّ ثبوت التكليف معلوم ولكنّه يشكّ في كونه وجوبا أو حرمة. وهذه الحالة هي محل بحثنا الآن (١).

ثم انّ هذه الحالة لها شكلان ، إذ تارة يفرض وجود احتمال ثالث ـ مضافا إلى احتمال الوجوب والحرمة ـ وهو احتمال الرخصة ، بأن يعلم ان الشيء إمّا واجب أو حرام أو مباح ، واخرى يفرض عدم وجود الإحتمال الثالث المذكور بان ينحصر أمر الشيء بين الحرمة والوجوب فقط.

والشكل الأوّل ـ ومثاله أن يحتمل المكلّف نذره لشرب الماء ويحتمل نذره لترك شربه ويحتمل عدم تعلق النذر به مطلقا ـ يمكن ان يصطلح عليه بالشكّ في ثبوت الحرمة والوجوب بنحو الشكّ البدوي.

والشكل الثاني ـ ومثاله ان يعلم المكلّف بصدور النذر منه جزما ولكنه لا يعلم هل هو نذر الشرب أو نذر تركه ـ يصطلح عليه بحالة دوران الأمر بين المحذورين.

وعلى هذا فبحثنا يدور حول هذين الشكلين ، فتارة نتكلم عن حالة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة بنحو الشكّ البدوي واخرى نتكلم عن حالة الدوران بين المحذورين.

__________________

(١) وأمّا الحالة الرابعة فتأتي الإشارة لها ص ١٦٣ من الحلقة

٤٠٨

الشك البدوي في الوجوب والحرمة

والشك البدوي في الوجوب والحرمة يعني وجود احتمال الترخيص مضافا إلى احتمال الوجوب والحرمة.

والبحث عن حكم هذا الشكّ تارة يقع بلحاظ تشخيص الوظيفة العقلية ، واخرى بلحاظ تشخيص الوظيفة الشرعية.

أمّا الوظيفة العقلية فالعقل يحكم بالبراءة حتى على مسلك حق الطاعة ، أي منجزية الإحتمال فضلا عن مسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان.

أمّا على مسلك المشهور فحكم العقل بالبراءة واضح لأنّ الوجوب حيث انّه غير معلوم فالعقل يحكم بقبح العقاب عليه بلا بيان ، وهكذا الحرمة حيث انّها غير معلومة فالعقل يحكم بقبح العقاب عليها بلا بيان.

وأمّا على مسلك حق الطاعة فلأنّ العقل إنّما يحكم بمنجزية الإحتمال فيما إذا لم يكن معارضا ، أما مع المعارضة ـ كما في مقامنا حيث إنّ احتمال الوجوب معارض باحتمال الحرمة ـ فلا منجزية ، لأنّ منجزيتهما معا غير ممكنة ، ومنجزية أحدهما دون الآخر باطلة لأنها بلا مرجح. هذا كله في الوظيفة العقلية.

وأمّا الوظيفة الشرعية فمقتضى مثل حديث « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » البراءة من الوجوب والحرمة معا لأنّ الوجوب حيث انّه غير معلوم فهو مرفوع ، وهكذا الحرمة حيث انّها غير معلومة فهي مرفوعة.

٤٠٩

وبهذا اتضح الفرق بين هذه الحالة والحالة الاولى (١) فانّه في هذه الحالة تجري البراءة العقلية على كلا المسلكين : مسلك المشهور ومسلك السيد الشهيد ، بينما في الحالة الاولى لا تجري البراءة العقلية على رأي السيد الشهيد وإنّما تجري على رأي المشهور.

