الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

السيد سعيد كاظم العذاري

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

المؤلف:

السيد سعيد كاظم العذاري


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-81-1
الصفحات: ١١٢

كان فيه ثلاث : ... عالما بما يأمر به عالما بما ينهى عنه » (١).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك : إيّاك أن تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم » (٢).

وينبغي أن يطّلع المكلّف على السيرة النبوية وسيرة أهل البيت عليهم‌السلام وسيرة المصلحين ؛ ليكون أكثر خبرة في أداء العمل.

وأن يكون على معرفة بأحوال المجتمع وخصائص أفراده من حيث أفكارهم وعواطفهم وممارساتهم العملية ، وأن يكون مطّلعا على الأحداث والمواقف ليتخذ الاُسلوب الانجح في حركته الإصلاحية ، وأن يكون قادرا على تشخيص ما ينبغي أن يعمله تبعا للظروف من حيث اللين والشدّة ، أو الحيطة والحذر ، أو الاسراع والتأني. وأن يكون مطّلعا على الفوارق الطبيعية بين بلدٍ وآخر ، أو قوم وآخرين.

وعدم المعرفة بالاوضاع الاجتماعية والفردية ، أو بعدم استخدام الاُسلوب الأنجح ، أو عدم الاطّلاع على أساسيات المفاهيم والقيم الإسلامية ، قد تؤدي إلى نتائج عكسية ومنها النفور من الإسلام أو من الداعين له.

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح » (٣).

__________________

١) الجعفريات : ٨٨.

٢) الكافي ١ : ٤٢.

٣) تحف العقول : ٣٣.

٨١

وقال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعدا » (١).

ثانيا : القدوة :

إن لم يكن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قدوة لغيره فإنّ عمله لا يثمر ، ولا يستطيع أن ينفذ إلى القلوب لتتبناه الجوارح في ممارسات عملية ، فالناس ينظرون إلى شخصية من يريد اصلاحهم وتغييرهم ومدى تجسيده للمفاهيم والقيم التي يدعوهم إلى التمسك بها ، ومقدار ابتعاده عن النواهي التي يدعو للانتهاء عنها.

قال تعالى : « كَبُرَ مَقتا عِندَ اللّه أن تَقُولُوا مَالا تَفعَلُونَ » (٢).

وقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا بن مسعود لا تكوننَّ ممّن يهدي الناس إلى الخير ويأمرهم بالخير وهو غافل عنه » (٣).

ودعا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام إلى تجسيد المفاهيم والقيم في النفس والارادة والسلوك العملي قبل دعوة الناس إليها ، فقال عليه‌السلام : « ائتمروا بالمعروف وأمروا به ، وتناهوا عن المنكر وانهوا عنه » (٤).

« احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك » (٥).

__________________

١) الكافي ١ : ٤٣.

٢) سورة الصف : ٦١ / ٣.

٣) مكارم الاخلاق : ٤٥٧.

٤) تصنيف غرر الحكم : ٣٣٢.

٥) تصنيف غرر الحكم : ١٠٦.

٨٢

« كفى بالمرء غواية أن يأمر الناس بما لا يأتمر به ، وينهاهم عمّا لا ينتهي عنه » (١).

وعدم الالتزام بموارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل الآمرين به والناهين عنه يكون حجة عليهم ، ولا ينتفع الناس بهم ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « من لم ينسلخ عن هواجسه ، ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ، ولم يهزم الشيطان ، ولم يدخل في كنف اللّه وأمان عصمته ؛ لا يصلح له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنّه إذا لم يكن بهذه الصفة ، فكلّما أظهر أمرا كان حجة عليه ، ولا ينتفع الناس به » (٢).

وقال عليه‌السلام : « فإنّ مثل الواعظ والمتعظ كاليقظان والراقد ، فمن استيقظ عن رقدته وغفلته ومخالفاته ومعاصيه ، صلح أن يوقظ غيره من ذلك الرقاد » (٣).

