الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

السيد سعيد كاظم العذاري

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

المؤلف:

السيد سعيد كاظم العذاري


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-81-1
الصفحات: ١١٢

بالمعروف والنهي عن المنكر مع سائر الواجبات الشرعية ، كما ورد في سورة الحج (١) ، وسورة لقمان (٢).

ثانيا : الروايات الشريفة :

الروايات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستفيضة ومتواترة عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ، وقد أكدت السيرة على ذلك ، حتى أصبح سكوت المعصوم عليه‌السلام عن عمل معينٍ دليلاً على جوازه ، فلو كان محرّما لنهى عنه ، وكانت سيرة المعصومين عليهم‌السلام تجسيدا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى اللّه تعالى ، بتصحيح اعتقاد الناس وتربية نفوسهم وتهذيب سلوكهم.

عن حذيفة عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « الإسلام ثمانية أسهم : الإسلام سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصوم سهم ، وحج البيت سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ، والجهاد في سبيل اللّه سهم ، وقد خاب من لا سهم له » (٣).

فقد عدّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جملة الواجبات وجعل الخيبة والخسران نتيجة لمن لا سهم له.

وسلب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صفة الإسلام والإيمان ممّن لا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فقال : « ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ، ويوقّر كبيرنا ، ويأمر

__________________

١) سورة الحج : ٢٢ / ٤١.

٢) سورة لقمان : ٣١ / ١٧.

٣) الترغيب والترهيب ٣ : ٢٣٢.

٢١

بالمعروف ، وينهى عن المنكر » (١) ومعنى السلب هو قلة الحظ من الدين. وصفة الإسلام والايمان لا تسلب إلاّ ممن لا يؤدي واجبا.

ودلّت الروايات على وجوب نشر العلم وتعليم الجهّال ، ونشر العلم يتحقّق بتبيان العقيدة الصحيحة وأحكام الشريعة كما أنزلت وهي مظهر من مظاهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما أخذ اللّه سبحانه على الجاهل أن يتعلّم حتى أخذ على العالم أن يُعَلم » (٢).

ومن مظاهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محاربة البدع وذلك عن طريق اثبات مخالفتها للعقيدة والشريعة ، ثم تبيان الرأي الأصوب والحكم الأصوب والسلوك المنسجم مع المبادئ والقيم الإسلامية. ومحاربة البدع واجبة كما أكّد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : « اذا ظهرت البدعة في أُمتي فليظهر العالم علمه ، فإن لم يفعل فعليه لعنة اللّه » (٣).

فلو لم يكن اظهار العلم واجبا لما استحقّ تاركه اللعنة.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض العظيمة التي تتوقف عليها اقامة جميع الفرائض كما بيّن ذلك الإمام محمد الباقر عليه‌السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ، ومنهاج الصالحين ، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم ، وتعمّر الأرض ، وينتصف من الاعداء ، ويستقيم الأمر ، فانكروا

__________________

١) الترغيب والترهيب ٣ : ٢٣٢. وبنحوه في : جامع أحاديث الشيعة ١٤ : ٣٩٦.

٢) تصنيف غرر الحكم : ٤٥.

٣) المحاسن : ٢٣١.

٢٢

بقلوبكم ، وألفظوا بألسنتكم ، وصكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في اللّه لومة لائم ... أوحى اللّه إلى شعيب النبي عليه‌السلام : اني لمعذب من قومك مئة ألف : أربعين ألفا من شرارهم ، وستين ألفا من خيارهم ، فقال : يا ربّ هؤلاء الاشرار ، فما بال الاخيار؟ فأوحى اللّه عزَّ وجلَّ إليه أنهم داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي » (١).

فقد بيّن عليه‌السلام ان الساكتين عن المعاصي بعدم مواجهتها بنهي عنها أو أمر بمعروف فقد استحقوا العذاب وان كانوا اخيارا ؛ لأنّهم تركوا واجبا ولم يؤدوه.

وقد تظافرت الروايات على أنّ اللّه تعالى يبغض من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وعلى نزول العذاب عليه ، فلو لم يكن واجبا لما ترتب بغض اللّه تعالى لمن تركه أو نزول عذابه عليه.

