الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-27-8
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٦

فيها هي مقرونة بالعلم الإجمالي ـ فقد ذكر له جوابان أحدهما ما هو المذكور في الكفاية وغيرها من انّا وإن كنّا نعلم بثبوت الحرمة في بعض الشبهات بيد أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ بعلم إجمالي أصغر منه يختص بدائرة أخبار الثقات ، ومعه فيكون العلم المنجز هو هذا العلم الصغير.

توضيح ذلك : انّا لو فرضنا انّ الوقائع التي نشك في حكمها ـ ١٠٠٠ واقعة مثلا وفرضنا أيضا انّ الوقائع التي نعلم بثبوت الحرمة فيها ـ ١٠ وقائع مثلا ففي مثل هذه الحالة يكون العلم الإجمالي الثابت في الوقائع الألف منجزا ويجب الاحتياط في جميع أطرافه ، ولكن هذا لو لم نلتفت إلى حقيقة اخرى وهي أنّه لو نظرنا إلى وسائل الشيعة لوجدنا فيه أخبارا كثيرة جدّا ، وهذه الأخبار لا يحتمل كذبها جميعا بل نجزم بأنّ ١٠ أخبار على الأقل ـ الدالّة على ١٠ تحريمات ـ صادقة وصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، وبعد الالتفات إلى هذه الحقيقة يحصل لنا علم إجمالي ثاني أصغر من السابق ، وهو العلم إجمالا بوجود ١٠ أخبار أو بالأحرى ١٠ تكاليف تحريمية في مجموع دائرة الأخبار ، ونحن ندّعي أنّ العلم الكبير الأوّل منحلّ بهذا العلم الصغير لأنّه كلّما كان عندنا علمان أحدهما كبير والآخر صغير وكانت أطراف الصغير بعض أطراف الكبير وكان مقدار المعلوم بالإجمال في الصغير لا يقلّ عن مقدار المعلوم بالإجمال في الكبير فالكبير ينحلّ بالصغير ويكون العلم المنجز هو العلم الصغير.

فمثلا لو كان عندنا عشرة أواني وكنّا نعلم بنجاسة منها ثمّ علمنا بعد ذلك بأنّ اثنين من الأواني الخمسة الواقعة في جانب اليمين من تلك الأواني العشرة نجس ، في مثل ذلك لا يكون العلم الأوّل الكبير منجزا بل يكون المنجز هو العلم الثاني الثابت في الأواني الخمسة فإنّ أطراف العلم الصغير الثاني بعض أطراف

١٤١

العلم الكبير الأوّل كما انّ المعلوم نجاسته بالإجمال في العلم الصغير لا يقلّ عن المعلوم في العلم الكبير فيكون العلم المنجز هو الثاني ، أي يجب الاجتناب عن الأواني الخمسة فقط ولا يجب الاجتناب عن مجموع الأواني العشرة لأنّ العلم الكبير ينحلّ بسبب العلم الصغير ويبقى الصغير هو المنجز.

ونفس الشيء نقوله في مقامنا فإنّ العلم الكبير الذي أطرافه جميع الشبهات ينحلّ بالعلم الإجمالي الصغير في دائرة الأخبار لأنّ الشبهات التي وردت فيها أخبار هي بعض من تلك الشبهات في العلم الكبير ، كما وانّ المفروض انّ المعلوم بالإجمال في العلم الصغير لا يقلّ عن المعلوم بالإجمال بالكبير فينحل الكبير ويكون الصغير هو المنجز ، أي انّه يجب الاحتياط في دائرة الأخبار فقط لا في جميع الشبهات.

وبكلمة أوضح : كل شبهة دلّت رواية على حرمتها يجب فيها الاحتياط ، وأمّا الشبهات التي لا يوجد فيها خبر فلا يجب الاحتياط فيها ، وهذا هو المطلوب ؛ إذ المطلوب للاصولي هو إثبات إنّ كل شبهة يشكّ في حكمها ولم يدل خبر على حرمتها فلا يجب فيها الاحتياط بل تجري البراءة.

هذا حصيلة ما ذكره الآخوند وغيره.

ويمكن مناقشته بأنّ العلم الصغير ليس واحدا بل اثنان إذ كما نعلم بأنّ عشرة من أخبار الثقات صادق جزما كذلك نعلم بأنّ عشرا من الامارات غير المعتبرة كالشهرات وأخبار من لم يثبت توثيقهم صادق (١) فإنّا لا نحتمل كذب

__________________

(١) إذ العلماء مع شدّة دقّتهم وذكائهم وقوّة تقواهم فمن البعيد جدّا أن يكون الحكم المشتهر بينهم باطلا ومخالفا للواقع ، وهكذا لا نحتمل أنّ أخبار الرواة الذين لم يثبت توثيقهم باطلة ولا شيء منها مطابقا للواقع بالرغم من كونها تشكّل نصف مجموع الأخبار أو أكثر

١٤٢

جميع ذلك بل بمقتضى حساب الاحتمال نجزم بصدق عشر منها على الأقل (١).

وبهذا تحصل لنا ثلاثة علوم إجمالية : علم إجمالي كبير ثابت في مجموع الشبهات يثبت حرمة عشر وقائع ، وعلمين إجماليين صغيرين أحدهما في دائرة أخبار الثقات وثانيهما في دائرة الشهرات وأخبار غير الثقات ، وفي كل من هذين العلمين الصغيرين نعلم بحرمة عشر شبهات.

ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ الشبهات في دائرة أخبار الثقات لا ندّعي أنّها مغايرة للشبهات في دائرة الشهرات وأخبار غير الثقات بل في الغالب هما متّحدان ، بمعنى أنّ أغلب الشبهات يوجد فيها أخبار ثقات ويوجد فيها شهرات أو أخبار غير ثقات ونادرا ما يكون خبر الثقة ثابتا في شبهة من دون شهرة أو خبر غير ثقة وهكذا بالعكس.

وبعد الالتفات إلى هذا كاملا نأخذ بطرح السؤال التالي وهو أنّ التحريمات العشر التي نعلم بثبوتها في دائرة أخبار الثقات هل هي نفس التحريمات العشر التي نعلم بثبوتها في دائرة الشهرات وأخبار غير الثقات أو أنّ ذلك غير محتمل وإنّما هما متطابقان في البعض لا في الجميع ، فكلتا العشرتين تتطابقان مثلا في ثمانية تحريمات وهناك تحريمان ثابتان في دائرة أخبار الثقات بلا أن يكون فيهما شهرة أو خبر غير ثقة ، كما وأنّه هناك تحريمان آخران توجد فيهما شهرة وخبر غير ثقة ولا يوجد فيهما أخبار ثقات (٢)؟

فإن اخترت الأوّل وقلت إنّا نحتمل أنّ تلك التحريمات العشر في أخبار الثقات هي نفس التحريمات العشر التي نعلم بثبوتها في الشهرات وأخبار غير

__________________

(١) المراد عشر ممّا يدل على تكليف تحريمي

(٢) قدمت عبارة الكتاب الاحتمال الثاني على الأوّل عكس ما فعلنا

١٤٣

كالثقات ـ أي أنّ المعلومين بالإجمال في كلا العلمين نحتمل واقعا تطابقهما تطابقا تامّا ـ فيشكل حينئذ بأنّه لماذا ينحلّ العلم الكبير الثابت في مجموع الشبهات بالعلم الصغير الثابت في دائرة أخبار الثقات ولا ينحلّ بالعلم الإجمالي الصغير الثابت في الشهرات وأخبار غير الثقات؟ إنّ هذا ترجيح من غير مرجّح (١).

وإن اخترت الاحتمال الثاني ـ وهو انّ التحريمات العشر هنا وهناك ليست متطابقة تطابقا تامّا بل هي متطابقة في ثمانية فقط وهناك تحريمان فيهما أخبار ثقات بلا شهرات وأخبار غير ثقات كما وهناك تحريمان فيهما شهرات وأخبار غير ثقات بلا أخبار ثقات ـ فيرد عليه انّ لازم هذا أن تكون التحريمات التي نعلم بها في العلم الإجمالي الكبير الثابت في مجموع الشبهات ليست هي عشر تحريمات بل ١٢ تحريما (٢).

__________________

(١) قد يقال : لماذا لا نقول انّ العلم الكبير ينحلّ بكلا العلمين الصغيرين معا في آن واحد؟

والجواب انّ لازم هذا حجّية الشهرات وأخبار غير الثقات الدالة على الحرمة وعدم جريان البراءة معهما بالرغم من كونهما من الامارات غير المعتبرة.

إن قلت : انّه بعد تطابق الشهرات مع أخبار الثقات في التحريمات العشر فلماذا لا نقول انّ كل شبهة دل خبر الثقة والشهرة معا على ثبوت الحرمة فيها يجب الاحتياط فيها وإلاّ فلا.

قلت : انّ تلك التحريمات العشر لا نشخّصها ولا نميّزها خارجا فإنّ الشبهات التي يوجد فيها أخبار ثقات وشهرات كثيرة جدّا وليست هي عشرا فقط.

هذا مضافا إلى أنّ لازم هذا حجّية الخبر في خصوص ما إذا كانت الشهرة موافقة له ، وأمّا إذا لم تكن معه شهرة فلا يكون حجّة ، وهذا لا يلتزم به ، فإنّ القائل بحجّية الخبر يقول بحجّيته حتّى إذا لم تكن معه شهرة

(٢) لأنّ الشبهات في كل من العلمين الصغيرين هي قسم من الشبهات الثابتة في العلم الكبير فإذا كان مجموع التحريمات في شبهات كل من العلمين الصغيرين ـ ١٢ ـ حيث انّ التحريمات ـ

١٤٤

وإذا كان المعلوم بالإجمال في الكبير ١٢ تحريما فلازم ذلك عدم انحلاله بالعلم الصغير في دائرة الأخبار لأنّ المعلوم في دائرة الأخبار هو ١٠ بينما المعلوم في الكبير هو ١٢ ، وقد قلنا سابقا إنّ شرط انحلال العلم الكبير بالصغير هو ان لا يقل المعلوم في الصغير عن المعلوم في الكبير ، والمفروض هنا انّ المعلوم في الصغير أقلّ من المعلوم في الكبير فلا يحصل الانحلال.

الجواب الثاني عن الاعتراض الثاني

والجواب الثاني عن الاعتراض الثاني أن يقال : نسلّم انّه لو نظرنا إلى مجموع الشبهات التي نشكّ في حكمها فلنا علم إجمالي بثبوت الحرمة في بعضها ولكن هذا العلم الإجمالي ليس منجزا لما تقدّم في الحلقة الثانية ص ٣٦٦ من أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجزا إلاّ إذا تمّت أركان أربعة ، والركن الثالث منها عبارة عن تعارض الاصول في الأطراف فالعلم الإجمالي متى ما تعارضت الاصول في أطرافه كان منجزا ومتى لم تتعارض لم يكن منجزا. فمثلا إذا كان عندنا اناءان وكنّا نعلم بنجاسة أحدهما فهذا العلم الإجمالي منجز لأنّ أصل الطهارة في ذاك الإناء معارض بأصل الطهارة في هذا الإناء وبذلك لا يجوز ارتكاب أي واحد منهما لأنّ جواز ارتكاب الشيء يحتاج إلى مؤمّن ، والمؤمّن ليس هو إلاّ أصل الطهارة ، والمفروض انّه معارض.