وقال عليه‌السلام : « كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ؛ ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير ، فإنّ ذلك داعية » (٤).

وقد جسّد أهل البيت عليهم‌السلام دور القدوة في حركتهم الاصلاحية والتغييرية.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أيُّها الناس ، إنّي واللّه ما أحثكم على طاعة إلاّ وأسبقكم إليها ، ولا أنهاكم عن معصية إلاّ وأتناهى قبلكم

__________________

١) تصنيف غرر الحكم : ٣٣٣.

٢) مستدرك الوسائل ١٢ : ٢٠٣.

٣) مستدرك الوسائل ١٢ : ٢٠٣.

٤) الكافي ٢ : ٧٨.

٨٣

عنها » (١).

وحينما دعا الإمام الحسين عليه‌السلام إلى الجهاد تجسيدا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تقدّم بنفسه وأهل بيته وعياله ، فكان قدوة لأصحابه في جميع قيم الايثار والتضحية ، والاخلاص للّه تعالى.

ثالثا : الشجاعة :

إنّ مواجهة الناس ومواجهة الاحداث والمواقف لتغييرها بالإسلام بحاجة إلى الشجاعة والاقدام ؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والداعي له سيصطدم بشهوات البعض ، وبالضعف النفسي لهم ، ويصطدم بالجاهلين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ويصطدم بالمنحرفين الذين يبغضون الصلاح والسمو الروحي والسلوكي ، ويصطدم بمخططات ومؤامرات أعداء الإسلام أو التيارات الفكرية المنحرفة التي لا يروق لها انتشار مبادئ الإسلام في المجتمع ، ويصطدم بالقوى الشريرة التي تقابله بالاذى والتكذيب والاستهزاء ، ويصطدم بالمثبطين له عن الانطلاق في التكليف أو الاستمرار به.

ولذا فهو بحاجة إلى أن يتسلح بالشجاعة وان تكون احدى خصائصه وصفاته ؛ لينطلق دون خوف أو وجل أو تردد أو تراجع.

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يحقر أحدكم نفسه » ، قالوا : يا رسول اللّه كيف يحقر أحدنا نفسه؟ ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يرى أمرا للّه عليه فيه مقال ، ثم لا يقول فيه ، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ له يوم القيامة : ما منعك أن تقول في كذا

__________________

١) نهج البلاغة : ٢٥٠ ، الخطبة : ١٧٥.

٨٤

وكذا؟ فيقول : خشية الناس ، فيقول : فإيّاي كنتَ أحق أن تخشى » (١).

والشجاعة لها دور كبير في التغيير ؛ لأنّ الناس يتأثرون لا إراديا بالشجاع ، ويكون له تأثير لا شعوري على سلوكهم وممارساتهم العملية كما اثبتت التجارب الاجتماعية.

رابعا : الإيثار :

للايثار دور كبير في خلق الاجواء الروحية والنفسية لنمو حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالناس ستنشدّ عواطفهم ومشاعرهم للمتصفين بهذه الصفة ، وهذا الانشداد يمكن استثماره للتأثير على أفكارهم ومواقفهم العملية.

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا علي ما كرهته لنفسك فاكره لغيرك ، وما احببته لنفسك فاحببه لأخيك ، تكن عادلاً في حكمك ، مقسطا في عدلك ، محببا في أهل السماء ، مودودا في صدور أهل الأرض » (٢).

وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « بالإيثار يُسترقّ الأحرار » (٣).

خامسا : الزهد :

الزهد في أموال الناس وممتلكاتهم ، والزهد الذاتي في الحياة الدنيا ، يساعد على زرع ثقة الناس بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، فيشعرون بانه لا يرجو دنيا ولا جاها في قيامه وتبنّيه لحركة الاصلاح

__________________

١) سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٢٨.

٢) تحف العقول : ١٢.

