الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٢

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-19-7
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٧

ب ـ ان هناك رأيا معروفا يقول بان الوضوء مستحب ونور في نفسه وان لم يقصد به الصلاة ، ومعه فيمكن للمكلف الاتيان به بقصد امتثال الاستحباب النفسي ويكون هو المحرك له ، وبالتالي فلا يلزم الاشكال.

اجل هذا الجواب يجدي في خصوص الوضوء دون التيمم والغسل حيث لم يثبت من الادلة استحبابهما النفسي.

وبهذا اتضح ان المكلف مخيّر في مقام قصد القربة بالوضوء بين ان يقصد امتثال الامر النفسي المتعلق بالصلاة او يقصد الاستحباب النفسي المتعلق بالوضوء.

قوله ص ٣٨٦ س ٦ وان ما ثبت من عبادية ... الخ : هذا اشارة الى المشكلة الثانية ، وقوله فيما سبق « وقد لوحظ ان ما ثبت ... الخ » اشارة الى المشكلة الاولى.

قوله ص ٣٨٦ س ٩ فهو انها : اي الخصوصية الثانية.

قوله ص ٣٨٦ س ١٤ يمكن تطبيقه على ذلك : اي يمكن ان يكون مقصود الروايات ان الآتي بالخطوات يثاب عليها بما انه قد قصد من حين الاتيان بها امتثال الامر النفسي.

قوله ص ٣٨٧ س ٩ نستكشف انطباق هذه الحالة عليها : اي نستكشف ان قصد القربة جزء مقوم للمقدمة وليس شيئا خارجا عنها.

قوله ص ٣٨٧ س ١٦ وهذا التحريك يتمثل في قصد التوصل : اي ان قصد امتثال الامر بالصلاة وكونه المحرك لا ينفك عن قصد التوصل بالوضوء الى الصلاة.

٤٠١
٤٠٢

الاجزاء في الاوامر

الظاهرية والاضطرارية

٤٠٣
٤٠٤

دلالة الاوامر الظاهرية والاضطرارية على الاجزاء :

قوله ص ٣٨٩ س ١ لا شك في ان الاصل اللفظي ... الخ :

لتوضيح هذا المبحث نطرح السؤالين التاليين :

١ ـ لو فرض ان المكلف امتثل الامر الاضطراري بان تيمم مثلا وصلى ثم تمكن من الماء فهل يجب عليه اعادة الصلاة مع الوضوء او لا؟ وبكلمة اخرى : هل الامر الاضطراري يجزي عن امتثال الامر الواقعي الاختياري او لا؟ وطبيعي نطرح هذا التساؤل بقطع النظر عن الروايات الخاصة الواردة في هذا المجال لنعرف ما تقتضيه القاعدة الاولية ، فالبحث اذن ليس بحثا عما تقتضيه الروايات بل عما تقتضيه القاعدة الاولية.

٢ ـ اذا امتثل المكلف الامر الظاهري كما لو قلد مجتهدا وعمل برأيه فترة من الزمن ثم قلد من يفتي ببطلان اعماله السابقة فهل يلزمه اعادتها او لا؟

وقبل الاجابة نقدم مقدمة صغيرة حاصلها : ان مقتضى القاعدة الاولية في كل امر عدم تحقق امتثاله بغير متعلقه ، فلو قال المولى اعتق رقبة فلا يسقط الامر الا بعتق الرقبة ولا يكفي توزيع ثمنها على الفقراء ، فان توزيع الثمن ليس هو المأمور به ، فاسقاطه للامر يحتاج الى دليل ، اذ لو كان مسقطا لكان من المناسب تقييد الامر بان يقال يجب عتق الرقبة ان لم يوزع ثمنها ، وحيث لم يقيد بل اطلق كان ذلك دليلا على عدم اجزاء غير العتق. اذن مقتضى القاعدة في كل امر ـ المقصود من القاعدة الاصل اللفظي اي الاطلاق ـ هو عدم اجزاء غير متعلقه

٤٠٥

عنه.

وبعد الفراغ من المقدمة نقول : ان لازم هذه القاعدة عدم اجزاء الوظيفة الظاهرية او الاضطرارية عن امتثال الامر الواقعي ولا يسقط الامر الواقعي الا بالاتيان بالمأمور به الواقعي بيد انه قد يدعى وجود نكتة خاصة تقتضي اجزاء امتثال الامر الظاهري والاضطراري عن امتثال الامر الواقعي. ولتوضيح ذلك نتكلم تارة عن الامر الاضطراري واخرى عن الامر الظاهري.