__________________

ـ المعلومة التي تدلّ عليها أخبار الثقات والشهرات ـ ٨ والتحريمات التي فيها أخبار ثقات فقط ـ ٢ والتحريمات التي فيها شهرات ـ ٢ ـ فهذا لازمه انّ التحريمات الثابتة في شبهات العلم الكبير هي ١٢ أيضا

١٤٥

وأمّا إذا فرض انّ الاصول لم تتعارض فالعلم الإجمالي لا يكون منجزا ، كما لو فرض انّا نملك انائين أحدهما خمر والآخر ماء وعلمنا إجمالا بوقوع نجاسة في أحدهما فيجوز إجراء أصل الطهارة في إناء الماء وبالتالي يجوز شربه ولا يعارضه أصل الطهارة في الإناء الآخر لأنّه خمر ، والخمر نجس جزما لا معنى لإجراء أصل الطهارة فيه.

وباتّضاح هذا نقول : انّ مجموع الشبهات التي بأيدينا وإن كنّا نعلم إجمالا بحرمة بعضها إلاّ أنّ هذا العلم الإجمالي ليس منجزا لأنّ كثيرا من الشبهات وردت فيها آيات وروايات تبيّن الحكم الثابت فيها ، فالخمر مثلا وردت فيه آية تدلّ على حرمته والكلب وردت فيه آية كذلك و ... وبعضها اتّضح الحكم فيه بالاستصحاب كالشكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة فإنّه ببركة استصحاب الوجوب إلى زمن الغيبة يثبت الوجوب.

إذن هناك شبهات كثيرة ثبت حكمها بالآيات أو الروايات أو الاستصحاب. ومثل هذه الشبهات لا يجري فيها أصل البراءة للعلم بحكمها من الطرق المذكورة ، ومع عدم جريان البراءة فيها فالقسم الباقي من الشبهات الذي لم ترد فيه آية ولا رواية ولا استصحاب لا محذور من إجراء البراءة فيه لأنّه لا يوجد علم إجمالي بثبوت الحرمة فيه.

وبذلك يثبت إنّ كل شبهة ليس فيها آية ولا رواية ولا استصحاب فلا مانع من جريان البراءة فيها ، وهو المطلوب ، إذ مطلوبنا إثبات انّ أصل البراءة يجري في الشبهة التي لا يوجد دليل على تحريمها ، وذلك ثابت بعد انحلال العلم الإجمالي.

ويسمّى مثل هذا الانحلال بالانحلال الحكمي لأنّ العلم الإجمالي لم يرتفع حقيقة من النفس وإنّما ارتفعت منجزيته فقط بسبب عدم تعارض الاصول فإنّ

١٤٦

عدم تعارض الاصول لا يرفع العلم الإجمالي حقيقة وإنّما يرفع منجزيته.

توجيه آخر للانحلال

والسيد الخوئي ( دام ظلّه ) أوضح فكره الانحلال الحكمي في المقام وحاول ربطها بمسلك جعل الطريقية الذي يتبناه.

وحاصل ما ذكره : انّ فكرة الانحلال الحكمي تامّة وواضحة بناء على مسلك جعل الطريقية. والوجه في ذلك انّ العلم الإجمالي متقوّم بأمرين : العلم بالجامع ، والشكّ في كل طرف طرف.

فإذا فرضنا انّ الآية أو الرواية أو الاستصحاب (١) دلّ على ثبوت الحرمة أو الوجوب في قسم من الشبهات فسوف يزول عنه الشكّ إذ حجّية الامارة تعني جعل العلمية والطريقية ، فالمكلّف متى ما قامت لديه امارة على الحرمة في شبهة فالشكّ يزول عنها ويتبدّل إلى العلم بالحرمة ـ ولكن ارتفاع الشكّ تعبّدي وليس ارتفاعا حقيقيا لأنّ الامارة لا تولّد العلم حقيقة وإنّما تولّده تعبّدا. ومن أجل هذا كان انحلال العلم الإجمالي انحلالا تعبّديا وليس حقيقيا ـ ومع زوال الشكّ وتبدّله إلى العلم يزول العلم الإجمالي أيضا لتقوّمه بالشكّ في كل طرف.

ويمكن مناقشة ذلك بأنّ منجزية العلم الإجمالي تتوقّف على تعارض الاصول في الأطراف فمتى لم تتعارض ـ كما هو الحال في مقامنا حيث انّ القسم الذي فيه الامارات لا تجري فيه البراءة وإنّما تجري في القسم الباقي فقط ـ لم يكن منجزا ، وهذا بلا فرق بين أن نبني على مسلك جعل العلمية أو لا.

