الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٢

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 964-8991-19-7
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٥٢٧

٦ ـ وفي النقطة السابقة تحدثنا عن القضية الفعلية ، واما شقيقتها وهي القضية الشرطية فيمكن بدورها ان تقسم الى قسمين :

أ ـ ان يكون الشرط امرا شرعيا كحكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته فانه قضية عقلية حيث يحكم العقل بان الصلاة مثلا ان كانت واجبة شرعا فمقدمتها ـ وهي الوضوء ـ واجبة ايضا ، والشرط في هذه القضية كما نرى قولنا « الصلاة واجبة شرعا » وهو امر شرعي ، فان الشارع هو الذي يحكم بوجوب الصلاة وبدونه لا يحكم العقل بوجوب المقدمة. ومثل هذه القضية الشرطية تسمى بالدليل العقلي غير المستقل او بالملازمات العقلية غير المستقلة. اما انها دليل عقلي فلكون الحاكم بالملازمة هو العقل ، واما انه غير مستقل فلأن العقل لا يحكم بالملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب الوضوء مثلا الا بعد حكم الشارع اولا بوجوب الصلاة ، فحكم العقل بالملازمة اذن غير مستقل بل هو متوقف على حكم الشارع بوجوب الصلاة مثلا.

ب ـ ان يكون الشرط امرا عقليا ، كحكم العقل بالملازمة بين قبح الشيء وحرمته ، فالعقل يقول مثلا ان كان الكذب قبيحا ـ اي عقلا ـ فهو حرام شرعا ، وفي هذه القضية نرى ان الشرط امر عقلي وهو قبح الكذب عقلا وليس امرا شرعيا ، وتسمى مثل هذه القضية بالدليل العقلي المستقل او بالملازمات العقلية المستقلة. اما انها دليل عقلي فلكون العقل هو الحاكم بالملازمة ، واما انه دليل عقلي مستقل فلأن حكم العقل بها لا يتوقف على حكم شرعي (١).

٧ ـ وبعد ان عرفنا في النقطة السابقة ان القضية الشرطية قد تكون احيانا

__________________

(١) تبتدأ هذه النقطة من قوله ١ ص ٢٩٩ س ١٢ والقضايا الشرطية ... الخ

٢٠١

من قبيل الدليل العقلي المستقل (١) نعود الى عدلها وهي القضية الفعلية لنسأل هل تدخل تحت الدليل العقلي المستقل او لا؟ والجواب : نعم تدخل تحته فيما اذا كانت تركيبية (٢) كقولنا تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ، ان هذه القضية تدخل تحت الدليل العقلي المستقل ، لأن حكم العقل بالاستحالة المذكورة لا يتوقف على امر شرعي ، فانه سواء حكم الشارع بوجوب الصلاة مثلا ام لا يحكم العقل باستحالة تقييد وجوب الصلاة وامثاله بالعلم.

وبعد التعرف على دخول القضية التركيبية تحت الدليل العقلي المستقل قد يسأل هل تدخل في المسائل الأصولية او هي خارجة عن علم الاصول بتقريب : ان المسائل الاصولية هي ما يستنبط منها ثبوت حكم شرعي ، وواضح ان القضية التركيبية ـ مثل قضية « ان تقييد الحكم بالعلم مستحيل » ـ لا يستنبط منها ثبوت حكم شرعي بل يستنبط منها عدم ثبوت الحكم المقيد بالعلم.

والصحيح ان القضية التركيبية تدخل في علم الأصول لانه يستنبط منها نفي الحكم ، والمتوقع من المسألة الأصولية ان تقع في طريق استنباط نتيجة شرعية اعم من ان تكون هي ثبوت حكم او نفيه وليس المتوقع منها خصوص اثبات الحكم.

وقد تقول : عرفنا شيئين :

أ ـ ان القضية الفعلية تدخل تحت الدليل العقلي المستقل فيما اذا كانت تركيبية.

ب ـ ان القضية التركيبية هي من المسائل الأصولية ، ولكن لم نعرف حال القضية التحليلية (٣) ـ التي هي عدل التركيبية ـ هل تدخل تحت الدليل العقلي

__________________

(١) طبيعي وقد تكون احيانا من قبيل الدليل العقلي غير المستقل.

(٢) القضية التركيبية على ما تقدم هي المتضمنة لا ثبات الاستحالة.

(٣) ومثالها : ان حقيقة الوجوب التخييري ترجع الى وجوبين مشروطين.

