الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-27-8
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٦

٣ ـ لو سلّم عدم إمكان تطبيق دليل البراءة على كلا الطرفين امّا للمانع الثبوتي أو للمانع الإثباتي فهل يمكن تطبيقه على أحد الطرفين لتكون النتيجة عدم وجوب الموافقة القطعية؟

هذه أبحاث ثلاثة ترتبط بمنجزية العلم الإجمالي. والأوّل منها عقلي بينما الأخيران شرعيان.

وينبغي الالتفات إلى أنّ البحث عن الأمرين الأخيرين بحث عن مدى مانعية العلم الإجمالي ، وهل هو مانع ـ للمحذور الثبوتي أو الإثباتي ـ من تطبيق دليل البراءة حتّى على الطرف الواحد أو هو لا يمنع من ذاك وإنّما يمنع من تطبيقه على كلا الطرفين أو هو لا يمنع من هذا ولا ذاك.

بحث الأمر الأول

وفي هذا البحث كما قلنا سابقا نترك المجال للعقل وحده لنرى ماذا يحكم؟ فهل يحكم بلزوم الإتيان بكلتا الصلاتين أو بإحداهما على الأقل أو لا بهذا ولا ذاك؟

وقبل أن نأخذ بالجواب لا بدّ من التوجه إلى أنّ هذا البحث ينبغي أن يتصدّى له المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان دون مثل السيد الشهيد الذي يرى منجزية الاحتمال ، فإنّ احتمال الوجوب في كل طرف إذا كان منجزا ولو لم يكن هناك علم إجمالي فمع افتراض وجود العلم الإجمالي يكون التنجز أوضح ، فاحتمال وجوب الجمعة إذا كان منجزا للزوم الإتيان بها فكلتا الصلاتين يكون الإتيان بهما لازما من ناحية منجزية الاحتمال ولا مدخلية لافتراض وجود العلم الإجمالي ، فسواء كان العلم الإجمالي ثابتا أم لا يكون الإتيان بكلتا الصلاتين

١٨١

لازما من ناحية منجزية الاحتمال.

فهذا البحث إذن يختص بأصحاب قاعدة قبح العقاب بلا بيان ليلاحظ من خلاله انّ القاعدة المذكورة تقتضي التنجيز بأي مقدار ، فالعلم الإجمالي إذا لم يكن ثابتا فلا إشكال في اقتضاء قاعدة قبح العقاب جواز ترك كلتا الصلاتين لعدم تحقق البيان لا في هذه الصلاة ولا في تلك فإذا فرض تحقّقه ـ العلم الإجمالي ـ فيبحث انّه بأي مقدار يكون منجزا.

وبتعبير آخر : انّ قاعدة قبح العقاب هل تسقط بلحاظ كلا الطرفين ـ ولازم ذلك لزوم الإتيان بكلتا الصلاتين ـ أو تسقط بلحاظ أحدهما ، ولازم ذلك جواز ترك إحدى الصلاتين.

وعليه فإذا أردنا بحث الأمر الأوّل فنحن نبحث عن منجزية العلم الإجمالي على فرض تسليمنا بقاعدة قبح العقاب والتنازل عن مسلك منجزية الاحتمال.

وعلى ضوء هذا التنازل نطرح السؤالين التاليين : ـ

١ ـ هل العلم الإجمالي ينجز وجوب إحدى الصلاتين ـ ويعبّر عن ذلك بالجامع (١) ـ أو لا؟ وبتعبير ثاني : هل ينجز العلم الإجمالي وجوب الجامع أو لا؟ فإذا قلنا انّه ينجز الجامع فمعناه وجوب الإتيان بإحدى الصلاتين وعدم جواز تركهما معا بينما لو قلنا بعدم التنجيز حتّى على مستوى الجامع فلازمه جواز المخالفة القطعية بترك كلتا الصلاتين.

__________________

(١) فالجامع يراد به إذن وجوب إحدى الصلاتين ، ووجوب إحدى الصلاتين عبارة اخرى عن الجامع. ولعلّ التعبير عن الجامع بأحد الوجوبين أدق وأولى

١٨٢

٢ ـ إذا قلنا بتنجز الجامع ـ بمعنى عدم جواز المخالفة القطعية بترك كلتا الصلاتين ـ فهل العلم الإجمالي ينجز الجامع فقط أو ينجز أكثر من ذلك ، أي وجوب كلتا الصلاتين معا الذي لازمه وجوب الموافقة القطعية.

ويمكن أن نصوغ هذين السؤالين بشكل آخر : هل العلم الإجمالي ينجز حرمة المخالفة القطعية أو لا؟ وعلى تقدير تنجيزه لها فهل ينجز مضافا لذلك وجوب الموافقة القطعية أيضا أو لا؟

جواب السؤال الأوّل

أمّا بالنسبة إلى السؤال الأوّل فالجواب بالإيجاب ، أي انّ العلم الإجمالي ينجز وجوب إحدى الصلاتين لأنّ المكلّف بعد حصول العلم الإجمالي له يصير عالما بالجامع أي بوجوب إحدى الصلاتين ، ومع علمه بوجوب إحدى الصلاتين فلا يجوز له تركهما معا لأنّ تركهما معا ترك للجامع ، والمفروض انّ الجامع معلوم ومنجز.