دلالة الاوامر الاضطرارية على الاجزاء عقلا

قوله ص ٣٩٠ س ١ اذا تعذر الواجب الاصلي ... الخ : وامثلة الاوامر الاضطرارية كثيرة منها مثال التيمم بدل الوضوء ومنها الصلاة جالسا عند عدم القدرة على القيام ، فاذا تحققت القدرة على الوضوء او القيام فهل تجب الاعادة او لا؟ ولتوضيح ما تقتضيه القاعدة نقول : تارة نفترض ان جواز البدار الى الصلاة من جلوس او مع التيمم في بداية الوقت مشروط ببقاء العذر ـ اي عدم القدرة على الوضوء والقيام ـ الى آخر الوقت ، واخرى يفرض جواز البدار وان لم يكن العذر مستوعبا لتمام الوقت.

ونتكلّم اولا عن الحالة الثانية ـ ثم عن الاولى ـ والقاعدة فيها تقتضي عدم وجوب الاعادة ، فلو لم يكن المكلف قادرا على الصلاة مع الوضوء او القيام وبادر الى الصلاة مع الجلوس او التيمم في اول الوقت ثم ارتفع العذر قبل انتهاء الوقت فلا تلزمه الاعادة ، ويمكن توضيح وجه ذلك بالشكل التالي : لو اتى المكلّف بالصلاة جالسا او مع التيمم كانت الصلاة المذكورة مصداقا للواجب الاضطراري ، وحينئذ نسأل : هل الصلاة المذكورة واجبة على سبيل التعيين بحيث

٤٠٦

لا يجوز للمكلف تأخير صلاته الى ما بعد ارتفاع العذر او هو مخير بينها وبين الانتظار الى ارتفاع العذر ليأتي بالصلاة الاختيارية؟ لا اشكال في ان الصحيح هو الثاني فيجوز الانتظار الى ارتفاع العذر. واذا ثبت تخير المكلف بين الصلاة العذرية والانتظار لاداء الصلاة الاختيارية فلازم ذلك كفاية الصلاة العذرية التي يأتي بها اول الوقت لان الواجب عليه هو الجامع ـ اي احدى الصلاتين : الاضطرارية او الاختيارية ـ والمفروض تحقق الجامع بالاتيان باحد فرديه وهو الصلاة العذرية فيكون ما اتي به كافيا ولا تلزم الاعادة.

ان قلت : ان التخيير اذا كان بالشكل التالي ـ الاتيان بالصلاة العذرية حالة العذر والاتيان بالصلاة الاختيارية بعد ارتفاع العذر ـ لم تجب الاعادة كما ذكر ، لكن لماذا لا يكون التخيير بشكل آخر بان يكون التخيير بين الاتيان بصلاتين ـ وهما الصلاة العذرية حالة العذر والاختيارية بعد ارتفاعه ـ وبين الانتظار الى حالة ما بعد ارتفاع العذر ليؤتى بصلاة واحدة وهي الاختيارية ، والتخيير اذا كان بهذا الشكل فالاتيان بالصلاة العذرية حالة العذر لا يكفي بل لا بدّ من ضم الصلاة الاختيارية لها بعد ارتفاع العذر.

قلت : ان التخيير بهذا الشكل غير معقول لأنه تخيير بين الاقل والاكثر اي تخيير بين صلاة واحدة وصلاتين ، والتخيير بين الاقل والاكثر غير معقول فلا معنى لان يقول الوالد لولده مثلا اما ان تدرس درسا واحدا او تدرس درسين ، اذ بدراسته للدرس الواحد يكون الواجب متحققا ومع تحققه لا يمكن ان يبقى الوجوب ليكون الدرس الثاني واجبا. هذا كله في الحالة الثانية.