٢٠٢

المستقل او لا (١)؟ وهل القضية التحليلية من المسائل الأصولية او لا؟

اما السؤال الأول فجوابه : نعم القضية التحليلية تدخل تحت الدليل العقلي المستقل ايضا ، فان قولنا : الوجوب التخييري يرجع عقلا الى وجوبين مشروطين حكم عقلي لا يتوقف على افتراض وجود حكم شرعي ، فسواء حكم الشارع بوجوب الاطعام والصيام تخييريا ام لا فان العقل يحكم برجوع الوجوب التخييري الى وجوبين مشروطين.

واما السؤال الثاني فجوابه : ان القضية التحليلية هي من المسائل الأصولية حيث يستفاد منها بشكلين في مقام الاستنباط :

أ ـ انها تقع احيانا في طريق اثبات استحالة قضية معينة اي في طريق اثبات قضية تركيبية ، فان القضية التركيبية عبارة اخرى عن استحالة قضية معينة.

ب ـ انها تقع احيانا في مقام تحديد كيفية تطبيق مسألة من المسائل الأصولية.

مثال الشكل الأول : القضية التحليلية المفسرة لحقيقة الحكم المجعول على نحو القضية الحقيقية ، فقضية الحج واجب على المستطيع قضية حقيقية ، اي ان الحكم فيها لم ينصب على خصوص الافراد الموجودة في الخارج ، بل على كل فرد فرض كونه مستطيعا سواء كان موجودا بالفعل في الخارج ام لا. والموضوع فيها ـ وهو المستطيع ـ بمثابة السبب ، والحكم ـ وهو الوجوب ـ بمثابة المسبب ، فالاستطاعة متى ما تحققت كان ذلك سببا لتحقق وجوب الحج ، فروح القضية الحقيقية على هذا ترجع الى ان الحكم فيها مسبب عن الموضوع ، فكلما تحقق الموضوع كان ذاك سببا لتحقق الحكم. وبعد هذا نقول : ان تحليل الحكم في القضية

__________________

(١) السؤال الأول هذا وجوابه لم يتعرض لهما في عبارة الكتاب.

٢٠٣

الحقيقية بهذا الشكل يمكن ان يستفاد منه في مسألة اخرى وهي انه هل يمكن تقييد الحكم بوجوب الحج بالعلم بان يقال يجب الحج على المستطيع ان كان عالما بوجوب الحج؟ والجواب : كلا لا يمكن ذلك لان الوجوب اذا كان منصبا على المستطيع المقيد بالعلم بالوجوب فهذا معناه ان موضوع الوجوب مركب من جزئين هما المستطيع والعلم بالوجوب ، وهذا مستحيل للزوم الدور منه ، اذ وجوب الحج متوقف على العلم بوجوب الحج ـ باعتبار ان العلم بالوجوب جزء الموضوع ، وقد قلنا ان الحكم مسبب عن موضوعه ، فلو كان العلم بالوجوب جزء الموضوع يلزم توقف الوجوب عليه ـ وحيث ان العلم بالوجوب متوقف على ثبوت الوجوب فيلزم كون الوجوب موقوفا على الوجوب.

وباختصار : ان القضية التحليلية التي تقول : « الحكم في القضية الحقيقية يرجع الى كون الحكم مسببا عن موضوعه » وقعت في طريق اثبات قضية تركيبية وهي ان تقييد الحكم بالعلم به امر مستحيل لمحذور الدور. وقد مرّ كل هذا في الحلقة الاولى ص ١٥٦ ـ ١٥٨ تحت عنوان ( موضوع الحكم ).

ومثال الشكل الثاني ما اذا قيل : ان افطرت متعمدا فصم شهرين متتابعين ، فلو فرض ان شخصا افطر ولكنه شك في ان صوم الشهرين متعيّن عليه او هو مخيّر بينه وبين اطعام ستين فقيرا ـ والثمرة تظهر فيما لو اطعم ستين مسكينا ، فان صوم الشهرين

لو كان معينا فلازمه عدم الاكتفاء بالاطعام ولزوم صوم شهرين ، بينما لو كان مخيرا اكتفي بالاطعام ـ فالمشهور بين الفقهاء ان المكلّف بعد اطعامه الفقراء لا يلزمه صوم الشهرين لجريان البراءة عنه. ولكنه كيف تجري البراءة (١)؟

__________________

(١) لا تضاح المثال نذكر مقدمة هي : انه وقع كلام بين الأصوليّين في حقيقة الوجوب التخييري فلو قيل : ان افطرت فاطعم ستين فقيرا او صم شهرين فما هي حقيقة هذا ـ