__________________

(١) المجعول في باب الاستصحاب عند السيد الخوئي هو الطريقية أيضا على ما تقدّم

١٤٧

فتمام النكتة للانحلال تكمن في عدم تعارض الاصول ولا تأثير لمسلك جعلية العلمية في ذلك أبدا. أجل لئن كان لمسلك جعل العلمية دور في المقام فدوره يبرز في توجيه نكتة عدم جريان الأصل في الطرف الذي قامت فيه الامارة ، فما قامت فيه الامارة لا يجري فيه الأصل باعتبار انّ الامارة بناء على مسلك جعل العلمية تورث العلم وتلغي الشكّ الذي هو موضوع الأصل ـ ومن الطبيعي تلغيه تعبّدا لا حقيقة ومن هنا كانت حاكمة لا واردة ـ وبالتالي ينحصر جريان الأصل بالطرف الآخر ويرتفع التعارض.

وإن شئت قلت : إنّ نكتة وجوب الموافقة القطعية ليست كامنة في عنوان العلم الإجمالي ليقوم السيد الخوئي ببذل الجهود في إثبات زوال العنوان المذكور زوالا تعبّديا ببركة مسلك جعل العلمية وإنّما هي كامنة في عدم تعارض الاصول في الأطراف. ولكن لماذا لا تتعارض الاصول عند قيام الامارة في أحد الطرفين؟ انّ مسلك جعل العلمية يصلح جوابا عن هذا السؤال فيقال انّ الطرف الذي قامت فيه الامارة لا يجري فيه الأصل لحكومتها عليه حيث إنّها تلغي الشكّ تعبّدا ، وأمّا إذا لم نبن على مسلك جعل العلمية فيمكن ان نستعين بنكتة ثانية لتقدّم الامارة وعدم جريان الأصل من قبيل نكتة الأخصيّة والنصيّة أو غيرها ممّا يأتي التعرّض له في هذا القسم من الحلقة ص ٣٦٠ ـ ٣٦٣ وبالتالي يتمّ عدم التعارض بين الاصول ومن ثمّ عدم وجوب الموافقة القطعية من دون الاستعانة بمسلك جعل العلمية أبدا.

قوله ص ٥٤ س ٢ : بأدلة تدل على وجوب الاحتياط : تقدّمت في الحلقة الثانية ص ٣٣٨.

قوله ص ٥٤ س ٣ : بل هذه الأدلة : أي أدلة وجوب الاحتياط. وقوله :

١٤٨

« حاكمة عليها » أي على أدلة البراءة. وقوله : « لأنّها » : أي لأنّ أدلة وجوب الاحتياط. وقوله : « وتلك » : أي أدلة البراءة.

قوله ص ٥٤ س ٧ : غير معيّنة : أي هي ثابتة في مجموع الشبهات وإن لم تكن تلك التكاليف مشخّصة ومميّزة لنا.

قوله ص ٥٥ س ٤ : منوطة بعدم وصول الواقع : أي بعدم النهي عن شرب التتن مثلا بعنوان شرب التتن ، فإنّ من جملة أدلة البراءة حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » وواضح أنّ هذا الحديث يرفع وجوب الاحتياط عن شرب التتن ما دام لم يصل نهي عنه بعنوان شرب التتن.

قوله ص ٥٥ س ٩ : على أساس : هذا توضيح لكيفية دلالة الآية الاولى على البراءة عن التكليف.

قوله ص ٥٦ س ٥ : والتعارض : هذا أشبه بعطف التفسير على الاجتماع.

قوله ص ٥٦ س ١٠ : في الحلقة السابقة : ص ٣٤٥.

قوله ص ٥٦ س ١٦ : شرطي القاعدة : أي قاعدة انحلال العلم الكبير بالعلم الصغير.

قوله ص ٥٧ س ١ : تكون الشبهة خارج نطاق ... : أي تكون الشبهة التي ليس فيها خبر ثقة بدوية.

قوله ص ٥٧ س ١٠ : والنطاقان : أي نطاق الامارات المعتبرة ونطاق الامارات غير المعتبرة.

قوله ٥٧ س ١٠ : وإن كانا متداخلين جزئيّا : بمعنى انّ بعض الشبهات توجد فيه الامارات المعتبرة والامارات غير المعتبرة. بل هذا هو الغالب فإنّ الغالب في الشبهة التي فيها خبر ثقة فيها شهرة أيضا ، والشبهة التي فيها شهرة

١٤٩

فيها خبر ثقة أيضا.

قوله ص ٥٧ س ١١ : ولكن مع هذا : أي بالرغم من وجود التداخل الجزئي فمع ذلك لا يحصل الانحلال.

قوله ص ٥٧ س ١٢ : تطابقهما المطلق : أي تطابقهما في جميع التكاليف العشرة المعلومة بالإجمال.

قوله ص ٥٨ س ٤ : الذي تضمّ أطرافه : أي العلم الإجمالي الكبير الثابت في مجموع الشبهات.

قوله ص ٥٨ س ٩ : واستصحاب مثبت للتكليف : ليس المقصود من الاستصحاب المثبت الاستصحاب الذي يراد به إثبات لازمه العقلي الذي يعبّر عنه بالأصل المثبت بل الاستصحاب الذي نتيجته ثبوت التكليف.

قوله ص ٥٩ س ٤ : وإنّما يكون تأثيره : أي تأثير إلغاء عنوان العلم الإجمالي.

قوله ص ٥٩ س ٥ : عن طريق رفع التعارض : أي انّ إلغاء عنوان العلم الإجمالي إن كان له أثر فأثره يظهر في رفع التعارض بين الاصول حيث انّ إلغاء العلم الإجمالي يتحقّق بسبب رفع الامارة ـ في الطرف الذي تقوم فيه ـ للشكّ رفعا تعبّديا ، ومع ارتفاع الشكّ تعبّدا فلا يجري الأصل لارتفاع موضوعه وبالتالي لا يحصل تعارض.