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ اللّه عزَّ وجلَّ ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له ، فقيل له : وما المؤمن الذي لا دين له؟ ، قال : الذي لا ينهى عن المنكر (٢).

فقد اجتمع فيه بغض اللّه له ، وسلب الدين منه.

وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : « كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : اذا أُمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلتأذن بوقاع من اللّه تعالى » (٣).

__________________

١) تهذيب الاحكام ٦ : ١٨٠ ـ ١٨١.

٢) الكافي ٥ : ٥٩.

٣) تهذيب الاحكام ٦ : ١٧٧.

٢٣

ورتب الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام نصر اللّه تعالى لمن نصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وخذلانه لمن خذلهما ، أي بالاداء والترك، فقال عليه‌السلام : « الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه تعالى ، فمن نصرهما أعزه اللّه تعالى ، ومن خذلهما خذله اللّه تعالى » (١).

وجعل عليه‌السلام عدم القيام بانكار المنكر مبارزة للّه بالعداوة ، فقال : « ... واذا رأى المنكر فلم ينكره ، وهو يقوى عليه ، فقد أحبّ أن يُعصى اللّه ، ومن أحبّ أن يُعصى اللّه ، فقد بارز اللّه بالعداوة ... » (٢).

وتترتب على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آثار وخيمة يوم القيامة ، بحيث لا تنفع الإنسان سائر عباداته ان كان غافلاً عن المواعظ الالهية ، فلم يقم بادائها أو الترويج لها واشاعتها بين الناس ، قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « وقد سبق إلى جنات عدن أقوام كانوا أكثر الناس صلاة وصياما، فإذا وصلوا إلى الباب ردّوهم عن الدخول، فقيل: بماذا ردّوا؟ ألم يكونوا في دار الدنيا قد صلّوا وصاموا وحجّوا؟ فإذا بالنداء من قبل الملك الأعلى جلّ وعلا : بلى قد كانوا ليس لأحد أكثر منهم صياما ولا صلاة ولا حجا ولا اعتمارا ، ولكنّهم غفلوا عن اللّه مواعظه » (٣).

ثالثا : سيرة المعصومين عليهم‌السلام :

صدع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة إلى اللّه تعالى ، بنبذ عبادة الاصنام ، والاستسلام له في العبودية ، والتعالي على مفاهيم وقيم الجاهلية ، فقد

__________________

١) الكافي ٥ : ٥٩.

٢) معاني الاخبار : ٢٥٣.

٣) ارشاد القلوب : ١٣.

٢٤

دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المعروف الاكبر وهو الإيمان باللّه تعالى وتوحيده ، ونهى عن المنكر الأكبر وهو الكفر والشرك ، فخاطب العقول ثم القلوب ثم الارادة ، ليكون الولاء للّه ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليكون السلوك والممارسات الاخلاقية منسجمة مع ما أراده اللّه تعالى.

فدعا إلى البر والتقوى ، وإلى الصدق والامانة ، وإلى العدل والرحمة ، وحفظ العهد ، ومطابقة القول للفعل.

ونهى عن الشر والعصيان ، وعن الكذب والخيانة ، وعن الظلم والاعتداء ، وعن الخداع والغش ، وعن سائر الموبقات.

ودعا إلى حسن العلاقات الاجتماعية ونهى عن التقاطع والتدابر.

وكان يدعو الكفار كما يدعو أهل الكتاب ، وكان يذكّر المسلمين بالفضائل والمكارم ، وينهاهم عن الرذائل وسوء الأفعال ، ولم يتوقف عن ذلك في جميع مراحل حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي جميع الظروف .. في مرحلة العهد المكّي حينما كان مضطهدا ومطاردا من قبل المشركين ، وفي مرحلة العهد المدني بعد تأسيسه للدولة الإسلامية.

وتابع أمير المؤمنين عليه‌السلام سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القيام باداء مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع مراحل حياته ، إلى أن وصل إلى مرحلة المجابهة بالسيف على من ارتكبوا المنكر الاكبر وهو التمرد على الامامة الحقّة ، وارادوا شق عصا المسلمين ، فأجاب عليه‌السلام من اعترض عليه في مواجهته العسكرية للبغاة في صفيّن : « ... ولقد أهمّني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينيه ، فلم أجد إلاّ القتال أو الكفر بما أنزل اللّه على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٥

إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة الاغلال في جهنّم » (١).