٣) تصنيف غرر الحكم : ٣٩٦.

٨٥

والتغيير ، وإنّما يعمل لذات المسؤولية تقربا إلى اللّه تعالى.

وبالزهد يكتسب محبة الناس ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « تحبّب إلى الناس بالزهد فيما بأيديهم تفز بالمحبة منهم » (١).

وبمحبة الناس إليه يستطيع التأثير على قلوبهم وارادتهم ، ليجعلها منسجمة مع مفاهيم وقيم الإسلام.

والطمع يمنع من ابداء الآراء أو النهي عن بعض الممارسات التي تصطدم مع آراء وممارسات الآخرين الذين يطمع المكلف بأموالهم خوفا من عدم الحصول عليها. قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الطمع يذهب الحكمة من قلوب العلماء » (٢). وغير الزاهد يستسلم للمغريات وقد يؤدي بالنهاية إلى تخلّيه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلّما ازدادت أمامه المغريات.

سادسا : البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام :

البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام تساعد على جذب الناس وامتلاك عواطفهم ومشاعرهم ، وتوجيهها توجيها رساليا ؛ لأنّ الناس غالبا ما يتأثرون بالاشخاص قبل التأثر بالافكار والقيم.

وفي ذلك قال إمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « طلاقة الوجه بالبشر والعطية وفعل البر وبذل التحية داعٍ إلى محبة البرية.

عليك بالبشاشة فإنّها حبالة المودّة.

__________________

١) تصنيف غرر الحكم : ٤٣٧.

٢) كنز العمال ٣ : ٤٩٥.

٨٦

عوّد لسانك لين الكلام وبذل السلام يكثر محبّوك ويقل مبغضوك.

من عذب لسانه كثر إخوانه » (١).

المبحث الثاني

الخصائص والصفات العملية والسلوكية

أولاً : المداراة :

يجد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر اصنافا من الناس يختلفون في طاقاتهم وامكاناتهم الفكرية والعاطفية والسلوكية ، فلابدّ وأن يتصف بالمداراة ليستطيع التأثير على تعدد أصناف الناس المنتمين إلى مدارس عقائدية وفكرية متنوعة ، والمتوزعين على ولاءات متعددة قبلية وقومية وطائفية.

ومداراة الناس من أولويات العمل في أوساطهم ، كما أكّد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك بقوله : « أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض » (٢).

« رأس العقل بعد الإيمان باللّه مداراة الناس في غير ترك الحق » (٣).

« رأس العقل المداراة ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في

__________________

١) تصنيف غرر الحكم : ٤٣٤ ـ ٤٣٦.

٢) الكافي ٢ : ١١٧.

٣) تحف العقول : ٢٩.

٨٧

الآخرة » (١).

وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من سالم الناس كثر اصدقاؤه وقلّ أعداؤه. المداراة أحمد الخلال. رأس الحكمة مداراة الناس » (٢).

وتتمثل المداراة بتكليم الناس على قدر عقولهم ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم » (٣). وأن يتحدث المكلف بكلام مفهوم من قبل الجميع بلا حاجة إلى استخدام العبارات الغامضة ، والمصطلحات غير الواضحة ، قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « أحسن الكلام ما زانه حُسنُ النظام ، وفهمه الخاص والعام » (٤).

ومن المداراة اختصار الكلام وعدم التطويل المؤدي إلى الملل ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الكلام كالدواء قليله ينفع وكثيره قاتل.

أقل المقال ، وقصّر الآمال ، ولا تقل ما يكسبك وزرا وينفِّر عنك حرا (٥).

ومن مصاديق المداراة ، مراعاة الدوافع النفسية للانحراف ، ومراعاة الضعف البشري وعدم ترتيب الأثر في بعض الحالات ، فحينما سرّب حاطب بن أبي بلتعة أخبار مسير رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفتح مكة إلى قريش دعاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له : « يا حاطب ، ما حملك على هذا؟ » فقال : يا رسول

__________________

١) كنز العمال ٣ : ٤٠٧.

