الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-27-8
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٦

الدقيقة دون ما بعدها.

وكأن القائل بعدم منجزية العلم الثاني يتخيل ان سقوط الأصلين في العلم الأوّل سقوط حقيقي لا يمكن معه العود ولكنه تخيل باطل كما أوضحنا.

قوله ص ١٢٥ س ١١ ادن : الصواب اذن.

قوله ص ١٢٥ س ١٢ : على كل تقدير : فعلى تقدير كون النجاسة ثابتة في إناء (٣) يكون العلم الإجمالي الثاني منجزا لوجوب تركها وأما على تقدير ثبوتها في إناء (٢) فلا يكون منجزا لوجوب تركها لأن وجوب تركها قد تنجز بالعلم الإجمالي الأوّل.

قوله ص ١٢٥ س ١٥ : وتعارض الأصول في الأطراف كذلك : هذا عطف على قوله « التنجيز ».

ثم ان قوله « لا يوجب التنجيز في كل زمان » ناظر إلى صيغة الشيخ العراقي. وقوله « وتعارض الاصول ... » ناظر إلى صيغة الميرزا. وقوله « كذلك » أي في كل زمان.

٣٤١
٣٤٢

الحالة السادسة أو حكم الملاقي

وفي الحالة السادسة يراد البحث عن حكم الملاقي لأحد أطراف العلم الإجمالي.

وتوضيح ذلك : انه إذا كان لدينا إناءان أحدهما رقم (١) وثانيهما رقم (٢) ، وكنّا نعلم اجمالا بنجاسة أحدهما. ونفترض ان ثوبا مثلا لاقى إناء (١) ، فالثوب يسمى بالملاقي لأحد طرفي العلم الإجمالي.

والسؤال المطروح هو : ان الثوب هل يجب الاجتناب عنه أيضا كما يجب الاجتناب عن الإنائين أو أنه لا يجب الاجتناب عنه وإنّما يجب الاجتناب عن خصوص الانائين؟

والقائل بوجوب الاجتناب عنه يستند في ذلك إلى ان ملاقاة الثوب للإناء الأوّل تولّد علما إجماليا جديدا غير العلم الإجمالي السابق. والطرفان في هذا العلم الجديد هما : الثوب والإناء الثاني ، فبعد الملاقاة يحصل علم إجمالي بنجاسة اما الثوب ـ وذلك على تقدير كون النجس واقعا هو الإناء الأوّل ـ أو الإناء الثاني (١). وهذا العلم الإجمالي ينجز وجوب هجر طرفيه الذين أحدهما الثوب ،

__________________

(١) ويمكن صياغة العلم الجديد بشكل آخر فيقال : نعلم إجمالا بنجاسة اما مجموع الثوب والإناء الأوّل أو خصوص الإناء الثاني. وإنّما لم تذكر هذه الصياغة باعتبار ان المقصود الآن اثبات وجوب الاجتناب عن الثوب لا وجوب الاجتناب عن مجموع الثوب والإناء الأوّل

٣٤٣

وهو المطلوب.

وكلام الأصوليين في هذا المبحث يدور حول هذا العلم الإجمالي الجديد هل هو منجز أو لا؟

وهناك تقريبان لإثبات عدم منجزية العلم المذكور

هما : ـ

الأوّل :

ان نطبق القاعدة المتقدمة في الحالة الخامسة ، وهي أنه كلما كان لدينا علمان اجماليان يشتركان في طرف واحد فالعلم الإجمالي الثاني منهما لا يكون منجزا فيما اذا لم يكونا متعاصرين بان كان حصول العلم الثاني متأخرا عن العلم الأوّل (١).

وبتطبيق ذلك على المقام نقول : ان العلم الإجمالي الثاني في مقامنا ـ الذي هو علم بنجاسة اما الثوب أو الإناء الثاني ـ يشترك مع العلم الأوّل في أحد الطرفين ، أي في الإناء الثاني فلا يكون ـ العلم الإجمالي الثاني ـ منجزا ، واذا لم يكن منجزا فلا يجب هجر الثوب ، وهو المطلوب.

اجل الإناء الثاني يجب هجره من جهة العلم الإجمالي الأوّل.

ويمكن الايراد على هذا التقريب بوجهين : ـ

أ ـ ان القاعدة التي يستند اليها هذا التقريب مرفوضة كما تقدم سابقا.

