الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-27-8
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٦

المرحلة الثالثة

ذكرنا أنّ الكلام في حديث الرفع يقع في ثلاث مراحل. وهذه هي المرحلة الثالثة. وحاصلها انّ حديث الرفع هل يختص بالشبهات الموضوعية أو يعمّ الحكمية أيضا (١).

وقد مرّ في الحلقة الثانية احتمال الاختصاص بالشبهات الموضوعية تمسّكا بوحدة السياق حيث انّ الشبهة في الخطأ والنسيان والاكراه و ... لا تكون إلاّ موضوعية فإنّ الإنسان لا يخطأ إلاّ في الشيء المعيّن ولا يتصوّر أبدا الخطأ أو النسيان أو الاكراه في الشيء الكلّي.

وإذا كان هذا هو المقصود في هذه الفقرات فيثبت كونه المقصود أيضا في فقرة : « ما لا يعلمون » فيكون المراد في الجميع هو الشبهة الموضوعية.

والجواب عن ذلك : انّ إرادة خصوص الشبهة الموضوعية في غالب الفقرات وإرادة الأعمّ من الشبهة الحكمية والموضوعية في فقرة « ما لا يعلمون » لا يتنافى ووحدة السياق ؛ إذ كلمة « ما » الواردة في الفقرات اسم موصول بمعنى الشيء ، والمعنى المستعمل فيه في جميع الفقرات شيء واحد وهو مفهوم الشيء

__________________

(١) الشبهة الموضوعية هي الشبهة التي يكون الحكم الكلي فيها واضحا وإنّما التردّد في الموضوع الخارجي المعيّن ، كما إذا كان لدينا سائل مردّد بين كونه خمرا أو خلا ، فإنّ حديث الرفع لو كان يشمله فلازمه جواز تناوله لاقتضاءه ارتفاع المؤاخذة أو حرمة الشرب.

والشبهة الحكمية هي الشبهة التي يكون الموضوع فيها واضحا والتردد في الحكم الكلّي كما هو الحال في حرمة شرب التتن لو شكّ فيها

١٢١

غاية الأمر مصداق الشيء مختلف فتارة هو خصوص الشبهة الموضوعية واخرى هو الأعم منها ومن الشبهة الحكمية ، وذلك لا يخلّ بوحدة السياق.

هذه شبهة تقدّمت مع جوابها في الحلقة الثانية. وتقدّم أيضا أنّ الحديث لو كان شاملا للشبهة الموضوعية والحكمية معا فلا بدّ من تصوير جامع بينهما حتّى لا يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد فإنّ المشكوك في الشبهة الموضوعية هو الموضوع الخارجي بينما هو في الشبهة الحكمية الحكم الكلي ، وواضح أنّ الموضوع الخارجي مغاير للحكم الكلّي فلا بدّ من تصوير جامع بينهما حتّى لا يلزم محذور الاستعمال في أكثر من معنى واحد.

ويمكن أن نقول : إنّا بحاجة إلى إثبات أمرين حتّى يمكن شمول الحديث لكلتا الشبهتين : ـ

أ ـ وجود جامع بين الموضوع والحكم لئلا يلزم الاستعمال في أكثر من معنى واحد.

ب ـ عدم وجود قرينة على اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية أو بالشبهة الحكمية وإلاّ فلا يمكن شمول الحديث لكلتا الشبهتين.

تصوير الجامع

امّا بالنسبة إلى الجامع فقد ذكر له تصويران : ـ

١ ـ انّ الجامع عبارة عن مفهوم الشيء ، بمعنى أنّ اسم الموصول ـ وهو كلمة « ما » في قوله : « ما لا يعلمون » ـ يراد به الشيء أي رفع الشيء الذي لا يعلم ، وواضح انّ الشيء يصدق على الموضوع والحكم إذ كلاهما شيء.

١٢٢

واعترض الآخوند (١) على ذلك بأنّ نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم نسبة حقيقية ـ لأنّ الحكم قابل للرفع حقيقة إذ اختياره بيد الشارع فيمكنه رفعه ، فحرمة شرب التتن ما دامت مجهولة فيمكن رفعها ـ وهذا بخلاف نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الموضوع فإنّها نسبة مجازية ؛ إذ الموضوع لا يمكن للشارع رفعه حقيقة فالخمر الذي لا يعلم بخمريته لا يمكن رفعه وإنّما الذي يمكن رفعه هو حكم الخمر أي الحرمة الثابتة له ، فنسبة الرفع إلى الخمر إذن نسبة مجازية ؛ إذ المرفوع حقيقة هو حكم الخمر لا نفسه. وما دامت نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم حقيقية بينما نسبته إلى الشيء بمعنى الموضوع مجازية فلا يمكن الجمع بينهما فإنّ نسبة الرفع إلى الشيء لا بدّ وأن تكون امّا حقيقية أو مجازية ولا يمكن أن تكون في وقت واحد حقيقية ومجازية معا.