٢) تصنيف غرر الحكم : ٤٤٥.

٣) أمالي الصدوق : ٣٤١.

٤) تصنيف غرر الحكم : ٢١٠.

٥) تصنيف غرر الحكم : ٢١١.

٨٨

اللّه ، أما واللّه إنّي لمؤمن باللّه ورسوله ، ما غيّرت ولا بدّلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل وعشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم ، ولم يستجب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول عمر بن الخطاب ، حينما قال : (دعني فلأضرب عنقه ، فإنّ الرجل قد نافق) (١).

وينبغي ان تكون المداراة في (غير ترك الحق) كما تقدم الحديث عنه.

ومن المداراة كشف الحقائق في حال التشكيك بشخص الآمر والناهي ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في وصيته لأحد ولاته ـ : « وان ظنّت الرعية بك حيفا ، فاصحر لهم بعذرك ، واعدل عنك ظنونهم باصحارك ، فان تلك رياضة منك لنفسك ، ورفق منك برعيتك ، واعذار تبلغ فيه حاجتك من تقويمهم على الحقّ في خفض واجمال » (٢).

ثانيا : الرفق :

الإنسان غالبا ما يأنس بآرائه وأفكاره ومواقفه حتى تصبح جزءا من كيانه ، يرى فيها كرامته وكبرياءه ، ولا يتنازل عنها أحيانا ؛ لأنّه يرى في ذلك تنازلاً عن كرامته ، ولهذا فالتعامل مع هكذا إنسان يجب أن يكون برفق وهدوء ، لذا كان الرفق صفة وخاصية مستحسنة لدى المكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلاّ من كان فيه ثلاث : رفيقا بما يأمر به ، رفيقا بما ينهى عنه ... » (٣).

__________________

١) السيرة النبوية / ابن هشام ٤ : ٤١.

٢) تحف العقول : ٩٧.

٣) الجعفريات : ٨٨.

٨٩

والرفق ييسّر الصعاب ويذلل الشدائد ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الرفق ييسّر الصعاب ويسهّل شديد الأسباب.

من استعمل الرفق لان له الشديد » (١).

وجعل الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام الرفق من حقوق المستنصح فقال : « ... وحقّ المستنصح : أن تؤدي إليه النصيحة ، وليكن مذهبك الرحمة والرفق به » (٢).

وذكر الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام آثار عدم الرفق في الدعوة إلى الإسلام في قصة المسلم وجاره الكافر ، فبعد أن آمن بالإسلام اصطحبه إلى المسجد ليصلي معه الفجر في جماعة فلمّا صلّى : « قال له : لو قعدنا نذكر اللّه عزَّ وجلَّ حتى تطلع الشمس فقعد معه ، فقال له : لو تعلّمت القرآن إلى أن تزول الشمس وصمت اليوم كان أفضل ، فقعد معه ، وصام حتى صلّى الظهر والعصر ، فقال : لو صبرت حتى نصلي المغرب والعشاء الآخرة كان أفضل ، فقعد معه حتى صلّى المغرب والعشاء الآخرة ، ثم نهضا ، وقد بلغ مجهوده وحمل عليه ما لا يطيق ، فلمّا كان من الغد غدا عليه ، وهو يريد به مثل ما صنع بالأمس فدّق عليه الباب ثم قال له : اخرج حتّى نذهب إلى المسجد ، فأجابه : أن انصرف عنّي ، فإنّ هذا دين شديد لا أطيقه ».

ثم قال عليه‌السلام : « فلا تخرقوا بهم أما علمت أنّ إمارة بني أُميّة كانت بالسيف والعسف والجور ، وان امارتنا بالرفق والتآلف والوقار والتقيّة وحسن الخلطة

__________________

١) تصنيف غرر الحكم : ٢٤٤.

