الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-27-8
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٦

البرتقال ـ متيقّن الإرتفاع.

قوله ص ١١٥ س ١١ : أمّا بثبوت الإستصحاب الخ : أي أمّا بثبوت إستصحاب حرمة الرمّان إلى ما بعد الظهر أو ثبوت حرمة البرتقال إلى الظهر.

٣٠١
٣٠٢

الحالة الثانية او الاضطرار الى بعض الاطراف

والحالة الثانية التي لا يكون العلم الإجمالي فيها منجّزا هي حالة الإضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ، كما لو كان لدى المكلّف ماء برتقال وماء رمّان يعلم بنجاسة أحدهما واضطر إلى شرب ماء البرتقال بسبب وصفه الطبيب فلا إشكال في جواز شرب ماء البرتقال لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن امّتي ما اضطروا إليه » وإنّما الإشكال في الإناء الثاني الذي لم يتعلّق به الإضطرار فهل يجوز شربه أيضا؟

فمحل الكلام على هذا هو الإناء الثاني ، وأمّا الإناء الأوّل المضطر إليه فلا إشكال في جواز ارتكابه.

والجواب : إنّ الإضطرار له صورتان فتارة يكون إضطرارا إلى طرف معيّن ، واخرى يكون إلى أحد الطرفين من دون تعيين.

مثال الأوّل : ما أشرنا له سابقا ، فإنّ المكلّف في المثال السابق بسبب وصفة الطبيب صار مضطرّا إلى تناول إناء معيّن من الإنائين وهو إناء البرتقال.

مثال الثاني : ما إذا كان لدى المكلّف إناءان كلاهما ماء برتقال يعلم بنجاسة أحدهما ، وقد اضطرّ بسبب وصفة الطبيب إلى تناول أحدهما فإنّ الإضطرار هنا إلى طرف غير معيّن لأنّ المفروض أنّ كليهما ماء برتقال.

الصورة الاولى

وفي الصورة الاولى ـ وهي الإضطرار إلى ارتكاب طرف معيّن ـ لا إشكال

٣٠٣

في جواز ارتكاب إناء البرتقال لقاعدة « رفع عن امّتي ما اضطرّوا اليه » ، وإنّما الإشكال في جواز ارتكاب الإناء الثاني.

والصحيح : جواز إرتكابه لأنّ كلّ حكم من الأحكام في التشريع الإسلامي مقيّد بعدم الإضطرار ، فالصوم واجب ، وهو مقيّد بعدم الإضطرار إلى تركه ، والسرقة محرّمة وهي مقيّدة بعدم الاضطرار إلى ارتكابها ، وهكذا بقيّة الأحكام.

ومن جملة الأحكام : حرمة تناول النجس في مقامنا ، فإنّها مقيّدة بعدم الاضطرار ، فإذا اضطرّ المكلّف إلى شرب ماء البرتقال في المثال السابق زال العلم الإجمالي بالحرمة إذ من المحتمل ثبوت النجاسة في إناء ماء البرتقال ، وعلى تقدير ثبوتها فيه تزول الحرمة بسبب الإضرار إلى تناوله ، ومعه يكون الشك في حرمة الإناء الثاني شكّا بدويّا فتجري البراءة فيه بلا معارض ، إذ إناء البرتقال لا يوجد بلحاظه شكّ حتّى يحتاج إلى إجراء البراءة فيه بل تجري في الإناء الثاني بلا معارض.

وبهذا نعرف أنّ الركن الذي انعدم في هذه الحالة هو الركن الأوّل من الأركان الأربعة المتقدّمة وهو العلم بجامع التكليف ، فإنّا عرفنا أنّ العلم بالجامع منعدم في هذه الحالة وإنّما هناك شكّ بدوي في ثبوت الحرمة بالنسبة إلى الإناء الثاني.

هذا ولكنّا نستدرك ونقول أنّ العلم الإجمالي إنّما يسقط عن المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني فيما لو فرض أنّ الاضطرار كان ثابتا قبل العلم الإجمالي ، وأمّا إذا كان ثبوته بعد العلم الاجمالي فيبقى العلم الإجمالي على المنجّزيّة بالنسبة

٣٠٤

إلى الإناء الثاني.