واما الحالة الاولى ـ وهي ان يكون جواز البدار للصلاة العذرية مشروطا باستمرار العذر الى آخر الوقت ـ فتوضيح الحال فيها : ان المكلف اذا اتى بالصلاة

٤٠٧

العذرية حالة العذر فان ارتفع عذره قبل انتهاء الوقت وصار متمكنا من الصلاة الاختيارية فلازم ذلك بطلان الصلاة العذرية التي اتى بها ، اذ ان صحتها مشروطة باستمرار العذر والمفروض عدم استمراره ، ومع بطلانها فلا تقع مجزية عن الصلاة الاختيارية كما هو واضح. هذا اذا فرض زوال العذر قبل انتهاء الوقت ، واما اذا بقي مستمرا فالبحث عن وجوب الاعادة لا معنى له لفرض عدم ارتفاع العذر داخل الوقت ليمكن اعادة الصلاة فينحصر البحث في وجوب القضاء فيقال هل يجب القضاء والاتيان بالصلاة الاختيارية بعد انقضاء الوقت وارتفاع العذر او لا؟ قد يقال بعدم وجوب القضاء ، اذ المكلف باتيانه بالصلاة العذرية حالة العذر قد حصل على تمام مصلحة الصلاة الاختيارية فان الصلاة العذرية اذا لم تكن وافية بتمام مصلحة الصلاة الاختيارية لم يأمر بها فأمره بها دليل على وفائها بتمام مصلحة الصلاة الاختيارية ، ومع حصول المكلف على تمام مصلحة الصلاة الاختيارية فلا يصدق انه فاته شيء ليجب عليه القضاء ، اذ وجوب القضاء منصب على الفوت ـ اقض ما فات كما فات (١) ـ ومع عدم صدق الفوت فلا يجب القضاء ، هكذا قد يقال.

وفيه ان الامر بالصلاة العذرية لا يدل على وفائها بتمام مصلحة الصلاة الاختيارية ، اذ مصلحة الصلاة الاختيارية اذا كانت بمقدار عشر درجات فمن الممكن ان تفي الصلاة العذرية داخل الوقت بمقدار خمس والصلاة الاختيارية القضائية تفي بمقدار خمس اخرى ، ان هذا افتراض معقول ، وبناء عليه يلزم على المولى الامر بالصلاة العذرية داخل الوقت ليحصل المكلف على مقدار خمس كما

__________________

(١) لم يرد التعبير المذكور في رواياتنا وانما الوارد في معتبرة زرارة « فليقض في السفر صلاة الحضر كما فاتته » الوسائل باب ٦ من قضاء الصلوات حديث ١. وقريب من ذلك معتبرته الاخرى الواردة في الباب ٢ حديث ٣

٤٠٨

ويلزم الامر بالقضاء للحصول على الخمس الاخرى.

وبكلمة مختصرة : مجرد الامر بالصلاة العذرية داخل الوقت لا يمكن ان نفهم منه اشتمالها على تمام المصلحة ليثبت الاجزاء بل اثباته يحتاج الى دليل خاص ـ والا فالقاعدة لا تقتضي الاجزاء ـ كما قد يدعى ذلك في التيمم فقد يستفيد الفقيه من حديث « التيمم احد الطهورين » وحديث « يكفيك عشر سنين » (١) اشتماله على تمام مصلحة الوضوء ، كما وربما يستفيد الفقيه من الادلة الخاصة عدم وجوب القضاء كما هو الحال في قوله تعالى ( « وتيمموا صعيدا طيبا » ) (٢) فان هذه الآية اذا كانت بصدد بيان الوظيفة حالة عدم الماء وحالة ما بعد التمكن منه ومع ذلك لم تأمر الا بالصلاة مع التيمم كان ذلك دليلا على عدم وجوب القضاء والا لأمرت به ولقالت : واذا تمكنتم من الماء وجبت عليكم الصلاة مع الوضوء.

والنتيجة التي نخرج بها هي : ان القاعدة لا تقتضي الاجزاء ، بل لا بدّ لاثباته من احد امرين : اما دلالة الدليل على وفاء الوظيفة الاضطرارية بتمام مصلحة الوظيفة الاختيارية او عدم اشارة الدليل لوجوب القضاء فيما اذا كان بصدد بيان الوظيفة حالة ثبوت العذر وارتفاعه.

قوله ص ٣٩٠ س ٢ تشرع : بضم التاء وسكون الشين وفتح الراء من دون تشديد. والمراد من التشريع هو الجعل بمعنى الوجوب.

__________________

(١) ففي معتبره محمد بن مسلم « سألت ابا عبد الله عن رجل اجنب فتيمم بالصعيد وصلى ثم وجد الماء قال : لا يعيد ، ان رب الماء رب الصعيد فقد فعل احد الطهورين ». وسائل الشيعة ج ٢ باب ١٤ من ابواب التيمم ح ١٥.