١٥٠

تحديد مفاد البراءة

قوله ص ٥٩ س ١١ : وبعد أن اتّضح انّ البراءة : قبل توضيح المبحث المذكور نطرح السؤال التالي : بماذا يسقط التكليف؟

والجواب : انّه يسقط بكل شيء أخذ عدمه قيدا في التكليف ، فالمرض مثلا مسقط لوجوب الصوم لأنّه قيّد بعدم المرض فمع طروّ المرض يسقط وجوب الصوم. وهذا واضح.

وهل امتثال التكليف أو عصيانه مسقط له أيضا؟ ذهب المشهور إلى كونه مسقطا. والصحيح عدمه لأنّ المسقط للتكليف هو كل شيء أخذ عدمه قيدا في التكليف ، وواضح أنّ الامتثال والعصيان لم يؤخذ عدمهما قيدا في التكليف ؛ إذ لو كان الامتثال قد أخذ عدمه قيدا في التكليف صار وجوب الصلاة هكذا : أقيموا الصلاة إن لم تقيموا الصلاة. ولو كان عدم العصيان قيدا صار الوجوب هكذا : أقيموا الصلاة إن لم تعصوا الأمر المذكور ، وهو واضح البطلان.

وعليه فالصحيح انّ امتثال التكليف وعصيانه ليسا مسقطين بل التكليف يبقى بعد الامتثال أيضا غاية الأمر يسقط عن المحركية والفاعلية فمن صلّى وفرغ من صلاته لا يسقط وجوب الصلاة في حقّه بل هو باق كما كان موجودا قبل الإتيان بها ، غاية الأمر قبل الإتيان بالصلاة كان ـ وجوب الصلاة ـ محرّكا للمكلّف ودافعا له إلى الصلاة ، وأمّا بعد الإتيان بها فلا يكون محركا نحوها.

ويمكن توضيح المدّعى المذكور بأنّ التكليف يرجع في روحه إلى الحبّ

١٥١

والإرادة ، وواضح انّ الحبّ لا يزول بتحقّق المحبوب ، والإرادة لا تزول بتحقق المراد ، فنحن نحبّ الطعام وحبّنا له لا يزول بتناوله بل هو باق لكنّه لا يحرك نحو الأكل من جديد.

وممّا يدل على عدم زوال فعلية الحب بتحقّق الأكل إنّنا قد نقوم بعد تناول الوجبة الاولى بالإعداد للوجبة الثانية ، فلو لم يكن الحب فعليا بعد تناول الوجبة الاولى فلماذا التحرّك لإعداد الوجبة الثانية.

وبعد اتّضاح هذا نعود إلى الكتاب لنوضّح أين يجري أصل البراءة وأين يجري أصل الاشتغال.

إنّ مورد البراءة هو ما إذا كان الشكّ في أصل ثبوت التكليف ومورد أصالة الاشتغال هو ما إذا كان الشكّ في تحقيق امتثال التكليف بعد اليقين بثبوته ، فمن شكّ في ثبوت وجوب الدعاء عند رؤية الهلال جرت البراءة لنفيه ، امّا إذا تيقّن بوجوب ذلك وشكّ هل دعا عند رؤية الهلال أو لا كان الاشتغال ولزوم الاتيان هو المحكم في حقّه.

وهذا شيء واضح. ولكن هناك شبهة لعلّ أوّل من أثارها هو الشيخ العراقي قدس‌سره تقول : لماذا لا تجري البراءة في الحالة الثانية أيضا ـ أي حالة العلم بثبوت التكليف والشكّ في حصول الامتثال ـ بتقريب انّ المكلّف متى ما احتمل صدور الدعاء منه فقد احتمل عدم ثبوت التكليف ، ومن الواضح انّ الشكّ في ثبوت التكليف مجرى للبراءة.

وقد يتخلّص من ذلك بأنّ أدلّة البراءة التي تدل على ثبوت البراءة عند الشكّ في التكليف منصرفة عن حالة الشكّ في ثبوت التكليف الناشئ من احتمال الامتثال ومختصّة بحالة الشكّ في ثبوت التكليف الذي لم ينشأ من احتمال

١٥٢

الامتثال ، فحديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » مثلا يريد أن يقول : متى ما لم يعلم بثبوت التكليف فهو مرفوع ولا يريد أن يقول انّه مرفوع حتّى عند الشكّ في سقوطه بعد العلم بتحقّقه.

كما وقد يتخلص بأنّ استصحاب عدم الإتيان بالواجب يثبت عدم تحقّق الواجب خارجا وبالتالي يثبت وجوب الإتيان به من جديد واشتغال الذمّة به.

بأحد هذين الجوابين قد يتخلص من الشبهة المذكورة. بيد انّه إنّما يحتاج إليهما فيما لو لم نبن على المسلك المتقدّم ، وأمّا بناء على ما تقدّم من انّ الامتثال ليس مسقطا للتكليف وإنّما هو مسقط لفاعليته فالشبهة المذكورة تندفع من جذورها لأنّ المكلّف وإن احتمل إتيانه بالدعاء إلاّ أنّه يبقى متيقنا بثبوت التكليف ولكنّه يشك في سقوط فاعليته ومحرّكيته ، ومن الواضح انّه مع العلم بثبوت التكليف والشكّ في سقوط محركيته لا تجري البراءة ، فإنّ البراءة تجري حالة الشك في ثبوت التكليف ولا تجري حالة العلم بثبوته والشكّ في انتهاء فاعليته (١).