ولتوضيح ذلك أكثر نقول : إنّ الاضطرار تارة يكون حادثا قبل العلم الاجمالي ، كما لو فرض أنّ المكلّف ذهب إلى الطبيب ووصف له أن يتناول ماء البرتقال ولمّا همّ أن يتناول وقعت قطرة بول في أحد الإنائين ـ أي إناء البرتقال وإناء الرمّان ـ فالاضطرار على هذا يكون ثابتا قبل حدوث العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين.

وفي مثل هذا يتمّ ما ذكرناه سابقا من سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني لأنّه في الآن الذي رأى فيه المكلّف وقوع القطرة في أحد الإنائين لا يحدث له علم إجمالي بحرمة أحد الإنائين إذ يحتمل وقوعها في ماء البرتقال الذي إفترضنا حلّيّة شربه بسبب الإضطرار إلى ارتكابه قبل حدوث العلم الإجمالي.

هذا كله فيما إذا كان الاضطرار حادثا قبل العالم الإجمالي.

واخرى يكون الإضطرار حادثا بعد العلم الإجمالي ، كما لو فرض أنّ المكلّف قبل ذهابه إلى الطبيب علم بنجاسة أحد الإنائين ثمّ ذهب إلى الطبيب ووصف له ماء البرتقال واضطر بسبب ذلك إلى شربه اضطرارا حاصلا بعد تحقّق العلم الإجمالي.

وفي هذا الافتراض اختار الشيخ الأعظم قدس‌سره في رسائله بقاء العلم الإجمالي على المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني وخالفه الآخوند في الكفاية ، فذهب إلى زوال منجّزيّته ولم يفرّق بين هذا الإفتراض وسابقه ، ففي كليهما حكم بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزيّة بالنسبة إلى الإناء الثاني لنفس النكتة المذكورة

٣٠٥

في الإفتراض الاوّل دون أي فرق ، وقال : إنّ المكلّف لا يبقى له علم إجمالي بحرمة أحد الإنائين بعد اضطراره ، إذ لعلّ الإناء الذي وقع عليه اختياره هو النجس وبذلك يصير حلالا ولا يبقى لديه علم بحرمة أحد الإنائين.

هذا ولكن لنفس الآخوند حاشية على كفايته اختار فيها بقاء العلم الإجمالي على المنجزية بالنسبة إلى الإناء الثاني. وقربّ ذلك بما ذكره السيد الشهيد في عبارة الكتاب ، وهو أنّ المكلّف لمّا حصل له قبل الذهاب إلى الطبيب علم إجمالي بنجاسة أحد الإنائين فهذا العلم الإجمالي علم إجمالي بالفرد المردد بين القصير والطويل إذ المكلّف يمكنه ان يقول في نفسه قبل الذهاب إلى الطبيب : ان كانت النجاسة قد وقعت في إناء البرتقال فحرمة الشرب الحاصلة بسبب وقوع النجاسة فيه حرمة قصيرة تمتد إلى وقت الاضطرار وتزول بعده ، بينما إذا كانت قد وقعت في إناء الرمان فحرمة الشرب الحادثة حرمة طويلة تمتد إلى الأبد ـ لو فرض عدم اضطراره إلى شربه إلى الأبد ـ فالمكلف على هذا قبل ان يعرض له الاضطرار يحدث له علم إجمالي اما بحرمة قصيرة لأناء البرتقال أو بحرمة طويلة لإناء ماء الرمان.

وقد تقدم سابقا ان العلم الإجمالي بالفرد القصير والطويل ينجّز الطويل على امتداده حتى بعد انتهاء فترة الفرد القصير. فالعلم الإجمالي الحادث قبل طرو الاضطرار يحرك المكلّف نحو ترك الطرفين معا فيحرك إلى ترك البرتقال فترة طرو الاضطرار ويحرك نحو ترك الرمان إلى الأبد.

وهذه المحركية تبقى حتى بعد إنتهاء فترة الفرد القصير ، غاية الأمر بعد انتهاء فترة القصير تنتهي محركية القصير لا لقصور في محركية العلم الإجمالي بل

٣٠٦

لقصور في نفس الطرف لأنه قصير في نفسه.