٢٠٤

والجواب : ان قلنا برجوع الوجوب التخييري الى وجوب الجامع كان شكنا راجعا الى الشك في اننا هل مخيرون بين الاطعام والصيام او ان الصيام متعيّن ، فان الصيام لو كان واجبا مخيرا فمعناه ان الواجب هو الجامع ، وبوجوب الجامع نصير مخيرين بين الاطعام والصيام ، بينما لو لم يكن الصيام واجبا مخيرا بل كان واجبا معينا فلازمه عدم إجزاء الاطعام وتعين الصيام ، فالمقام على هذا يكون من مصاديق دوران الأمر بين التعيين والتخيير فتجري البراءة عن التعيين باعتبار انه خصوصية توجب التضييق والكلفة على المكلّف وأصل البراءة ينفي كل كلفة وضيق مشكوك (١). هذا بناء على رجوع الوجوب التخييري الى وجوب الجامع.

واما بناء على رجوعه الى وجوبين مشروطين فعند تحقق الاطعام يحصل الشك في وجوب الصيام اذ ما دمنا نحتمل كون الصيام واجبا مخيرا فلازمه ـ بناء على الرأي المذكور ـ احتمال كون وجوبه مشروطا بعدم تحقق الاطعام فاذا تحقق حصل الشك في وجوبه فتجري البراءة عنه.

وباختصار : ان تحليل حقيقة الوجوب التخييري يساعد على تحديد كيفية

__________________

ـ الوجوب التخييري؟ توجد في ذلك عدة اراء نذكر منها اثنين :

أ ـ انه يرجع الى وجوب الجامع فكأنه قيل ان فطرت وجب عليك الجامع اي احدهما ، وبعد وجوب احدهما يحكم العقل بالتخيير بين الفردين ، اذن بناء على هذا الرأي يرجع الوجوب التخييري الى كون الواجب شرعا هو الجامع والعقل يخير بين الفردين.

ب ـ انه يرجع الى وجوبين مشروطين شرعيين فكأنه قيل : ان لم تصم فاطعم وان لم تطعم فصم. ويشكل عليه بان لازمه استحقاق المكلّف لعقابين عند تركه الصيام والاطعام معا ـ لانه حينما يترك الصيام يصير الاطعام واجبا عليه وهكذا حينما يترك الاطعام يصير الصيام واجبا عليه ، والمفروض مخالفته لكلا الوجوبين ـ وهو باطل بالوجدان ، فان تارك الواجب المخير لا يستحق الا عقابا واحدا.

(١) وهناك رأي يقول : ان مورد الشك بين التعيين والتخيير لا تجري فيه البراءة عن خصوصية التعيين بل يجري الاشتغال ، ولكن هذا الرأي لا يؤثر على بحثنا فانا نريد ان نقول بناء على جريان البراءة فهي تجري لنفي خصوصية التعيين.

٢٠٥

اجراء اصل البراءة ، فبناء على رجوع الوجوب التخييري الى وجوب الجامع فالبراءة تجري عن خصوصية التعيين بينما بناء على رجوعه الى وجوبين مشروطين تجري البرائة عن وجوب الصيام. وستأتي الاشارة الى هذا المطلب في مبحث الوجوب التخييري ص ٣٦٩ من الحلقة (١).

٨ ـ سوف نرى في الابحاث المقبلة وجود ترابط وتفاعل بين القضايا العقلية ، فقد نتكلم عن قضية تحليلية معينة ويصير ذلك سببا للبحث عن قضية تحليلية اخرى او عن قضية تركيبية.

مثال ذلك : البحث عن حقيقة الوجوب التخييري وانها ترجع الى وجوبين مشروطين ، فانه قد يولد قضية تركيبية ـ حيث قد يقال بان لازم ذلك استحقاق عقوبتين حالة ترك كلا الفردين فتكون حقيقة الوجوب التخييري بالتفسير المذكور مستحيلة ـ او قضية تحليلية ، فانه بعد اختيار رجوع الوجوب التخييري الى وجوبين مشروطين قد يحتاج الى البحث عن حقيقة الوجوب المشروط وتحديدها فان في ذلك اختلافا ، فالشيخ الأعظم فسّر الوجوب المشروط بشكل والمشهور فسروه بشكل آخر كما يأتي ايضاح ذلك في بحث الوجوب المشروط.

والخلاصة : ان البحث عن قضية تحليلية قد يولّد بحثا في قضية تركيبية كما وقد يولّد بحثا في قضية تحليلية اخرى. ولربما تدعو الحاجة احيانا الى بحث القضية التحليلية الاخرى في نفس الموضوع الذي تبحث فيه القضية التحليلية الاولى فيما اذا كان الارتباط بين القضيتين التحليليتين ارتباطا قويا الى درجة لا يسمح للفصل بينهما (٢).