ب ـ ان التقريب المذكور لو تم فهو اخص من المدعى لأنّه يتم في حالة

__________________

(١) وأما اذا كانا متعاصرين فالطرف المشترك يتلقى التنجز من كلا العلمين معا لا من أحدهما لأنّه بلا مرجح كما تقدم

٣٤٤

كون ملاقاة الثوب قد حصلت في زمان متأخر عن العلم الإجمالي الأوّل. ولا أقل يمكننا ان نقول انّه يتم في خصوص حالة ما اذا كان العلم بالملاقاة قد حصل متأخرا عن العلم الأوّل ـ وان كانت نفس الملاقاة قد حصلت مقارنة للعلم الأوّل ـ وأما اذا كان العلم بالملاقاة قد حصل مقارنا للعلم الأوّل فلا يتم التقريب المذكور ولا يثبت عدم منجزية العلم الثاني لأن قاعدة عدم منجزية العلم الثاني من العلمين المشتركين في طرف واحد لو تمت فهي تتم ـ كما تقدم ـ في خصوص حالة ما اذا كان العلم الثاني متأخرا زمانا عن العلم الأوّل إذ لو كانا متعاصرين كان كلاهما منجزا للطرف المشترك لأن حصول التنجيز بالعلم الأوّل دون الثاني بلا مرجح بعد فرض حصولها في زمان واحد.

الثاني

انّه بعد ملاقاة الثوب للإناء الأوّل وحصول العلم الإجمالي الجديد بين الثوب والإناء الثاني يمكن الحكم بطهارة الثوب ببركة أصالة الطهارة الجارية فيه ، ولا يعارض ذلك بأصالة الطهارة في الإناء الثاني إذ الأصل المذكور معارض بأصالة الطهارة في الإناء الأوّل ، وبعد المعارضة بين الأصلين المذكورين ـ أصالة الطهارة في الإناء الأوّل مع أصالة الطهارة في الإناء الثاني ـ يتساقطان ونرجع إلى أصالة الطهارة في الثوب دون أي معارض ، وبهذا يثبت المطلوب ، إذ اردنا إثبات عدم منجزية العلم الإجمالي الجديد وقد ثبت.

وقد يقال : لماذا التعارض يحصل بين خصوص أصل الطهارة في الإناء الأوّل وأصل الطهارة في الإناء الثاني ولا يدخل أصل طهارة الثوب في هذه

٣٤٥

المعارضة لتسقط جميع الأصول الثلاثة لا خصوص الأصلين الجاريين في الانائين؟

والجواب : ان أصل طهارة الثوب أصل مسببي بينما أصل الطهارة في الإناء الأوّل أصل سببي (١) ، والأصل المسببي لا يجري ما دام الأصل السببي موجودا بل لا بدّ وان يسقط الأصل السببي اوّلا بالمعارضة ، وبعد ذلك تصل النوبة إلى أصل طهارة الثوب ، فانّ الأصل المسببي لا حياة له مع الأصل السببي ليقف إلى جانبه في مجال المعارضة.

اذن المعارضة تقع بين الأصلين العرضيين الجاريين في الإنائين ، وبعد تعارضهما وسقوطهما يرجع إلى الأصل الطولي ، وهو أصالة الطهارة في الثوب ويحكم بطهارته.

وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المطلب ص ٩٨ من الحلقة عند البحث عن الحالات التي يجري فيها الأصل في أحد الطرفين ، فإنّه تقدم ان الحالة الاولى من تلك الحالات الثلاث هي ان يكون في الإناء الأوّل أصلان احدهما في طول الآخر ـ كاستصحاب الطهارة وأصالة الطهارة ـ وفي الإناء الثاني أصل واحد وهو أصل الطهارة ، فاصل الطهارة في الإناء الثاني يتعارض مع استصحاب الطهارة في

__________________

(١) إذ الشك في طهارة الثوب مسبب عن الشكّ في طهارة الإناء الأوّل ، فالشكّ في طهارة الثوب شكّ مسببي بينما الشكّ في طهارة الإناء الأوّل شكّ سببي ، والأصل الجاري في الشكّ السببي أصل حاكم على الأصل الجاري في الشكّ المسببي لأن الأصل الحاكم اذا جرى واثبت طهارة الإناء الأوّل ارتفع الشكّ في طهارة الثوب وحصل اليقين التعبدي بطهارته ، ومع حصول اليقين لا يجري الأصل لأن موضوعه الشكّ

٣٤٦

الإناء الأوّل ، وبعد المعارضة والتساقط يرجع إلى أصل الطهارة في الإناء الأوّل لأنّه أصل محكوم والأصل المحكوم لا يقف إلى جنب حاكمه ليعارض الأصل في الإناء الثاني بل تتولد الحياة فيه بعد سقوط حاكمه بالمعارضة.

هذا هو التقريب الثاني.

