الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-27-8
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٦

وهذا شيء وجداني فإنّ الحرمة لا تثبت للكذب بعد وجوده فليس من الصواب أن نقول انّه لا بدّ من وجود الكذب أوّلا ثمّ توجد الحرمة بل الحرمة ثابتة قبل وجود الكذب ، فكل كلام يصدق عليه الكذب على تقدير وجوده فهو حرام قبل وجوده أيضا.

الصياغة النهائية لميزان الشكّ في التكليف

وعلى ضوء هذا يتّضح انّ الصياغة النهاية لميزان الشكّ في التكليف هو أن يكون الشكّ في قيد التكليف ، والشكّ في قيد التكليف له أشكال ثلاثة : ـ

أ ـ أن يشكّ في أصل تحقّق القيد. ويسمّى بالشكّ في تحقق القيد بنحو مفاد كان التامة ، كالشك في تحقق البلوغ أو الشكّ في تحقّق الزلزلة التي هي قيد في وجوب صلاة الزلزلة.

ب ـ انّ يشكّ في الموضوع بنحو مفاد كان الناقصة ، كما لو شكّ في اتصاف

__________________

ـ والآخر يقتضي البراءة.

أمّا بيان الاشتغال فهو انّ المكلّف حيث يقطع باشتغال ذمّته بحرمة الكذب فلأجل تحصيل اليقين بفراغها يلزمه ترك ما يشكّ في كونه كذبا.

وبيان البراءة أنّ الحرمة حيث انّها ثابتة لما يتّصف بكونه كذبا على تقدير وجوده فالكلام المشكوك تجري البراءة عن حرمته لعدم إحراز اتصافه بوصف الكذب على تقدير وجوده.

والبيان الثاني هو الوجيه. أجل البيان الأوّل يتمّ في باب الواجبات فإذا وجبت الصلاة على المكلّف وشكّ في صدورها منه جرى الاشتغال.

وعليه فالمناسب هو التفصيل بين باب المحرّمات فتجري البراءة عند الشكّ في المتعلّق للبيان الثاني وبين باب الواجبات فيجري الاشتغال للبيان الأوّل

١٦١

السائل بكونه خمرا على تقدير وجوده.

ج ـ أن يشكّ في المتعلّق بنحو مفاد كان الناقصة ، كما لو شكّ في اتصاف الكلام بكونه كذبا على تقدير وجوده.

قوله ص ٥٩ س ١١ : لوجود الدليل عليها ... : أمّا الدليل على البراءة فهو الآية الاولى وحديث الرفع فإنّ دلالة هذين تامّة على ما اتّضح سابقا.

وأمّا انّ المانع عن تطبيق البراءة مفقود فلأنّ المانع من البراءة هو الاعتراضان الأساسيان السابقان ، وقد تقدّم دفعهما.

قوله ص ٥٩ س ١٦ : وهذا واضح : أي جريان الاشتغال وعدم جريان البراءة. وقوله : « على مسلكنا المتقدّم » إشارة إلى ما مرّ في الحلقة الثانية ص ٢٩٦ وفي القسم الأوّل من هذه الحلقة ص ٣٠٨.

قوله ص ٦٠ س ٣ : في فعلية التكليف : أي في ثبوت التكليف الفعلي.

قوله ص ٦٠ س ٨ : بأصل موضوعي حاكم : تسمية استصحاب عدم الامتثال بالأصل الموضوعي واضح لأنّه ناظر إلى الموضوع وهو الامتثال فإنّ الامتثال موضوع لعدم وجوب الامتثال من جديد. وأمّا تسميته بالحاكم فلأنّه يثبت تعبّدا ـ لا حقيقة ـ موضوع وجوب الامتثال من جديد.

قوله ص ٦٠ س ١١ : أي المكلّف به : فإنّ الشكّ في الامتثال عبارة اخرى عن الشكّ في تحقق المكلّف به.

قوله ص ٦٢ س ٧ : ميزانان : الصواب : ميزانين.

قوله ص ٦٢ س ١٠ : أن يكون إطلاق التكليف : المناسب : أن يكون الشكّ في الموضوع ويكون إطلاق التكليف ...