ومن وصيته عليه‌السلام لابنه محمد بن الحنفية : « ... وكن آخذ الناس بما تأمر به، وأكفّ الناس عمّا تنهى عنه، وأمر بالمعروف تكن من أهله ، فإنّ استتمام الامور عند اللّه تبارك وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٢) ».

وحينما وجد الإمام الحسين عليه‌السلام أنّ المنكر قد استحوذ على الحاكم وعلى أجهزته الحكومية ، وتفشى في الاُمّة ، بتحريف المفاهيم وتغيير معالم الدين ، وارتكاب الموبقات بشكل علني دون مراعاة للحرمات والمقدسات ، قام باداء مسؤوليته في أعلى مراتبها ، وهي القيام بالسيف لأنّه الاُسلوب الأمثل للحفاظ على مفاهيم وقيم الرسالة الإسلامية.

وقد أعلن عن أهداف ثورته في وصيته الخالدة: « ... وانّي لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أُمّة جدّي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة أبي علي بن أبي طالب ... (٣) ».

وفي جميع مراحل تحركه كان يدعو إلى أداء الواجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقد خطب في جيش الحرّ بن يزيد الرياحي قائلاً : « أيُّها الناس إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من رأى سلطانا جائرا

__________________

١) وقعة صفين : ٤٧٤.

٢) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٨٧ / ٥٨٣٤.

٣) الفتوح ٥ : ٣٣.

٢٦

مستحلاً لحرم اللّه ناكثا لعهد اللّه مخالفا لسُنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل في عباد اللّه بالأثم والعدوان ، فلم يغيّر ما عليه بفعلٍ ولا قول كان حقا على اللّه أن يدخله مدخله » (١).

وكان بقية الأئمة عليهم‌السلام يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مستخدمين مختلف الأساليب في اصلاح الاُمّة وتغييرها ، بنشر الأحاديث الشريفة عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبنشر العلم ، وباقامة المناظرات مع التيارات المنحرفة ، وببناء الكتلة الصالحة لتوسيع دائرة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. وقد تعرضوا لشتى ألوان الأذى والمضايقة والاعتقال ثم القتل الهادئ عن طريق السم ؛ لأنّ حكّام زمانهم لا يروق لهم أن يقوم أحد بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان كانت بالقول فقط.

شروط الوجوب :

يختلف الناس فيما بينهم من حيث الطاقات والامكانيات البدنية والعقلية والروحية ، وفي ضوء ذلك يختلفون في مراتب التكليف والمسؤولية التي تتناسب طرديا مع الطاقات والامكانيات.

ومن هنا فوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعيّن على القادرين على القيام به وادائه بالصورة التي تحقق الهدف المناط به ، ومن شروط الوجوب :

أولاً : العلم بالمعروف وبالمنكر : يجب الأمر بالمعروف والنهي عن

__________________

١) الكامل في التاريخ ٤ : ٤٨.

٢٧

المنكر على العالم بهما ، الذي يعرف مصاديقهما ومواردهما ، وقادر على التشخيص والتمييز بين الأقوال والافعال والممارسات السلوكية ، ويتناسب الوجوب مع درجة العلم والاطلاع ، فوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون آكدا على الفقيه ثم المتفقه في الدين.

سُئل الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الاُمّة جميعا؟ فقال : « لا ، فقيل له : ولِمَ؟ قال : إنّما هو على القوي المطاع ، العالم بالمعروف من المنكر ، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أي من أي يقول من الحق إلى الباطل ، والدليل على ذلك كتاب اللّه عزَّ وجلَّ قوله : « وَلتكُن مِّنكُم أُمّةٌ يَدعُونَ إلى الخَيرِ ويأمُرُونَ بالمعرُوفِ وَيَنهونَ عَنِ المُنكَرِ » (١) ، فهذا خاص غير عام ».

كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : « وَمِن قَومِ مُوسى أُمّةٌ يَهدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعدِلُونَ » (٢) ، ولم يقل : على أُمّة موسى ولا على كل قومه ، وهم يومئذٍ أمم مختلفة ... (٣).