وأجاب الشيخ الأصفهاني بأنّه لا بأس وأن تكون نسبة الرفع حقيقية ومجازية في وقت واحد ولكن باعتبارين مختلفين فباعتبار كون الرفع منسوبا إلى الشيء بمعنى الحكم تكون النسبة حقيقية وباعتبار نسبته إلى الشيء بمعنى الموضوع تكون مجازية ، انّ هذا ممكن ما دام الاعتبار متعدّدا نظير أن يكون الشخص الواحد عالما وجاهلا باعتبارين مختلفين فهو عالم بلحاظ الفقه وجاهل بلحاظ الطب وإنّما المستحيل كون النسبة حقيقية ومجازية باعتبار واحد.

ويمكن أن نقول في ردّ الأصفهاني أنّ المحذور لا يكمن في أنّ النسبة كيف تكون في وقت واحد حقيقية ومجازية حتّى يقال لا بأس بذلك ما دام الاعتبار

__________________

(١) في تعليقته على الرسائل على ما نقل الشيخ الأصفهاني في حاشيته ج ٢ ص ١٨١

١٢٣

مختلفا بل المحذور يكمن في أنّ النسبتين ما دامتا متغايرتين ـ ودليل التغاير كون إحداهما حقيقية والاخرى مجازية ـ فلا يمكن أن تكون الهيئة الحاصلة من إضافة الرفع إلى ما لا يعلمون مستعملة فيهما لأنّه استعمال في أكثر من معنى واحد.

وإن شئت قلت : كلّما كانت النسبتان متغايرتين فلا يمكن أن تكون الهيئة الواحدة مستعملة فيهما لأنّه استعمال في أكثر من معنى واحد ، وحيث إنّ النسبتين في مقامنا متغايرتان لأنّ إحداهما حقيقية والاخرى مجازية فلا يمكن استعمال الهيئة فيهما بعد وضوح عدم وجود جامع بين النسبتين لتكون الهيئة مستعملة فيه ، فهي إذن امّا مستعملة في النسبة الحقيقية فقط ولازمه اختصاص الحديث بالشبهة الحكمية أو في النسبة المجازية فقط ولازمه الاختصاص بالشبهة الموضوعية. والمحذور إذا بيّن بهذا الشكل فلا يمكن دفعه بما أفاده الأصفهاني كما هو واضح.

والصحيح في دفع اعتراض الآخوند أن يقال إنّ نسبة الرفع إلى الشيء بمعنى الحكم لا تغاير نسبته إلى الشيء بمعنى الموضوع ؛ إذ النسبة على كلا التقديرين مجازية ، فكما انّ نسبة الرفع إلى الموضوع نسبة مجازية كذلك نسبته إلى الحكم مجازية أيضا لأنّ المقصود من الرفع في حديث الرفع هو الرفع الظاهري أي أنّ المرفوع هو وجوب الاحتياط لا نفس الحكم المجهول وإلاّ يلزم اختصاص الأحكام واقعا بالعالم ، وما دام المرفوع هو وجوب الاحتياط فنسبة الرفع إلى الحكم الذي لا يعلم نسبة غير حقيقية لأنّ المرفوع حقيقة ليس هو الحكم غير المعلوم بل هو وجوب الاحتياط ، وعليه فلا يلزم استعمال الهيئة في نسبتين بل في نسبة واحدة مجازية وطرفها واحد وهو الشيء ، غاية الأمر مصداق الشيء مختلف فهو الحكم مرة والموضوع اخرى ، وواضح انّ النسبة إنّما

١٢٤

تتعدّد بتعدّد طرفها ، أمّا إذا كان طرفها واحدا ـ وهو الشيء ـ وكان مصداقه مختلفا فذلك لا يوجب تعدّدها بل تبقى واحدة ومجازية سواء كان مصداق الشيء هو الحكم أم الموضوع.

٢ ـ والتصوير الثاني للجامع ما ذكره الشيخ العراقي وهو أنّ الجامع عبارة عن الحكم ، فإنّ المشكوك في الشبهة الحكمية هو الحكم الكلي والمشكوك في الشبهة الموضوعية هو الحكم أيضا ولكنّه الحكم الجزئي ، فالمشكوك في كليهما هو الحكم غير أنّه في إحداهما هو الحكم الكلي ـ المعبّر عنه بالجعل أو الحكم الإنشائي أو الحكم الكلّي الثابت للموضوع الكلّي الذي افترضه المولى في ذهنه ، فإنّ حرمة شرب التتن التي نشكّ فيها بنحو الشبهة الحكمية حكم كلي ثابت للتتن الكلّي فالمولى افترض في ذهنه وقدّر شرب التتن وبعد ذلك حكم عليه بحكم كلي وهو الحرمة ـ وفي الاخرى هو الحكم الجزئي المعبّر عنه بالمجعول أو بالحكم الفعلي الذي هو حكم ثابت للشيء الفعلي وجودا فالسائل الموجود خارجا بالفعل المردّد بين الخل والخمر شيء فعلي يشك في حكمه الجزئي الفعلي وأنّه حرام أو حلال.