ولو تم هذا التقريب فهو يتم حتى في صورة كون ملاقاة الثوب والعلم بها قد حصل مقارنا للعلم الأوّل ولا يتوقف على حصول الملاقاة أو العلم بها متأخرا عن العلم الأوّل ـ كما هو الحال في التقريب الأوّل ـ إذ العلم الثاني سواء حصل متأخرا عن العلم الأوّل أم مقارنا له فالمعارضة على كلا التقديرين تحصل بين خصوص أصلي الطهارة في الإنائين ولا يدخل أصل طهارة الثوب في مجال المعارضة لأنّه محكوم ، وبعد تساقطهما تصل النوبة إلى أصل الطهارة في الثوب دون معارض.

حالات يجب فيها الاجتناب عن الملاقي

وبعد اتضاح التقريبين السابقين لأثبات عدم منجزية العلم الإجمالي الثاني نضيف : ان التقريبين المذكورين قد يقال بعدم تماميتهما في بعض الحالات ـ أي يكون العلم الإجمالي الثاني منجزا ويجب الإجتناب عن الملاقي ـ كما لو فرض ان الثوب لاقى واقعا الإناء الأوّل في الساعة الاولى من دون علم المكلّف بذلك ، وأيضا مع افتراض عدم ثبوت العلم الإجمالي في هذه الساعة بنجاسة اما الإناء الأوّل أو الثاني ، ثم نفترض ان الإناء المذكور تلف في الساعة الثانية ، وبعد ان حلت الساعة الثالثة حصل للمكلف علم إجمالي بتنجس أما الإناء الأوّل التالف

٣٤٧

أو الاناء الثاني ، وحينما جاءت الساعة الرابعة حصل علم بملاقاة الثوب للاناء الأوّل في الساعة الاولى.

في مثل هذه الفرضية قد يقال بعدم تمامية كلا التقريبين السابقين ، أي يقال بمنجزية العلم الإجمالي الثاني ووجوب الاجتناب عن الملاقي.

اما التقريب الأوّل ـ الذي كان حاصله ان العلم الإجمالي الثاني لا يكون منجزا بعد اشتراكه مع العلم الإجمالي الأوّل في الإناء الثاني ـ فلأن العلم الإجمالي الأوّل حينما حصل في الساعة الثالثة لم يكن منجزا لأن أحد طرفيه وهو الإناء الأوّل كان تالفا حين حصوله ، وواضح ان شرط منجزية كل علم إجمالي ان يكون كلا طرفيه موجودين حين حصوله ولا يكون أحدهما تالفا قبل حصول العلم الإجمالي (١) ، ومع عدم منجزيته فلا مانع من ثبوت المنجزية للعلم الإجمالي الثاني فان المانع منحصر بمنجزية العلم الأوّل (٢) ، فاذا لم يكن منجزا نّجز العلم الثاني وجوب هجر طرفيه الذين أحدهما الثوب.

وأمّا التقريب الثاني ـ وهو انّه يرجع بعد تعارض اصلي الطهارة في الانائين إلى أصل طهارة الثوب بلا مانع ـ فلأن الأصل في الانائين ليسا متعارضين ليرجع بعد تعارضهما وتساقطهما إلى أصل طهارة الثوب بل ان أصل الطهارة في الإناء

__________________

(١) إذ لو كان تالفا فلا تتعارض الأصول فى اطرافه. هذا على صيغة الميرزا. وعلى صيغة الشيخ العراقي لا يكون منجزا للمعلوم بالاجمال على كلا التقديرين

(٢) إذ العلم الإجمالي الأوّل حينما كان منجزا تتعارض الاصول في اطرافه فتصل النوبة إلى أصل الطهارة في الثوب بلا معارض. هذا على صيغة الميرزا. وعلى صيغة الشيخ العراقي يكون أحد طرفي العلم الإجمالي الثاني ـ وهو الإناء الثاني ـ قد تنجز بمنجز آخر وهو العلم الاجمالي الأوّل

٣٤٨

الأوّل لا يجري في نفسه لفرض تلف موضوعه ـ وهو الإناء الأوّل ـ قبل العلم الإجمالي فيكون جريانه لغوا وبلا فائدة ، ومع عدم جريان الأصل المذكور لا يكون الأصل في الإناء الثاني ساقطا لتصل النوبة إلى أصل طهارة الثوب بل تحصل المعارضة بين الأصلين المذكورين ، أي بين أصل الطهارة في الإناء الثاني مع أصل الطهارة في الثوب ويجب بذلك هجر الثوب.