ما هو الميزان؟

بعد أن عرفنا ان البراءة تجري في مورد الشكّ في ثبوت التكليف والاشتغال يجري في مورد الشكّ في الامتثال يقع التساؤل عن ميزان كون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف كي تجري البراءة أو شكّا في الامتثال كي يجرى الاشتغال.

__________________

(١) قد يقال : لماذا لا يكون المناط هو الشكّ في الفاعلية لا الشكّ في الفعلية؟

والجواب : انّ ظاهر أدلة البراءة انّ البراءة تجري فيما إذا كان الشكّ في ثبوت التكليف الفعلي دونما إذا كان الشكّ في الفاعلية بعد العلم بتحقّق التكليف الفعلي

١٥٣

انّ هذا التساؤل وإن كان قد يبدو واهيا حيث ان تشخيص كون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف أو في الامتثال شيء واضح.

بيد أنّه يمكن أن يقال : انّ الشكّ في الشبهات الحكمية ـ كالشكّ في حرمة التتن ـ وإن كان عادة شكّا في ثبوت التكليف ولم نعهد شبهة حكمية لا يكون الشكّ فيها شكّا في ثبوت التكليف ؛ إذ لو لم يكن الحكم مشكوكا فلا تكون الشبهة شبهة حكمية إلاّ أنّه في الشبهات الموضوعية قد يحصل الخفاء في كون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف أو في الامتثال ، فلو قيل اكرم كل عالم وشك في شخص انّه عالم أو لا فهل الشكّ المذكور شكّ في ثبوت التكليف كي تجري البراءة ولا يجب إكرامه أو هو شكّ في الامتثال كي يجري الاشتغال؟ وهكذا لو قيل يحرم الكذب وشكّ في كلام انّه كذب أو لا فهل الشكّ في ذلك شكّ في ثبوت التكليف أو في الامتثال؟

إذن الشبهة الموضوعية بحاجة ملحّة إلى تقديم ضابط يوضح لنا متى يكون الشكّ شكا في ثبوت التكليف ومتى يكون شكا في الامتثال.

ولتوضيح الضابط نقول : لو قال المولى يحرم شرب الخمر إن كنت بالغا كان الحكم هو الحرمة. وهذا الحكم يرتبط بثلاثة أطراف وهي : ـ

أ ـ الشرب ، فإنّ الحرمة متعلّقة به. ويسمّى الشرب بمتعلّق الحكم.

ب ـ الخمر ، فإنّ الشرب ـ الذي هو متعلّق الحرمة ـ متعلّق بالخمر. ويسمّى الخمر بمتعلّق المتعلّق ، كما ويسمّى بالموضوع أيضا.

ج ـ البلوغ الذي هو قيد للحرمة ، فإنّ الحرمة مقيّدة بالبلوغ.

وبعد معرفة هذه الأطراف الثلاثة نقول انّ الشبهة لا تكون موضوعية إلاّ مع الشكّ في أحد الأطراف المذكورة ، فالشبهة تكون موضوعية لو شكّ في تحقّق

١٥٤

البلوغ أو في تحقّق الخمر أو في صدق الشرب ، إذ مع عدم الشكّ من إحدى الجهات المذكورة يتعيّن أن يكون الشكّ من ناحية الحكم وبذلك تكون الشبهة حكمية لا موضوعية.

وباتضاح هذا نقول : ميزان كون الشكّ في التكليف أو في الامتثال كما يلي : ـ

١ ـ إذا كان الشكّ في تحقق القيد ـ بأن شك في تحقق البلوغ ـ فالشكّ شكّ في أصل التكليف لأنّ التكليف مقيّد بالبلوغ فعند الشكّ في تحقّقه لا بدّ وأن يشكّ في ثبوت التكليف الذي هو مجرى البراءة (١)

٢ ـ إذا كان الشكّ في تحقّق المتعلّق فالشكّ شكّ في الامتثال ويثبت الاشتغال ، كما لو فتح لشخص بواسطة عملية جراحية ثقب في جنبه وصبّ الخمر بواسطة انبوب في تلك الفتحة فهل يتحقّق بذلك عنوان شرب الخمر كي يحرم أو لا؟

في مثل ذلك يكون الشكّ شكّا في الامتثال لأنّ المكلّف لا يشك في حرمة شرب الخمر بل يجزم بفعليتها في حقّه وإنّما يشكّ في صدق الشرب على الإراقة في الثقب ، فإن كان صادقا فهو عاص بالإراقة في الثقب وإلاّ فلا. فالشك إذن شكّ في عصيان الحرمة المتوجهة إليه لا في أصل توجهها إليه ، فإنّ توجه الحرمة وفعليتها في حقّ المكلّف ليس مقيدا بوجود المتعلق في الخارج ، فعدم تحقق عنوان شرب الخمر في الخارج لا يعني عدم فعلية حرمة شرب الخمر في حقّ المكلّف ومع الجزم بتوجه الحرمة يلزم ترك الإراقة في الثقب كي يجزم بحصول فراغ الذمّة عمّا اشتغلت به يقينا (٢).