وباختصار : الجامع بين الشبهتين هو الحكم غاية الأمر المشكوك في إحداهما هو الحكم الكلي وفي الاخرى الحكم الجزئي.

لا قرينة

ذكرنا سابقا انّ شمول الحديث للشبهة الحكمية والموضوعية معا يتوقّف على أمرين : وجود الجامع وعدم القرينة. وإلى الآن كنّا نتحدّث عن الجامع واتّضح انّه عنوان الحكم.

١٢٥

وامّا بالنسبة إلى الأمر الثاني فقد سبق مفصّلا في الحلقة الثانية ص ٣٢٧ انّه قد يدّعى وجود قرينة تقتضي اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية وهي قرينة وحدة السياق ـ بأن يقال ان الفقرات السابقة ناظرة إلى الموضوع الجزئي فإنّ الخطأ والنسيان وغير ذلك لا تتصوّر إلاّ في الامور الجزئية فالإنسان قد يخطأ أو يكره على الخمر الخارجي فيشربه ولا يتصوّر ذلك في الأشياء الكلّية.

وقد تقدّم الجواب عن هذه القرينة في الحلقة الثانية أيضا (١).

وتقدّم في الحلقة الثانية أيضا انّه قد يقال بوجود قرينة تقتضي اختصاص الحديث بالشبهات الحكمية (٢)

__________________

(١) وحاصله أنّ كلمة « ما » اسم موصول ومستعملة في معنى واحد وهو مفهوم الشيء ، غاية الأمر انّ مصداق الشيء قد يكون تارة أمرا جزئيا كما هو الحال بالنسبة إلى غالب الفقرات واخرى كليا كما هو في فقرة لا يعلمون ، وواضح انّ اختلاف المصداق لا يعني اختلاف المعنى المستعمل فيه. وقد تقدّم منّا الإشارة إلى ذلك في بداية حديثنا عن المرحلة الثالثة

(٢) وتلك القرينة هي أنّ ظاهر الحديث انّ « ما » هو الذي لا يعلم وليس غيره حيث قيل « ما لا يعلمون » ، ومعه فلا بدّ من تفسير « ما » بمعنى يكون ذلك المعنى غير معلوم حقيقة ، وواضح انّه لو فسّرنا « ما » بالتكليف صدق عليه انّه غير معلوم بينما لو فسّرناه بالموضوع الخارجي أي بالسائل الخارجي المردّد بين كونه خمرا أو ماء فلا يكون نفس « ما » شيئا غير معلوم إذ السائل الخارجي يعلم انّه سائل خارجي وإنّما الذي لا يعلم هو شيء آخر وهو كونه خمرا.

وإن شئت قلت : انّ غير المعلوم هو الخمرية بينما المقصود من « ما » هو السائل الخارجي فيحصل تغاير بين المقصود من « ما » وبين غير المعلوم بينما لو فسّر « ما » بالتكليف لما حصل هذا التغاير إذ غير المعلوم هو التكليف والتكليف غير معلوم ، وظاهر الحديث انّ المقصود من « ما » هو بنفسه غير معلوم

١٢٦

وتقدّم الجواب عنها أيضا (١).

إذن كلتا القرينتين على الاختصاص غير تامة فإطلاق الحديث للشبهات الحكمية والموضوعية تامّ ولا محذور في التمسّك به.

روايات اخرى

وإلى هنا ينتهي بنا الكلام عن حديث الرفع. وهناك أحاديث اخرى قد يتمسّك بها لإثبات البراءة (٢) تقدّم الحديث عنها في الحلقة السابقة. وتقدّم أيضا أنّها قاصرة الدلالة أو لا أقل تختص بالشبهات الموضوعية ولا تعمّ الشبهات الحكمية. والمهم هو إثبات البراءة في الشبهات الحكمية ، فإنّ المهم هو إثبات مثل حلّية شرب التتن أو أكل لحم الأرنب ونحو ذلك ممّا يكون المشكوك فيه حكما كليا ، وأمّا الشبهات الموضوعية ـ مثل انّ هذا السائل المردّد بين الخمر والخل حلال ـ فغير مهم ، فإنّ الجميع بما في ذلك الاخباريّون متفقون على إجراء البراءة والحلّية فيها.