والخلاصة : انه يوجد لدينا افتراضان لا يكون العلم الإجمالي في الافتراض الأوّل منهما منجزا للطرف الثاني بينما في الإفتراض الثاني يكون منجزا.

ولدينا افتراض ثالث وهو ان يكون الاضطرار ثابتا قبل العلم الإجمالي بيد ان المعلوم بالإجمال يكون متقدما على الاضطرار ، كما لو فرض ان المكلّف حدث له الاضطرار إلى شرب ماء البرتقال ظهرا ، وبعد حلول الظهر علم إجمالا بوقوع نجاسة صباحا اما في ماء البرتقال أو في ماء الرمان ، فالنجاسة حاصلة صباحا إلاّ ان العلم بها حصل بعد الظهر ، أي ما بعد فترة طرو الاضطرار.

وفي هذا الافتراض لا يكون العلم الإجمالي منجزا للإناء الثاني ويكون حال ذلك حال الافتراض الأوّل.

والنكتة في ذلك هي اختلال الركن الثالث ـ تعارض الاصول ـ لأن ماء البرتقال بعد فرض الاضطرار إليه يكون المكلّف قاطعا بحليته ولا يكون بحاجة الى اجراء الأصل فيه وبالتالي يجري الأصل في إناء الرمان بلا معارض.

وهل الركن الأوّل ـ ثبوت العلم بالتكليف ـ مختل أيضا كما كان مختلا في الافتراض الأوّل؟ كلا أنّه ليس بمختل ، فالمكلف في الافتراض الأوّل وان لم يكن له علم بالتكليف إلاّ أنّه في هذا الافتراض له علم بذلك.

والنكتة الفارقة هي ان المكلّف في هذا الافتراض وان حصل له العلم الإجمالي بالنجاسة بعد طرو الاضطرار إلاّ ان متعلق العلم هو النجاسة الثابتة قبل الاضطرار ، فالمكلف بعد الظهر يحصل له العلم بتحقق وجوب الاجتناب في حقه

٣٠٧

صباحا عن أحد الإنائين ، ولكن هذا العلم لا أثر له لأنّه حصل في وقت لا تتعارض الاصول في اطرافه.

تلخيص وأسئلة

اتضح من خلال ما تقدم ان صورة الاضطرار إلى ارتكاب طرف معين تشتمل على ثلاثة افتراضات هي : ـ

أ ـ ان يكون الاضطرار ثابتا قبل العلم الإجمالي. وفي مثله لا يحصل علم بالتكليف لأن العلم بالنجاسة يحدث للمكلف في وقت هو مضطر فيه إلى ارتكاب أحد الطرفين.

وقد تسأل : لماذا لا تفترض هنا مسألة الفرد الطويل والقصير؟

والجواب : إنّ الحرمة القصيرة لا يمكن تصورها في هذا الفرض لأن قطرة النجاسة وقعت حسب الفرض بعد طرو الاضطرار ، فقبل الاضطرار لم تقع القطرة حتى تحصل الحرمة بل الإناء طاهر ، وبعد طرو الاضطرار لا تحدث حرمة في إناء البرتقال حتى لو فرض القطع بوقوع القطرة فيه لفرض الاضطرار لارتكابه.

وعليه فلم تمر على إناء البرتقال فترة تكون الحرمة ثابتة فيها حتى تكون قصيرة.

ب ـ ان يكون الاضطرار حاصلا بعد العلم الإجمالي. وفي مثله يتصور العلم بالفرد الطويل والقصير إذ الحرمة ثابتة قبل طرو الاضطرار جزما ولكن لا يعلم هي طويلة أو قصيرة ، فعلى تقدير ثبوت النجاسة في إناء البرتقال هي

٣٠٨

قصيرة وإلاّ فهي طويلة.

وقد تقول : ان الاصول في هذا الفرض ليست متعارضة إذ اناء ماء البرتقال بعد فرض طرو الاضطرار عليه يجزم بحليته ولا حاجة إلى اجراء الأصل فيه بل يجري في الإناء الآخر بلا معارض.