ولربّ قائل يقول انّ العلم الإجمالي يكون علما بالجامع ـ أي علما بأحد الوجوبين ـ فيما لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي ترجع حقيقته إلى العلم بالجامع دون ما إذا قلنا برجوعه إلى العلم بالواقع (١) ، فإنّه بناء على تعلّقه بالجامع يكون تنجز

__________________

(١) يأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى أنّ في حقيقة العلم الإجمالي عدّة أقوال ، فالميرزا ذهب إلى أن العلم الإجمالي بوجوب امّا الظهر أو الجمعة مثلا يرجع إلى العلم بالجامع والشكّ بعدد الأطراف ، بينما الشيخ العراقي ذهب إلى أنّه يرجع إلى العلم بالواقع ، بمعنى انّه إذا فرض انّ الوجوب الثابت واقعا وفي علم الله سبحانه هو الظهر فالعلم الإجمالي يكون متعلّقا بوجوب الظهر الذي هو الثابت واقعا وليس متعلّقا بالجامع الذي هو أحد الوجوبين

١٨٣

الجامع وجيها ، وأمّا بناء على تعلّقه بالواقع فلماذا تنجز الجامع؟

والجواب : انّ العلم الإجمالي حتّى لو قلنا برجوعه إلى العلم بالواقع فالجامع منجز أيضا إذ الواقع يصدق عليه عنوان « أحدهما » أيضا ، فإنّ الواقع أحد أيضا.

جواب السؤال الثاني

وبعد أن عرفنا انّ العلم الإجمالي ينجز الجامع ، وبتعبير آخر ينجز حرمة المخالفة القطعية نأتي الآن لنعرف هل العلم الإجمالي ينجز أكثر من الجامع ، أي هل ينجز كلا الطرفين فينجز وجوب الظهر ووجوب الجمعة معا ـ الذي هو عبارة اخرى عن وجوب الموافقة القطعية ـ أو لا؟ انّ هذا التساؤل توجد له ثلاثة أجوبة : ـ

١ ـ ما اختاره الشيخ العراقي من تنجيزه لكلا الطرفين فيجب الإتيان بالظهر والجمعة ولا يكتفى بأحدهما.

٢ ـ ما اختاره الميرزا وتلميذه السيد الخوئي من عدم تنجيزه لكلا الطرفين وإنّما ينجز الجامع فقط ، غايته انّ أصل البراءة لا يمكن أن يجري بلحاظ كلتا الصلاتين لأنّه خلف العلم بالجامع وتنجزه ، ولا يجري في أحدهما بالخصوص لأنّه بلا مرجّح ، وبالتالي فلا يجري لا بلحاظ هذه ولا بلحاظ تلك لأنّ جريانه بلحاظ كل واحدة معارض بجريانه بلحاظ الاخرى ، ومعه فيجب الإتيان بكلتيهما من باب عدم وجود المؤمّن الذي يؤمن من العقوبة عند ترك أي واحد منهما. وهذا معناه انّ العلم الإجمالي لا يقتضي بذاته لزوم الإتيان بكلتا الصلاتين وإنّما يجب ذلك ـ الإتيان بكلتا الصلاتين ـ لأجل تعارض الاصول.

١٨٤

٣ ـ ما يظهر من بعض المحقّقين حيث ربط مسألتنا في المقام بمسألة حقيقة العلم الإجمالي وانّه إن كان علما بالجامع فيكفي الإتيان بإحدى الصلاتين وإن كان علما بالواقع فيجب الإتيان بكلتا الصلاتين ، حيث انّ العلم الإجمالي بعد تعلّقه بالواقع يتنجز الواقع ، ومقتضى قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني لزوم إحراز الواقع ، وإحرازه لا يحصل إلاّ بالإتيان بكلتا الصلاتين حيث إنّ ترك أي واحدة منهما يؤدي إلى احتمال ترك الواقع المفروض تنجزه.

ولتحقيق الحال في هذا الجواب الثالث نأخذ بعرض الاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي لنعرف انّ ربط مسألتنا بالاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي صحيح أو لا.

الاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي

والاتجاهات في حقيقة العلم الإجمالي ثلاثة : ـ

الأوّل

ما اختاره الميرزا والأصفهاني قدس‌سره من انّ العلم الإجمالي مركب من أمرين : ـ

أ ـ علم تفصيلي بالجامع.

ب ـ وشكوك تفصيلية بعدد الأطراف.

فالعالم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة هو عالم تفصيلا بأحد الوجوبين ـ أي بالجامع ـ وليس له شكّ في ذلك وإنّما له شكّ بلحاظ الأطراف فهو يشكّ في أنّ الظهر هل هي مصداق الواجب المعلوم أو لا؟ ويشك في أنّ الجمعة هل هي مصداق الواجب المعلوم أو لا؟ فالعلم على هذا الأساس يتعلّق بالجامع وأمّا

١٨٥

الأطراف فليس هناك علم بلحاظها بل شكوك.