وفي معتبرة السكوني عن جعفر عن ابيه عن آبائه عن ابي ذر رضي‌الله‌عنه « انه اتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله هلكت جامعت على غير ماء ، قال : فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمحمل فاستترت به وبماء فاغتسلت انا وهي ثم قال : يا ابا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين » المصدر السابق ح ١٢

(٢) النساء : ٤٣

٤٠٩

قوله ص ٣٩٢ س ٤ في هذه الحالة : اي حالة استيعاب العذر.

قوله ص ٣٩٢ س ٥ مع بقاء جزء آخر مهم : واما اذا كان الجزء المتبقى ضئيلا فلا يأمر المولى بالقضاء بل باداء الوظيفة الاضطرارية داخل الوقت فقط.

قوله ص ٣٩٢ س ١١ من لسان دليل ... الخ : كما في لسان « التيمم احد الطهورين » او « يكفيك عشر سنين » فان لسانهما ظاهر في وفاء التيمم بتمام مصلحة الوضوء.

قوله ص ٣٩٢ س ١٢ واطلاقه : كما في قوله « فيتمموا صعيدا طيبا » ، فان مقتضى اطلاقه وعدم تقييده بوجوب القضاء عدم وجوبه.

قوله ص ٣٩٢ س ١٤ ابتداء وانتهاء : المراد من الابتداء حالة العذر ومن الانتهاء حالة ما بعد ارتفاعه.

دلالة الاوامر الظاهرية على الاجزاء :

قوله ص ٣٩٣ س ١ قد تؤدي الحجة الى تطبيق ... الخ : تمام الحديث السابق كان عن الاوامر الاضطرارية ، واما الاوامر الظاهرية فنذكر لها مثالين :

أ ـ اذا دلت الامارة على وجوب الظهر مثلا ثم اتضح الخلاف وان الواجب واقعا هو الجمعة. وفي هذا المثال يوجد حكم ظاهري وهو حجية الامارة قد سار المكلف على طبقه ثم اتضح مخالفته للواقع.

ب ـ اذا شهد الثقة بطهارة الثوب فصلى فيه المكلف ثم اتضحت نجاسته واقعا.

وفي هذين المثالين نسأل : هل الوظيفة الظاهرية التي اتى بها المكلف تجزي عن الوظيفة الواقعية او لا؟ قد يقال نعم تقتضي الاجزاء لان الشارع المقدس

٤١٠

حينما جعل الامارة حجة لا بدّ وان يفرض صيرورتها سببا لحدوث المصلحة في مؤداها ، فاذا ادت الى وجوب الظهر فمؤداها ـ وهو وجوب الظهر ـ لا بدّ من حدوث المصلحة فيه والا كان جعل الحجية لها من قبل الشارع قبيحا لانه يوجب تفويت مصلحة الواقع ، ومعه يلزم اجزاؤها لعدم الفرق بينها وبين الجمعة في الوفاء بالمصلحة.

وهذا المسلك القائل بكون الامارة سببا لحدوث المصلحة في مؤداها هو المعروف بمسلك السببية. هكذا قد يقرب برهان القول باجزاء امتثال الاحكام الظاهرية. وفيه :

١ ـ ان القول بالسببية باطل في نفسه ـ لما سيأتي ـ وحل المشكلة لا يتوقف عليه حتى نكون ملزمين بالاخذ به ، بل يمكن حلها بوجه آخر تقدمت الاشارة اليه في اوائل الكتاب. ولتوضيحه نقول باختصار : واجه الاصوليون مشكلة تقول كيف جعل الشارع خبر الثقة مثلا حجة والحال ان ذلك قد يوجب تفويت مصلحة الواقع باعتبار انه ربما يكون الثابت واقعا وجوب الجمعة ، فاذا جعل الشارع خبر الثقة حجة وكان دالا على وجوب الظهر فسوف يأتي المكلف بالظهر ويترك الجمعة ، وبذلك تفوت عليه مصلحة الجمعة ، ومن الواضح ان تفويت المصلحة الواقعية امر قبيح. وهذه المشكلة تتولد من اثبات الحجية لخبر الثقة ، اذ لو لا ذلك لما اخذ المكلف به بل كان يحتاط ويحاول تحصيل العلم بالواقع. ان هذه المشكلة اثارت اهتمام الاصوليين وصارت سببا لتولد مسلك السببية ، فمسلك السببية لم ينشأ الا من اجل الفرار من هذه المشكلة ، فان الامارة اذا كانت تحدث مصلحة بمقدار مصلحة الواقع فلا محذور بعد ذلك في جعلها حجة ، ولكن هذا المسلك باطل جزما ، لانه يؤدي الى محذور التصويب كما سنوضح ، ومن هنا