وان شئت قلت : ان العلم الإجمالي الأوّل في الساعة الثالثة ما دام لم تتعارض الاصول في أطرافه فعند ما يحصل العلم الإجمالي الثاني في الساعة الرابعة (١) يكون بمثابة الحاصل ابتداء من دون أن يسبقه علم إجمالي ، وإذا كان بهذه المثابة فتتعارض الاصول في أطرافه ويتنجز وجوب الاجتناب عن طرفيه الذين احدهما الثوب.

تمامية التقريب الثاني

هذا وبالامكان الحكم بتمامية التقريب الثاني لعدم منجزية العلم الإجمالي الثاني وبالتالي يمكن الحكم بعدم وجوب هجر الثوب في الفرضية المذكورة ، أي نختار عدم كون العلم الإجمالي الثاني منجزا.

والوجه في ذلك : ان أصل الطهارة في الإناء الأوّل يمكن جريانه حتى مع افتراض تلفه من دون لزوم محذور اللغوية ، فان جريان أصل الطهارة بعد زمان

__________________

(١) فان الساعة الرابعة التي حصل فيها العلم بالملاقاة يحصل فيها بسبب العلم بالملاقاة العلم بنجاسة اما الثوب أو الإناء الثاني

٣٤٩

التلف يثبت ان الإناء الأوّل كان طاهرا قبل تلفه فيترتب على ذلك طهارة ملاقيه وهو الثوب. واذا كان أصل الطهارة في الإناء الأوّل قابلا للجريان كان معارضا لأصل الطهارة في الإناء الثاني (١) ، وبعد تعارضهما يرجع إلى أصل طهارة الثوب بلا مانع.

قوله ص ١٢٦ س ١٦ : أحدهما المعين : إنما افترض تعين الإناء الذي لاقاه الثوب لأنه بدونه لا يحصل العلم الإجمالي الثاني الجديد.

قوله ص ١٢٧ س ٢ : وان وجب الاجتناب عن المائعين : لإجل العلم الإجمالي الأوّل.

قوله ص ١٢٧ س ٩ : كما تقدم : أي ص ١٢٥ من الحلقة.

قوله ص ١٢٧ س ١٠ : ان الركن الثالث : وهو تعارض الاصول في الأطراف. والمقصود انهدامه في العلم الإجمالي الثاني حيث يجري أصل الطهارة في الثوب بلا معارضة أصل الطهارة في الإناء الثاني.

قوله ص ١٢٨ س ٦ : لاقن : الصواب : لاقى.

__________________

(١) أجل اذا فرض ان الأصل الجاري بعد التلف لا اثر له ـ كما اذا كان الأصل أصل البراءة ـ لم يكن جاريا لمحذور اللغوية

٣٥٠

الحالة السابعة أو الشبهة غير المحصورة

اذا كانت اطراف العلم الاجمالي قليلة سمّيت الشبهة بالشبهة المحصورة. والمعروف فيها كون العلم الاجمالي منجّزا. والحديث كله سابقا كان يدور حولها.

وأما اذا كانت الأطراف كثيرة سمّيت بالشبهة غير المحصورة.

وفي هذه الحالة يراد التكلّم عن هذه الشبهة ، أي الشبهة غير المحصورة.

وفي البداية نطرح السؤالين التاليين :

أ ـ هل تجب الموافقة القطعية أو لا؟ وبكلمة أخرى هل يجب ترك جميع الأطراف أو لا؟

والجواب : ذهب المشهور من الاصوليين إلى عدم وجوب ذلك فيجوز للمكلّف ارتكاب بعض الأطراف ولا يلزم هجر جميعها.

ب ـ واذا جاز ارتكاب بعض الأطراف ولم يلزم هجر جميعها فهل يجوز ارتكاب جميع الأطراف أو لا؟ وبكلمة أخرى : هل تجوز المخالفة القطعيّة أو لا؟

والجواب : ذهب البعض إلى جواز المخالفة القطعيّة.

تحديد الشبهة غير المحصورة

ذكر السيّد الخوئي ( دام ظله ) (١) : ان الضابط في الشبهة غير المحصورة كثرة

__________________

(١) منهاج الصالحين : كتاب الطهارة ، المبحث الأوّل ، الفصل الرابع

٣٥١

الأطراف إلى حدّ يكون بعضها خارجا عن محل الابتلاء ، فالمعتبر في الشبهة غير المحصورة قيدان : كثرة الأطراف وخروج بعضها عن محل الابتلاء ، فاذا كانت الأطراف كثيرة وكان جميعها داخلا تحت محل الابتلاء ـ ككيس ارز كبير يعلم بحرمة حبة واحدة منه ـ فالشبهة محصورة.