__________________

(١) وقد اشير الى هذه النقطعة بقوله ١ ص ٣٠٠ س ٥ : وكذلك تعتبر القضايا ... الخ.

(٢) وقد اشير الى هذه النقطة بقوله ١ ص ٣٠١ س ٦ : وسوف نلاحظ ... الخ.

٢٠٦

ثم انه بعد الفراغ من هذه النقاط الثمان يقع الكلام في مقامين :

أ ـ ما هي القضايا التي يحكم بها العقل؟ فهل يحكم باشتراط القدرة في التكليف؟ وهل يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته؟ وهل يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده؟ وهكذا. ويمكن تسمية ذلك بالبحث عن صغريات الدليل العقلي.

ب ـ اذا فرض حكم العقل مثلا باشتراط القدرة في التكليف فهل حكم العقل هذا حجة او لا؟ ويمكن تسمية ذلك بالبحث الكبروي.

قوله ص ٢٩٩ س ١٣ من قبيل المثال الاول لها : اي للقضايا الشرطية ، والمراد من المثال الأول ما اشير له آخر ص ٢٩٨ بقوله ١ : من قبيل ادراك العقل ان وجوب شيء يستلزم وجوب مقدمته.

قوله ص ٢٩٩ س ١٤ من قبيل المثال الثاني لها : اي ان قبح الفعل يستلزم حرمته.

قوله ص ٣٠٠ س ٥ وكذلك تعتبر : اوضحنا سابقا وجه التعبير بكلمة ( كذلك ).

قوله ص ٣٠٠ س ١٣ والبرهنة عليها : عطف تفسير لقوله : « اثبات قضية عقلية تركيبية ».

قوله ص ٣٠١ س ٢ مثلا : اي ذكر هذين الاتجاهين للوجوب التخييري هو من باب المثال ، والا فهناك اتجاهات اخرى.

قوله ص ٣٠١ س ٤ ودوران ... الخ : عطف تفسير على ( الشك ).

قوله ص ٣٠١ س ٩ قضايا عقلية تركيبية : كان من المناسب ان يقال : او قضايا تحليلية.

٢٠٧
٢٠٨

استحالة التكليف

بغير المقدور

٢٠٩
٢١٠

استحالة التكليف بغير المقدور :

قوله ص ٣٠٣ س ١ في التكاليف مراتب متعددة ... الخ :

حصيلة البحث المذكور : ان العقل هل يحكم باستحالة تكليف غير القادر او لا ، وبتعبير آخر هل يحكم باشتراط القدرة في التكليف او لا. وهذا بحث عن اول صغرى من صغريات الدليل العقلي. ولاجل اتضاح المطلب اكثر نرجع الى الحلقة الثانية ص ١٣ وهذه الحلقة ص ٢١ لنستذكر ان لكل تكليف اربع مراحل ، فامر الاب ولده بمواصلة الدراسة مثلا يمر بمراحل اربع هي :

١ ـ مرحلة الملاك ، بمعنى ان مواصلة الدراسة لا بدّ من اشتمالها على المصلحة في نظر الأب والا لما وجّه الأمر لها.

٢ ـ مرحلة الشوق والحب ، فانه بعد الاطلاع على وجود المصلحة في مواصلة الدراسة يحصل الشوق لها ، وطبيعي ان الشوق والحب لا يحصلان الا بعد العلم بوجود المصلحة ولا يكفي وجودها الواقعي من دون علم بها. وهذا معنى ما يقال ان المصلحة بوجودها العلمي توجب الشوق والحب لا بوجودها الواقعي.

٣ ـ وبعد حصول الشوق يعتبر الوالد مواصلة الدراسة في عهدة ولده ويجعلها عليه ويقول له ولدي واصل دراستك (١). وما هو الغرض من هذا الاعتبار والجعل؟ يمكن تصور الغرض بشكلين :

__________________

(١) كلمة الجعل والاعتبار يمكن ابدالهما بكلمة الوجوب ، فان الوجوب والجعل والاعتبار كلمات مترادفة.

٢١١

أ ـ اطلاع الولد على اشتمال مواصلة الدراسة على الحب والمصلحة.

ب ـ تحريك الولد نحو مواصلة الدراسة وبعثه لها. وطبيعي ان ظاهر الجعل هو الثاني وان الغرض هو التحريك لا مجرد الاخبار عن وجود المصلحة والشوق ، فقوله تعالى : ( ولله على الناس حجّ البيت ) يدل على التحريك نحو الحج ايضا لا على وجود المصلحة والشوق فقط.