ويمكن أن يقال : انّ هذا الرأي منحل إلى دعويين إحداهما إيجابية ، وهي تعلّق العلم بالجامع ، وثانيتهما سلبية ، وهي أنّ الأطراف لا يتعلّق بها العلم بل هناك شكوك بلحاظها.

أمّا الدعوى الإيجابية فهي واضحة. وأمّا الدعوى السلبية فهي وإن كانت واضحة أيضا إلاّ أنّه يمكن البرهنة عليها بهذا الشكل : لو كان هناك علم ثاني متعلّق بغير الجامع فنسأل عن متعلّقه فهل هو لا متعلق له أو أنّ متعلّقه الظهر بخصوصها مثلا أو انّ متعلّقه الفرد المردّد بين الظهر والجمعة ، فالاحتمالات في متعلّق هذا العلم الثاني إذن ثلاثة كلّها باطلة.

أمّا بطلان الأوّل فباعتبار انّ العلم لا يمكن أن يوجد بلا متعلّق يتعلّق به لأنّه من الصفات الإضافية ، أي من الصفات التي تحتاج إلى طرف تضاف إليه فنحن دائما نعلم بشيء ولا يمكن أن نعلم بلا وجود شيء يتعلّق به العلم.

وأمّا بطلان الثاني فلأنّه مخالف للوجدان إذ لازمه صيرورة الظهر معلومة الوجوب علما تفصيليا لا إجماليا.

وأمّا بطلان الثالث فلأنّ المقصود من الفرد المردّد امّا مفهوم الفرد المردّد أو واقع الفرد المردّد ، فإن كان المقصود مفهوم المردّد فواضح انّ مفهوم الفرد المردّد ليس إلاّ عبارة عن مفهوم أحدهما ، وحيث انّ مفهوم أحدهما ليس هو إلاّ الجامع فيلزم تعلّق العلم بالجامع لا بشيء زائد عليه.

وإن كان المقصود واقع الفرد المردّد فواضح انّ واقع الفرد المردّد لا ثبوت له خارجا ليتعلّق به العلم إذ كل ما هو ثابت خارجا معيّن ولا يمكن أن يكون مردّدا فكل شيء في الخارج هو هو وليس اما هو أو غيره.

١٨٦

الثاني

ما ذكره الآخوند من تعلّقه بالفرد المردّد فانّه قدس‌سره في بحث الواجب التخييري من الكفاية ذكر عدّة احتمالات في حقيقة الوجوب التخييري ، فوجوب العتق أو الصيام أو الإطعام فيه عدّة احتمالات منها تعلّق الوجوب بكل واحد من الأفراد مشروطا بترك الفردين الآخرين ومنها تعلّقه بالفرد الذي يختاره المكلّف في علم الله ومنها ... ومنها ما اختاره هو قدس‌سره من تعلّقه بأحدهما المردّد.

وأشكل هو قدس‌سره في الهامش الذي سجّله على كفايته بأنّ الفرد المردّد كيف يمكن تعلّق الوجوب به.

وأجاب عن ذلك بأنّ الوجوب أمر اعتباري ، والفرد المردّد يقبل ما هو أكثر من ذلك ، إنّه يقبل تعلّق الصفة الحقيقية به كالعلم الإجمالي فكيف لا تتعلّق الصفة الاعتبارية به كالوجوب.

إنّ هذا الجواب يظهر منه ان الآخوند يبني على تعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد حيث ذكر انّ العلم الإجمالي الذي هو صفة حقيقية نفسانية يقبل التعلّق بالمردّد فكيف بالصفة الاعتبارية التي هي الوجوب.

المناقشة على ضوء مقدّمات ست

وقبل أن نأخذ بمناقشة الرأي المذكور نذكر مقدّمات ست : ـ

١ ـ إنّ كل ممكن يتركّب من وجود وماهية ، فالإنسان يتركب من وجود وماهية ، والفرس يتركب من ذلك أيضا.

١٨٧

وإذا تأمّلنا قليلا وجدنا أنّ الوجود قاسم مشترك بين وجود الإنسان ووجود الفرس ، فكلاهما وجود إلاّ أنّ هذا الوجود يمتاز عن ذاك بأنّ هذا وجود للإنسان وذاك وجود للفرس.

إذن الفرسية والإنسانية هما الحدّ الذي يتميز به هذا الوجود عن ذاك. ومثل هذا الحد المائز يسمّى بالماهية ، فالماهية إذن هي حدّ الوجود.

٢ ـ إنّ كل وجود لا بدّ وأن يكون متميزا ومشخّصا وليس فيه تردد ، فالكلي حيث لا تشخص له ليس موجودا في الخارج وإنّما الموجود أفراده. ومن هنا قيل الشيء ما لم يتشخّص لا يوجد.

٣ ـ انّ الشيء متى ما وجد فلا بدّ وأن يكون متشخّصا ، ولازم تشخّصه وتعيّنه تشخّص ماهيّته وتعيّنها إذ ماهيّته حدّ لوجوده ، وكيف يعقل أنّ يكون المحدود وهو الوجود معيّنا ومشخّصا وحدّه مردّدا وغير مشخّص!! انّه غير ممكن إذ لازم تردّد الحدّ وعدم تعيّنه تردّد نفس الوجود المحدود ، وحيث انّ الوجود قد فرضناه محدّدا ومعيّنا فيلزم تعيّن ماهيّته.