١٦٢

قوله ص ٦٤ س ٤ : في الأوّل : أي فيما إذا كان القيد مأخوذا بنحو مفاد كان التامة. والمراد من الثاني أخذه بنحو مفاد كان الناقصة.

١٦٣
١٦٤

استحباب الاحتياط

قوله ص ٦٥ س ١ : عرفنا سابقا عدم وجوب الاحتياط ... : عرفنا فيما سبق انّ الاحتياط لا يجب في موارد الشك في التكليف كالشك في حرمة التتن. ولكن هل هو راجح ومستحب أو لا؟ أجل هو مستحب ، فإنّ مثل حديث « أخوك دينك فاحتط لدينك » لئن أنكرنا دلالته على وجوب الاحتياط فليس بإمكاننا إنكار دلالته على استحباب الاحتياط ورجحانه.

وهذا شيء واضح. غير انّه توجد نقطتان وقعتا محلا للبحث بين الاصوليين : ـ

النقطة الاولى

انّ استحباب الاحتياط هل هو مستحب مولوي كسائر المستحبات المولوية ـ كاستحباب صلاة الليل مثلا ـ أو هو إرشادي؟

والثمرة بين هذين الاحتمالين تظهر في ثبوت الثواب ، فإنّه بناء على الاستحباب المولوي يكون المكلّف مستحقا للثواب لو احتاط كما يستحق الثواب لو فعل بقية المستحبات المولوية بينما على الاستحباب الإرشادي لا يكون مستحقا للثواب على الاحتياط بما هو احتياط وإن كان يستحقه عليه بما هو انقياد.

١٦٥

وتظهر الثمرة أيضا في إمكان قصده في مقام الامتثال فإنّ الاستحباب المولوي يمكن قصده في مقام الامتثال ويصير الفعل بذلك عباديا ، وهذا بخلافه في الاستحباب الإرشادي فإنّ قصده في مقام الامتثال لا يصيّر الفعل عباديا.

وعلى أي حال وقع الكلام في أنّ استحباب الاحتياط هل هو مولوي أو إرشادي؟

ذهبت مدرسة الشيخ النائيني قدس‌سره إلى عدم إمكان كون استحباب الاحتياط مولويا وقالت انّ الروايات الدالة على حسن الاحتياط واستحبابه ـ مثل أخوك دينك فاحتط لدينك ـ لا بدّ من حملها على الإرشاد ، أي الإرشاد إلى ما يحكم به العقل من حسن الاحتياط ولا تريد أنّ تؤسس استحبابا مولويا زيادة على الحسن العقلي الذي يحكم به العقل. واستدلت على ذلك بوجهين : ـ

١ ـ إنّ الغرض من الاستحباب المولوي للاحتياط امّا هو إيجاد محرّك لزومي نحو الاحتياط ، أو إيجاد محرك غير لزومي.

والأوّل باطل جزما ، إذ لازمه صيرورة الاحتياط واجبا مع أنّ المفروض كونه مستحبا وليس واجبا.

والثاني لغو وتحصيل للحاصل ، فإنّ المكلّف ما دام يحتمل انّ شرب التتن محرّم واقعا فهذا الاحتمال سوف يحركه نحو الاحتياط حتّى لو فرض أنّ الشارع لم يجعل الاستحباب للاحتياط لأنّ العقل يحرّك المكلّف ويدفعه نحو إيجاد الاحتياط ، وما دام احتمال ثبوت الحرمة كافيا في تحريك المكلّف نحو الاحتياط يكون جعل الشارع الاستحباب للاحتياط بداعي التحريك نحو الاحتياط لغوا وأشبه بتحصيل الحاصل.

١٦٦

٢ ـ وبيان هذا الوجه موقوف على مقدّمة تقدّمت في الحلقة الثانية ص ٣٠٢ حاصلها : انّ العقل إذا حكم بحسن شيء فهل يلزم حكم الشارع على طبقه أو لا؟ وبتعبير آخر : هل هناك ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع؟

وفي الجواب عن هذا السؤال فصّل الميرزا بين الحسن الثابت في مرحلة متأخّرة عن الحكم والحسن الثابت في مرحلة أسبق على الحكم ، فالحسن الثابت في مرحلة أسبق يستلزم حكم الشارع على طبقه بخلاف الحسن المتأخر.