__________________

(١) المقصود من الحالة الاولى : ما اذا احتمل الوجوب مع الترخيص من دون احتمال الحرمة ، وهكذا اذا احتملت الحرمة مع الترخيص من دون احتمال الوجوب. والمقصود من هذه الحالة : ما اذا احتمل الوجوب والحرمة والترخيص جميعا

٤١٠

دوران الأمر بين المحذورين

وأمّا الشكل الثاني ـ أي حالة احتمال الحرمة والوجوب بدون انضمام احتمال الترخيص ـ المصطلح عليه بحالة دوران الأمر بين المحذورين فلا إشكال بين الاصوليين في عدم كون العلم الإجمالي منجّزا لأنّ كلاّ من مخالفته القطعية وموافقته القطعية غير ممكنة ، فإنّ الانسان امّا أن يشرب الماء ، وفي ذلك احتمال الموافقة كما فيه احتمال المخالفة ، وامّا أن يترك الشرب ، وفي ذلك احتمال الموافقة واحتمال المخالفة أيضا ، ولا يمكن فعل الشرب وتركه معا لتحصل المخالفة القطعية أو الموافقة القطعية.

إذن تنجيز العلم الاجمالي لكلا الإحتمالين غير ممكن ، كما وإن تنجيزه لأحدهما دون الآخر بلا وجه لأنّه ترجيح بلا مرجح.

وهذا كله مما لا إشكال فيه ، وإنما الإشكال بين الاصوليين وقع في أنّ العلم الاجمالي بعد الفراغ عن عدم منجّزيته هل يمنع من جريان أصل البراءة العقلي والنقلي لنفي احتمال الوجوب واحتمال الحرمة أو لا يمنع؟ فهناك من قال بانّه لا يمنع ، إذ بعد عدم كونه منجّزا لا يبقى مانع يمنع من جريان الأصل لنفي احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ، كما وهناك : من قال بانّه يمنع حتى وإن لم يكن منجّزا.

ثمّ إنّ القائل بعدم المانع من جريان الاصل وجّهت له عدة اعتراضات.

والاعتراضات الموجهة على ثلاثة أشكال ، فبعضها اعتراض على البراءة

٤١١

العقلية ، وبعضها اعتراض على البراءة الشرعية ، وبعضها اعتراض على بعض ادلّة البراءة الشرعية دون بعضها الآخر. وفيما يلي نوضح هذه الاعتراضات.

الاعتراض الأوّل وهذا الاعتراض للشيخ العراقي

ويختص بالبراءة العقلية. وحاصله : إنّا نسلّم أنّ العلم الاجمالي في موارد دوران الأمر بين المحذورين ليس منجّزا لعدم إمكان موافقته القطعية ولا مخالفته القطعية ، وعدم كونه منجّزا ليس الا عبارة اخرى عن كون المكلّف مرخّصا في الفعل والترك.

وقد تقول إذا سلّمتم بكون المكلّف مرخّصا في الفعل والترك فهذا معناه الاعتراف بجريان البراءة العقلية في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّ البراءة العقلية ليست هي الا عبارة عن الترخيص في الفعل والترك ، وبهذا يثبت أنّ الشيخ العراقي من المسلّمين لإمكان جريان البراءة العقلية في موارد دوران الأمر بين المحذورين وليس من المعترضين والمنكرين.

هكذا قد تقول ، ولكنه توهّم باطل ، فانّه ليس مطلق الترخيص في الفعل والترك براءة عقلية ، وإنّما البراءة العقلية هي حصّة خاصة من الترخيص وهي الترخيص في الفعل الناشئ من عدم البيان على التكليف ، ومن الواضح أنّ الترخيص في مقامنا لم ينشأ من عدم البيان وإنّما نشأ من عدم تمكن المكلّف من الامتثال عند دوران الأمر بين المحذورين ، أي نشأ من عدم إمكان إدانة العاجز.

وما دام الترخيص المذكور ليس براءة عقلية فلو أردنا إجراء البراءة العقلية فلا بدّ من إجرائها بعد هذا الترخيص الثابت بملاك قبح إدانة العاجز ، وهو غير ممكن

٤١٢

لعدم وجود الفائدة في إجرائها حينذاك.