والجواب : ان هذا يتم لو كان العلم الإجمالي بالدوران بين الفرد القصير والطويل حادثا بعد الاضطرار ، اما إذا كان حادثا قبل الاضطرار ـ كما أوضحنا ذلك سابقا ـ فالأصول تبقى متعارضة لأن سبب تعارضها وهو العلم الإجمالي ثابت حتى بعد طرو الاضطرار ، فان تقضّي امد الفرد القصير لا يعني زوال العلم الإجمالي. وما دام ثابتا قبل الاضطرار وبعده فيكون سببا لتعارض الاصول قبل الاضطرار وبعده.

ج ـ ان يكون الاضطرار حاصلا قبل العلم الإجمالي ولكن المعلوم بالاجمال متقدم. وفي مثله لا تتعارض الاصول في الأطراف لأن سبب تعارضها هو العلم الإجمالي ، والمفروض حصوله بعد الاضطرار ، أي في فترة لا يجري فيها الأصل في إناء البرتقال للقطع بحليته.

وقد تقول : لماذا لا تجري مسألة الفرد القصير والطويل هنا؟

والجواب : ان العلم بالحرمة المرددة بين القصيرة والطويلة وان كان حاصلا إذ المكلّف بعد ان علم بثبوت نجاسة صباحا سابقة على الاضطرار سوف يعلم بتوجه وجوب الاجتناب إليه في الصباح ويتردد ذلك الوجوب الموجه بين ان يكون قصيرا ينتهي أمده بالاضطرار ـ على تقدير طرو النجاسة في إناء البرتقال ـ أو طويلا ، ولكن حيث انّ هذا العلم حدث بعد الاضطرار وذلك فلا

٣٠٩

يكون منجزا إذ شرط المنجزية تعارض الاصول في الأطراف ، والعلم الإجمالي متى ما حصل بعد الاضطرار فلا تتعارض الاصول في اطرافه بل تجري البراءة في ماء الرمان بلا معارض ، فان التعارض يحصل عند تحقق العلم الإجمالي لا قبله ، وحيث ان تحقق العلم الإجمالي في المقام هو بعد الاضطرار فلا يكون سببا لتعارض الاصول.

طرو المسقطات الاخرى

هذا كله في الافتراضات الثلاثة لطرو الاضطرار.

وقد تسأل عن طرو المسقطات الاخرى ، كما اذا تلف أحد الإنائين أو طهر أو غير ذلك فما هو الحكم؟

ان الحكم هنا هو نفس الحكم في صورة طرو الاضطرار ، فكما ان الاضطرار لو طرأ بعد العلم الإجمالي يبقى على المنجزية في الطرف الآخر كذلك لو تلف أحد الإنائين بعد العلم الإجمالي يبقى على المنجزية في الطرف الآخر. وكما لو طرأ الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو معه يسقط عن المنجزية كذلك هنا ، والنكتة هي نفس النكتة السابقة ، فان تلف أحد الطرفين لو كان حاصلا بعد العلم الإجمالي تشكّل لدى المكلّف علم إجمالي يتردد طرفاه بين القصير والطويل بخلاف ما اذا كان حاصلا قبله.

الصورة الثانية

والصورة الثانية من صورتي الاضطرار هي ان يكون الاضطرار إلى طرف غير معين.

٣١٠

وفي هذه الصورة لا إشكال أيضا في جواز ارتكاب أحد الطرفين لقاعدة « رفع عن امتي ما اضطروا إليه » وإنّما الاشكال بالنسبة إلى الطرف الثاني فهل يجوز ارتكابه؟

وبكلمة اخرى : لا إشكال في عدم وجوب الموافقة القطعية ، وإنّما الاشكال في جواز المخالفة القطعية وعدمه.

والشيخ الأعظم قدس‌سره في رسائله حكم بوجوب الاجتناب عن الطرف الثاني في هذه الصورة للعلم بثبوت الحكم بوجوب الاجتناب على كل تقدير ، فان النجاسة لو كانت في الطرف الأوّل وجب الاجتناب عنه لامكان دفع الاضطرار بارتكاب الطرف الآخر لفرض ان الاضطرار لم يتعلق بطرف معين بخصوصه. وهكذا لو كانت النجاسة ثابتة في الطرف الثاني فيجب الاجتناب عنه لامكان دفع الاضطرار بارتكاب الطرف الأوّل.