ويمكن التعليق على ذلك : بأنّ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء وإن كان يسقط العلم الاجمالي عن المنجزيّة الاّ أنّه لا اختصاص لذلك بالشبهة غير المحصورة بل العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة لا يكون منجّزا أيضا اذا كان بعض اطرافها خارجا عن محل الابتلاء ، فاللازم إذن النظر إلى العامل الكمّي فقط ، أي عامل كثرة الأطراف إذ هذا العامل هو العامل الذي يختص بالشبهة غير المحصورة ، وأمّا العوامل الاخرى فهي لا تختص بالشبهة غير المحصورة.

تقريبات لعدم منجّزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة

ويوجد تقريبان يمكن التمسّك بهما لاثبات عدم منجّزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة لوجوب الموافقة القطعية ، وبكلمة اخرى تقريبان لجواز ارتكاب بعض الأطراف. وهما :

التقريب الأوّل

انّ كثرة الأطراف تصير سببا لضعف احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف إلى درجة يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق وبالتالي لا يهجر العقلاء الطرف لأنّ احتمال الانطباق عليه وان كان ثابتا الاّ انه لضعفه الشديد لا يعتنون

٣٥٢

به. وحيث انّ مثل هذا البناء العقلائي لم يرد ردع عنه من الشارع فيكون ممضيا.

ولأجل استيضاح المطلب أكثر نقول : لو كان لدينا إناءان نعلم بنجاسة أحدهما فما هي قيمة احتمال انطباق النجاسة المعلومة بالاجمال على الاناء الأوّل؟

والجواب : حيث يوجد لدينا يقين بالنجاسة ، ورقم اليقين يتمثل في رقم (١) فاذا اردنا ان نعرف قيمة احتمال ثبوت النجاسة في كل طرف قسّمنا الواحد على عدد الأطراف. وعلى هذا الاساس فالقيمة الإحتماليّة لانطباق المعلوم بالاجمال على الاناء الأوّل ـ ٢ / ١. واذا كان عدد الأطراف ثلاثة فالقيمة الإحتماليّة في كل طرف ـ ٣ / ١. واذا كان عدد الأطراف ١٠ فالقيمة الإحتماليّة في كل طرف ـ ١٠ / ١. واذا كان عدد الأطراف ١٠٠٠ فالقيمة الإحتماليّة في كل طرف ـ ١٠٠٠ / ١ ، أي أنّ قيمة إحتمال كون الاناء الأوّل هو النجس يساوي إحتمالا واحدا من بين ألف إحتمال. وحيث انّ هذا الإحتمال ضئيل لا يعتني له العقلاء جاز ارتكاب كل واحد من الأطراف بعد افتراض عدم الردع عن مثل هذا البناء (١).

__________________

(١) قد يخطر للذهن الاشكال التالي : إنّ هذا التقريب يجدي فيما لو اراد المكلّف ارتكاب إناء واحد من الاواني الالف إذ القيمة الإحتماليّة في الإناء الواحد ضئيلة ، وأمّا اذا اراد ارتكاب نصف المجموع فالقيمة الاحتماليّة لا تبقى ضئيلة بل تأخذ بالارتفاع إلى النصف أي ١٠٠٠ / ٥٠٠ ، واللازم على هذا عدم جواز ارتكاب النصف لأنّ قيمته الإحتماليّة كبيرة ، والحال أنّ المشهور القائل بعدم منجّزية العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة يقول بجواز ارتكاب النصف بل يقول بجواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام أي يجوّز ارتكاب ٩٩٩ إناء.

والجواب : إنّ القيمة الإحتماليّة لا تأخذ بالارتفاع عند ارتكاب اطراف كثيرة ، فالقيمة الإحتماليّة لكون الاناء الأوّل هو النجس ـ ١٠٠٠ / ١ ، واحتمال كون الاناء الثانى هو النجس ـ

٣٥٣

هذا هو التقريب الأوّل. ولعل أول من ذكره وتمسّك به هو الشيخ الأعظم في رسائله ، حيث تمسّك بعدّة وجوه لإثبات جواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة ، وكان الوجه الخامس منها هو هذا الوجه ، فقال : إنّه مع كثرة الأطراف يضعف احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل طرف ، فمن شتم احد شخصين وقال لهما : احدكما انسان فاسق منحرف تألّم كل واحد منهما بينما لو قال : أحد اهالي النجف الاشرف منحرف لم يتألّم احد منهم ، وما ذاك الاّ لقوّة الإحتمال في الحالة الاولى وضعفه في الحالة الثانية.

اشكالات على التقريب الأوّل

وقد اشكل الشيخ العراقي وغيره على هذا التقريب بإشكالين : أوّلهما صغروي وثانيهما كبروي.