٢) مكارم الاخلاق : ٤٢٣.

٩٠

والورع والاجتهاد، فرغّبوا الناس في دينكم وفيما أنتم فيه (١) ».

ومن الرفق طرح المفاهيم والقيم الإسلامية بشكل شيّق وجذّاب ، وبمرونة ويسر ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يسّروا ولا تعسّروا ، وسكّنوا ولا تنفّروا (٢). فالإسلام واضح في عقيدته ومنهجه في الحياة فلا تعقيد ولا تعسير. قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا حدّثتم الناس عن ربّهم ، فلا تحدّثوهم بما يفزعهم ويشقّ عليهم » (٣).

فينبغي التحدث عن لطف اللّه تعالى ورأفته ورحمته وغفرانه أكثر من الحديث عن عقوبته وغضبه ؛ لكي لا يدّب اليأس والقنوط في نفوس المذنبين والعاصين.

وقال الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « قولوا ما قيل لكم ، وسلموا لما روي لكم ولا تكلِّفوا ما لم تُكلَّفوا ، فإنّما تبعته عليكم فيما كسبت أيديكم ولفظت ألسنتكم ، أو سبقت إليه غايتكم » (٤).

ومن الرفق عدم الاشارة إلى اسماء المخالفين لمفاهيم الإسلام وقيمه ، وعدم تشخيصهم أمام الناس ، لمنحهم فرصة جديدة للاستقامة ، فكان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد أن يوضّح اخطاء البعض يقول : « ما بال أقوام قالوا كذا وكذا » (٥).

__________________

١) الخصال ٢ : ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

٢) مسند أحمد بن حنبل ٣ : ٥٨٧.

٣) الفتح الكبير ١ : ١٠١.

٤) تحف العقول : ١٠٤.

٥) مسند أحمد بن حنبل ٤ : ١٢٦.

٩١

ورخّص صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الأمر ، فرغب عنه رجال ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما بال رجال آمرهم بالأمر يرغبون عنه ، واللّه إنّي لأعلمهم باللّه عزَّ وجلَّ وأشدّهم له خشية » (١).

ومن الرفق أيضا أن تكون الموعظة سرّا ، فإنّها أكثر ايقاعا وقبولاً ، قال الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : « من وعّظ أخاه سرّا فقد زانه ، ومن وعّظه علانية فقد شانه » (٢).

ثالثا : الاحسان :

الاحسان صفة محمودة يستطيع بها الإنسان أن يؤثر على عواطف الآخرين ومن ثم عقولهم وسلوكهم ؛ لأنّ النفس الإنسانية مجبولة على حب من أحسن إليها.

والإحسان يؤدي إلى كسب ودّ الآخرين وثقتهم ، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « بالاحسان تملك القلوب.

بالإحسان تسترقّ الرقاب.

من كثر احسانه كثر خدمه وأعوانه.

احسن إلى المسيء تملكه » (٣).

فالاحسان الذي يرافق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يساعده في استهواء الآخرين وشدّهم إلى ما يمليه عليهم من أفكار وقيم ، ومن

__________________

١) مسند أحمد بن حنبل ٧ : ٢٦٠.

٢) تحف العقول : ٣٦٨.

٣) تصنيف غرر الحكم : ٣٨٥ ـ ٣٨٦ ، ٣٨٨.

٩٢

نصائح وارشادات ، ويدفعهم لمراجعة نفوسهم وسلوكهم ، واصلاحها حياءً أو قناعة في مقابل الاحسان إليهم.

فقد استطاع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤثر على الكثيرين ويوجههم للانتماء إلى الإسلام بالاحسان اليهم ، فقد أسلم مالك بن عون كبير هوازن لاحسان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه وأسلم عدي بن حاتم واخته بسبب الإحسان إليهم (١).