اذن المكلّف في هذه الصورة يعلم بثبوت الحكم بوجوب الاجتناب عليه على كل تقدير فيجب عليه الاجتناب عن أحد الطرفين وان جاز له ارتكاب أحدهما للاضطرار.

وهذا بخلافه في الصورة الأولى فان المكلّف لا علم له بوجوب الاجتناب على كل تقدير إذ على تقدير وقوع النجاسة في إناء الرمان فالاجتناب عنه وان كان واجبا إلاّ أنّه على تقدير وقوعها في إناء البرتقال لا يجب الاجتناب عنه لفرض الاضطرار إلى خصوص البرتقال.

هذا هو الفارق بين الصورتين في نظر الشيخ الأعظم (١).

__________________

(١) ولا حاجة إلى تشقيق المسألة وفرض الاضطرار إلى غير المعين تارة قبل العلم واخرى ـ

٣١١

والآخوند اختار في هذه الصورة عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر أيضا كما اختار ذلك في الصورة السابقة. وذكر في الردّ على الشيخ الأعظم ان النجاسة لو كانت قد أصابت الإناء الأوّل فالاضطرار وان كان يندفع بإرتكاب الإناء الثاني ولكن المكلّف له حق اختيار الإناء الأوّل. وما دام له اختياره فاذا مدّ يده لتناوله ارتفع الحكم بوجوب الاجتناب عنه ولا يبقى لديه علم إجمالي بوجوب الاجتناب ، ومعه فيجوز له اجراء البراءة في الإناء الثاني بلا معارض.

والسيد الشهيد أوضح رأي الآخوند ضمن منهجة تتركب من مقدمات ثلاث (١) :

أ ـ ان العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، بمعنى انه متى ما ثبت العلم الإجمالي ثبت وجوب موافقته القطعية ولا يمكن التفكيك بينهما.

ب ـ ان المعلول ساقط ، بمعنى ان وجوب الموافقة القطعية غير ثابت اذ المفروض جواز ارتكاب أحد الطرفين من جهة الاضطرار.

ج ـ ان المعلول اذا سقط كشف ذلك عن سقوط علته التامة ـ إذ لا يمكن سقوط المعلول مع ثبوت علته التامة ـ وهي العلم الإجمالي بثبوت التكليف الفعلي ، فالموافقة القطعية اذا لم تجب كشف ذلك عن عدم بقاء العلم الإجمالي

__________________

ـ بعده ووجه ذلك : ان الاضطرار إلى غير المعين سواء كان حادثا بعد العلم الإجمالي أو قبله فالمكلّف يعلم إجمالا بالتكليف الثابت على كل تقدير فيكون منجزا عليه سواء كان اضطراره قبلا أم بعدا

(١) هذا الدليل بالمنهجة المذكورة وان لم يذكر في الكفاية ولكنه من حيث الروح هو نفس ما نقلناه عنها

٣١٢

بالتكليف الفعلي.

ولكن كيف يزول العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي؟ ان زواله لا يكون الاّ بافتراض عدم وجوب الاجتناب عن النجاسة على تقدير اصابتها للإناء الذي يختاره المكلّف فانه على هذا التقدير يجري أصل البراءة في الطرف الآخر بلا معارضة إذ الإناء الذي يختاره يجزم بعدم وجوب الاجتناب عنه بسبب اختياره له فيبقى الطرف الآخر يشك في اصابة النجاسة له ووجوب الاجتناب عنه فيجري أصل البراءة فيه بلا معارض.

هذا ويمكن المناقشة من وجوه ثلاثة : ـ

١ ـ ان المقدمة الأولى غير مسلمة ، فلا نسلم ان العلم الإجمالي علة لوجوب الموافقة بل هو مقتض لذلك كما تقدم ص ٩٢ من الحلقة ، فالعلم الإجمالي اذا كان علة لوجوب الموافقة القطعية فسقوط وجوب الموافقة كاشف عن سقوط العلة التامة إذ لا يمكن بقاء العلة التامة عند سقوط المعلول.

واما اذا بني على ان العلم الإجمالي مقتض فسقوط وجوب الموافقة لا يدل على زوال العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي ، إذ المقتضي يجوز ثبوته عند سقوط المعلول فالنار يمكن ثبوتها حالة عدم ثبوت الاحتراق.