٤ ـ مرحلة التنجر واستحقاق العقوبة (١) ، فالولد يستحق العقوبة بعد جعل التكليف عليه ومخالفته له.

وبعد التعرف على هذه المراحل الاربع نعود للتساؤل السابق لنرى ان القدرة بناء على كونها شرطا للتكليف هل هي شرط له :

١ ـ في مرحلة الملاك بحيث لا مصلحة في الفعل عند عدم القدرة؟

٢ ـ او هي شرط له في مرحلة الشوق بحيث لا شوق للفعل عند انتفاء القدرة عليه؟

٣ ـ او هي شرط في مرحلة الجعل بحيث لا جعل عند انتفاء القدرة؟

٤ ـ او هي شرط في مرحلة التنجّز بحيث لا استحقاق للعقوبة عند عدم القدرة؟

اما بالنسبة للتساؤل الرابع فواضح ان القدرة شرط عقلا في استحقاق العقوبة ، اذ من دونها لا يكون للمولى على عبده حق الاطاعة.

واما بالنسبة للتساؤلين الاولين فالقدرة قد تكون شرطا في المصلحة والشوق ـ بحيث لا مصلحة ولا شوق عند انتفائها ـ وقد لا تكون ، ومراجعة الوجدان تشهد بذلك ، فالانسان يحب العودة لحالة الطفولة ويشتاق لها بالرغم

__________________

(١) التنجّز واستحقاق العقوبة تعبيران مترادفان.

٢١٢

من عدم كونها مقدورة.

مصطلح اصولي :

والقدرة متى ما كانت شرطا في المصلحة والملاك بحيث من دونها لا مصلحة سميت بالقدرة الشرعية ، ومتى لم تكن شرطا في ذلك سميت بالقدرة العقلية (١).

واما بالنسبة للسؤال الثالث ـ وهو ان القدرة هل هي شرط في الجعل ـ فالجواب : ان الغرض من الجعل اذا كان هو مجرد ابراز المصلحة والشوق فالقدرة ليست دخيلة فيه بمعنى ان الجعل يمكن ان يكون ثابتا في حق غير القادر ايضا لان المصلحة والشوق اللذين فرض ان ابرازهما هو الغرض من الجعل يمكن ثبوتهما في حق غير القادر.

ان قلت : ان المصلحة والشوق وان كان بالامكان ثبوتهما في حق غير القادر ولكن نفس الجعل والوجوب لا يمكن ثبوته في حقه ـ غير القادر ـ فانه لا يصح ان يقال لغير القادر : يجب عليك الفعل الذي لا تقدر عليه.

قلت : ان الجعل والوجوب ليسا الاعبارة عن الاعتبار ، والاعتبار سهل المؤونة ، فيمكن ثبوته في حق غير القادر ايضا.

ان قلت : ان الوجوب وان كان مجرد اعتبار وهو سهل المؤونة ولكن جعله للفعل غير المقدور لغو لعدم امكان امتثاله ، واللغو لا يصدر من الحكيم.

قلت : يكفي في ارتفاع اللغوية كون الغرض من جعل الوجوب ابراز المصلحة والشوق. اجل لو كان الغرض هو التحريك فهو مما لا يمكن ثبوته في حق

__________________

(١) وللقدرة الشرعية والعقلية مصطلح آخر وهو ان القدرة اذا اخذها الشارع في لسان الدليل سميت بالقدرة الشرعية واذا لم يأخذها بل العقل اعتبرها سميت بالقدرة العقلية.

٢١٣

غير القادر لان التحريك انما يصح فيما اذا جازت العقوبة عند عدم التحرك ، وحيث ان غير القادر لا تصح عقوبته عند عدم تحركه فلا يصح تحريكه (١). وبعد هذا نقول : بما ان ظاهر كل دليل هو جعل الحكم بداعي التحريك فمن اللازم اختصاص مفاد الادلة بالقادر (٢).

ما المقصود من القدرة :

ثم انه ماذا يقصد من كون الفعل مقدورا؟ المقصود كون الفعل تحت اختيار المكلف بحيث يمكنه فعله وتركه ، والخارج عن اختياره ـ اما لانه ضروري الوقوع كدقات القلب او ضروري الترك كالطيران الى السماء او لانه قد يحصل وقد لا يحصل ولكنه في حالات حصوله يحصل من دون اختيار المكلّف كما في نبع الماء من تحت الأرض فان الماء قد ينبع وقد لا ينبع ، وفي حالات نبعه ينبع من دون اختيار المكلّف (٣) ـ ليس بمقدور.