٤ ـ انّ العلم بنزول المطر مثلا بم يتعلّق؟ فهل يتعلّق بالوجود الخارجي أو بالصورة الذهنية لنزول المطر؟ الصحيح هو الثاني ، وذلك لعدّة منبّهات نذكر منها (١) : ـ

أ ـ انّ العلم أمر ذهني قائم بالذهن ، ومعه فكيف يتعلّق بالأمر الخارجي!! إنّ لازمه تحقّق ما في الذهن في الخارج أو تحقّق ما في الخارج في الذهن. إذن لا بدّ من تعلّق العلم بالصورة الذهنية كي لا يلزم ما ذكر.

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى هذا البحث في الجزء الأوّل من هذا الشرح ص ١٠٥

١٨٨

ب ـ إنّنا قد نعلم بنزول المطر بينما هو في الواقع لم ينزل ، وفي مثل هذه الحالة بم يتعلّق العلم ، فهل يتعلّق بالخارج بالرغم من عدم تحقّق نزول المطر في الخارج؟ انّه غير معقول فلا بدّ من تعلّقه بالصورة الذهنية.

وبهذا يثبت انّ المتعلّق الحقيقي للعلم هو الصورة الذهنية. وتسمّى بالمعلوم بالذات بينما الوجود الخارجي الذي تحكي عنه الصورة يسمّى بالمعلوم بالعرض.

٥ ـ ان الصورة الذهنية التي يتعلّق بها العلم ترجع في حقيقتها إلى الوجود الذهني ، فحينما يقال تصوّر هذا الشيء فالمقصود أوجده في ذهنك واحضره فيه.

٦ ـ انّ الصورة الذهنية للظهر تشترك مع الصورة الذهنية للجمعة في كون كل واحدة منهما صورة ذهنية ، وتمتاز الاولى بخصوصية الظهر والثانية بخصوصية الجمعة. ومن هنا يصحّ ان نعبّر عن خصوصية الظهر والجمعة بأنّهما حدّان يميزان إحدى الصورتين عن الاخرى ، وبالتالي يصحّ التعبير عنهما بالماهية ، فالماهية للصورة الاولى خصوصية الظهر وللصورة الثانية خصوصية الجمعة.

وبعد اتضّاح هذه المقدّمات الست نعود إلى رأي الآخوند القائل بتعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد لنقول في مناقشته : انّ المشكلة لا تكمن في أنّ الفرد المردّد كيف يتعلّق به الوجوب التخييري ليقال انّ ذلك لا محذور فيه باعتبار انّ الصفة الحقيقية ـ العلم الإجمالي ـ إذا كانت قابلة للتعلّق بالمردّد فكيف بالوجوب التخييري الذي هو صفة اعتبارية ، إنّنا لا ننكر إمكان تعلّق الصفة الاعتبارية بل والحقيقية بالمردّد لو فرض إمكان تحقّقه ، بيد إنّا ندّعي عدم إمكان تحقّق الفرد المردّد في نفسه.

والوجه في ذلك : انّ العلم الإجمالي يتعلّق كما قلنا بالصورة الذهنية ، فإذا

١٨٩

كانت تلك الصورة صورة للجامع فهذا معناه تعلّق العلم الإجمالي بالجامع دون الفرد المردّد ، وإذا كانت تلك الصورة مشتملة على الحدين ـ أي خصوصية الظهر وخصوصية الجمعة ـ فتارة يفرض انّ كلتا الخصوصيتين دخيلة فيها ، واخرى يفرض انّ خصوصيّة الظهر مثلا هي الدخيلة فقط ، وثالثة يفرض انّ أحد الخصوصيتين على سبيل الترديد هي الدخلية. والكل باطل.

أمّا الأوّل فلأنّ لازمه انّ العالم بالإجمال يعلم بوجوب الظهر والجمعة معا ، وهو خلف المفروض.

وأمّا الثاني فلأنّه يلزم منه انقلاب العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الظهر.

وأمّا الثالث فلأنّ الصورة الذهنية وجود ذهني ، والوجود بما في ذلك الذهني لا بدّ وأن يكون متشخّصا ومعيّنا ، ومع تشخّصه فلا بدّ من تشخّص ماهيّته وحدّه ، أي خصوصية الظهر والجمعة ، فإنّ حدّ الصورة الذهنية للظهر هو الظهر وحدّ الصورة الذهنية للجمعة هو الجمعة ، ومع تعيّن الصورة الذهنية لا بدّ من تعيّن حدّها ، فهي أمّا صورة للظهر أو صورة للجمعة ولا يمكن أن تكون الصورة التي هي وجود ذهني معيّنة وحدّها وهو خصوصية الظهر والجمعة ليس معيّنا لأنّ لازم ذلك عدم تعيّن نفس الصورة.