٢ ـ انه ذكر في المقدمة الثانية ان المعلول ساقط ، أي ان الموافقة القطعية لا تجب باعتبار انه يجوز ارتكاب أحد الطرفين لأجل الاضطرار. ويمكن ان نقول ان جواز ارتكاب أحد الطرفين من جهة الاضطرار لا يتنافى ووجوب الموافقة القطعية إذ المقصود من عليّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ان العلم الإجمالي يمنع من جعل الترخيص في بعض الأطراف بواسطة الأصل العملي

٣١٣

المؤمن ـ إذ موضوع الأصل هو عدم البيان ، ومع العلم الإجمالي يكون البيان تاما فيمتنع جعل الترخيص بواسطة الأصل المؤمن ـ وليس المقصود انه يمنع من الترخيص ولو من جهة اخرى كالاضطرار ونحوه والاّ فاي عاقل يحتمل ان المقصود من عليّة العلم الإجمالي انه مع العلم بنجاسة أحد انائين لا يجوز للشارع الترخيص في ارتكاب أحدهما حتى مع الاضطرار والحاجة الملحة إلى التناول.

٣ ـ لو سلمنا جميع المقدمات الثلاث فليست النتيجة تتفق وما رامه الآخوند من جواز المخالفة القطعية وارتفاع التكليف راسا بل مقتضى الجمع بين الحقين ـ حق عليّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وحق الاضطرار المقتضي لجواز ارتكاب أحد الطرفين (١) ـ هو تغير التكليف بالاجتناب عن النجس وهبوطه من الدرجة العالية وصيرورته تكليفا متوسطا ، فان التكليف بالاجتناب عن النجس يتصور بثلاثة أشكال : ـ

أ ـ اذا كان الاناء النجس هو الإناء الأوّل واقعا حرم ارتكابه سواء كان ـ ارتكابه ـ منفردا أم منضما إلى ارتكاب الاناء الثاني. والتكليف في هذا الشكل تكليف بدرجة عالية.

ب ـ اذا كان الإناء النجس هو الأوّل واقعا فلا يحرم ارتكابه سواء كان منفردا أم منضما. والتكليف في هذا الشكل تكليف بدرجة واطئة وبالاحرى لا تكليف.

ج ـ اذا كان النجس هو الأوّل واقعا فلا يحرم ارتكابه ان كان منفردا ويحرم ان كان منضما إلى الإناء الآخر. والتكليف في هذا الشكل تكليف متوسط بين

__________________

(١) لعل من المناسب اضافة افتراض ثالث وهو العلم بثبوت أصل التكليف

٣١٤

الشكلين السابقين.

وباتضاح هذه الاشكال الثلاثة نقول : ان هذا البرهان لاثبات جواز المخالفة القطعية يبتني على ان يكون التكليف بالاجتناب عن النجس تكليفا بالشكل الاول ، ولكن الجمع بين الحقين يقتضي هبوط التكليف بالاجتناب عن النجس من درجته العالية إلى درجته المتوسطة أي يصير الإناء النجس محرم الإرتكاب في صورة ارتكاب كلا الإنائين وغير محرم الارتكاب على تقدير ارتكاب أحد الإنائين.

وبناء على هذا : اذا ارتكب المكلّف أحد الإنائين تكون الموافقة القطعية منه حاصله ـ لان المحرم عليه هو ارتكاب كلا الإنائين والمفروض لم يرتكبهما معا وإنّما ارتكب أحدهما ـ واذا ارتكبهما معا يكون قد خالف قطعا.

قوله ص ١١٧ س ١ : قبل العم : الصواب : قبل العلم.

قوله ص ١١٧ س ١١ : بعده : متعلق بطرو. والضمير يرجع إلى العلم الإجمالي.

قوله ص ١١٧ س ١٤ وإنّما الكلام في جواز المخالفة القطعية : هذا أمر مشترك بين الصورتين فكان من المناسب إضافة كلمة « أيضا » بعد كلمة « فلا شك ».

قوله ص ١١٨ س ٤ : بسقوط : الانسب التعبير بزوال.