__________________

(١) قد يقال : كان بالامكان افادة المطلب بشكل مختصر فيقال : ان جعل الحكم بداعي التحريك يختص بالقادر باعتبار ان غيره لا يمكن ان يتحرك بلا حاجة الى اضافة الزوائد المذكورة.

والجواب : ستتضح ص ٣٠٩ من الحلقة الفائدة من اضافة الزوائد.

(٢) ومن الغريب ان بعض الاعلام المتأخرين منهم السيد الخوئي في هامش اجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٤ والمحاظرات ج ٤ ص ١٨٨ اختار ان القدرة معتبرة فقط في حكم العقل بلزوم الامتثال فان العقل لا يلزم بالامتثال الا مع القدرة على المتعلق ، واما في متعلق التكليف فهي ليست بمعتبره ابدا لا باقتضاء نفس التكليف ولا بحكم العقل حيث ان التكليف ليس الا عبارة عن اعتبار كون الفعل في ذمة المكلف ، وهو لا يقتضي اعتبار القدرة على المتعلق. هذا ما اختاره في مبحث الضد ، ولكنّا لم نره يلتزم بنتائج هذا الرأي في ابحاثه الاخرى.

(٣) كان من المناسب التمثيل بغير هذا المثال ، فان نبع الماء ليس فعلا للانسان ، والمفروض ان الكلام هو فيما يكون فعلا له ولكنه يصدر بغير اختياره ، ويمكن التمثيل بالنوم ، فانه فعل للانسان قد يصدر منه بلا اختيار. واذا كان هذا قابلا للمناقشة ايضا فيمكن ذكر امثلة اخرى.

٢١٤

ثمرة مدخلية القدرة في جعل الحكم :

ان اثمرة شرطية القدرة في استحقاق العقوبة واضح ، اذ يلزم عدم ثبوت العقوبة عند عدم القدرة بينما لو لم تكن شرطا يلزم ثبوتها.

والاشكال الذي يمكن طرحه ـ وقد اشير له في الحلقة الثانية ص ٢٣٨ ـ هو ان القدرة لو قلنا بكونها شرطا في الجعل والوجوب فما هي ثمرة ذلك؟ فان الوجوب سواء كان مشروطا بالقدرة ام لا فذاك غير مهم ، فانه حتى لو كان ثابتا في حق غير القادر فلا فائدة في ثبوته بعد عدم امكان عقوبته.

والجواب : يمكن تصوير ثمرة ثبوت الوجوب في حقه في مسألة وجوب القضاء وذلك باحد شكلين :

١ ـ لو فرض ان المكلّف لم يتمكن من الاتيان بالصلاة في وقتها المقرر وفرض ايضا ان الدليل الخاص دل على وجوب قضاء الصلاة لو لم يأت بها المكلّف فيما لو كان ملاك لها في وقتها فانه في مثل ذلك اذا خرج الوقت يحصل الشك في وجوب القضاء للشك في اشتمال الصلاة على الملاك ، فان كان لها ملاك وجب قضاؤها والا فلا ، ولكن ما هي الوسيلة لا ثبات اشتمالها على الملاك ليجب قضاؤها (١)؟ ان الوسيلة لا ثبات ذلك هي ان الوجوب اذا لم يكن مشروطا بالقدرة فيمكن التمسك بدليل « اقيموا الصلاة » لا ثبات وجوب الصلاة في حق غير القادر وبالتالي لا ثبات وجود الملاك بالدلالة الالتزامية ، واما اذا كان

__________________

(١) قد يقال : ان ثبوت الملاك في الصلاة داخل الوقت امر واضح لا يحتاج الى اثبات ، وهل يحتمل ان الصلاة التي هي عمود الدين ليس فيها ملاك.

والجواب : ان عهدة هذه الدعوى على مدعيها ، فنحن لا نسلم اشتمال الصلاة دائما على الملاك بل ذاك يحتاج الى مثبت بالشكل الذي اوضحناه.

٢١٥

مشروطا بالقدرة فلا يمكن ذلك ، لان الدلالة المطابقية على الوجوب اذا سقطت عن الحجية سقطت الدلالة الالتزامية عنها ايضا.