الثالث

والرأي الثالث في حقيقة العلم الإجمالي هو للشيخ العراقي قدس‌سره. وحاصله : انّ العلم الإجمالي لا يتعلّق بالجامع ولا بالفرد المردّد بل بالواقع ، ففي مثال العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة يكون العلم متعلّقا بالواقع ، فلو كان الوجوب

١٩٠

الثابت واقعا وفي علم الله سبحانه هو وجوب الظهر مثلا فالعلم يكون متعلّقا بوجوب الظهر.

وإذا كان العلم الإجمالي متعلّقا بالواقع فما الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي بعد وضوح تعلّق العلم التفصيلي بالواقع أيضا؟

إنّ الفرق هو أنّ العلم الإجمالي يرى فيه الشخص العالم الواقع لكن رؤية مشوبة بالخفاء وعدم الوضوح بخلافه في العلم التفصيلي فإنّ الشخص العالم ينكشف له الواقع دون خفاء ، فمثلا إذا رأيت من بعد شبحا ولم تشخّص انّه زيد أو بكر وكان في الواقع زيدا فرؤيتك متعلّقة بالواقع الذي هو زيد غاية الأمر الرؤية ليست واضحة خلافا لما إذا كنت قد رأيت زيدا من قرب فإنّ رؤيتك واضحة ، فالرؤية في كلتا الحالتين متعلّقة بزيد إلاّ أنّها في الاولى مشوبة بالخفاء وفي الثانية ليست مشوبة بذلك. وهكذا في المقام فإنّ الرؤية في كل من العلم الإجمالي والتفصيلي متعلّقة بالواقع إلاّ أنّها في الإجمالي مشوبة بالخفاء وفي التفصيلي ليست مشوبة بذلك.

ومن خلال هذا يتجلّى الفرق بين الرأي الأوّل وهذا الرأي ، فعلى الأوّل لا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي من حيث نفس العلم بل الفرق هو من حيث المتعلّق ، فالعلم التفصيلي متعلّق بالواقع بينما العلم الإجمالي متعلّق بالجامع. وامّا على الرأي الثالث فالمتعلّق في كلا العلمين واحد وهو الواقع والفارق ليس إلاّ من حيث العلم ، ففي التفصيلي العلم متعلّق بالواقع بلا شوب خفاء بينما في الإجمالي متعلّق بالواقع مشوبا بالخفاء (١).

__________________

(١) وذكر الشيخ العراقي في بعض عبائره : انّه بلغني عن بعض أهل الفضل من المعاصرين ـ

١٩١

ثمّ إنّ الشيخ العراقي وإن لم يذكر برهانا على رأيه هذا إلاّ أنّه يمكن الاستدلال له بأنّ الإنسان العاقل بعد توجّهه إلى أنّ الجامع لا يمكن وجوده في الخارج بما هو جامع وكلي فلا يحتمل تعلّق علمه بالجامع ؛ إذ مع علمه وتوجهه إلى أنّ الجامع لا يمكن وجوده في الخارج فكيف يتعلّق علمه به بل لا بدّ من فرض انضمام خصوصية إلى الجامع ، وتلك الخصوصية هل هي كلية أو شخصية؟ فإن كانت كلية عاد المحذور السابق وهو تعلّق العلم بالأمر الكلي الجامع ، وإن كانت خصوصية شخصية فحيث لا يمكن أن تكون مردّدة لا ستحالة المردّد على ما سبق فيلزم أن تكون معيّنة ، وليست تلك الخصوصية المعيّنة إلاّ خصوصية الواقع ، وبذلك يثبت المطلوب ، وهو تعلّق العلم الإجمالي بالواقع.

تخريجات وجوب الموافقة القطعية

وبعد اتّضاح الاتجاهات الثلاثة في تفسير حقيقة العلم الإجمالي نعود إلى الجواب الثالث الذي ربط حالة وجوب الموافقة القطعية بالآراء المذكورة.

انّ الجواب الثالث كان يقول بناء على تعلّق العلم الإجمالي بالجامع فالذي يتنجز هو الجامع فقط ، وإذا اشتغلت الذمّة يقينا بالجامع فاللازم تفريغها اليقيني منه ، وذلك يحصل بالإتيان بطرف واحد لأنّ الجامع يتحقّق بوجود طرف واحد. وأمّا على القول بتعلّق العلم الإجمالي بالواقع فالذي يتنجّز كلا الطرفين لأنّه بعد

__________________

ـ ويقصد بذلك الميرزا النائيني ـ تعلّق العلم الإجمالي بالجامع وانّه لا فرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي من حيث العلم وإنّما الفرق بينهما من حيث المعلوم. ثمّ أخذ في ردّ ذلك

١٩٢

العلم بالواقع واشتغال الذمّة به يقينا فيجب تفريغها اليقيني منه ، وذلك لا يحصل بالإتيان بطرف واحد لاحتمال انّ الواقع ثابت في الطرف الثاني فتجب الموافقة القطعية بالإتيان بهما معا.