قوله ص ١١٨ س ٥ : وذلك بارتفاع التكليف : أي وسقوط العلم الإجمالي يحصل بارتفاع التكليف فانه اذا ارتفع التكليف الفعلي على تقدير ثبوته في الإناء الذي يختاره المكلّف فسوف يزول العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي قهرا.

قوله ص ١١٨ س ٥ : فلا تكليف مع الاضطرار المفروض : في العبارة ايهام. والمقصود : لا تكليف على تقدير ثبوته في الطرف الذي اختاره.

قوله ص ١١٩ س ٧ : على الاطلاق : أي ابدا.

٣١٥
٣١٦

الحالة الثالثة أو انحلال العلم الاجمالي بالتفصيلي

هناك حالات ينحل فيها العلم الإجمالي ويسقط عن المنجزية. وسبب ذلك اما الانحلال الحقيقي ـ الحاصل بسبب العلم التفصيلي ـ أو الانحلال الحكمي.

وهذه الحالة ناظرة إلى الانحلال الحقيقي واستعراض صوره بينما الحالة الرابعة من الحالات العشر ناظرة إلى الانحلال الحكمي.

ولتوضيح الحال في الانحلال الحقيقي نقول : ان لكل علم إجمالي سببا ولا يمكن ان يحصل علم إجمالي بلا سبب ، فمثلا من يرى قطرة دم تقع في واحد من أواني عشرة يحصل له علم إجمالي بنجاسة احدها. والسبب لهذا العلم الإجمالي هو وقوع القطرة فلولا وقوعها في أحد الأواني لم يحصل له هذا العلم الإجمالي.

وهذا شيء واضح بيد ان سبب العلم الإجمالي له حالتان ، إذ تارة يكون ـ سبب العلم الإجمالي ـ مختصا واقعا بطرف معين من الأطراف ، واخرى تكون نسبته إلى جميع الأطراف بدرجة واحدة دون اختصاص له ببعض الأطراف.

مثال الحالة الأولى : ما ذكرناه من العلم الإجمالي بنجاسة أحد الأواني الناشئ من وقوع قطرة دم في بعضها ، فان سبب هذا العلم الإجمالي ـ وهو وقوع القطرة ـ يختص بإناء واحد معين واقعا إلاّ أنّه حيث لم يتعين لدينا ذلك الإناء حصل العلم الإجمالي.

ولأجل اختصاص هذا السبب ببعض الأواني يمكن أخذ هذا السبب في

٣١٧

المعلوم بالاجمال فيصح ان نقول ان معلومنا الإجمالي هو نجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من وقوع القطرة.

ومثال الحالة الثانية : ما اذا كان لدينا أواني عشرة وكان إلى جنبها كلب عطشان فإنه بعد مضي فترة يحصل لنا علم إجمالي بنجاسة واحد من الأواني على الأقل إذ من البعيد جدا ان الكلب مع عطشه لم يشرب من أحدها.

وسبب العلم الإجمالي المذكور الاستبعاد. وهذا السبب لا يختص بطرف دون آخر إذ الاستبعاد لا يختص واقعا بأحد الأطراف بل نسبته إلى جميع الأطراف بدرجة واحدة (١). ولأجل عدم اختصاصه واقعا بطرف معين فلا يصح اخذه قيدا في المعلوم بالاجمال فلا يمكن ان نقول ان المعلوم الاجمالي هو نجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من الاستبعاد ، فان الاستبعاد لا يختص بأحد الأواني حتى يؤخذ قيدا فيه.

وبعد اتضاح هاتين الحالتين ناخذ الحالة الاولى أولا ونطرح فيها السؤال التالي : متى ينحل العلم الاجمالي بنجاسة أحد الأواني ـ نجاسة ناشئة من وقوع القطرة ـ بالعلم التفصيلي انحلالا حقيقيا؟

والجواب : انّه توجد في هذه الحالة شقوق ثلاثة هي : ـ

أ ـ ان يعلم إجمالا بنجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من وقوع قطرة الدم ثم يحصل العلم التفصيلي بذلك الاناء الذي اصابته القطرة ، أي يتعلق العلم

__________________

(١) أجل النجاسة الثابتة بسبب الاستبعاد وان كانت مختصة ببعض الأطراف إلاّ ان الاستبعاد الذي هو سبب العلم بالنجاسة لا يختص ببعض الأطراف. هذا ولكن سيأتي منّا فيما بعد التعليق على ذلك

٣١٨

التفصيلي بنفس ما كان العلم الإجمالي متعلقا به.