وقد تقول إنّ الفائدة هي إسقاط العلم الاجمالي عن المنجّزية ، ففائدة البراءة العقلية هي أنّ العلم الاجمالي بثبوت الوجوب أو الحرمة يسقط عن المنجّزية ، أي يسقط عن كونه بيانا ، فانّه إذا سقط عن كونه منجّزا فلازمه انّه ليس بيانا والاّ كان منجّزا.

ولكن هذا توهّم باطل فإنّ البراءة العقلية أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان تقول متى ما كان المورد لا بيان فيه فالعقاب فيه قبيح ولا تقول إنّ العلم الاجمالي بيان أو لا ، فإنّ القاعدة لا تثبت موضوع نفسها والحكم لا يثبت موضوع نفسه (١).

وعليه فقاعدة قبح العقاب لا يمكن التمسّك بها إلاّ في موارد الشك الوجداني حيث انّ عدم البيان يكون ثابتا بالوجدان ، وأمّا في موارد العلم الاجمالي بثبوت أحد الحكمين فلا يمكن التمسّك بها ، فإنّ القاعدة المذكورة كسائر القواعد الاخرى لا تثبت موضوع نفسها.

وبهذا يتّضح انّه لا بد من إسقاط العلم الاجمالي عن البيانية في مرحلة سابقة على إجراء البراءة العقلية ، وإذا تمسّكنا بقاعدة قبح إدانة العاجز سقط العلم الاجمالي عن البيانية ، وحينئذ يصير موضوع قاعدة قبح العقاب متحقّقا ، فإذا تحقّق فقد يتوهّم حينذاك إمكان التمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولكنّه توهّم فاسد أيضا ، فحتى في هذه الحالة لا يمكن التمسّك بقاعدة قبح العقاب ، فانّه

__________________

(١) فلو قيل أكرم العالم فهو لا يثبت أنّ هذا الشخص عالم أو لا ، وإنّما يقول لو كان هذا أو ذاك عالما فأكرمه

٤١٣

إذا تمسّكنا بقاعدة قبح إدانة العاجز في مرحلة سابقة وثبت الترخيص في الفعل والترك صار التمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لإثبات الترخيص لغوا إذ إثبات الترخيص من جديد بعد ثبوته سابقا يكون إثباتا لما هو ثابت.

والخلاصة : إنّ التمسّك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فرع إحراز عدم البيان ، ولكن كيف يحرز عدم البيان مع فرض وجود العلم الاجمالي!! إنّ من اللازم اسقاط العلم الاجمالي عن المنجّزية ليتحقّق بذلك عدم البيان ، واسقاطه عن المنجّزية إن كان بنفس قاعدة قبح العقاب فهو غير ممكن لما تقدّم ، وإن كان بقاعدة قبح إدانة العاجز يلزم اللغوية (١).

ويمكن ردّ الاعتراض المذكور بأنّا نختار اجراء البراءة العقلية بعد سقوط العلم الاجمالي عن البيانية بقاعدة قبح إدانة العاجز ، ولا يلزم ما ذكر من محذور اللغوية لأنّ ما يمكن أن يكون منجّزا في مقامنا أمران : العلم الاجمالي بثبوت الوجوب أو الحرمة ، واحتمال الوجوب والحرمة ، فانّه بقطع النظر عن العلم

__________________

(١) اعتقد انّ عبارة الشيخ العراقي في نهاية الافكار ج ٣ ص ٢٣٩ أخصر وأوضح ، حيث قال : « لا مجال لجريان ادلّة البراءة ... من جهة اختصاص جريانها بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل أو الترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان ... وإن شئت قلت إنّ الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان إنّما هو في ظرف سقوط العلم الاجمالي عن التأثير ، والمسقط له حينما كان هو حكم العقل بمناط الاضطرار فلا يبقى مجال لجريان أدلّة البراءة العقلية والشرعية نظرا إلى حصول الترخيص حينئذ في الرتبة السابقة ».