التعويض بالاستصحاب

كنّا فيما سبق نستدل على البراءة بالنصوص من القرآن الكريم والسنّة

__________________

(١) وحاصله : انّ هذا يتمّ بناء على تفسير الموضوع الخارجي بالسائل الخارجي ولكن لم لا نفسّره بالخمر ، ومعه يصير المعنى رفعت الخمرية غير المعلومة

(٢) كحديث : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » أو : « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه »

١٢٧

الشريفة. وهنا نلفت النظر إلى إمكان التعويض عن هذه النصوص والاستغناء عنها بالاستصحاب بلا حاجة إلى التمسّك بالنصوص.

والاستصحاب له أشكال ثلاثة هي : ـ

١ ـ استصحاب عدم التكليف الثابت قبل التشريع الإسلامي بأن نقول هكذا : انّ حرمة شرب التتن مثلا لم تكن ثابتة قبل التشريع الإسلامي فإذا شككنا في ثبوتها بعده استصحبنا عدمها الثابت قبلا ، وبذلك يثبت عدم حرمة شرب التتن بعد الإسلام وهو المطلوب.

٢ ـ استصحاب عدم الحرمة الثابت بعد الإسلام وقبل البلوغ بأن نقول : بعد بزوغ نور الإسلام لم تكن الحرمة لشرب التتن ثابتة قبل البلوغ جزما ـ إذ التكاليف معدومة قبل البلوغ ـ فإذا شككنا في ثبوتها بعد البلوغ استصحبنا عدمها الثابت قبل البلوغ.

٣ ـ انّ التكليف لو كان مشروطا بشرط على تقدير ثبوته فيمكن استصحاب عدمه الثابت بعد البلوغ وقبل تحقّق ذلك الشرط ، فمثلا إذا شككنا في وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة ففي يوم الأربعاء إذا تحقق البلوغ أمكننا أن نستصحب عدم الوجوب الثابت يوم الخميس فإنّه قبل يوم الجمعة لا وجوب لصلاة الجمعة جزما ؛ إذ الوجوب لو كان ثابتا فهو مشروط جزما بمجئ يوم الجمعة فقبل الجمعة ـ أي يوم الخميس الذي هو ما بعد البلوغ ـ لا وجوب فيستصحب إلى يوم الجمعة عدم الوجوب الثابت بعد يوم البلوغ وقبل تحقق الشرط ويثبت بذلك انتفاء وجوب صلاة الجمعة زمن الغيبة وهو المطلوب (١).

__________________

(١) قد يقال : إذا جاء يوم الجمعة فالوجوب جزمي فكيف يستصحب عدم الوجوب إلى ـ

١٢٨

والفرق بين هذه الاستصحابات الثلاثة أنّ الأوّل منها ـ وهو استصحاب عدم الحكم الثابت قبل الإسلام ـ استصحاب لعدم التشريع ؛ إذ قبل الإسلام لا تشريع لحرمة شرب التتن جزما فإذا شكّ في تشريع حكم بعد الإسلام استصحب عدم التشريع ـ أي عدم الجعل فإنّ التشريع عبارة اخرى عن الجعل ـ بينما الثاني منها استصحاب لعدم الحكم الفعلي ، أي استصحاب لعدم المجعول حيث نقول هكذا : انّ الإسلام حتّى لو فرض انّه شرّع حرمة شرب التتن فهي غير فعلية قبل البلوغ ، فإنّ الأحكام تصير فعلية بالبلوغ ، ولا يمكن أن نستصحب عدم التشريع إذ لا نجزم بعدم ثبوت تشريع الحرمة قبل البلوغ بل هي محتملة وإنّما المجزوم به هو عدم فعلية الحرمة.

وهكذا الأمر في الاستصحاب الثالث ، أي انّ المستصحب هو عدم الحكم الفعلي فإنّ الذي نجزم به قبل يوم الجمعة هو عدم الوجوب الفعلي لصلاة الجمعة لا عدم تشريع الوجوب فإنّ من المحتمل ثبوت تشريع وجوب الجمعة قبل يوم الجمعة.

والخلاصة من كل هذا : انّ الاستصحاب في الشكل الأوّل استصحاب لعدم الجعل الثابت قبل الإسلام ، وفي الشكل الثاني استصحاب لعدم المجعول الثابت قبل البلوغ ، وفي الشكل الثالث استصحاب لعدم المجعول الثابت بعد البلوغ وقبل تحقّق الشرط.

__________________

ـ يوم الجمعة؟

والجواب : نحن فرضنا أنّ ثبوت الوجوب لصلاة الجمعة زمن الغيبة مشكوك ، أي فرضنا أن أصل جعل الوجوب زمن الغيبة مشكوك

١٢٩

ثمّ ان الاستصحاب بأشكاله الثلاثة وقع موردا للاعتراض من قبل الميرزا على ما تقدّم في الحلقة الثانية فراجع.

قوله ص ٥١ س ٨ : انّ نسبة الشيء إلى ما هو له : أي انّ نسبة الرفع إلى الحكم حيث انّها نسبة إلى ما يستحق أن ينسب إليه بخلاف نسبة الرفع إلى الموضوع فإنّها نسبة إلى ما لا يستحقّ أن ينسب إليه.