٤١١

حاول الشيخ الانصاري قدّس سره سلوك مسلك آخر في حل المشكلة وهو القول بالمصلحة السلوكية (١) الذي هو من نتائج هذه المشكلة ايضا. وسلك السيد الشهيد قدّس سره مسلكا ثالثا تقدمت الاشارة له في اوائل الحلقة ، وحاصله : ان الحكم الظاهري ينشأ من مصلحة وملاك معين ولكن تلك المصلحة هي عين مصلحة الواقع وليست مغايرة لها ، فمثلا شرّع الله سبحانه الاباحة للماء كما وشرع الحرمة للخمر ، واحيانا قد يحصل الاشتباه ويتردد امر سائل معين بين الخمر والماء وفي مثل ذلك لا بدّ من تشريع لهذا السائل المشتبه ، ولكن ما هو ذلك الحكم المشرع؟ ان الحكم المشرع لا بدّ وان يكون موافقا للملاك الاهم ، فالمولى يقارن بين مصلحة اباحة الماء ومفسدة حرمة الخمر ، فاذا شخّص ان المصلحة اهم شرع حكما ظاهريا يقول كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام ، ان هذا الحكم الظاهري نشأ عن مصلحة وليست هي الا المصلحة الواقعية الاهم ، وان شخص ان الاهم هو مفسدة الخمر شرع حكما ظاهريا يقول اخوك دينك فاحتط لدينك ، وهو ايضا حكم ظاهري ناشىء عن الملاك الاهم. اذن الحكم الظاهري حكم ناشىء من الملاك الواقعي الاهم.

واذا عرفنا حقيقة الحكم الظاهري اندفعت المشكلة السابقة ، اذ الحكم الظاهري وان كان قد يخالف الواقع احيانا الا انه لما نشأ للتحفظ على الملاك الاهم كان فوات مصلحة الواقع من باب التضحية بالملاك غير الاهم حفاظا على الملاك الاهم ، وتلك تضحية مقبولة لدى العقلاء.

اذن حلّ المشكلة السابقة يمكن في تفسير حقيقة الحكم الظاهري بالحكم الناشىء وفق الملاك الاهم ، وهو الحل الصحيح.

__________________

(١) يأتي توضيح المقصود من المصلحة السلوكية في الجواب الثاني

٤١٢

واما ما افيد في البرهان السابق من التمسك بمسلك السببية فهو باطل ، فان مسلك السببية يستلزم التصويب ، اذ لو فرض ان الحكم الثابت في الواقع هو وجوب الجمعة وادت الامارة الى وجوب الظهر واحدثت في الظهر مصلحة بمقدار عشر درجات التي هي بمقدار مصلحة الواقع فيلزم تبدل الواقع من التعيين الى التخيير ، فالثابت في الواقع قبل قيام الامارة هو وجوب الجمعة بنحو التعيين وعند قيام الامارة وحدوث مصلحة في الظهر بمقدار مصلحة الواقع يلزم تبدل تعين وجوب الجمعة الى التخيير بينها وبين الظهر ، فانه بعد اشتمال كل من الجمعة والظهر على مصلحة متعادلة فلا وجه لتخصيص الوجوب بالجمعة بل يلزم انقلابه الى التخيير وهذا نحو من انحاء التصويب ، فان للتصويب انحاء منها ان لا يكون في الواقع حكم ابدا وانما يحدث بعد قيام الامارة ومنها ان يكون في الواقع حكم ولكنه يتبدل كما هو الحال في المقام. ومن هنا جرت عادة الاصوليين على الفرار من مسلك السببية وما ذاك الا للمحذور المذكور.