٢ ـ ان يفرض ان فعلا معينا لم يكن المكلّف قادرا عليه ولكنه صدر منه صدفة وبلا اختيار ـ كما لو فرض ان الوالد كلف ولده بتنظيف غرفته ومرت على الولد فترة لم يتمكن لانحراف صحته من التنظيف ولكنه حالة النوم حصل منه ، اذ الانسان حالة النوم قد تصدر منه افعال لا يتمكن منها حالة اليقظة ـ ففي مثله هل يكفي الفعل المذكور في سقوط الوجوب او يبقى ويلزم القضاء بعد الوقت؟ ان الثمرة هنا تظهر فلو لم تكن القدرة شرطا في الوجوب فيمكن التمسك بدليل وجوب الفعل لا ثبات الوجوب وبالتالى لا ثبات كون الفعل الصادر مصداقا للواجب ويكون اتيانه مسقطا للوجوب وللقضاء ، اما اذا كانت القدرة شرطا في الوجوب فلا يمكن التمسك بدليل الوجوب لا ثبات الوجوب ، وبالتالي لا يمكن اثبات ان الفعل المأتي به واجب ومسقط للقضاء الا اذا كانت هناك قاعدة اخرى ـ سواء كانت اصلا عمليا ام امارة ـ تقتضي كونه مسقطا للقضاء.

وبعد اتضاح هاتين الثمرتين نلفت النظر الى الفارق بينهما ، وهو أمران :

أ ـ ان المفروض في الثمرة الاولى عدم اتيان المكلّف بفعل بينما المفروض في الثانية اتيانه به.

ب ـ انه في الاولى يراد اثبات وجوب القضاء بينما في الثانية يراد اثبات سقوط القضاء.

قوله ص ٣٠٣ س ٢ هو المصلحة الداعية ... الخ : ذكر المصلحة من باب المثال والا فقد يكون الملاك هو المفسدة الداعية الى التحريم.

قوله ص ٣٠٣ س ٣ من ادراك تلك المصلحة : الادراك هو العلم. ووجه

٢١٦

التقييد به واضح فانه لا يحصل الشوق لشيء لمجرد وجود المصلحة فيه واقعا بل لا بدّ من العلم بوجودها ، فالمريض اذا لم يعلم بمرضه لا يشتاق لاستعمال الدواء. وهذا معنى ما يقال من ان المصلحة بوجودها العلمي توجب الشوق لا بوجودها الواقعي.

قوله ص ٣٠٤ س ٢ كذلك : اي كشرط فيهما.

قوله ص ٣٠٤ س ٥ بصورة مجردة : اي مجردة عن داعي التحريك بان كانت متمحضة لابراز المصلحة والشوق.

قوله ص ٣٠٤ س ٧ وقد يوجه ... الخ : هذا دفع لمحذور اللغوية المشار اليه سابقا.

قوله ص ٣٠٤ س ٨ على الاطلاق : اي حتى في حق العاجز ، وقوله « في حق الجميع » اي حتى في حق العاجز.

قوله ص ٣٠٤ س ١٠ انما هو بسبب الادانة : اي لا يصح التحريك الا في مورد يمكن فيه العقاب لو لم يتحرك فيه المكلّف.

قوله ص ٣٠٤ س ١١ وحكم العقل بالمسؤولية : عطف تفسير للادانة.

قوله ص ٣٠٤ س ١٧ والقدرة انما تتحقق : هذا اشارة الى ما اوضحناه تحت عنوان « ما المقصود من القدرة ».

قوله ص ٣٠٥ س ٢ كذلك : اي تكوينا.

قوله ص ٣٠٥ س ٣ ولم يقع : الصواب : ولا يقع.

قوله ص ٣٠٥ س ١٣ الذي هو مفاد الدليل : صفة لجعل الحكم.

قوله ص ٣٠٥ س ١٣ باطلاق الدليل : انما عبر بكلمة ( اطلاق ) باعتبار ان ثبوت اصل الوجوب في حق القادر معلوم ، وانما يراد التمسك باطلاقه لاثبات

٢١٧

شمول الوجوب للعاجز.

قوله ص ٣٠٥ س ١٥ ومبادىء الحكم له : عطف تفسير للملاك ، وضمير له يرجع الى العاجز.

قوله ص ٣٠٥ س ١٦ وبهذا تعرف : الصواب : يعرف.

قوله ص ٣٠٦ س ٩ بمبادئه : ذكر المبادىء باعتبار ان ثبوت الوجوب بلا مبادىء امر غير ممكن.

قوله ص ٣٠٦ س ١٢ بدليل : الصواب : بالدليل ، اي بدليل الواجب.

قوله ص ٣٠٦ س ١٣ من طلب حاله : اي انه مسقط للقضاء او غير مسقط له.

حالات ارتفاع القدرة قوله ص ٣٠٦ س ١٥ ثم ان القدرة التي ... الخ :

تقدم ان القدرة شرط في موردين : العقاب والتكليف بداعي التحريك ، فبدونها لا يصح العقاب كما ولا يصح التكليف بداعي التحريك ، وهذا واضح ، ولكن قد يفرض ان المكلّف يدخل عليه وقت الصلاة مثلا وهو قادر عليها غير انه بعد فترة تزول قدرته ، والسبب في زوال القدرة احد امور ثلاثة :

١ ـ التواني في اداء الواجب حتى ينتهي الوقت ، وفي مثله يسقط الأمر جزما بسبب العصيان ، فالقدرة على فعل الواجب زالت بسبب العصيان.