وقدم رجل المدينة وكان يبغض عليّا عليه‌السلام فقطع به ، ولم يكن له زاد ولا راحلة ، فشكا ذلك إلى بعض أهل المدينة ، فقال له : عليك بحسن بن علي ، فقال الرجل : ما لقيت هذا إلاّ في حسن وأبي حسن ، فقيل له : فإنّك لا تجد إلاّ خيرا منه ، فأتاه فشكا إليه ، فأمر له بزاد وراحلة ، فقال الرجل : اللّه أعلم حيث يجعل رسالته ، وقيل للإمام الحسن عليه‌السلام : (أتاك رجل يبغضك ويبغض أباك فأمرت له بزاد وراحلة)؟! ، قال عليه‌السلام : « أفلا اشتري عرضي منه بزاد وراحلة؟ » (٢).

رابعا : التعايش مع الناس :

من أهم الصفات التي تجعل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قادرا على الاصلاح والتغيير هي عدم الانعزال عن الناس ؛ لأنّ التكليف وأداء الواجب لا يقتصر على إلقاء الخطب في مجالس محدودة ، وإنّما هو حركة وعمل دؤوب في وسط الناس ، يشاركهم في أعمالهم ، ويعيش معهم كواحد منهم يفرح لافراحهم ويحزن لأحزانهم ، ويكون شريكا لهم في

__________________

١) السيرة النبوية / ابن هشام ٤ : ١٣٣ ، ٢٢٦.

٢) مختصر تاريخ دمشق ٧ : ٢٦.

٩٣

آمالهم وآلامهم ، وهذه الصفة تجعله قادرا على التأثير على أفكارهم وعواطفهم وممارساتهم العملية ، فقد كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعود المريض ، ويتبع الجنازة ، ويجيب دعوة المملوك (١).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطي كلاً من جلسائه نصيبه ، حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه. وكان يضحك ممّا يضحكون ويتعجب مما يتعجبون (٢).

فعن زيد بن ثابت قال : كنّا إذا جلسنا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن أخذنا في حديث في ذكر الآخرة أخذ معنا ، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا ، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا (٣).

وينبغي أن لا تكون لقاءاته مجرد أحاديث ، وأقوال خطابية ، مقتصرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويكون الآخرون مجرد مستمعين ، بل ينبغي أن يسمع منهم مثل ما يسمعون منه ، ويستمع إلى اقتراحاتهم وتوجيهاتهم ، فلا ينبغي أن يكون الحديث من جانب واحد يصدر من الأعلى إلى الأدنى.

خامسا : الصبر والحلم :

إنّ طريق الدعوة والاصلاح والتغيير طريق طويل مليء بالمعوقات والعراقيل ، فلا بدّ وأن يتحلّى من تبنّاه بصفة الصبر ، ولابدّ وان يتحمل التكاليف المترتبة عليه ، وان يصبر على ردود الأفعال الاجتماعية

__________________

١) مكارم الأخلاق : ١٥.

٢) مكارم الأخلاق : ١٤ ـ ١٥.

٣) مكارم الأخلاق : ٢١.

٩٤

والدوافع النفسية التي تدعوه إلى الراحة والهدوء.

فعليه يجب أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر صابرا على طول الطريق ، رغم كثرة المعوقات والمثبطات ؛ يصبر على التكذيب والاستهزاء والأذى المادي والمعنوي ، ويصبر أمام ضغط النفس التي تروم حب الراحة والسكينة ، وان يصبر على الوحشة في حالة فقدان الناصر والمعين.

قال تعالى : « وَاصبِر عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهجُرهُم هَجرا جَمِيلاً » (١).

وقال تعالى : « وَاصبِر عَلى مَا أصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِن عَزمِ الاُمُورِ » (٢).

ولا بدّ من صبرٍ على الشدائد المحيطة بالمصلح والمغيّر ، فقد حدّد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الشدائد بقوله : « المؤمن بين خمس شدائد : مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه ، وكافر يقاتله ، وشيطان يضلّه ، ونفس تنازعه » (٣).