ثانيا : القدرة على التأثير : يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من له القدرة على التأثير، بان يكون قوي النفس قوي الارادة ، قويّ البيان ، له اطلاع كامل على مستويات الناس وطاقاتهم العقلية والنفسية ، ويستطيع الصمود أمام العقبات والتعقيدات التي تواجهه ، وله قوة في شخصيته يستطيع من خلالها التأثير على الآخرين ، بالقول والفعل ،

__________________

١) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٤.

٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٨.

٣) الكافي ٥ : ٥٩ ـ ٦٠.

٢٨

وبالايحاء والتلقين.

لذا نجد ان على رأس الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم الأنبياء والأوصياء والأئمة والفقهاء ، ومن له سلطة روحية أو سياسية أو له مكانة اجتماعية مرموقة.

ومن مصاديق القدرة هي القدرة البدنية في خصوص مرتبة استخدام القوة ، فالمريض والعاجز والضعيف لا يتعيّن عليه العمل المتوقف على القوة.

وعليه فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجبان باللسان واليد (إذا تمكن المكلف من ذلك) (١).

ثالثا : القطع بالتأثير أو احتماله : إذا نظرنا إلى طبيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نجده تكليفا ليس بالهيّن ولا باليسير ؛ لأنّه يصطدم بشهوات الناس ونزواتهم ، ويصطدم بمصالح البعض ومنافعهم الذاتية الضيقة ، ويصطدم بالغرور والكبرياء اللذين تحملهما النفس الانسانية.

والناس يختلفون فيما بينهم تجاه المعروف والمنكر ، فالبعض يبحث عن الاستقامة في العقيدة والسلوك ، فهو يتأثر بما يقال له وبما يؤمر به أو ينهى عنه ، والبعض مكابر لا يذعن للحجّة وإن قطع بها ، والبعض منغمس في الانحراف ، ويبغض الاستقامة ، والبعض قد آنس بالانحراف العقائدي والسلوكي حتى أصبح جزءا من كيانه ؛ يجد فيه تحقيقا لمصالحه ورغباته ويرفض من يعارضها ويخالفها.

__________________

١) النهاية : ٢٩٩.

٢٩

ومن هنا يكون الوجوب مختصا بمن يقطع أو يحتمل تأثير أمره ونهيه على المقابل.

قال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « إنّما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ أو جاهل فيتعلم ، وأمّا صاحب سوط أو سيف فلا » (١).

فإذا وجد المكلّف مؤمنا أو جاهلاً يبحث عن الحقيقة فيجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أمّا المكابر الذي لا يروم الاستقامة في العقيدة والسلوك ، فلا يجب على المكلّف ان يأمره وينهاه ، ما دام غالقا لمنافذ الهداية في فكره وعاطفته وسلوكه.

وسُئل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حديث : « إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمامٍ جائر » ما معناه؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هذا على أن يأمره بعد معرفته وهو مع ذلك يقبل منه وإلاّ فلا » (٢).

وقد قامت سيرة المعصومين عليهم‌السلام على هذه القاعدة ، فأمير المؤمنين عليه‌السلام أكثر من نصحه لعثمان بن عفان ، وكان يأمره بالمعروف وينهاه عن الممارسات التي يمارسها مع المسلمين خلافا لسُنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتعيينه الولاة الجائرين والفاسقين ، وكان يحذّره من مروان وأمثاله ، ولكنّه حينما يئس من اصلاح وتغيير ممارساته قال له : « ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك » (٣).

رابعا : الأمن من الضرر : إنّ مهمة الدعوة الإسلامية المتجسدة بالأمر

__________________

١) الكافي ٥ : ٦٠.

٢) الكافي ٥ : ٦٠.

٣) الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٥ ـ ١٦٦.

٣٠

بالمعروف والنهي عن المنكر دعوة شاقة تواجه اصنافا من الناس يختلفون في الاستجابة ، فمنهم من يتفاعل معها ليغيّر مفاهيمه وقيمه وممارساته في ضوء ما يؤمر به ويُنهى عنه ، ومنهم من تصدّه شهواته ونوازعه عنها ، فيعرض عنها معاندا لا ينفتح قلبه لدلائل الهدى ، مصرا على انحرافه الفكري والعقائدي يقابل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بسخرية واستهزاء أو بالاعراض وعدم الاستماع.