قوله ص ٥١ س ١٥ : التصوير الثاني ... : البيان في هذا التصوير لا يخلو من التطويل والغموض. والتعبير في التقرير ج ٥ ص ٤٤ أوضح وأخصر حيث ورد : « الثالث : ما ذكره المحقّق العراقي من إرادة التكليف الأعمّ من الحكم الكلّي والجزئي ويكون الاسناد إليه حقيقيا لا محالة ».

قوله ص ٥١ س ١٦ : بوصفه ... : فإنّ الجعل عبارة اخرى عن الحكم الكلّي الثابت للموضوع الكلي الذي يفترض المولى وجوده في ذهنه بينما المجعول هو عبارة اخرى عن الحكم الجزئي الثابت للموضوع الفعلي وجودا.

قوله ص ٥٢ س ٣ : بعد الايمان بثبوت جعل ومجعول ... : إنّما عبّر بهذا لأنّ هذا التصوير هو للشيخ العراقي وهو ينكر انقسام الحكم إلى جعل ومجعول (١) ، وبعد إنكاره هذا فلا وجه لهذا التصوير الثاني منه قدس‌سره لأنّه يتمّ بناء على التسليم بفكره الجعل والمجعول والمفروض انّه ينكر ذلك.

قوله ص ٥٢ س ١٣ : كما يمكن التعويض عن البراءة بالاستصحاب : المناسب : كما يمكن التعويض عن نصوص البراءة بالاستصحاب.

قوله ص ٥٢ س ١٦ : بداية الشريعة : المناسب : قبل الشريعة أو يقال

__________________

(١) بدايع الأفكار : ص ٣٢٥

١٣٠

هكذا : بداية الشريعة وقبل التشريع.

قوله ص ٥٣ س ١ : بل قد يكون : أي انّ ذكر زمان ما قبل البلوغ هو من باب المثال وإلاّ فيمكن استصحاب عدم التكليف الثابت قبل العقل.

قوله ص ٥٣ س ١ : بل قد يكون : أي زمان الحالة السابقة.

قوله ص ٥٣ س ٢ : وتحقق الشرط بعد البلوغ : أي تحقق الشرط بعد البلوغ بفترة فإنّ الشرط ـ وهو يوم الجمعة ـ تحقق بعد البلوغ بفترة حيث انّ يوم الخميس فترة متخلّلة بين يوم الأربعاء ـ الذي هو يوم البلوغ ـ ويوم الجمعة الذي هو يوم تحقق الشرط.

ثمّ انّه في الطبع الجديد صحفت العبارة بشكل يخلّ بما يريد قدس‌سره بيانه. فلاحظ ذلك.

قوله ص ٥٣ س ٣ : استصحاب عدمه : أي استصحاب عدم التكليف المشروط الثابت ذلك العدم قبل تحقّق الشرط أي قبل يوم الجمعة.

١٣١
١٣٢

الاعتراضات العامة

قوله ص ٥٤ س ١ : ويعترض على أدلة البراءة ... : تقدّم سابقا انّ الكلام عن البراءة يقع في مبحثين أحدهما في أدلة البراءة وثانيهما في الاعتراضات العامة.

وانتهينا من المبحث الأوّل ، ونتحدّث الآن عن الاعتراضات العامة على أدلة البراءة.

وإنّما سمّيت بالاعتراضات العامة لأنّها لا تختص ببعض أدلة البراءة دون بعض. وتقدّمت هذه الاعتراضات في الحلقة الثانية. والمهم منها اثنان : ـ

١ ـ استدل الإخباري على وجوب الاحتياط بعدّة روايات ـ تقدّمت في الحلقة الثانية ـ لو تمّت دلالتها فهي مقدّمة على أدلّة البراءة لأنّ أدلة البراءة تدلّ على أن التكليف الذي لا يعلم مرفوع حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن امّتي ما لا يعلمون ، ومن الواضح أنّ دليل الإخباري لو تمّ فهو يفيد العلم بوجوب الاحتياط ، ومع العلم بوجوب الاحتياط فلا يمكن لدليل البراءة أن ينفيه ـ وجوب الاحتياط ـ لأنّه ينفي الوجوب غير المعلوم ، ووجوب الاحتياط معلوم.