ثمّ أنّ ما نسبه السيد الشهيد إلى الشيخ العراقي من اختصاص اعتراضه بالبراءة العقلية لم نعرف وجهه بعد تصريح الشيخ العراقي في العبارة المذكورة بقوله فلا مجال لجريان أدلّة البراءة العقلية والشرعية

٤١٤

الاجمالي يوجد لدينا احتمال الوجوب واحتمال الحرمة.

وقاعدة قبح إدانة العاجز تسقط العلم الاجمالي عن المنجّزية والبيانية ، وبعد سقوطه عن المنجّزية يبقى احتمال الوجوب والحرمة ، أي نصير وكانّه لا علم إجمالي لنا أبدا ، بل لنا احتمال الوجوب والحرمة فقط ، فنحتاج إلى ما يسقط هذا الاحتمال عن المنجّزية وهو ليس الا قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبكلمة اخرى إنّ الدور الذي تقوم به قاعدة قبح إدانة العاجز يغاير الدور الذي تقوم به قاعدة قبح العقاب ، فتلك تسقط العلم الاجمالي عن المنجّزية وهذه تسقط الاحتمال عن المنجّزية ، وليس كل واحدة تقوم بنفس ما تقوم به الاخرى من دور حتى يلزم محذور اللغوية.

الاعتراض الثاني

والاعتراض الثاني ـ الذي هو للميرزا ـ خاص بالبراءة الشرعية ببعض السنتها وليس اعتراضا على جميع ألسنة البراءة الشرعية.

وحاصله : انّا لو نظرنا إلى مثل لسان « كل شيء لك حلال حتى تعرف انّه حرام » فلا يمكن التمسّك به في المقام لأنّ الحديث المذكور يثبت الحليّة ظاهرا في المورد الذي يكون ثبوت الحليّة واقعا فيه أمرا محتملا ، ومن الواضح انّ الحليّة واقعا في مقامنا ليست محتملة ، إذ المحتمل امّا الوجوب أو الحرمة دون الحليّة.

ولو نظرنا إلى مثل لسان « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فلا يمكن التمسك به في المقام أيضا لأنّ الحديث المذكور يرفع الحكم رفعا ظاهريا ـ والمقصود من الرفع الظاهري هو رفع وجوب الاحتياط ـ وواضح انّ الرفع الظاهري إنّما يعقل

٤١٥

في المورد الذي يعقل فيه الوضع الظاهري ، فمتى ما كان الوضع الظاهري ـ أي ثبوت وجوب الاحتياط ـ أمرا ممكنا كان الرفع الظاهري ـ أي رفع وجوب الاحتياط ـ ثابتا بمقتضى الحديث. وفي مقامنا بما انّه لا يمكن الوضع الظاهري ـ حيث لا يمكن إثبات وجوب الاحتياط لأجل الوجوب المشكوك أو لأجل الحرمة المشكوكة لفرض دوران الأمر بين محذورين ـ فلا يمكن التمسك بالحديث لإثبات الرفع الظاهري. هذا حاصل ما افاده الميرزا.

ويرده : ـ

أ ـ ان بامكاننا التمسك باللسان الأوّل للبراءة الشرعية ، أي لسان « كل شيء لك حلال ». ودعوى ان الحديث لا يمكن التمسك به الاّ في المورد الذي تكون الحلية فيه واقعا مشكوكة ومحتملة مرفوضة ، فإنّ الحديث لم يقيد إثبات الحلية ظاهرا بما إذا كانت الحلية واقعا محتملة ، فلم يقل كل شيء لك حلال فيما اذا كانت حليته واقعا محتملة بل أطلق وقال كل شيء لك حلال.

وقد تقول : انّه توجد لدينا قرينة على التقييد المذكور وهي إنّ الحلية الظاهرية حيث انّها حكم ظاهري ، والحكم الظاهري متقوم بالشكّ فلا بدّ وأن نفترض الشكّ في الحلية الواقعية ليمكن إثبات الحكم الظاهري بالحلية ، إذ الحلية الواقعية إذا لم تكن مشكوكة فلا يمكن إثبات الحلية الظاهرية لأنّ الحكم الظاهري متقوم بالشكّ.