فمثلا حسن الإطاعة حسن ثابت في مرحلة متأخّرة عن الحكم إذ لا بدّ من افتراض سبق حكم بوجوب الصلاة مثلا حتّى يمكن تحقق إطاعته وبالتالي حتّى يثبت حسن هذه الإطاعة فإذا لم نفترض وجود حكم شرعي بوجوب الصلاة فلا يمكن تحقق إطاعته حتّى تكون حسنة ، فحسن الإطاعة إذن موقوف على وجود حكم شرعي.

ومثل هذا الحسن لا يستلزم حكم الشارع على طبقه إذ لو حكم الشارع على طبقه يلزم تولّد حكم ثاني جديد غير الحكم السابق ـ والحكم السابق هو وجوب الصلاة مثلا ـ وهذا الحكم الثاني حيث انّ إطاعته حسنة أيضا فيلزم تولّد حكم شرعي ثالث ، وإطاعة هذا الحكم الثالث حيث انّها حسنة أيضا فيلزم تولد حكم رابع جديد ، وهكذا يلزم التسلسل.

هذا كلّه في الحسن الثابت في مرحلة متأخرة عن الحكم. ويعبّر عنه بالحسن الواقع في طول الحكم الشرعي.

وأمّا إذا كان الحسن واقعا في مرتبة أسبق على الحكم ـ ويعبّر عنه بوقوع الحكم الشرعي في طول الحسن ، كحسن الصدق مثلا ، فإنّ الصدق حسن في

١٦٧

نفسه وقبل أن يحكم الشارع بوجوبه ، ولأجل حسنه المذكور حكم الشارع بوجوبه ـ فهو يستلزم حكم الشارع على طبقه وسلّم فيه الميرزا الملازمة بين حكم العقل بالحسن وحكم الشارع بالوجوب.

وباتّضاح هذه المقدّمة نقول في توضيح الوجه الثاني : انّ الاحتياط ما دام حسنا عقلا فلا يمكن أن يكون مستحبا مولويا شرعا لأنّ هذا الحسن العقلي للاحتياط هو حسن متأخر عن الحكم الشرعي إذ لا بدّ من فرض وجود حرمة شرب التتن أوّلا حتّى يمكن الاحتياط لأجلها وبالتالي حتّى يكون الاحتياط لأجل تلك الحرمة المحتملة حسنا.

وما دام حسن الاحتياط متأخّرا عن الحكم الشرعي فلا يمكن أن يكون مستلزما للاستحباب المولوي لأنّه إذا كان الاحتياط مستحبا شرعا فإطاعة هذا الاستحباب حسنة أيضا فيلزم تولد استحباب جديد بإطاعة الاستحباب السابق ، وحيث إن إطاعة هذا الاستحباب الجديد حسنة أيضا فيلزم تولّد استحباب آخر ، وهكذا يلزم التسلسل.

مناقشة الوجه الأوّل

ويمكن مناقشة الوجه الأوّل ـ وهو أنّ جعل الاستحباب للاحتياط لغرض إيجاد محرّك لزومي غير معقول ولايجاد محرّك غير لزومي لغو ـ بأنّ الاستحباب المولوي للاحتياط فيه احتمالان : ـ

أ ـ أن يكون الاستحباب نفسيا لا طريقيا ، بمعنى أنّه جعل الاستحباب للاحتياط لا لأجل التحفّظ على عدم الوقوع في المحرمات الواقعية المحتملة بل

١٦٨

لأجل ملاك آخر كما قد يستفاد ذلك من حديث « من ترك الشبهات فهو لما استبان له أترك » حيث يدلّ على أنّ رجحان الاحتياط وترك الشبهة لم ينشأ من أجل التحفّظ على الواقع بل لأنّ ترك الشبهة يولّد للمؤمن مناعة ونفسا قادرة على ترك المحرّمات المعلومة ، فمن اعتاد على ترك الشبهات هان عليه ترك المحرّمات.