هذا ويمكن مناقشة ذلك بأنّ العلم الإجمالي ينجز الجامع فقط حتّى بناء على تعلّق العلم بالواقع ، فإنّ المكلّف إذا حصل له العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة فعلمه هذا وإن كان متعلّقا بالواقع إلاّ أنّ هذا العلم المتعلّق بالواقع ليس كلّه وضوحا بل هو خليط من الوضوح والخفاء باعتراف الشيخ العراقي ، وحيثية الوضوح تتمثّل في الجامع وحيثية الخفاء تتمثّل فيما زاد على الجامع ، وما دام الوضوح ثابتا بالنسبة إلى الجامع فقط فالذي يتنجز هو الجامع فقط دون الواقع لأنّ التنجز يحصل بسبب الوضوح دون الخفاء ، فمقدار ما يتّضح يتنجز دون ما يخفى ، إذ البيان لا يصدق إلاّ بمقدار الوضوح ، والواقع بمقدار الجامع لمّا كان واضحا فيصدق عليه البيان ويتنجز ، وأمّا بالمقدار الزائد على الجامع فحيث انّه ليس بواضح فلا يصدق عليه البيان وبالتالي لا يتنجز.

والنتيجة من كل ما تقدّم : انّ العلم الإجمالي لا ينجّز إلاّ حرمة المخالفة القطعية ـ مقدار الجامع ـ على جميع الآراء في حقيقة العلم الإجمالي (١).

عودة لصلب الموضوع

كان كلامنا سابقا في مقدار منجزية العلم الإجمالي في نظر العقل ، واتّضح

__________________

(١) وأمّا الرأي الثاني ـ القائل بتعلّق العلم بالمردّد ـ فهو امّا يرجع إلى التعلّق بالجامع أو إلى التعلّق بالواقع ، وعلى كلا التقديرين فالنتيجة واحدة

١٩٣

انّه منجز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، وأمّا بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ففيه آراء ثلاثة. والآن نشير إلى تقريبين لإثبات وجوب الموافقة القطعية ثانيهما ناظر إلى مسلك تعارض الاصول.

التقريب الأوّل

وهذا التقريب للشيخ الأصفهاني قدس‌سره. وحاصله انّه بعد العلم بالجامع وتنجزه يلزم الإتيان بكلتا الصلاتين : الظهر والجمعة ؛ إذ كما يحتمل تمثّل الجامع ضمن الظهر يحتمل تمثّله ضمن الجمعة ، ففي ترك الظهر حتمال المخالفة للجامع وفي ترك الجمعة احتمال مخالفته أيضا فيلزم الإتيان بكلتا الصلاتين ليجزم بتحقّق الجامع.

وإن شئت قلت : يمكن صياغة التقريب المذكور ضمن المقدّمتين التاليتين : ـ

أ ـ انّ ترك أي واحد من الطرفين يستلزم احتمال مخالفة الجامع المنجز.

ب ـ لا تجوز المخالفة الاحتمالية للجامع بعد تنجزه لاستلزامه احتمال المعصية.

وفيه : انّ المقدّمة الاولى ـ وهي إنّ الإتيان بطرف دون طرف مستلزم لاحتمال مخالفة الجامع ـ باطلة إذ الجامع يتحقّق جزما بالإتيان بطرف واحد لأنّه عبارة عن الأحد ، وهو يتحقّق بالإتيان بأحد الطرفين.

وبكلمة اخرى : انّ الأصفهاني ما دام قد سلّم انّ العلم الإجمالي ينجز الجامع لا أكثر فمن اللازم الاكتفاء بالإتيان بطرف واحد فقط لأنّ الجامع يتحقّق بذلك (١).

__________________

(١) وهذا مطلب واضح ونستبعد غفلة الشيخ الأصفهاني عنه. ويحتمل انّ مقصوده شيء آخر ، ومن هنا عبّر السيد الشهيد بكلمة « قد »

١٩٤

التقريب الثاني

وهو للميرزا والسيد الخوئي. وحاصله : انّ العلم الإجمالي ينجز الجامع فقط ـ أي أحد الطرفين ـ ولا ينجز كلا الطرفين حيث انّ المعلوم هو الجامع لا أكثر فيكون الجامع هو المنجز. أجل يجب الإتيان بالطرفين من ناحية اخرى غير العلم الإجمالي ، وهي انّ ترك كل طرف يحتاج إلى مؤمن ومسوغ ، والمؤمن ـ وهو أصل البراءة ـ حيث انّه معارض فيجب الإتيان بالطرفين ولكن لا من ناحية العلم الإجمالي نفسه بل من ناحية تساقط الاصول بالمعارضة.

ويمكن بيان هذا التقريب ضمن فقرات أربع بالشكل التالي : ـ

١ ـ انّ العلم الإجمالي حيث انّه يستدعي العلم بالجامع فمن اللازم الإتيان بأحد الطرفين لأنّ تركهما معا مخالفة قطعية للجامع الذي فرض تنجزه بسبب العلم الإجمالي.

٢ ـ انّ جريان أصل البراءة في كلا الطرفين غير ممكن لأدائه إلى ترك كلا الطرفين ، والمفروض عدم جوازه.