الاشكال الأوّل

وهو اشكال صغروي ادّعي فيه عدم حصول الاطمئنان الفعلي في كل

__________________

ـ ١٠٠٠ / ١ أيضا ، وهكذا حتّى نصل إلى الاناء الالف فإنّ قيمة احتمال كونه النجس ـ ١٠٠٠ / ١ أيضا.

أجل بعد ارتكاب كل إناء ترتفع القيمة الإحتماليّة لإحتمال ارتكاب المكلّف للنجس خلال الاواني السابقة ، فبعد ارتكاب الاناء الثاني ترتفع القيمة الإحتماليّة لإحتمال ارتكاب النجس فيما سبق إلى ١٠٠٠ / ٢ ، وبعد ارتكاب الاناء الثالث ترتفع إلى ١٠٠٠ / ٣ ، واذا ارتكب الاناء الالف ارتفعت إلى ١٠٠٠ / ١٠٠٠ ، ولكن من الواضح أنّ تحصيل الظن أو الاطمئنان بل القطع بارتكاب المحرّم فيما سبق ليس بمحرّم ، فإنّ المحرّم هو ارتكاب الحرام بالفعل لا تحصيل العلم بارتكاب الحرام فيما سبق ، ولذا إنّ الانسان اذا فكّر في أعماله السابقة وحصل له العلم بارتكابه محرّما من المحرّمات لم يكن تفكيره محرّما

٣٥٤

طرف وبرهن على ذلك بأنّ الاناء الأوّل لو حصل الاطمئنان بعدم كونه هو النجس المعلوم بالاجمال ، وهكذا الاناء الثاني حصل فيه الاطمئنان المذكور ، وهكذا إلى أن نصل إلى الاناء الالف فلازم ذلك حصول الاطمئنان بالسالبة الكلّية ، أي حصول الاطمئنان بأنّ لا شيء من الاواني بنجس ، وواضح انّ هذا الاطمئنان بالسالبة الكلّية يتنافى مع اليقين بالموجبة الجزئيّة ، أي اليقين بنجاسة واحد من الاواني ، فإنّ السالبة الكليّة نقيض للموجبة الجزئيّة ، ولا يمكن مع اليقين بالموجبة الجزئيّة وأنّ أحد الاواني نجس الاطمئنان بالسالبة الكليّة وان لا شيء من الاواني بنجس.

وفيه : انّ الاطمئنان في الأطراف لو اورثت بعد جمعها وضم بعضها إلى بعض الاطمئنان بالسالبة الكلّية فإشكال الشيخ العراقي تام ومتين ، فالاطمئنان بعدم كون الاناء الأوّل هو النجس + الاطمئنان بعدم كون الاناء الثاني هو النجس + الاطمئنان بعدم كون الاناء الثالث هو النجس ، وهكذا لو كان يورث الاطمئنان بعدم كون شيء من الاواني نجسا فالحق مع الشيخ العراقي ، ولكنّا لا نسلّم إن ضم الاطمئنانات الثابتة في الأطراف ينتج الاطمئنان بالسالبة الكلّية.

وقد تقول : كيف لا تكون الاطمئنانات الثابتة في الأطراف منتجة للاطمئنان بالسالبة الكلّية والحال نحن ندرك بالوجدان أنّه لو حصل لنا الاطمئنان بورود زيد إلى المسجد وحصل الاطمئنان أيضا بورود عمرو إلى المسجد كانت النتيجة هي الاطمئنان بالمجموع ، أي الاطمئنان بورود زيد وعمرو إلى المسجد ، فضم الاطمئنان الثابت في هذا الطرف إلى الاطمئنان الثابت في ذاك الطرف يورث الاطمئنان بحصول المجموع ، فمن اطمأن بحصول أو اطمأن بحصول

٣٥٥

ب يلزم ان يحصل له الاطمئنان بحصول مجموع أ و ب. ان هذا مطلب وجداني لا يقبل الانكار.

وعلى ضوء هذه الامثلة يمكننا ان نخرج بهذه القاعدة ، وهي ان درجة احراز تحقق المجموع تتعادل دائما مع درجات الاحراز الثابتة في الأطراف.

والجواب عن ذلك بالنقض تارة وبالحل اخرى.