ومنهم من يترقى به العناد والغرور والكبرياء إلى المواجهة العنيفة ، ويعمل على الحاق الاذى بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، وقد يصل الاذى إلى مرحلة الجرح أو التعويق أو القتل ، ففي مثل هذه الحالة فان الإنسان يسقط عنه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنّه مشروط بالأمن من الضرر سواء على نفسه أو على غيره.

قال الامام الصادق عليه‌السلام : « والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك ، ولم يخف على نفسه ولا على أصحابه » (١).

وكتب الامام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام للمأمون حينما سأله أن يكتب له محض الإسلام : « ... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان اذا امكن ، ولم يكن خيفة على النفس ... » (٢).

والضرر المقصود يحدّد من قبل المكلّف نفسه بعد تشخيصه للمصلحة والمفسدة المترتبة على قيامه بالتكليف أو عدمه ، فيقدّم أهون الضررين.

__________________

١) الخصال ٢ : ٦٠٩.

٢) عيون أخبار الرضا ٢ : ١٢١ ، ١٢٥.

٣١

والضرر لا يتحدد بوقت من الاوقات ، قال الشيخ الطوسي : ـ في ذكره لشروط الوجوب ـ : ( ... وعلم أنّه لا يؤدّي إلى ضررٍ عليه ولا على أحد من المؤمنين لا في الحال ولا في مستقبل الاوقات) (١).

شروط الترك :

شُرِّع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهداية الناس وارشادهم ، وتغيير المحتوى الداخلي للنفس البشرية وما تحمل من أفكار ومشاعر ؛ لتكون حاكمة على الممارسات العملية من سلوك صالح واخلاق فاضلة وعلاقات حسنة.

والغاية منهما تخليص النفوس من ظلمات الاوهام والانحرافات العقائدية ، وتحريرها من ربقة الشهوات ؛ لتنتصر على الهوى وتتغلب على الشهوة ، عن طريق استحثاث الطاقة الكامنة في كيان الانسان ، وانماء القدرات الممكنة النماء.

كلّ ذلك يتم عن طريق الانذار والايقاظ بالحجة والبرهان والترغيب بالاستقامة والسمو والتكامل ، فإذا أغلق الإنسان منافذ الهداية في كيانه ، ورفض الاستماع أو التلقي غرورا وكبرا ، ولم يستجب للموعظة المراد منها تطهير القلب وتزكية النفس وتحسين الاخلاق ، أو آنس بواقعه العقائدي والسلوكي ، أو كان جاهلاً بما يصلحه جهلاً مركبا مطبقا على كيانه ، فإذا لم توقظه موحيات الايمان وموجبات الهداية ، ورفضت نفسه الوضيعة السمو إلى الكمال ، فانّ المواعظ والارشادات المصحوبة بعدم الاستجابة ستكون اضاعة للوقت ، وصرفا للجهد في غير محلّه.

__________________

١) النهاية : ٢٩٩.

٣٢

وفي هذه الحالة فإنّ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر سيكون مخيّرا بين الاستمرار في اداء مسؤوليته ، وبين تركها إلى أن تحين الفرص المناسبة لها.

ويمكن تحديد شروط ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنقاط التالية :

أولاً : تجذّر الانحراف : إذا تجذّر الانحراف وأصبح جزءا من كيان الإنسان ، ويئس المكلّف من اصلاحه وتغييره ، فيجوز له ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لانّه لا يغيّر من الواقع شيئا ، بل قد يؤدي إلى نتائج سلبية على المكلّف نفسه.

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى اذا رأيت شُحّا مطاعا ، وهوىً مُتّبعا ، ودنيا مؤثرة ، واعجاب كلّ ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا يدان لك به ، فعليك خويصة نفسك ، فإنّ من ورائكم أيام الصبر. الصبر فيهنَّ على مثل قبض على الجمر. للعامل فيهنَّ مثل أجر خمسين رجلاً يعملون بمثل عمله » (١).