٢ ـ انّ أدلة البراءة تثبت البراءة في حالة كون الشبهة بدوية ، أي غير مقرونة بالعلم الإجمالي ، وواضح انّه يمكن أن يقال لو نظرنا إلى مجموع الشبهات نجد انّا نعلم في مجموع الشبهات بوجود بعض التحريمات أو الوجوبات ، فنحن

١٣٣

نشكّ في حرمة شرب التتن وفي حرمة الأرنب وفي حرمة القهوة وفي وجوب الدعاء عند رؤية الهلال و ... ولا نحتمل أن جميع هذه الشبهات لا يوجد فيها تحريم ولا وجوب بل نقطع بثبوت التحريم أو الوجوب في بعضها ـ فإنّ الشريعة لا يحتمل أن تحكم على جميع الوقائع بالإباحة وإلاّ لم تكن شريعة فإنّ الشريعة هي المنهج الذي يحكم بحرمة بعض الأشياء أو وجوبها ـ ومع وجود هذا القطع فلا يمكن إجراء البراءة ؛ إذ إجراؤها في جميع الشبهات مخالف للعلم الإجمالي وإجراؤها في بعضها ترجيح بلا مرجّح ، نظير ما لو كان لدينا ألف إناء نعلم بحرمة بعضها فإنّ الحكم بحلّية جميعها يتنافى مع العلم الإجمالي والحكم بحلّية بعضها ترجيح بلا مرجّح.

الجواب عن الاعتراض الأوّل

ويمكن الجواب عن الاعتراض الأوّل بما يلي : ـ

أ ـ تقدّم في الحلقة الثانية استعراض الروايات التي تمسّك بها الإخباري على وجوب الاحتياط ، وقد اتّضح عدم تماميتها. أجل أقصى ما تدلّ عليه رجحان الاحتياط والحثّ والترغيب فيه ولا تدلّ على وجوبه ، والمهمّ هو إثبات وجوب الاحتياط وإلاّ فرجحانه ممّا لا كلام فيه.

ب ـ لو سلّمنا تمامية دلالة الروايات التي استدلّ بها الإخباري على وجوب الاحتياط فلا نسلّم ما قيل من انّ أدلة الاحتياط حاكمة على أدلة البراءة بل نقول انّ بعض أدلة البراءة يعارض أدلة الاحتياط ، فمثلا حديث الرفع يعارض أدلة الاحتياط لأنّ حديث الرفع يرفع الحكم رفعا ظاهريا ، أي يرفع وجوب الاحتياط ـ ولا يرفع الحكم واقعا لما تقدّم من الوجهين السابقين ـ فهو

١٣٤

يقول رفع وجوب الاحتياط إزاء الحكم الذي لا يعلم (١) بينما دليل وجوب الاحتياط يقول يجب الاحتياط إزاء الحكم الذي لا يعلم ، والمعارضة بين اللسانين واضحة. وقد تقدّم هذا في الحلقة الثانية ص ٣٣٨.

ثمّ انّه بعد المعارضة بين مثل حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط فأيّهما المقدّم؟ انّ هذا ما نبحثه في النقطة التالية.

ج ـ بعد أن عرفنا انّ بعض أدلة البراءة معارض لأدلة الاحتياط فعلينا الآن أن نعرف أيّهما المقدّم.

قد يقول الإخباري بتقديم أدلة الاحتياط وتوجيه ذلك بأنّ أدلة البراءة على قسمين بعضها نصوص قرآنية وبعضها نصوص روائية.

أمّا النصوص القرآنية فالنص التامّ من حيث الدلالة هو الآية الاولى ، أي قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ).

وأمّا النصوص الروائية فالنص التامّ من حيث الدلالة هو حديث « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » بخلاف بقية النصوص فإنّها لم تسلم من المناقشة.

وبعد أن عرفنا انّ المعارضة تقع بين الآية الاولى وأدلة وجوب الاحتياط ، وهكذا تقع بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط نأتي الآن لنعرف ما هو المقدم في المعارضة الاولى ثمّ لنعرف ما هو المقدّم في المعارضة الثانية؟

وفي المعارضة الاولى لا بدّ وأن يقول الإخباري انّ المقدّم هو أدلة وجوب

__________________

(١) طبيعي هو يدل على عدم وجوب الاحتياط ما لم يرد نهي عن الشيء بعنوانه الأوّلي ، أي ما لم يرد نهي عن شرب التتن مثلا بعنوان شرب التتن. وبكلمة اخرى ما لم يرد نهي واقعي عن شرب التتن فإنّ النهي الواقعي عبارة اخرى عن النهي عن الشيء بعنوانه الأوّلي

١٣٥

الاحتياط بتقريب انّ الآية الكريمة عامّة بينما أدلّة وجوب الاحتياط خاصّة ، وعند المعارضة يقدم الخاص على العام.

والوجه في كون الآية عامة هو أنّها تشمل ـ على ما تقدّم ـ ثلاثة أفراد : المال ، والفعل ، والتكليف ، والمهم في محل بحثنا من هذه الثلاثة هو التكليف ، والآية شاملة له بمقتضى عمومها فهي تشمل التكليف بمقتضى العموم المذكور ، وهذا بخلاف أدلة وجوب الاحتياط فإنّها مختصة بفرد واحد وهو التكليف فهي تدل على أنّ الاحتياط واجب في خصوص باب التكاليف.