والجواب : ان الحكم الظاهري بالحلية وإن كان متقوما بالشكّ ولكنه ليس متقوما بخصوص الشكّ في الحلية الواقعية بل هو متقوم بأصل الشكّ. وبكلمة اخرى : ليس هو متقوما بتعلق الشكّ بالحلية التي هي مماثلة للحلية

٤١٦

الظاهرية بل يكفي أصل وجود الشكّ ، وهو متوفر في مقامنا حيث إنه يشكّ في ثبوت الوجوب ويشك في ثبوت الحرمة.

ب ـ ان بالإمكان الأخذ باللسان الثاني ، أي لسان « رفع عن أمتي ما لا يعلمون ». ودعوى ان الرفع الظاهري لا يعقل الاّ إذا أمكن الوضع الظاهري دعوى صحيحة ، ولكننا نقول إنّ الوضع الظاهري في مقامنا معقول فانا ننظر إلى احتمال الوجوب وحده ونقول ان وضع الوجوب حيث انّه معقول فرفعه يكون معقولا أيضا. وهكذا ننظر إلى احتمال الحرمة وحده ونقول حيث ان وضع الحرمة معقول فرفعها معقول أيضا. أجل وضع الحرمة والوجوب معا غير معقول ولكن ذلك ليس مهما فإنّ رفع الوجوب يقابل وضع الوجوب فقط ولا يقابل مجموع كلا الوضعين ، وهكذا رفع الحرمة يقابل وضع الحرمة فقط ولا يقابل مجموع الوضعين.

الاعتراض الثالث

ما أفاده السيد الشهيد قدس‌سره وهو خاص بإجراء البراءة الشرعية ولكن بكافة ألسنتها.

وحاصله : انّ ظاهر أدلة البراءة الشرعية إثبات البراءة عند ما يدور الأمر بين احتمال ثبوت التكليف واحتمال ثبوت الرخصة ـ كما اذا دار الأمر بين الحرمة والإباحة أو دار بين الوجوب والإباحة ـ وليس ظاهرها إثبات البراءة عند ما يدور الأمر بين ثبوت تكليف وتكليف آخر ، كما إذا دار بين ثبوت الوجوب أو الحرمة.

٤١٧

وبكلمة اخرى : ان ظاهر أدلة البراءة إثبات البراءة عند دوران الأمر بين غرضين أحدهما لزومي والاخر ترخيصي وليس ظاهرها إثبات البراءة عند دوران الأمر بين غرضين إلزاميين (١).

توهم ودفع

قد يقال انّ البراءة الشرعية إذا لم تجر لنفي منجزية احتمال الوجوب واحتمال الحرمة والمفروض ان السيد الشهيد ينكر البراءة العقلية فيلزم ثبوت احتمال الوجوب والحرمة بدون وجود ما ينفي منجزيتهما.

وفيه : ان السيد الشهيد وان كان ينكر البراءة العقلية ويرى منجزية الإحتمال ولكن ذلك في خصوص ما إذا لم يكن الاحتمال معارضا ، أمّا عند المعارضة كما في المقام فلا يراه منجزا كما أشار إلى ذلك قدس‌سره في ص ١٥٦ من الحلقة.

تعدد الواقعة ووحدتها

وقد اتضح لحدّ الآن انّ العلم الإجمالي في موارد دوران الأمر بين المحذورين ليس منجزا لعدم إمكان موافقته ولا مخالفته القطعية. بيد ان هذا

__________________

(١) ما أفاده قدس‌سره يتم في مثل حديث « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام » حيث ان ظاهره إثبات الحلية عند دوران الأمر بين الحلية والحرمة ، ولا يتم في مثل حديث « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » أو « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » فانهما يدلان على ان كل ما لا يعلم فهو مرفوع حتى وإن كان المشكوك هو الحرمة والوجوب من دون احتمال الإباحة

٤١٨

واضح في صورة وحدة الواقعة ، وأمّا عند تعددها فهل يبقى العلم الإجمالي على عدم المنجزية أو ينقلب منجزا.