وبناء على هذا الاحتمال لا يلزم محذور اللغوية لأنّ احتمال حرمة شرب التتن واقعا وإن كان يحرك المكلّف نحو الاحتياط حتّى لو لم يجعل الشارع الاستحباب للاحتياط إلاّ أنّ هذه المحركية الناشئة من احتمال حرمة شرب التتن هي محركية مغايرة للمحركية الناشئة من جعل الاستحباب المولوي للاحتياط ، فإنّ المحركية الاولى محركية ناشئة من أجل التحفّظ على الواقع المشكوك بينما المحركية الثانية ناشئة من أجل إيجاد المناعة. وبعد تغاير المحركيتين فلا لغوية. أجل عند اجتماع المحركتين تتحوّلان إلى محركية واحدة أكيدة كالسوادين المتغايرين حينما يجتمعان في محل واحد حيث يتحوّلان إلى سواد واحد أكيد.

ب ـ ان يكون الاستحباب المولوي للاحتياط استحبابا طريقيا بمعنى أنّه ناشىء من أجل التحفّظ على عدم الوقوع في المحرّمات المحتملة.

وبناء عليه لا يلزم محذور اللغوية أيضا لأنّ احتمال حرمة شرب التتن واقعا وإن كان يحرّك المكلّف نحو الاحتياط وترك التتن إلاّ أنّ هذه المحركية تقوى بجعل استحباب الاحتياط إذ به تتّضح شدّة اهتمام المولى بالاحتياط ، وواضح كلّما تكشّف اهتمام المولى وشدّته كلّما قويت المحركية.

١٦٩

مناقشة الوجه الثاني

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو أنّ حسن الاحتياط لا يمكن أن يكون مستلزما للاستحباب المولوي حذرا من التسلسل ـ فيردّه : ـ

أ ـ لا نسلّم محذور التسلسل ، فإنّ التسلسل المستحيل هو التسلسل في الامور التكوينية ، وأمّا في الامور الاعتبارية فليس مستحيلا ، ومن الواضح أنّ التسلسل اللازم في المقام هو تسلسل في الامور الاعتبارية لأنّ الأحكام التي يلزم تسلسلها وعدم تناهيها هي امور اعتبارية ، والتسلسل في الامور الاعتبارية ليس مستحيلا أو بالأحرى غير لازم لأنّ المعتبر متى ما قطع اعتباره ورفع يده عنه انقطع التسلسل.

ب ـ لو سلّمنا باستحالة التسلسل حتّى في الامور الاعتبارية فيمكن أن نقول انّ هذه الاستحالة لا تؤثّر علينا شيئا إذ لا نريد إثبات الاستحباب الشرعي بواسطة الملازمة بين حسن الاحتياط واستحبابه الشرعي حتّى يقال انّ ذلك غير ممكن للزوم محذور التسلسل بل استحباب الاحتياط ثابت بأدلة استحباب الاحتياط الخاصة من قبيل « أخوك دينك فاحتط لدينك » غاية الأمر نريد أن نعرف هل يوجد مانع ثبوتا وواقعا من ثبوت الاستحباب للاحتياط أو لا.

وبكلمة اخرى : المقصود ليس إلاّ نفي المانع من ثبوت الاستحباب للاحتياط وليس المقصود إثبات الاستحباب للاحتياط.

وممّا يؤكّد عدم كون المقصود إثبات الاستحباب بقاعدة الملازمة بل نفي المانع لا أكثر أنّه لو كان المقصود التمسّك بقاعدة الملازمة فمن اللازم أن يكون

١٧٠

الاستحباب الشرعي للاحتياط على منوال الحسن العقلي للاحتياط لفرض استكشاف ذاك من هذا مع وضوح انّ الاستحباب الشرعي للاحتياط ليس على منوال الحسن العقلي فإنّ العقل لا يحكم بأنّ كل احتياط حسن وإنّما يحكم بحسن الاحتياط فيما إذا اتي به بداع قربي ، فترك التتن مثلا يكون حسنا عقلا فيما إذا تركه المكلّف بداعي تحصيل رضا الله سبحانه بترك ارتكاب ما حرّمه دون ما إذا تركه لا لهذا الداعي فإنّه لا يكون حسنا وهذا بخلافه في الاستحباب الشرعي للاحتياط فإنّه غير ثابت لخصوص الاحتياط المأتي به بداع قربي ؛ إذ المستفاد من دليل « أخوك دينك فاحتط لدينك » وأمثاله انّ التتن ما دام من المحتمل حرمته فتركه مطلوب وراجح حتّى لو صدر لا بداع قربي بأن صدر بداعي التحفظ على صحّة البدن فالترك المذكور مطلوب أيضا ويشمله دليل أخوك دينك.