كما أن عليه التصبّر والاستمرار في حركته ، قال تعالى : « يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ » (٤).

وينبغي هنا أن يكون الصابر حليما حتى ينال احترام وتقدير الآخرين ، ويملك قلوبهم بحلمه.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « بالحلم تكثر الأنصار.

__________________

١) سورة المزمل : ٧٣ / ١٠.

٢) سورة لقمان : ٣١ / ١٧.

٣) المحجة البيضاء ٥ : ١١٥.

٤) سورة آل عمران : ٣ / ٢٠٠.

٩٥

بالاحتمال والحلم يكون لك النّاس أنصارا وأعوانا.

أُحْلُمْ تُكْرَمْ.

ضادّوا الغضب بالحلم تحمدوا عواقبكم في كلِّ أمر » (١).

والصبر هو أهم وسائل الاستمرار في الدعوة ، فقد صبر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة عشر عاما على التكذيب والاستهزاء والأذى ، وصبر على المغريات والمساومات ، وصبر على أذى أهل الكتاب وأذى المنافقين ، وأذى أصحابه في العهد المدني ، وصبر أمير المؤمنين عليه‌السلام على ازاحته من منصبه ، وصبر الإمام الحسين عليه‌السلام في حركته حتّى انه قدّم أولاده وأهل بيته صابرا محتسبا من أجل اعلاء كلمة اللّه تعالى.

سادسا : عدم الانشغال في امور هامشية :

من الخصائص التي ينبغي أن يعتمدها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هي الاستمرار في أداء التكليف والمسؤولية ، وعدم الانشغال بامور هامشية تقضي على الوقت وتصرف العمل عن هدفه ، وتحرفه عن مساره ، وهو مدعو مع هذا للاعراض عن الاشخاص والمواقف التي تشغله عن أداء الواجب. قال تعالى : « خُذِ العَفوَ وأمُر بِالعُرفِ وأعرِض عَنِ الجاهِلينَ » (٢).

والاعراض هو الترك والاهمال ، وعدم الدخول في جدال يضيع معه الوقت والجهد دون ان يحقق شيئا في طريق الواجب.

__________________

١) تصنيف غرر الحكم : ٢٨٧.

٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٩٩.

٩٦

ونهى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الدخول في الخصومات ، والمراء فقال : « المخاصمة تبدي سفه الرجل ولا تزيد في حقّه » (١).

« جماع الشر اللجاج وكثرة المماراة » (٢).

وللخصومة آثار سلبية أشار إليها الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام بقوله : « إياكم والخصومة في الدين ، فإنّها تشغل القلب عن ذكر اللّه عزَّ وجلَّ ، وتورث النفاق ، وتكسب الضغائن ، وتستجيز الكذب » (٣).

سابعا : القدرة على التقييم الموضوعي :

التقييم الموضوعي للاشخاص والوجودات يساهم في انجاح الاعمال والنشاطات المتعلقة بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فينبغي لمن تحمّل المسؤولية أن يقيّم الاشخاص على أسس وموازين اسلامية من حيث درجة قربهم وبعدهم عن الإسلام فكرا أو سلوكا ، فلكلِّ فرد تقييمه الخاص ليكون الموقف اتجاهه منسجما مع شخصيته.

والتقييم الموضوعي الذي يصحبه التعامل الموضوعي يساهم في تشجيع المحسنين على الاحسان والعمل الصالح ، ودفع المسيئين والمذنبين إلى العودة إلى الاستقامة.

قال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « لا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإن ذلك تزهيد لأهل الاحسان في الاحسان ،

__________________

١) تصنيف غرر الحكم : ٤٦١.

٢) تصنيف غرر الحكم : ٤٦٣.

٣) أمالي الصدوق : ٣٤٠.