ثانيا : انحراف الأكابر : من طبيعة النفس البشرية أنّها تذعن وتخضع للأكابر والمتنفذين وتقتبس المفاهيم والقيم من الشخصيات البارزة في المجتمع ، والمؤثرة فيه ؛ لامتلاكها خصائص التأثير الذاتية والعملية ، كالملوك والعلماء ورؤساء القبائل والوجودات الاجتماعية ، فإذا انحرف هؤلاء انحرف المجتمع ، وهذه حقيقة ثابتة في جميع المجتمعات.

__________________

١) سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٣١ / ٤٠١٤.

٣٣

ففي مثل هذه الحالة يتفشى الانحراف ويستشري ويصعب اصلاحه وتغييره ، ولا يكون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي تأثير في العقول والنفوس.

وفي مثل هذا الظرف يكون الواجب على كلِّ مؤمن عالمٍ بالمعروف والمنكر أن يحافظ على نفسه بأن يروّضها بالعمل بالمعروف والترك للمنكر حتى لا يؤثّر فيه الجو العام في المجتمع ، وأن يحافظ أيضا على أهله وذويه ومن يهمّه أمره الذين ينصاعون لأوامره ونواهيه ، صونا لهم من الانحراف والانجراف.

ثالثا : وقوع الفتن : حينما تكون الاهواء حاكمة على الافكار والمواقف دون الرجوع إلى الاُسس الثابتة للمنهج الاسلامي ، وحينما تبتدع الاحكام المخالفة لكتاب اللّه تعالى ، ويتحكم التعصب بولاء الانسان والمجتمع بعيدا عن أسس الولاء التي حددتها الشريعة الإسلامية ؛ فان الفتن ستكون هي الظاهرة القائمة المتفشية في المجتمع الاسلامي ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتَّبع ، وأحكام تُبتدع ، يُخالف فيها كتاب اللّه ، ويتولى عليها رجالٌ رجالاً ، على غير دين اللّه ... » (١).

وإذا وقعت الفتن فسيعيش المجتمع ظاهرة الاضطراب الفكري والنفسي والسلوكي بتبادل النظرة السلبية ، والموقف المتشنج ، ويدخل في صراع دائم مستمر بتبادل الاتهامات ودفعها ، ويصبح النبز بالكفر والانحراف والفسق هو الحاكم على العلاقات دون الاستناد إلى الاُصول الواضحة للمنهج الإسلامي.

__________________

١) نهج البلاغة : ٨٨ ، الخطبة / ٥٠.

٣٤

ويدفع التعصب أفراد المجتمع إلى اتخاذ المواقف تبعا للمتعصّبين له، ويختلط الحق بالباطل ، وتلتبس المفاهيم والقيم على الناس ، فيندفعون دون روية ودون بحث عن الحقيقة أو رغبة في المعرفة ، ويتخلل اندفاعهم جدال لا ينتهي إلى شيء ، تصحبه المواقف المتشنجة من اتهامات وتعيير وتحقير ، فتعمى بصائر المتعصّبين وتنغلق منافذ الهدى في عقولهم ونفوسهم ومواقفهم ، ففي مثل هذه الحالة لا تنفع معهم المواعظ والارشادات والنصائح ، ولا يدركون الخطر المحدق بهم ، بل يحسبون انهم يحسنون صنعا ، فاذا أغلقوا قلوبهم وانفصلوا عن مصدر الاشعاع الفكري والسلوكي ، فلا يجب على المكلفين حينئذٍ القيام بدورهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهم يرون المجتمع يعيش في غبش الاوهام وضباب الاهواء ، واضطراب الولاء القائم على اساس التعصب للاشخاص.

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ستكون فتن لا يستطيع المؤمن أن يغيّر فيها بيد ولا لسان » ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « وفيهم يومئذٍ مؤمنون » ، قال : « نعم ».

قال عليه‌السلام : « فينقص ذلك من ايمانهم شيئا؟ ».

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ، الاّ كما ينقص القطر من الصفا ، أنهم يكرهونه بقلوبهم » (١).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم ، وخفت أماناتهم ، وكانوا هكذا ـ وشبك بين أنامله ـ فالزم

__________________

١) مستدرك الوسائل ١٢ : ١٩.

٣٥

بيتك ، وأملك عليك لسانك ، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر ، وعليك بخاصة أمر نفسك ، ودع عنك أمر العامّة » (١).