النقطة الثانية

ذكرنا فيما سبق انّ الكلام في الاستحباب المولوي للاحتياط يقع في نقطتين. ونأخذ الآن بالتحدّث عن النقطة الثانية ـ بعد الفراغ عن النقطة الاولى ـ وحاصلها : انّه بعد معرفة حسن الاحتياط ورجحانه نسأل هل يمكن تحقق الاحتياط في جميع الموارد أو إنّ هناك بعض الموارد لا يمكن تحققه فيها؟

ربّما يقال بعدم إمكان الاحتياط في بعض الموارد.

توضيح ذلك : لو كان عندنا فعل عبادي (١) نشكّ انّه مستحب أو لا فلذلك صورتان : ـ

__________________

(١) المقصود انّه لو كان مطلوبا فهو مطلوب بنحو العبادية

١٧١

١ ـ ان نجزم بكونه مطلوبا ولكن نشكّ انّه مطلوب على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب ، كالدعاء عند رؤية الهلال فإنّا نجزم بمطلوبيّته ورجحانه بيد انّا نشكّ هل هو واجب أو مستحب.

وفي مثل ذلك يمكن أن نأتي بالفعل بقصد القربة ويتحقّق بذلك الاحتياط ويكون حسنا وراجحا. وهذا ممّا لا إشكال فيه.

٢ ـ انّ نشكّ في أصل المطلوبية ، كما لو دلت رواية ضعيفة على استحباب صلاة ركعتين في وقت معين ، فإنّه بعد فرض ضعف سند الرواية سنحتمل عدم استحباب الركعتين وبالتالي يكون الأمر دائرا بين احتمالين : ثبوت الاستحباب ـ وذلك على تقدير صدق الرواية ـ وعدم ثبوته ، وذلك على تقدير كذبها.

وفي هذه الحالة وقع الكلام بين الأعلام هل يمكن الإتيان بالركعتين من باب الاحتياط أو لا؟

وقد نقل الشيخ الأعظم في الرسائل عن بعض القول بعدم إمكانه لأنّ المكلّف إذا أراد الاحتياط فهل يأتي بالركعتين من دون قصد القربة أو معه؟ فإن أتى بهما من دون قصد القربة فلا يصدق عليهما عنوان العبادة ولا عنوان الاحتياط ، فإنّ الصلاة بلا قصد القربة أشبه بالصلاة بلا ركوع ولا سجود.

وإن أتى بهما بقصد القربة فعنوان العبادة والاحتياط وإن كان صادقا ولكن لا يمكن ذلك ، أي لا يمكن قصد القربة بالركعتين إذ قصد القربة يتوقّف على وجود أمر جزمي بالعمل ليقصد امتثاله ، والمفروض عدم جود أمر جزمي بالركعتين.

وبهذا ثبت ما ذكرناه من أنّ الاحتياط لا يمكن تحقّقه في بعض الموارد ، أي

١٧٢

فيما إذا لم يجزم بمطلوبية العمل العبادي (١).

مناقشة الشبهة

وقد يجاب عن الشبهة المذكورة بأنّ قصد القربة عند الإتيان بالركعتين وإن كان يتوقّف على وجود أمر جزمي غير انّا ندّعي وجوده وتحققه ، وذلك الأمر الجزمي هو الأمر الاستحبابي بالاحتياط فإنّ مثل « أخوك دينك فاحتط لدينك » الذي تمسّك به الإخباري لإثبات وجوب الاحتياط يدل في نظرنا على استحباب الاحتياط ، وبعد ثبوت هذا الأمر الاستحبابي يمكن الإتيان بالركعتين بقصد امتثال هذا الأمر الجزمي.