النقض

وفي النقض نقول للشيخ العراقي انك حينما انكرت تحقق الاطمئنان في كل طرف وقلت لا يمكن تحقق الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء الأوّل ، وهكذا لا يمكن تحققه في الإناء الثاني وبقية الأواني فمن حقنا ان نقول لك ان الاطمئنان في كل طرف اذا لم يكن متحققا فلا أقل من احتمال عدم الانطباق فيحتمل ان الأوّل ليس هو النجس ويحتمل في الثاني ذلك أيضا وهكذا ، فيلزم بجمع الاحتمالات حصول احتمال ان لا شيء منها بنجس ، ومن الواضح ان احتمال عدم نجاسة شيء منها يتنافى والقطع بنجاسة واحد منها. وما يجيب به الشيخ العراقي هنا يكون بنفسه جوابا في الاطمئنان المدعى.

الحل

وفي حلّ الإشكال نقول : ان الاطمئنان على قسمين : إطمئنان مطلق واطمئنان مشروط (١). والقاعدة المتقدمة ـ وهي ان درجة الاحراز في المجموع

__________________

(١) لم تذكر عبارة الكتاب مصطلح الاطمئنان المطلق والاطمئنان المشروط ، وكان من المناسب الاستعانة بذلك

٣٥٦

تتعادل دائما مع درجة الإحراز الثابتة في الأطراف ـ تتم في الاطمئنان المطلق دون الاطمئنان المشروط ، فمن اطمأن بدخول زيد إلى المسجد سواء دخل عمرو أم لا ، واطمأن أيضا بدخول عمرو إلى المسجد سواء دخل زيد أم لا حصل له الاطمئنان بالمجموع ، أي بدخول زيد ودخول عمرو إلى المسجد.

ومثل هذا الاطمئنان نصطلح عليه بالاطمئنان المطلق لأنه اطمئنان ثابت على كلا تقديري دخول الفرد الثاني وعدمه (١).

وأمّا اذا حصل الاطمئنان بدخول زيد إلى المسجد ان لم يكن قد دخل عمرو إليه ، وحصل الاطمئنان بدخول عمرو ان لم يكن قد دخل زيد فلا ينتج ضم أحد هذين الاطمئنانين إلى الآخر الاطمئنان بالمجموع ، أي بدخول زيد وعمرو إلى المسجد وإنما ينتج الاطمئنان بدخول احدهما الى المسجد.

ومثل هذا الاطمئنان يصح ان نصطلح عليه بالاطمئنان المشروط لأن حصول الاطمئنان بدخول أحد الفردين مشروط بعدم دخول الفرد الآخر.

وبعد اتضاح هذا نقول : ان الاطمئنان في مقامنا الثابت في كل طرف هو اطمئنان مشروط وليس اطمئنانا مطلقا ، وما دام هو اطمئنانا مشروطا فلا يمكن تطبيق القاعدة المتقدمة عليه ، أي لا يمكن ان يقال ان ضم الاطمئنان في هذا الطرف إلى الاطمئنان في الطرف الثاني يولّد اطمئنانا بالسالبة الكلية وأنه لا شيء من الأطراف بنجس.

ولكن لماذا الاطمئنان في المقام اطمئنان مشروط وليس مطلقا؟

ان النكتة في ذلك تكمن في ان الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء

__________________

(١) وعبر عنه قدس‌سره بالاطمئنان على نهج القضية الشرطية باعتبار ان الاطمئنان بدخول زيد في المسجد ثابت اذا دخل عمرو وثابت أيضا اذا لم يدخل

٣٥٧

الأوّل مثلا تولد بسبب احتمال كون النجاسة المعلومة بالاجمال ثابتة في بقية الأواني ، فلإجل انا نحتمل ثبوت النجاسة في الإناء الثاني ونحتمل ثبوتها في الإناء الثالث ونحتمل ثبوتها في الإناء الرابع وهكذا لأجل هذه الاحتمالات حصل لنا الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء الأوّل.

اذن الاطمئنان بعدم انطباق النجس على الإناء الأوّل مشروط بثبوت النجاسة وانطباقها على بقية الأواني وليس اطمئنانا مطلقا ثابتا حتى في حالة عدم ثبوت النجاسة في بقية الأواني ، وهكذا الحال بالنسبة إلى الاطمئنان في الإناء الثاني فهو اطمئنان مشروط ، أي مشروط بوجود النجاسة في بقية الأواني ، وهكذا الاطمئنان في الإناء الثالث هو اطمئنان مشروط بثبوت النجاسة في الأواني الاخرى وهكذا.

وما دامت هذه الاطمئنانات اطمئنانات مشروطة فضم بعضها إلى بعض لا يولّد اطمئنانا بالسالبة الكلية وانه لا شيء من الأطراف بنجس.