وبعد إن كانت أدلة وجوب الاحتياط خاصة بمورد التكاليف بينما أدلة البراءة عامة للتكاليف ولغيرها يلزم تخصيص أدلة البراءة بواسطة أدلة وجوب الاحتياط فتصير النتيجة : لا يكلّف الله نفسا بشيء لم يؤت إلاّ في خصوص التكاليف فإنّها وإن لم تؤت ـ أي لم تعلم ـ يجب فيها الاحتياط ولا تكون مرفوعة.

هذا كلّه بالنسبة إلى المعارضة الاولى.

وأمّا المعارضة الثانية ـ أي المعارضة الواقعة بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط ـ فأيضا قد يقول الإخباري بتقديم أدلة وجوب الاحتياط لنفس النكتة السابقة ، أي لكون حديث الرفع عاما بينما أدلة وجوب الاحتياط خاصة والخاص مقدّم على العام بالتخصيص.

والوجه في كون حديث الرفع عاما هو انّه يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية ـ حيث مرّ بنا سابقا انّ حديث الرفع لا يختص بالشبهات الحكمية بل يعم الشبهات الموضوعية ـ بينما أدلة وجوب الاحتياط ناظرة إلى خصوص الشبهات الحكمية ؛ إذ الشبهات الموضوعية لا خلاف بين الاصولي والإخباري في عدم وجوب الاحتياط فيها.

١٣٦

وإذا كان حديث الرفع شاملا للشبهات الحكمية والموضوعية بينما أدلة وجوب الاحتياط مختصة بالشبهات الحكمية خصّصت أدلة وجوب الاحتياط حديث الرفع وصارت نتيجة حديث الرفع بعد التخصيص : رفع عن امّتي كل ما لا يعلمونه إلاّ في الشبهات الحكمية فإنّه لا يرتفع فيها وجوب الاحتياط وإنّما هو مرفوع عن خصوص الشبهات الموضوعية ، وواضح انّ هذه النتيجة تتلائم ومرام الإخباري.

الصحيح انّ المعارضة بنحو العموم من وجه

هذا والصحيح أنّ المعارضة بين أدلة البراءة وأدلة وجوب الاحتياط ليست هي بنحو العموم والخصوص المطلق ليقال بتقديم أدلة الاحتياط من جهة انّها مخصّصة لأدلة البراءة ، بل هي العموم والخصوص من وجه.

امّا بالنسبة إلى الآية القرآنية وأدلة الاحتياط فوجه ذلك انّ الآية الكريمة وإن كانت عامة من جهة ـ أي من جهة شمولها للمال والفعل والتكليف ولا تختص بالتكليف ـ إلاّ أنّها خاصّة من جهة اخرى حيث انّها تختص بموارد ما بعد الفحص ولا تعمّ ما قبل الفحص (١).

هذا بالنسبة إلى الآية الكريمة. ولو لاحظنا أدلة وجوب الاحتياط لوجدنا أنّها وإن كانت خاصة بالتكليف ولا تعمّ المال والفعل إلاّ أنّها عامّة لشمولها موارد ما قبل الفحص وما بعده (٢) فإنّ أدلة الاحتياط تدلّ على وجوب الاحتياط حتّى

__________________

(١) حيث تقدّم انّ المراد من الإيتاء ليس هو الإيتاء باليد بل بمعنى جعل الحكم في مظان الوصول ، وواضح انّ ثبوت الحكم في كتب الحديث بحيث يعثر عليه بعد الفحص يصدق عليه أنّه قد اوتي

(٢) ينبغي الالتفات إلى أنّه لو أردنا تحصيل جهة العموم في دليل فلا بدّ وأن نلاحظ ـ

١٣٧

فيما بعد الفحص ولا تختص بموارد ما قبل الفحص ، فدليل « أخوك دينك فاحتط لدينك » يقول احتط حتّى فيما بعد الفحص.

وإذا كان كل واحد من الآية الكريمة وأدلة وجوب الاحتياط عاما من جهة وخاصا من جهة اخرى صارت النسبة هي العموم من وجه. ومادة الاجتماع هي التكليف ما بعد الفحص (١) فالآية الكريمة تنفي وجوب الاحتياط فيه بينما أدلة وجوب الاحتياط تثبت وجوب الاحتياط فيه.

وبعد هذه المعارضة فأيّهما المقدّم؟ انّ المقدّم هو الآية الكريمة التي تنفي وجوب الاحتياط لأنّها نصّ قرآني ، والنص القرآني عند معارضته للرواية يكون هو المقدّم لأنّه قطعي.

وهذه النتيجة نتيجة في صالح الاصولي لأنّها تثبت تقدّم البراءة في باب التكاليف بعد الفحص وهو مطلوبه.

هذا كلّه في توضيح كون المعارضة بين الآية الكريمة وأدلة وجوب الاحتياط هي العموم من وجه.