وقد يشكل بأنّ هذا الأمر الاستحبابي المتعلّق بالاحتياط توصلي (٢) ، وما دام توصليا فكيف يجب قصد امتثاله؟

وفيه : ان لزوم قصد امتثاله لم ينشأ من كونه أمرا عباديا ليقال انّه توصّلي وليس بعبادي وإنّما نشأ من جهة انّ صلاة الركعتين على تقدير كونها مطلوبة واقعا فهي عبادة ، فلأجل أن تتحقق العبادة التي نحتمل أنّها مطلوبة واقعا يلزم قصد الأمر الاستحبابي بالاحتياط ، فلزوم قصده ليس إلاّ من هذه الجهة وليس

__________________

(١) ينبغي أن يكون واضحا انّ هذا الإشكال يختص بما إذا كان العمل عباديا ، وأمّا إذا كان توصليا فالإتيان به على وجه الاحتياط ممكن دون أي محذور إذ لا يلزم في العمل التوصّلي قصد القربة ليقال انّ الإتيان به بقصد القربة غير ممكن

(٢) بدليل انّ استحباب الاحتياط يسقط بمجرّد تحقّق الاحتياط وإن لم يكن بقصد القربة ، فمن ترك التدخين تحقّق منه الاحتياط وسقط عنه الأمر بالاحتياط وإن لم يكن تركه للتدخين بقصد امتثال الأمر المذكور

١٧٣

لكونه أمرا عباديا.

الأولى في الجواب

عرفنا انّ الشبهة السابقة اجيب عنها بأنّ الأمر الجزمي ثابت وهو الأمر الاستحبابي بالاحتياط. هذا ولكن يوجد جواب آخر أولى من هذا الجواب وهو أن يقال : انّ الإتيان الركعتين بنحو قربي لا يتوقّف على وجود أمر جزمي بل يكفي الإتيان بهما بنيّة رجاء المطلوبية ، فكما انّ قصد امتثال الأمر الجزمي يحقق التقرب كذلك قصد امتثال الأمر المحتمل.

قوله ص ٦٥ س ٢ : واستحبابه : عطف تفسير على مطلوبيته.

قوله ص ٦٥ س ٥ : ثبوتا : أي واقعا.

قوله ص ٦٥ س ٩ : إذ يكفي فيه نفس التكليف : المناسب إضافة كلمة « احتمال » أي يكفي فيه احتمال التكليف ...

قوله ص ٦٥ س ١٣ : وقد تقدّم : أي في الحلقة الثانية ص ٣٠٢.

قوله ص ٦٥ س ١٤ : في هذه المرحلة : أي في مرحلة متأخرة عن الحكم الشرعي.

قوله ص ٦٥ س ١٤ : لا يستتبعان : فرارا من محذور التسلسل.

قوله ص ٦٦ س ٤ : لملاك الخ : هذا تفسير لقوله : « نفسيا ». وقوله : « وراء » بمعنى غير.

قوله ص ٦٦ س ٥ : بملاك الخ : هذا تفسير لقوله : « طريقيا ».

قوله ص ٦٦ س ١٢ : فيه : أي المشار إليه في الوجه الثاني.

قوله ص ٦٦ س ١٤ : واستتباع : عطف تفسير لقوله : « الملازمة ».

١٧٤

قوله ص ٦٦ س ١٦ : ولهذا : أي ولأجل انّا لا نريد إثبات استحباب الاحتياط بقانون الملازمة.

قوله ص ٦٦ س ١٧ : والعقل : أي بينما العقل الخ.

قوله ص ٦٧ س ١ : والقربى خاصة : عطف تفسير للانقيادي.

قوله ص ٦٧ س ٦ : وإن لم يعلم كونه : أي كون الأمر المعلوم تعلّقه به.

قوله ص ٦٧ س ٧ : وقريبا : عطف تفسير لـ « عباديا ».

قوله ص ٦٧ س ١١ : والبناء على وجوده : عطف تفسير لقوله : « افتراض الأمر ».

قوله ص ٦٧ س ١٦ : وكون الأمر الخ : هذا مبتدأ ، خبره قوله : « لا ينافي الخ ». وقوله : « لا تتوقف موافقته على قصد امتثاله » جملة تفسيرية أو وصفية لقوله : « توصليا ».