٣ ـ انّ الأصل كما لا يمكن جريانه في كلا الطرفين كذلك لا يمكن جريانه في أحد الطرفين لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

٤ ـ إذا لم يكن بالإمكان جريان الأصل في كلا الطرفين ولا في أحدهما فاللازم الإتيان بكلا الطرفين وتنجزهما لأنّ احتمال ثبوت التكليف في كل طرف يبقى بلا مؤمن ، إذ المؤمن وهو أصل البراءة قد فرضنا عدم جريانه ، وواضح انّ احتمال التكليف إذا لم يكن هناك ما ينفيه ويؤمن منه يكون منجزا.

ومن هنا يتّضح انّ الموافقة القطعية ـ أي الإتيان بالطرفين ـ واجبة ولكن

١٩٥

لا من باب انّ العلم الإجمالي يقتضي بنفسه ذلك بل من باب أنّ ترك كل واحد من الطرفين يحتاج إلى مؤمن ، وهو مفقود. أجل حيث انّ تعارض الأصلين حصل بسبب العلم الإجمالي صحّ أن نقول انّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعية ولكن بصورة غير مباشرة.

وأوضح من هذا انّ نقول : انّ المنجز على هذا التقريب هو احتمال التكليف الثابت في كل طرف بلا مؤمن وليس هو العلم الإجمالي نعم العلم الإجمالي سبب لفقدان المؤمن وتساقطه. وعلى هذا تكون نسبة التنجيز إلى العلم الإجمالي نسبة بنحو المجاز.

مناقشة التقريب الثاني

ويمكن مناقشة التقريب المذكور بأنّا لا نسلّم قولكم انّ احتمال ثبوت التكليف يبقى في كل طرف بلا مؤمن بعد تساقط الأصلين إذ أصل البراءة الشرعي المتمثّل في حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » وإن كان جريانه في هذا الطرف معارضا بجريانه في الطرف الثاني وبالتالي يتساقطا ولكن هذا لا يعني فقدان المؤمن في كل طرف إذ أين قاعدة قبح العقاب بلا بيان المعتبرة عندهم والتي تعدّ مؤمنا عقليا ، إنّ فقدان المؤمن الشرعي بسبب التعارض لا يعني فقدان المؤمن العقلي.

وقد يقال : انّ التعارض الذي ثبت في المؤمن الشرعي يجري نفسه في المؤمن العقلي فيقال انّ قاعدة قبح العقاب في هذا الطرف تعارض بالقاعدة نفسها في الطرف الثاني.

والجواب : انّ التعارض يتمّ في خصوص الاصول الشرعية ولا يجري في

١٩٦

قاعدة قبح العقاب.

والوجه في ذلك : انّ قاعدة قبح العقاب تجري في كل تكليف لا يكون معلوما ولا تجري في التكليف المعلوم. وإذا فرضنا انّ تكليفا كان معلوما من جهة وغير معلوم من جهة اخرى فمن الجهة المعلومة لا تجري القاعدة ومن الجهة غير المعلومة تجري.

وفي مقامنا نقول : انّه لو علمنا إجمالا بوجوب امّا الظهر أو الجمعة مثلا فالجامع ـ وهو أحد الوجوبين ـ حيث انّه معلوم فلا تجري قاعدة قبح العقاب فيه ، أمّا كل واحد من الطرفين بخصوصه فحيث انّه غير معلوم فتجري فيه القاعدة.

وبعبارة اخرى : إنّا ندّعي انّ قاعدة قبح العقاب يمكن جريانها في كل واحد من الطرفين ولكن بلحاظ الخصوصية لا بلحاظ الجامع ، فالظهر حيث انّه لا يعلم وجوبها بعنوان الظهر تجري قاعدة قبح العقاب لنفي وجوبها ولكن نفس الظهر حيث انّها بلحاظ الجامع ـ أي بعنوان أحد الطرفين ـ معلومة الوجوب فلا تجري القاعدة لنفي وجوبها بهذا اللحاظ ، وهكذا الكلام نفسه يجري في الجمعة فإنّه تجري فيها قاعدة قبح العقاب لنفي الوجوب بمقدار الخصوصية دون مقدار الجامع.

ونتيجة ذلك : انّ إحدى الصلاتين ـ الذي هو الجامع ـ يلزم الإتيان بها من دون أن يلزم كون تلك الصلاة الواحدة المأتي بها هي خصوص الظهر بل يجوز ترك الظهر والإتيان بالجمعة ، وهكذا لا يلزم أن تكون خصوص الجمعة بل يجوز تركها والإتيان بالظهر.

وقد تقول : انّ التفكيك في إجراء قاعدة قبح العقاب إذا قبل بهذا الشكل ـ أي تجري في كل طرف بلحاظ الخصوصية دون الجامع ـ فليقبل في أصل البراءة

١٩٧

الشرعي أيضا بأن يقال انّ أصل البراءة الشرعي يجري في كل طرف بلحاظ الخصوصية دون الجامع من دون أن يحصل تعارض وتساقط ، فالتعارض والتساقط كما رفض في قاعدة قبح العقاب فليرفض في أصل البراءة الشرعي أيضا.