٢ ـ انه حتى لو قبلنا مسلك السببية فلا يثبت بذلك الاجزاء ، فلو سلمنا ان الامارة تحدث مصلحة فلا يلزم ان تكون تلك المصلحة ثابتة في المؤدى ليلزم صيرورة الظهر مثلا واجبة كوجوب الجمعة بل من الممكن افتراض ثبوتها في السلوك بمعنى ان سلوك الامارة والجري العملي على طبقها تحدث فيه مصلحة ، وهذه المصلحة في السلوك ليست بمقدار مصلحة الواقع بل بمقدار المصلحة الفائتة على المكلف ، فاذا فرض ان المكلف سلك الامارة الدالة على وجوب الظهر وكان الثابت في الواقع هو وجوب الجمعة ولم ينكشف مخالفة الامارة للواقع الا بعد انقضاء الوقت ففي مثل هذه الحالة تكون جميع مصلحة الواقع قد فاتت على المكلف بسبب سلوك الامارة فيلزم لاجل تدارك المصلحة الفائتة ثبوت مصلحة

٤١٣

في السلوك بمقدار المصلحة الفائتة فاذا كانت الفائتة بمقدار عشر درجات فيلزم ان يثبت في السلوك المقدار المذكور ، اما اذا فرض ان انكشاف مخالفة الامارة للواقع اتضح وسط الوقت فلا يحدث في السلوك مصلحة بمقدار عشر درجات اذ السلوك لم يفوّت على المكلف تمام مصلحة الواقع لفرض عدم انتهاء الوقت حتى لا يمكن التدارك ، اجل سلوكها فوّت مصلحة فضيلة اول الوقت ، فاذا كانت المصلحة المذكورة بمقدار درجة واحدة لزم حدوث درجة واحدة من المصلحة في السلوك وتبقى التسع بلا تدارك فيلزم المكلف تداركها بفعل الجمعة في الوقت.

وباختصار : ان المصلحة اذا كانت في السلوك لا في المتعلق فاللازم عدم الاجزاء في صورة انكشاف الخلاف اثناء الوقت لان السلوك تحدث فيه مصلحة بمقدار ما يفوت من مصلحة الواقع بسبب السلوك ، وحيث ان الفائت جزء يسير من المصلحة فيلزم الاتيان بالواجب الواقعي لتدرك بذلك المصلحة المتبقاة وهذا هو عدم الاجزاء. اذن القول بالسببية بهذا النحو ـ وهو ثبوت المصلحة في السلوك المعبر عنه بالمصلحة السلوكية (١) ـ لا يلازم القول بالاجزاء بل قد ينفك عنه كما اذا انكشف الخلاف داخل الوقت.

الامر الظاهري يجزي في بعض الصور عند علمين

قوله ص ٣٩٥ س ١١ نعم يبقى امكان دعوى ... الخ : ذكرنا ان السيد الشهيد يختار في الامر الظاهري عدم اجزائه عن الامر الواقعي لكون الاجزاء مبنيا على مسلك السببية الذي هو باطل لاستلزامه التصويب على ما تقدم مضافا الى ان السببية لا تقتضي الاجزاء دائما. هذا ولكن الآخوند وتلميذه الاصفهاني

__________________

(١) وبهذا اتضح المقصود من المصلحة السلوكية

٤١٤

قدّس سرهما اختارا اجزاء الامر الظاهري في صورة وعدم اجزائه في صورة اخرى. وقد تقدم توضيح هذا التفصيل ص ٣٩ من الحلقة. ومختصره : ان المكلف اذا اراد الصلاة لزمه احراز طهارة ثوبه وبدنه ـ ان لم يكن له قطع ـ اما بواسطة خبر الثقة بان يشهد الثقة بطهارة الثوب مثلا او بواسطة قاعدة الطهارة فيما اذا لم يشهد الثقة بذلك. واذا استند المصلي في اثبات الطهارة الى احد هذين الطريقين : خبر الثقة او قاعدة الطهارة ثم اتضح بعد ذلك نجاسة الثوب او البدن واقعا فهل تجب اعادة الصلاة (١)؟ هنا فصّل الآخوند والاصفهاني بين ما اذا كان المستند خبر الثقة وما اذا كان قاعدة الطهارة ، فان كان المستند قاعدة الطهارة فلا تجب الاعادة لان قاعدة الطهارة تثبت طهارة جديدة مغايرة للطهارة الواقعية وتسمى بالطهارة الظاهرية ، وما دامت قاعدة الطهارة تثبت طهارة جديدة باسم الطهارة الظاهرية فلازم ذلك حصول توسعة في الدليل الدال على شرطية الطهارة في الصلاة الذي يقول « صل في الطاهر » ، ان الشرطية سوف تتسع ويصير المقصود : صل في الطاهر سواء كان طاهرا بطهارة واقعية ام بطهارة ظاهرية ، فبينما كان موضوع الشرطية سابقا ـ اي قبل ملاحظة قاعدة الطهارة ـ منحصرا بفرد واحد وهو الطهارة الواقعية اصبح بعد ذلك متسعا وشاملا لكلتا الطهارتين : الواقعية والظاهرية ، وبعد اتساع دائرة موضوع الشرطية وصيرورة الشرط هو الطهارة الاعم من الواقعية والظاهرية فلا يلزم اعادة الصلاة بعد انكشاف النجاسة واقعا ، فان الثوب وان كان نجسا واقعا الا انه حين الصلاة لفرض عدم العلم بنجاسته هو طاهر بالطهارة الظاهرية ، ومع طهارته الظاهرية تقع الصلاة صحيحة لان شرط الصحة هو الطهارة الشاملة للطهارة الظاهرية ، والمفروض وجود الطهارة