وأمّا كون المعارضة بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط هي العموم والخصوص من وجه فذلك باعتبار انّ حديث الرفع وإن كان عاما من جهة

__________________

ـ جهة الخصوص في الدليل الآخر وعلى ضوئها نستخرج جهة العموم ، فالعمومية في كل دليل تحصل بلحاظ جهة الخصوصية في الدليل الآخر ، والخصوصية في كل دليل تحصل بلحاظ جهة العمومية في الدليل الآخر

(١) طبيعي مادة الاجتماع التي تحصل فيها المعارضة بين الدليلين هي دائما المورد الذي يكون محلاّ للنزاع بين المتخاصمين ، فمثلا في مقامنا مورد النزاع بين الاصولي والإخباري هو التكليف ما بعد الفحص ، وهذا بنفسه مادة الاجتماع

١٣٨

الشمول للشبهات الحكمية والموضوعية إلاّ أنّه خاص من جهة اختصاصه بموارد الشبهة البدوية ولا يعمّ موارد العلم الإجمالي ؛ إذ في موارد العلم الإجمالي يكون التكليف معلوما ، والحديث ناظر إلى موارد عدم العلم أي موارد الشكّ حيث يقول : « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » فما لا يعلم ـ وهو التكليف المشكوك ـ هو المرفوع.

هذا بالنسبة إلى حديث الرفع.

وأمّا بالنسبة إلى أدلة وجوب الاحتياط فالأمر فيها كذلك أيضا فهي وإن كانت خاصّة بالشبهات الحكمية إلاّ أنّها عامة للشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ولا تختص بموارد الشبهة البدوية.

ومادة الاجتماع هي الشبهة البدوية الحكمية (١) ، وفي مثلها يحصل التعارض بين حديث الرفع وأدلة وجوب الاحتياط ، فحديث الرفع ينفي وجوب الاحتياط بينما أدلة وجوب الاحتياط تثبت وجوب الاحتياط والمقدّم هو حديث الرفع لأنّ مضمونه موافق للقرآن الكريم ـ أي لقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) فإنّ مقتضى إطلاقه للتكليف هو انّ التكليف إذا لم يؤت فهو غير ثابت ـ والموافق لكتاب الله سبحانه مقدّم على المخالف عند المعارضة.

وهذه النتيجة هي في صالح الاصولي أيضا حيث انّه يريد إثبات البراءة في الشبهة الحكمية البدوية.

__________________

(١) وهي المادة الواقعة محلا للنزاع بين الاصولي والإخباري فإنّ نزاعهما في الشبهة الحكمية البدوية ؛ إذ الشبهة الموضوعية لا إشكال في جريان البراءة فيها ، والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي لا إشكال في وجوب الاحتياط فيها

١٣٩

إذن النتيجة في كلتا المعارضتين بعد هذا البيان هي في صالح الاصولي.

ثمّ انّه بعد أن عرفنا انّ النسبة في مقام المعارضة هي العموم من وجه والمقدم هو دليل البراءة امّا لأنّه قرآني أو لموافقته لمضمون القرآن الكريم نقول : لو قطعنا النظر عن هذا الوجه للتقديم فمع ذلك تكون النتيجة في صالح الاصولي وليست في صالح الإخباري ؛ إذ دليل البراءة ودليل وجوب الاحتياط بعد تعارضهما يتساقطان ، وبعد التساقط نرجع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ وبذلك تثبت البراءة أيضا ـ إن كنّا من القائلين بالقاعدة المذكورة ، وإن كنّا من المنكرين لها فنرجع لإثبات البراءة إلى استصحاب البراءة الثابتة قبل التشريع أو قبل البلوغ فإنّ دليل الاستصحاب عامّ يدل على جريان الاستصحاب في كل حالة متيقّنة سابقة ، وأدلة وجوب الاحتياط جاءت وخصّصت عموم دليل الاستصحاب وأثبتت أنّ الاستصحاب لا يجري لإثبات البراءة ـ فإنّ الحكم عند الشكّ في ثبوت التكليف هو الاحتياط دون البراءة ـ ولكن حيث انّ هذا المخصص الدال على وجوب الاحتياط معارض بأدلة البراءة فلا يمكن الأخذ به فيبقى الدليل العام وهو دليل حجّية الاستصحاب سالما من المخصّص ويجري لإثبات البراءة بلا مزاحم.

الجواب الأوّل عن الاعتراض الثاني

ذكرنا سابقا انّ أدلة البراءة اعترض عليها باعتراضين أساسيين. وكان حديثنا إلى الآن يدور حول الاعتراض الأوّل.

وأمّا الاعتراض الثاني ـ الذي يقول انّ أدلة البراءة ناظرة إلى إثبات البراءة في الشبهات البدوية بينما الشبهات التي بأيدينا والتي نريد إجراء البراءة

١٤٠