٩٧

وتدريب لأهل الإساءة على الاساءة ، فألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه أدبا منك ينفعك اللّه به ، وتنفع به أعوانك » (١).

فالتقييم الموضوعي يستنهض الهمم ويستجيش العزائم ليبدأ الإنسان باصلاح وتغيير شخصيته في جميع مقوماتها : في الفكر والعاطفة والارادة ، من سيء إلى حسن ، ومن حسن إلى أحسن ، وموازين التقييم التي حددها القرآن الكريم هي : الايمان ، والتقوى ، والعلم ، والعمل الصالح.

فينبغي تقييم الاشخاص في ضوء من تلك الموازين ، والتعامل مع الناس في ضوء درجات قربهم وبعدهم عنها ، فلكلٍّ تقديره المناسب واحترامه المناسب قدر ما يمتلك من تلك المؤهلات.

__________________

١) تحف العقول : ٨٧.

٩٨

الفصل الرابع

آثار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ونتائج التخلّي عنهما

المبحث الأول

آثار الأداء

من خلال ما تقدّم من آيات كريمة وأحاديث شريفة نستطيع القول : إنّ أهم الآثار التي يحققها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي هداية الإنسان فردا كان أم مجتمعا هداية تجعله يحكّم مفاهيم الإسلام وقيمه في عقله وقلبه وارادته ؛ لتكون الأفكار والعواطف والممارسات العملية مطابقة للمنهج الالهي في الحياة ، عن طريق اقامة فرائض الدين القويم وشريعته السمحاء.

ومن خلال الالتزام باداء المسؤولية يتعمق الايمان باللّه تعالى في العقول والقلوب ، وتتوثق الصلة مع اللّه تعالى والتي تضفي السكينة والطمأنينة على جميع جوارح الإنسان ومقوّمات شخصيته في الفكر والعاطفة والسلوك ، فيتحرر من الالحاد واللاانتماء ، ومن الضياع

٩٩

والتخبط ، ومن الضلال والعمى والحيرة ، ويتخلص من الاوهام والخرافات ، ويتوجه إلى اللّه تعالى مستمدا منه العون والإسناد ، فيستشعر الامان والصفاء وهو عميق الصلة بمنعم الوجود ، وبالركن الركين الذي تتهاوى جميع مظاهر الإسناد أمامه ، وتستقيم نفسه ومشاعره.

ويكون الحفاظ على نظام الحياة على أحسن صورة عن طريق جلب المصالح ودرء المفاسد ، فيصبح المجتمع في قمة السعادة وهو يسعى إلى الاعمار والبناء الحضاري ، ويعمّ الخير والصلاح جميع مرافق الحياة ؛ لسمو المقاصد ونبل الاهداف المراد تقريرها وتحقيقها في الواقع.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ان قام به المجتمع فانه يحقق الأمن والسلام والطمأنينة ، فيقضى بواسطة ادائه على جميع ألوان العدوان والاضطهاد والاستغلال ، ويتحقق العدل ، وتحفظ كرامة الإنسان وحريته ، ويتم الحفاظ على سلامة الارواح والاعراض والأموال ، ويُقضى من خلال أدائه على جميع ألوان الاعتداء فيعيش الناس آمنين مطمئنين.

فمن آثار أداء مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعميق الاواصر الاسلامية ، وتوحيد الصف الاسلامي في ضوء وحدة العقيدة ووحدة السلوك ووحدة المصالح ووحدة المصير ، ويعيش المجتمع حياة الاخاء والتعاون والتآزر والتكاتف والتناصر.

ومن آثار أداء المسؤولية القضاء على جميع الوان الانحراف والفساد ، واشاعة الاخلاق الحسنة في العلاقات الاجتماعية لتقوم على قواعد وأسس الشريعة ، حيث الصدق والوفاء ، والتراحم والتناصح ، واداء الامانة ، والرفق والاحسان ، والانطلاق لإسعاد المجتمع.

١٠٠