والجواب : ان مستند أصل البراءة الشرعي دليل لفظي وهو مثل « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » ، والمتبع في فهم الدليل اللفظي هو العرف ، والعرف لا يقبل تطبيق الدليل اللفظي مفكّكا بهذا الشكل بل هو يرى أنّ الدليل أمّا أن يطبّق رأسا أو لا يطبّق رأسا ولا يقبل تطبيقه بلحاظ الخصوصية دون الجامع ، وهذا بخلافه في قاعدة العقاب فإنّها حكم عقلي ، والعقل يقبل هذا التفكيك ويقبل مثل هذه الدقة ويقول انّ كل تكليف هو مرفوع بمقداره المجهول وغير مرفوع بمقداره المعلوم.

هذه حصيلة مناقشة تقريب الميرزا والسيد الخوئي.

ويمكن صياغة المناقشة بمنهجة اخرى بأن يقال : ما هو المقصود من تعارض الاصول في الأطراف؟ فهل المقصود انّ الاصول الشرعية متعارضة وساقطة وهكذا الاصول العقلية أو المقصود انّ الاصول الشرعية هي المتعارضة والساقطة فقط دون الاصول العقلية؟

فإن كان المقصود الأوّل فجوابه انّ الاصول الشرعية وإن كانت متعارضة وساقطة ولكن لا وجه لتعارض الاصول العقلية ، إذ قاعدة قبح العقاب تجري في كل طرف بلحاظ الخصوصية دون الجامع. بل يمكننا أن نقول أكثر من هذا : انّ دعوى تعارض قاعدة قبح العقاب في الطرفين هي من الأساس دعوى غريبة فإنّ المقتضي لحكم العقل في كل طرف امّا أن يكون موجودا أو لا ، فإن كان

١٩٨

موجودا ـ والواقع كذلك حيث انّ خصوصية الظهر والجمعة بما أنّها غير معلومة فيشملها حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ـ حكم العقل بالبراءة في كل طرف بلا معارضة ، إذ المعارضة في الأحكام العقلية غير ممكنة ، فإنّ العقل لا يمكن أن يحكم بحكمين متعارضين. وإن لم يكن موجودا فلا يحكم العقل أصلا حتّى يلزم التعارض.

وإن كان المقصود الثاني فهو صحيح ولكن بعد تساقط الاصول الشرعية يمكن الرجوع إلى البراءة العقلية لنفي احتمال التكليف في كل طرف.

نقض على قاعدة قبح العقاب

وبهذا اتضّح انّ أنصار قاعدة قبح العقاب بلا بيان يلزمهم القول بعدم وجوب الموافقة القطعية للعلم الإجمالي فلا يلزم الإتيان بالظهر والجمعة معا بل يكفي الإتيان بواحدة ، إذ بعد تعارض الأصل الشرعي في كل طرف بالأصل الشرعي في الطرف الثاني يرجع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، انّه يلزم هذا والحال انّ الحسّ العقلائي والمتشرعي يقضي بوجوب الإتيان بكلا الطرفين ويرفض رفضا باتّا الاكتفاء بأحدهما. وهذا بنفسه منبه واضح على بطلان قاعدة قبح العقاب ، فكل من قال بالقاعدة المذكورة يلزمه القول بعدم وجوب الموافقة القطعية المرفوض لدى الحسّ العقلائي والمتشرعي (١).

__________________

(١) لم نعثر على قائل بعدم وجوب الموافقة القطعية إلاّ صاحب المدارك فإنّ الشيخ الأعظم في رسائله ص ٢٤٨ من الطبع القديم المحشى بحواشي رحمة الله نسب إليه عدم وجوب الموافقة القطعية

١٩٩

الثمرة بين المسلكين

نحن نعرف انّ السيد الشهيد ينكر قاعدة قبح العقاب ويقول بمنجزية الاحتمال غير انّنا عرفنا أيضا انّه قدس‌سره يقول بمنجزية الاحتمال فيما إذا لم يدل دليل شرعي على البراءة. وبعد أن كان الدليل على أصل البراءة الشرعي تامّا عنده فالاحتمال لا يكون منجزا في نظره بحسب النتيجة.

ويبقى بعد هذا السؤال عن الثمرة بين مسلك منجزية الاحتمال ومسلك المشهور بعد ما كان الجميع يرجع إلى أصل البراءة الشرعي.

انّ الثمرة تظهر في مقامنا فإنّه بعد تعارض الاصول الشرعية في الطرفين يلزم الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب ـ بناء على تسليمها ـ وتكون النتيجة جواز الاكتفاء بطرف واحد وعدم وجوب الموافقة القطعية بينما بناء على إنكار قاعدة قبح العقاب يلزم الإتيان بكلا الطرفين ـ بعد تساقط الاصول الشرعية ـ لمنجزية الاحتمال.

إذن الثمرة بين المسلكين تظهر في هذا المجال وأمثاله.

التفصيل بين الشبهات الحكمية والموضوعية

اتّضح انّه بناء على تسليم قاعدة قبح العقاب يلزم القول بعدم وجوب الموافقة القطعية للبيان المتقدّم. ونستدرك الآن ونقول انّ عدم تنجز الطرفين بالعلم الإجمالي ولزوم الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلحاظ خصوصية كل واحد من الطرفين يتم في حالات الشبهة الحكمية ولا يتمّ في حالات الشبهة

٢٠٠