مثال وحدة الواقعة : ما إذا علم المكلّف مثلا بحرمة شرب ماء البرتقال أو وجوبه عليه يوم الجمعة ، فإنّ من الواضح كون يوم الجمعة يوما واحدا وواقعة واحدة فامّا أن يحصل الشرب فيه أو يحصل تركه فيه ، ولا يمكن فعلهما معا ولا تركهما معا ، فالموافقة القطعية والمخالفة القطعية كلتاهما غير ممكنة. وهذا هو ما كان كلامنا فيه لحدّ الآن.

ومثال تعدد الواقعة : ما إذا علم المكلّف بانّه امّا يحرم عليه شرب ماء البرتقال لمدة شهر أو يجب عليه ذلك لمدة شهر. والشهر بما انّه مركب من ثلاثين يوما ، وكل يوم يمكن ان يقع فيه الشرب أو تركه فمجموع الوقائع على هذا ثلاثون بعدد أيام الشهر.

وفي هذه الحالة ـ أي حالة تعدد الواقعة ـ يمكن للمكلف المخالفة القطعية (١) وذلك بأن يشرب ماء البرتقال في يوم ويتركه في يوم ثان ، فانه بذلك يقطع بحصول المخالفة منه اذ لو كان الشرب حراما فالمفروض قد صدر في يوم ، وإن كان واجبا فالمفروض قد ترك في يوم.

وبعد اتضاح هذا نطرح هذا السؤال التالي : ذكرنا في صورة وحدة الواقعة ان العلم الإجمالي بالوجوب والحرمة ليس منجزا لعدم إمكان مخالفته ولا موافقته القطعية ، ولكن في صورة تعدد الواقعة هل يبقى العلم الإجمالي على عدم

__________________

(١) وإن بقيت الموافقة القطعية غير ممكنة له

٤١٩

المنجزية مع ان المفروض إمكان مخالفته القطعية أو ينقلب منجزا لإمكان مخالفته القطعية؟ ان هذا سؤال يترك جوابه إلى بحث الخارج.

قوله ص ١٥٥ س ٢ : سواء كان شكا بدويا : وهو إشارة إلى الحالة الاولى من حالات الشكّ الأربع التي مرّ البحث عنها ص ٢٩ من الحلقة. وقوله « أو مقرونا بالعلم الإجمالي » إشارة إلى الحالة الثانية من حالات الشكّ التي مرّ البحث عنها ص ٧٣ من الحلقة.

قوله ص ١٥٥ س ٤ : وهما احتمال إلخ : أي إنّ أحد الاحتمالين احتمال التكليف والاحتمال الآخر احتمال الترخيص من دون أن يكون كلا الإحتمالين احتمال التكليف.

قوله س ١٥٥ س ٨ : بالعلم الإجمالي بالجامع إلخ : المراد من الجامع عنوان أحدهما. وتقدير العبارة : واخرى يكون مقرونا بالعلم الإجمالي بأحد التكليفين : الوجوب أو الحرمة.

قوله ص ١٥٦ س ٣ : منجزا في نفسه : أي بقطع النظر عن معارضته بالاحتمال الآخر.

قوله ص ١٥٦ س ٨ : بإطلاقها : حيث لم تقيد بما إذا دار الأمر بين احتمالين لا أكثر : احتمال التكليف واحتمال الترخيص ، بل هي تشمل بإطلاقها المورد ، أي حالة دوران الأمر بين احتمالات ثلاثة.

قوله ص ١٥٦ س ٩ : وما سبق من شكّ : أي الشكّ في التكليف المتقدم في الحالة الاولى من حالات الشكّ الأربع.

قوله س ١٥٦ س ١٣ : بجنس الإلزام : أي الشامل للالزام الوجوبي

٤٢٠