قوله ص ٦٧ س ١٧ : لا ينافي ذلك : أي لا ينافي عبادية الركعتين ولزوم قصد القربة بهما.

قوله ص ٦٨ س ٢ : ما يحتاط فيه : وهو نفس الركعتين.

١٧٥
١٧٦

مباحث العلم

الإجمالي

١٧٧
١٧٨

ثلاثة أبحاث في العلم الإجمالي

قوله ص ٧٤ س ١ : والكلام في هذه القاعدة الخ : تقدّم في ص ٢٥ من الحلقة أنّ الشكّ في الحكم له صورتان ، فتارة يشكّ في ثبوت الحكم من دون أن يقترن بالعلم الإجمالي. وتسمّى حالة الشكّ هذه بالشبهة البدوية. ومثالها الشكّ في حرمة شرب التتن.

واخرى يشكّ في ثبوت الحكم مع اقتران ذلك بالعلم الإجمالي. وتسمّى هذه الحالة بالشبهة المحصورة (١). ومثال ذلك الشكّ في وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة فإنّ هذا الشكّ مقرون بالعلم الإجمالي بثبوت وجوب حتما متعلّق امّا بالظهر أو بالجمعة.

وما سبق كان حديثا عن الشبهة البدوية. ومن الآن نأخذ بالتحدّث عن الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

ويمكن منهجة البحث عن العلم الإجمالي في ثلاثة فصول : ـ

١ ـ هل العلم الإجمالي منجز أو لا؟

٢ ـ ما هي أركان منجزية العلم الإجمالي؟

٣ ـ بعض التطبيقات.

والكلام يقع أوّلا عن الفصل الأوّل ، أي في منجزية العلم الإجمالي.

__________________

(١) طبيعي فيما إذا كانت الأطراف محصورة وإلاّ سمّيت بالشبهة غير المحصورة

١٧٩

منجزية العلم الإجمالي

وفي البحث عن منجزية العلم الإجمالي نتكلّم عن ثلاثة امور : ـ

١ ـ إذا علم المكلّف إجمالا يوم الجمعة أمّا بوجوب الظهر أو الجمعة مثلا فنسأل : ماذا يحكم العقل ـ وبقطع النظر عن أي دليل شرعي على البراءة ـ بالنسبة للعلم الإجمالي فهل يحكم بأنّه منجز أو لا؟ وإذا حكم بكونه منجزا فهل يحكم بكونه منجزا لكلا الطرفين بحيث يلزم الإتيان بالظهر والجمعة معا ـ وهذا ما يعبّر عنه بوجوب الموافقة القطعية ـ أو يحكم بكفاية الإتيان بأحدهما ، وهذا ما يعبّر عنه بحرمة المخالفة القطعية.

٢ ـ لو فرض أن العقل حكم بكون العلم الإجمالي منجزا بمعنى لزوم الإتيان بالظهر والجمعة أو لا أقل لزوم الإتيان بأحدهما فنسأل : لو رجعنا إلى أدلة البراءة الشرعية من قبيل « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فهل يمكن أن نستفيد منها موقفا آخر غير ما انتهى إليه العقل كأن يستفاد منها جواز ترك كلتا الصلاتين باعتبار أن كل واحدة منهما لما لم تكن معلومة الوجوب بالخصوص فيكون وجوبها مرفوعا ولازم ذلك جواز المخالفة القطعية (١).

__________________

(١) قد يقال بعدم إمكان تطبيق دليل البراءة على كلا الطرفين لأنّ لازمه الترخيص في المعصية القطعية وهو قبيح.

وقد يقال انّ المحذور المذكور لا يلزم ولكن بالرغم من ذلك لا يمكن تطبيق دليل البراءة على كلا الطرفين باعتبار قصوره عن الشمول للطرفين لقرينة خاصة يدعى اتصالها به.

والمحذور بشكله الأوّل يسمّى بالمحذور الثبوتي ، وبشكله الثاني بالمحذور الإثباتي ، وقد تقدّم ذلك في القسم الأوّل ص ٥٨

١٨٠