وفي مثله لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي انحلالا حقيقيا لأن المفروض ان المعلوم بالتفصيل هو نفس المعلوم بالاجمال جزما.

وبعد حصول الانحلال تزول المنجزية عن العلم الاجمالي لاختلال الركن الثاني من الاركان الأربعة للمنجزية ـ وهو عدم سراية العلم من الجامع إلى الفرد ـ إذ المفروض سراية العلم من الجامع إلى الفرد.

وهذه السراية سراية بالنحو الأوّل من الانحاء الأربعة المذكورة في الركن الثاني ، فان النحو الأوّل هو ان يكون العلم التفصيلي متعلقا بنفس المعلوم الإجمالي والمفروض ان الأمر في هذا الشق الأوّل كذلك ، أي ان العلم التفصيلي متعلق بنفس ما تعلق به العلم الإجمالي.

ب ـ ان يعلم إجمالا بنجاسة واحد من الأواني نجاسة ناشئة من وقوع القطرة ويفرض بعد ذلك انا علمنا تفصيلا بنجاسة الإناء الثاني مثلا نجاسة ناشئة من قطرة اخرى غير القطرة الاولى.

وفي هذا الشق لا إشكال في عدم حصول الانحلال لأن المفروض ان المعلوم التفصيلي ليس مصداقا للمعلوم الاجمالي بل هو مغاير له فلماذا الانحلال؟

ج ـ ان يعلم اجمالا بنجاسة أحد الأواني نجاسة ناشئة من وقوع القطرة ويفرض بعد ذلك انا علمنا تفصيلا بنجاسة الإناء الثاني مثلا نجاسة نحتمل انها نفس النجاسة السابقة كما ونحتمل انها غيرها.

وفي هذا الشق لا يحصل الانحلال لأنه يدخل تحت النحو الثالث من الانحاء الأربعة المذكورة في الركن الثاني ـ فإنه تقدم في النحو الثالث أنّا اذا علمنا

٣١٩

بوجود انسان طويل في المسجد ثم علمنا تفصيلا بوجود زيد في المسجد ولكن لم نعلم انّه طويل حتّى يكون مصداقا للمعلوم بالإجمال أو قصير فلا ينحل العلم الاجمالي لأنّ العلم الاجمالي إنّما ينحل بالعلم التفصيلي لا بعلم إجمالي آخر ـ إذ المفروض في هذا الشق أن المعلوم الاجمالي معلّم بعلامة خاصة ، وهي كون النجاسة ناشئة من وقوع القطرة ، والمفروض أيضا أنّ المعلوم التفصيلي لا يحرز تواجد العلامة المذكورة فيه.

هذا كله في الحالة الأولى.

وأمّا الحالة الثانية ـ وهي كون سبب العلم الاجمالي غير مختص بطرف دون آخر ـ فنطرح فيها السؤال السابق أيضا ، وهو أنه متى ينحل العلم الاجمالي بالنجاسة بالعلم التفصيلي؟

والجواب : ان الانحلال هنا لا يختص بشقّ دون شق ، بل هو حاصل مطلقا ، فمثلا اذا كان لدينا عشرة أواني ، وبسبب الاستبعاد علمنا اجمالا بأنّ الكلب قد شرب من بعضها ، فاذا فرضنا أنّا بعد ذلك علمنا تفصيلا بأنّ الاناء الثاني مثلا قد شرب منه الكلب (١) ، فلا اشكال في حصول الانحلال لأنّ المعلوم بالتفصيل مصداق جزما للمعلوم بالاجمال ، إذ المفروض أن المعلوم بالاجمال لم يؤخذ معلّما بعلامة حتّى يدخل في النحو الثالث ـ من الانحاء المذكورة في الركن الثاني ـ الذي لا يحصل فيه الانحلال بل هو داخل في النحو الثاني من تلك الانحاء

__________________

(١) طبيعي هذا الاناء الثاني يحتمل أنه عين الاناء الذي ثبتت نجاسته بالاستبعاد ويحتمل كونه غيره

٣٢٠