__________________

(١) لم تشر عبارة الكتاب إلى هذه الحالة ، وكان من المناسب الإشارة لها

(٢) هذا ولكن سيأتي منه قدس‌سره التراجع عن ذلك وإمكان توجيه جريان البراءة

١٥٥

٣ ـ إذا كان الشكّ في تحقّق الموضوع ـ كما لو شكّ في سائل انّه خمر أو لا ـ فلا بدّ من التفصيل بين كون الموضوع مأخوذا بنحو الشمولية ـ كما لو قيل اكرم كل فقير ، فإنّ الفقير لوحظ بنحو الشمولية ، أي انّ جميع الفقراء يلزم إكرامهم ، وهكذا لو قيل لا تشرب الخمر ، فإنّ المقصود إنّ جميع أفراد الخمر يلزم تركها ـ وبين كونه مأخوذا بنحو البدلية ، كما لو قيل اكرم فقيرا ما (١).

فعلى تقدير الشمولية يكون الشكّ شكّا في ثبوت التكليف لأنّ وجوب الإكرام ينحلّ بعدد الأفراد ، فلو كانت أفراد العالم مائة انحلّ إلى مائة وجوب ، ولكل فرد من العالم فرد خاص من الوجوب (٢) ، ومعه فالشكّ في كون شخص معين عالما يستلزم الشكّ في ثبوت وجوب آخر زائد على المائة فتجري البراءة عنه.

وإن كان مأخوذا بنحو البدلية ـ كما لو قيل اكرم فقيرا ما ـ فالشكّ شكّ في الامتثال ويجب الاحتياط لأنّ المفروض أنّ وجوب الاكرام الثابت في حقّ المكلّف وجوب واحد ويشكّ في أنّ هذا الوجوب الواحد هل يحصل امتثاله باكرام من يشكّ في فقره أو لا ، وفي مثله يحكم بالاشتغال ولزوم الجزم بتحقّق الامتثال.

__________________

(١) قد يعبّر عن البدلية بصرف الوجود ـ فيقال انّ وجوب الاكرام متعلّق بالفقير بنحو صرف الوجود ـ وعن الشمولية بمطلق الوجود فيقال وجوب الاكرام متعلّق بالفقير بنحو مطلق الوجود

(٢) والدليل على الانحلال المذكور انّ من أكرم بعض العلماء ولم يكرم بعضهم الآخر كان مطيعا بمقدار ما أكرم وعاصيا بمقدار ما لم يكرم ، فلو كان الوجوب واحدا وليس بانحلالي فكيف يتحقق العصيان والإطاعة معا؟ كلا لا يمكن بل يلزم تحقق الإطاعة فقط أو العصيان فقط

١٥٦

ميزانان للشكّ في ثبوت التكليف والامتثال

ومن خلال ما تقدّم اتضح انّ الشكّ في ثبوت التكليف له ميزانان : ـ

١ ـ أن يكون الشك في تحقق القيد كالبلوغ مثلا.

٢ ـ أن يكون الشكّ في تحقق الموضوع فيما إذا كان إطلاقه شموليا.

كما واتّضح أيضا أنّ الميزان لكون الشكّ شكا في الامتثال هو أحد أمرين أيضا : ـ

١ ـ أن يكون الشكّ في المتعلّق.

٢ ـ أن يكون الشكّ في الموضوع فيما إذا كان إطلاقه بدليا.

كلام للميرزا

وللميرزا قدس‌سره كلام ذكر فيه (١) انّ الميزان الثاني يمكن إرجاعه إلى الميزان الأوّل. وبذلك يكون الميزان للشك في التكليف واحدا وهو الشكّ في قيد التكليف.

ووجه ذلك : انّ وجود الموضوع قيد للحكم ، وما دام قيدا للحكم فالشكّ في تحقق الموضوع شك في تحقق قيد الحكم. فمثلا وجود الخمر موضوع للحكم بالحرمة والحرمة مقيدة بوجود الخمر ، فالخمر يحرم إن وجد في الخارج ، ومعه فيكفي الميزان الأوّل.

وفيه : انّه لا يلزم دائما أن يكون وجود الموضوع قيدا بل ذلك مسلم أحيانا ، فوجود الموضوع إذا لم يكن تحت اختيار المكلّف يلزم أخذه قيدا في

__________________

(١) راجع مبحث اللباس المشكوك من تقرير الكاظمي للصلاة ج ١ ص ٢٧٢

١٥٧

الحكم ، كما لو قيل تجب الصلاة عند الزوال ، فإنّ الزوال موضوع ، وحيث انّه غير اختياري فيلزم أخذه قيدا ويكون المقصود : انّ تحقّق الزوال وجب الصلاة. وكما لو قيل : تجب الصلاة إلى الجهة التي فيها القبلة ، فإنّ كون القبلة في هذه الجهة أو تلك أمر غير اختياري فيجب أخذه قيدا ويكون المقصود : تجب الصلاة إلى هذه الجهة إن كانت القبلة فيها.

وأمّا إذا كان تحت الاختيار ـ كوجود الخمر مثلا ـ فلا يلزم أخذه قيدا في الحكم حتّى يكتفى بالميزان الأوّل بل تبقى الحاجة إلى الميزان الثاني.

تصحيح مدّعى الميرزا بطريقة اخرى

هذا ولكن ما ذكره الميرزا ـ وهو انّه لا حاجة إلى ميزانين بل يكفي الميزان الأوّل ـ يمكن توجيهه ببيان آخر غير ما ذكره قدس‌سره فإنّ الميرزا ذكر أنّ وجود الموضوع حيث انّه قيّد للحكم فلا حاجة إلى ذكر الميزان الثاني بينما البيان الجديد يقول انّ وجود الخمر خارجا وإن لم يكن قيدا للحرمة بل هي ثابتة قبل وجوده أيضا إلاّ أنّ هذا لا يعني كون الحرمة مطلقة بل هي مقيّدة بصدق الخمر على السائل ، فكل سائل يحرم أن اتّصف بكونه خمرا على تقدير وجوده ، فالسائل قبل وجوده إذا فرض صدق الخمر عليه على تقدير وجوده فهو حرام ، والحرمة ثابتة قبل وجود السائل ولكن مشروطة بصدق الخمر عليه على تقدير وجوده.