__________________

(١) طبيعي البحث ناظر الى ما تقتضيه القاعدة الاولية بقطع النظر عن الروايات الخاصة

٤١٥

الظاهرية حين الصلاة وانما هي ترتفع من حين انكشاف النجاسة وحصول العلم بها الذي هو ما بعد الصلاة.

هذا كله لو كان المستند لاحراز الطهارة هو قاعدة الطهارة ، واما لو كان المستند هو خبر الثقة فتجب الاعادة لان خبر الثقة لا يجعل طهارة ظاهرية جديدة مغايرة للطهارة الواقعية حتى يلزم اتساع دائرة الشرطية الى الطهارة الظاهرية وبالتالي حتى يلزم صحة الصلاة بل ان خبر الثقة يخبر عن الطهارة الواقعية ويحاول ايصالنا لها من دون ان يجعل طهارة جديدة. هذا حاصل توجيه تفصيل العلمين. وينبغي لفت نظر القارىء الى :

١ ـ ان الاجزاء الذي قال به هذان العلمان لا يستند الى ملازمة عقلية بين الحكم الظاهري والاجزاء بل الى الاستظهار من دليل قاعدة الطهارة مثلا ، فان لسان « كل شيء لك طاهر حتى تعلم انه قذر » يفهم منه جعل طهارة جديدة بعنوان الطهارة الظاهرية الذي يلزم منه اتساع دائرة الشرطية وبالتالي الاجزاء.

٢ ـ قد تقول : لماذا يلزم ـ بعد استفادة جعل الطهارة الظاهرية من دليل قاعدة الطهارة ـ اتساع دائرة الشرطية الى الطهارة الظاهرية؟ وما هي نكتة التوسعة المذكورة؟ والجواب : اذا لم تتسع دائرة الشرطية يلزم ان يكون جعل الطهارة الظاهرية لغوا وبلا فائدة ، فلو لم تترتب عليها آثار الطهارة الواقعية التي منها صحة الصلاة فما فائدة جعلها وتشريعها.

٣ ـ تقدم من السيد الشهيد ص ٤٠ من الحلقة الوعد بالتحدث عن هذا التفصيل وكيفية رده ، واشرنا هناك الى ان مقصوده قدّس سره الاشارة الى هذا الموضع ، وفي هذا الموضع يحوّل مناقشة هذا التفصيل الى مبحث الحكومة الظاهرية والواقعية. واذا فتشنا الحلقات الثلاث من اولها الى آخرها لم نجد بحثا

٤١٦

بالعنوان المذكور ، فقد تكلم قدّس سره في اواخر الجزء الثاني من الحلقة الثالثة عن معنى الحكومة ولكنه لم يقسمها الى الظاهرية والواقعية. ونحن نشير باختصار الى هذا المصطلح وكيفية مناقشة هذا التفصيل على ضوئه.

الحكومة الواقعية والظاهرية :

ان الدليل الحاكم هو الدليل الموسع او المضيق لموضوع الدليل الآخر ، فمثلا دليل « الطواف بالبيت صلاة » (١) يوسع من دائرة شرائط الصلاة ، فكما ان الوضوء وطهارة الثوب والبدن وغير ذلك هي شرائط للصلاة كذلك هي شرائط للطواف للدليل المذكور. وهذه التوسعة التي يقوم بها دليل « الطواف بالبيت صلاة » في حق دليل شرائط الصلاة هي عبارة اخرى عن الحكومة ، والدليل الاول يسمى بالحاكم والثاني بالمحكوم.