الاشكال الثاني

واما الإشكال الثاني ـ وهو الكبروي ـ فمحصله : انه لو سلمنا حصول الاطمئنان في كل طرف بعدم كونه النجس المعلوم بالاجمال فيمكن ان يقال بعدم حجيته لانا نعلم اجمالا بكذب واحد من الاطمئنانات لفرض العلم بثبوت النجاسة في أحد الأواني ، ومع العلم بكذب واحد من الاطمئنانات يحصل التعارض بينها ومن ثم التساقط لأن شمول دليل الحجّية لجميعها غير ممكن بعد فرض العلم بكذب واحد منها ، وشموله لبعض دون بعض ترجيح بلا مرجح.

٣٥٨

وفيه : ان التعارض بين الاطمئنانات ـ بل بين مطلق الامارات وان لم تكن اطمئنانا ـ ينشأ من أحد سببين كلاهما مفقود في المقام : ـ

١ ـ ان يكون كل اطمئنان مكذبا للاطمئنان الآخر بالدلالة الإلتزامية ، فالاطمئنان في الإناء الأوّل مثلا بعدم كونه النجس يستلزم ثبوت النجاسة في بقية الأواني وبالتالي يستلزم كذب بقية الاطمئنانات.

وما دام كل اطمئنان مكذبا بالالتزام للاطمئنان الآخر فلا يمكن ان يشملهما معا دليل الحجّية فان دليل الحجّية لا يمكن ان يعبّدنا بحجّية المتكاذبين.

٢ ـ ان لازم شمول دليل الحجّية لجميع الاطمئنانات حجّية جميعها ، ولازم حجّية جميع الاطمئنانات جواز ارتكاب جميع الأواني ، ولازم جواز ارتكاب جميع الأواني جواز المخالفة القطعية.

اذن دليل الحجّية لا يمكن ان يشمل جميع الاطمئنانات لمحذور لزوم الترخيص في المخالفة القطعية. وكلا هذين السببين مفقود في المقام.

اما السبب الأوّل فلأن في المقصود من تكذيب كل واحد من الاطمئنانات لبقية الاطمئنانات بالدلالة الالتزامية احتمالين : ـ

أ ـ ان يكون الاطمئنان في الإناء الأوّل مكذّبا لخصوص الاطمئنان في الإناء الثاني مثلا بتقريب ان الاطمئنان في الإناء الأوّل يدل بالمطابقة على عدم نجاسة الإناء الأوّل وبالالتزام على ثبوت النجاسة في الإناء الثاني وبالتالي يدل على كذب الاطمئنان في الإناء الثاني.

وهذا البيان مردود باعتبار ان الاطمئنان في الإناء الأوّل والاطمئنان في الإناء الثاني يمكن ان يكونا صادقين معا لإمكان عدم ثبوت النجاسة في الإناء

٣٥٩

الأوّل ولا في الإناء الثاني بان تكون ثابتة في الإناء الثالث أو في الإناء الرابع أو في بقية الأواني الاخرى.

ودعوى ان الاطمئنان في الإناء الأوّل يدل بالالتزام على ثبوت النجاسة في الإناء الثاني مدفوعة بان الاطمئنان في الإناء الأوّل يدل على ثبوت النجاسة في الأواني الاخرى ولا يدل على ثبوتها في الإناء الثاني بالخصوص.

ب ـ ان يكون الاطمئنان في الإناء الأوّل مكذبا لمجموع الاطمئنانات الثابتة في بقية الأواني ، فاذا كان مقدار الأواني الفا فالاطمئنان في الإناء الأوّل يكذب مجموع ٩٩٩ اطمئنانا من الاطمئنانات الثابتة في بقية الأواني.

وطرفا المعارضة هما : الاطمئنان في الإناء الأوّل ، ومجموع ٩٩٩ اطمئنانا. وهذا بخلافه فيما سبق فان المعارضة فرضت بين الاطمئنان في الإناء الأوّل وخصوص الاطمئنان في الإناء الثاني مثلا.

ولكن كيف نقرّب المعارضة بين الاطمئنان في الإناء الأوّل وبين مجموع الاطمئنانات في ٩٩٩ إناء؟

ان تقريب المعارضة يمكن ان يوضح بهذا الشكل : ان الاطمئنانات في الأواني ٩٩٩ لو ضممنا بعضها إلى بعض انتجت الاطمئنان بعدم انطباق النجس على شيء منها ، ولازم ذلك انطباقه على الإناء الأوّل ، وبذلك يكون مجموع الاطمئنانات ٩٩٩ مكذبا للاطمئنان الثابت في الإناء الأوّل.

ويردّ هذا التقريب : ان ضم الاطمئنانات ٩٩٩ بعضها إلى بعض لا ينتج الاطمئنان بالمجموع ، أي بعدم ثبوت النجاسة في الأواني ٩٩٩ فان الاطمئنانات

٣٦٠