والبراءة تجري لا من باب عدم إحراز تحقق الخمر خارجا ـ فإنّ تحقق الخمر خارجا ليس قيدا للحرمة ـ بل من باب عدم إحراز اتصاف السائل

١٥٨

الموجود بالخمرية على تقدير وجوده (١).

صياغة الميزان الأوّل من جديد

وعلى ضوء هذا يتضح انّ الميزان في كون الشكّ شكا في التكليف هو الشك

__________________

(١) والنكتة لكون الحرمة مقيّدة بالاتصاف بالخمرية لا بوجود الخمر خارجا أنّ الحرمة ليست إلاّ عبارة عن البغض والكراهة ، وواضح أن بغض الخمر لا يتوقف على وجود الخمر خارجا بل هو مبغوض حتى قبل وجوده ما دام يتّصف بالخمرية على تقدير وجوده.

وقد تقول : أو ليس ثبوت الحرمة للخمر قبل وجوده لغوا ؛ إذ ما الفائدة في ثبوت الحرمة ما دام الخمر بعد لم يوجد؟

والجواب : انّ الفائدة تظهر فيما لو فرض أنّ المكلّف علم أن العنب لو اشتراه وصيّره خمرا لشربه حتما ، ففي مثل ذلك لا يجوز لمثل هذا الشخص شراء العنب وتصييره خمرا بخلافه على رأي الميرزا فإنّه لا محذور فيه.

إن قلت : أو ليس ثبوت الحرمة للخمر قبل وجوده يتنافى مع ما تقدّم من أنّ فعلية التكليف تدور مدار فعلية موضوعه؟

قلت : ان مصطلح الموضوع يطلق على : ـ

أ ـ شرائط التكليف كالاستطاعة والبلوغ و ... فإنّ الاستطاعة مثلا قيد لوجوب الحجّ ، وهي موضوع له لأنّه لا يجب تحصيلها بل متى ما حصلت صدفة ثبت وجوب الحجّ.

ب ـ متعلّق المتعلّق كالخمر مثلا فإنّه موضوع لحرمة شرب الخمر.

بعد هذا نقول : انّ المقصود من قاعدة « انّ فعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه » هو أنّ الحكم لا يصير فعليا إلاّ بعد فعلية شرائط الحكم ، فوجوب الحج لا يصير فعليا إلاّ بعد فعلية الاستطاعة والبلوغ و ... ولا تشمل القاعدة المذكورة متعلّق المتعلّق.

هكذا يجاب أو يجاب بأنّ القاعدة تشمل متعلّق المتعلّق أيضا بيد انّ الموضوع في حرمة الخمر ليس هو وجود الخمر حتّى يلزم فعلية وجوده وإنّما هو الاتصاف فيلزم فعلية الاتصاف ، أي فعلية القضية الشرطية ولا يلزم فعلية وجود الخمر في الخارج لأنّه ليس هو الموضوع

١٥٩

في القيد بيد انّ الشك في القيد له شكلان فتارة : ـ

أ ـ يشكّ في أصل وجود القيد ، كما لو شكّ في أنّ البلوغ متحقّق أو لا. ويسمّى هذا بالشكّ في وجود القيد بنحو مفاد كان التامّة (١).

ب ـ واخرى يشكّ في وجود القيد بنحو مفاد كان الناقصة ، أي يشك في اتصاف السائل بكونه خمرا على تقدير وجوده (٢).

أخذ المتعلّق قيدا في الحكم

اتضح من خلال ما سبق انّ الموضوع هو قيد في الحكم ولكن لا بوجوده بل اتصاف الشيء بالخمرية على تقدير وجوده ـ وبتعبير أشمل اتصاف الشيء بوصف الموضوع ـ هو القيد للحكم.

وهذه الفكرة يمكن تطبيقها على المتعلّق أيضا كالكذب في دليل « يحرم الكذب » فإنّ الكذب متعلّق للتحريم وليس موضوعا ويمكن تطبيق الفكرة السابقة عليه فيقال انّ اتصاف الكلام بالكذب هو قيد في الحرمة ، والتقدير : يحرم كل كلام إذا كان على تقدير وجوده متصفا بالكذب (٣).

__________________

(١) « كان التامّة » هي الدالة على أصل الوجود ، ومن هنا صح التعبير عن أصل وجود الشيء بمفاد كان التامّة

(٢) « كان الناقصة » هي الدالة على ثبوت شيء لشيء ، فقولنا : « كان زيد قائما » يدلّ على ثبوت القيام لزيد واتصافه به ، ومن هنا صح التعبير عن اتّصاف السائل بالخمرية بمفاد كان الناقصة

(٣) وهذا تراجع عمّا سبق فإنّه تقدّم أنّ الشكّ في المتعلّق مجرى للاشتغال للبيان المتقدّم بينما على ضوء البيان الفعلي يكون الشكّ في المتعلّق مجرى للبراءة.

وبهذا يتّضح انّ الكلام متى ما شكّ في كونه كذبا فيوجد بيانان أحدهما يقتضي الاشتغال ـ

١٦٠