ثم ان التوسعة التي يقوم بها الدليل الحاكم تارة تكون توسعة حقيقية بمعنى عدم تقيدها بعدم انكشاف الخلاف واخرى ظاهرية بمعنى تقيدها بذلك ، فالحكومة في المثال الذي ذكرناه آنفا واقعية فان دليل « الطواف بالبيت صلاة » يوسع شرائط الصلاة ويعممها للطواف حقيقة وواقعا وبلا تعليق على شرط ، وهذا بخلافه في قاعدة الطهارة فانها وان كانت تجعل طهارة ظاهرية وتوسع من دائرة الشرطية الا ان هذه الحكومة والتوسعة ظاهرية ، بمعنى ان دليل قاعدة الطهارة لا يثبت الطهارة واقعا وحقيقة وانما يأمر بترتيب آثار الطهارة ما دام لم ينكشف الخلاف ، فاذا انكشف الخلاف واتضحت نجاسة الثوب واقعا فلا تكون تلك الآثار مترتبة بل منتفية منذ البداية.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٥ ص ٨٧ ، كنز العمال ج ٣ ص ١٠

٤١٧

اذن الحكومة الواقعية تعني التوسعة غير المشروطة بعدم انكشاف الخلاف والحكومة الظاهرية تعني التوسعة المشروطة بذلك.

وباتضاح هذا تتضح مناقشة تفصيل العلمين ، فان قاعدة الطهارة وان شرعت طهارة ظاهرية الا ان هذه الطهارة تعني لزوم ترتيب آثار الطهارة ما دام لم تنكشف النجاسة واقعا فاذا انكشفت فلا تكون تلك الآثار ـ التي منها صحة الصلاة ـ مترتبة بل تزول منذ البداية فان ترتبها مشروط بعدم انكشاف الخلاف فاذا انكشف فلا تكون مترتبة.

قوله ص ٣٩٣ س ٩ وبينه : اي وبين الاجزاء.

قوله ص ٣٩٤ س ٦ على ما تقدم : اي ص ٢٨.

قوله ص ٣٩٥ س ٤ لامكان استيفائه : اي استيفاء ملاك الواقع ، ولكن من المناسب حذف كلمة « معا ». وفي الطبعة الجديدة صححت العبارة هكذا : « لامكان استيفائهما معا » ، وبناء على هذا يشكل الامر في مرجع ضمير التثنية فان ارجاعه الى فضيلة أول الوقت وملاك الواقع ـ باعتبار ان فضيلة اول الوقت تدرك بواسطة سببية الامارة ، وملاك الواقع يدرك بواسطة الاعادة ـ لو تم ولم يكن ركيكا من حيث المعنى مدفوع بانه غير مقصود للسيد الشهيد فان مقصوده ان ملاك الواقع لم يفت حيث يمكن تداركه وليس مقصوده ان فضيلة اول الوقت وملاك الواقع لم يفت شيء منها. وعليه فالمناسب حذف كلمة « معا » وابقاء الضمير مفردا كما في الطبعة القديمة ليرجع الى ملاك الواقع.

قوله ص ٣٩٥ س ٦ والتعبد العملي بها : عطف تفسير على « سلوك الامارة ».

قوله ص ٣٩٥ س ٧ وليست قائمة بالمتعلق : اي كما يقوله اصحاب مسلك

٤١٨

السببية وهم الاشاعرة ، وانما هي قائمة بالسلوك كما يقوله الشيخ الاعظم قدّس سره.

قوله ص ٣٩٥ س ٨ وبالوظيفة الظاهرية : عطف تفسير على « المتعلق ».

قوله ص ٣٩٥ س ١٠ وعليه فلا موجب للاجزاء : اي على هذه الصورة ـ وهي صورة انكشاف الخلاف اثناء الوقت ـ لا موجب للاجزاء.

قوله ص ٣٩٥ س ١١ بعض ادلة الحجية : اي دليل الاصل العملي كقاعدة الطهارة مثلا.

قوله ص ٣٩٥ س ١٢ على ادلة الاحكام الواقعية : المقصود من الاحكام الواقعية مثل شرطية الطهارة للصلاة.

قوله ص ٣٩٥ س ١٢ وتوسعتها لموضوعها : عطف تفسير على قوله « حكومة بعض ... الخ ».

قوله ص ٣٩٥ س ١٣ وقد اوضحنا ذلك سابقا : اي ص ٣٩ ـ ٤٠.

قوله ص ٣٩٥ س ١٦ ان شاء الله تعالى : ولكن لم يشأ الله تعالى ذلك.

٤١٩
٤٢٠