٢ ـ اراقة الماء مثلا عمدا وبلا مبرر وبالتالي ازالة القدرة على اداء الصلاة الوضوئية بلا مسوغ.

٣ ـ انعدام الماء وسط الوقت بلا تسبيب من المكلّف بل صدفة.

٢١٨

وبعد اتضاح هذا نسأل : هل يستحق المكلّف العقاب في الحالات الثلاث المذكورة؟ نعم يستحق ذلك في الحالة الاولى والثانية ، اذ في الاولى تماهل حتى انتهى الوقت وزالت قدرته ، وفي الثانية اراق الماء بلا مبرر وازال القدرة عن نفسه بعد ما كانت موجودة ، ويكفي ثبوت القدرة اول الوقت في استحقاق العقاب.

واما في الحالة الثالثة فلا بدّ من التفصيل بين علم المكلّف بان الماء سينعدم بعد قليل ومع ذلك يسوّف حتى ينعدم وبين ما اذا لم يعلم بذلك ، فعلى الاول يستحق العقاب دونه على الثاني.

والخلاصة : ان العقل والعقلاء يحكمون في الحالات الثلاث المذكورة باستحقاق المكلّف للعقاب ، فانه وان كان مضطرا لترك الوضوء مثلا الا ان ذلك بسوء اختياره ، والاضطرار الناشىء من سوء الاختيار لا يتنافى واستحقاق العقوبة.

وللمتكلمين والاصوليين عبارة مشهورة تشير لذلك هي : ان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ، اي ان فقدان القدرة اذا كان بسوء الاختيار فالمكلّف يستحق العقاب ، فان استحقاقه لا يتوقف على ثبوت قدرته في تمام الوقت. اذن الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي ـ اي لا ينفي ـ الاختيار والقدرة بل هي موجودة بلحاظ استحقاق العقاب ، لان وجودها اول الوقت يكفي في ذلك.

وهل يسقط التكليف عند الاضطرار بسوء الاختيار :

ذكرنا ان المكلّف اذا اراق الماء او عصى حتى انتهى الوقت كان مستحقا

٢١٩

للعقاب ولكن هل يصح توجيه التكليف بالوضوء مثلا له او انه بعد الاراقة لا يبقى خطاب ( توضأ ) موجها له ، وبكلمة اخرى : حينما نقول ان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار فهل المقصود انه لا ينافيه من ناحية العقاب فقط او من ناحية التكليف ايضا؟ المعروف سقوط التكليف لانه بعد الاراقة لا يكون المكلّف قادرا على الوضوء ومعه كيف يقال له توضأ والحال ان تحريك من لا يتمكن من التحرك امر غير معقول ، اذن العقاب حالة الاضطرار بسوء الاختيار وان كان معقولا الا ان التكليف غير معقول ، ولاجل هذا اضافوا لتلك العبارة المشهورة تكملة وقالوا : ان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينا فيه خطابا ، اي الاضطرار بسوء الاختيار لا يزيل استحقاق العقاب ويزيل الخطاب والتكليف حيث ان القدرة التي يتطلبها استحقاق العقاب ـ وهي القدرة اول الوقت ـ موجودة بينما القدرة التي يتطلبها الخطاب ـ وهي القدرة حين توجيه الخطاب ـ غير موجودة.

هذا ولكن السيد الشهيد خالف المشهور وذهب الى امكان بقاء التكليف ايضا ، فكما ان استحقاق العقاب ثابت فكذلك الخطاب ثابت. ووجه ذلك : ان المشهور ماذا يقصد من سقوط الخطاب؟ ان فيه احتمالين :

أ ـ ان التكليف بالوضوء باق بعد الاراقة ويبقى الشارع يقول للمكلّف توضأ ، الا ان التكليف المذكور لا يكون محركا نحو الوضوء ، فالساقط ليس هو الوجود الفعلي لخطاب توضأ بل محركيته وتأثيره وفاعليته ، واذا كان هذا هو المقصود للمشهور فهو امر مقبول ، اذ من الواضح ان خطاب توضأ لا يمكن ان يحرك من لا يتمكن من التحرك.

ب ـ ان التكليف ساقط ولا يبقى له وجود بعد الاراقة فهو ليس فقط لا

٢٢٠