والفتن المقصودة هي التي تقع بين أهل الضلال ، وإلاّ فالذي يقع بين أهل الحق وأهل الباطل لا يسمى فتنة بالمعنى الحقيقي ؛ لأنّ الموقف واضح لا شبهة فيه ، ويستطيع الإنسان ان يشخّص موقفه من الرجال ومن الوجودات ومن الاحداث ، ويجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لارجاع المخالفين إلى المنهج السليم والموقف الصحيح.

المبحث الثاني

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

جاء الإسلام من أجل هداية المجتمع الإنساني ، وايصاله إلى قمّة التكامل والسمو والارتقاء ؛ بتقرير المنهج الالهي في واقع الحياة ، وجعله الحاكم على أفكار الناس ، ومشاعرهم ، ومواقفهم ، لتتحول الافكار والتصورات والمفاهيم إلى صور متجسدة في الواقع ، ذات معالم ومواقف منظورة ومحسوسة.

ولا تتحقق هذه الهداية بمجرد نزول المفاهيم والقيم على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يقم بتبليغها للناس ومتابعة تطبيقها وتجسيدها في الواقع ، وخير وسيلة للتطبيق العملي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لذا جعل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من اللّه تعالى اثني عشر إماما عِدلاً للقرآن ، وهم

__________________

١) الفتح الكبير ١ : ١١٢.

٣٦

القرآن الناطق الذي يقوم بمهمة التطبيق في الواقع ، وفي جميع مجالات المنهج الالهي العقيدي والسلوكي ، وفي جميع مجالات مقومات الشخصية الانسانية : الفكر والعاطفة والسلوك.

فلأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والذي هو بحاجة إلى من يتبنّاه ويقوم به ليواصل المسيرة ويحقق البناء والإصلاح والتغيير الشامل ، لم يترك رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن وحده بمفاهيمه وقيمه وتشريعاته المجملة والظاهرة والباطنة ـ وهو المرشد الأول للمعروف والناهي عن المنكر ـ عرضة للأهواء والتفسير بالرأي .. ، بل ترك بجانبه ثقلاً آخر وهم أهل البيت عليهم‌السلام للنهوض بمهمة البيان واستمرار أداء الرسالة ، وتوجيه الاُمّة لصالح الأعمال وردعها عن منكر الفعل والقول.

قال الإمام محمد الباقر عليه‌السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين ، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم ، وتعمّر الأرض وينتصف من الاعداء ، ويستقيم الأمر .. » (١).

وتتناسب أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تناسبا طرديا مع أهمية الأهداف والغايات التي تتحقق من خلال القيام به ، والتي يمكن اجمالها بما يلي :

أولاً : نشر المفاهيم العقائدية والقيم التشريعية : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يهتدي الانسان إلى الفطرة السليمة ؛ بالايمان باللّه تعالى وتوحيده في التصورات والمشاعر والمواقف ، والايمان برسول

__________________

١) تهذيب الاحكام ٦ : ١٨٠.

٣٧

اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاقتداء به ، والايمان بإمامة أهل البيت عليهم‌السلام ، والايمان باليوم الآخر ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ... بعث فيهم رسله ، وواتر اليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول ... ولم يخلِ اللّه سبحانه خلقَهُ من نبي مرسلٍ ، أو كتابٍ مُنزَلٍ ، أو حجّة لازمة ، أو محجّة قائمة ... إلى أن بعث اللّه سبحانه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... فهداهم به من الضلالة ، وانقذهم بمكانه من الجهالة ... » (١).

وبرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهتدي الإنسان إلى القيم التشريعية ويطّلع على أُسسها وقواعدها ، وبه يزاول الاحكام في واقعه السلوكي ، وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : « إنّ اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثا ، ولم يترككم سُدىً ... أنزل عليكم الكتاب تبيانا لكلِّ شيء ، وعمَّرَ فيكم نبيّه أزمانا ، حتى أكمل له ولكم ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الذي رضي لنفسه ، وأنهى إليكم ـ على لسانه ـ محابَّهُ من الاعمال ومكارهه ، ونواهيه وأوامره ، وألقى إليكم المعذرة ، واتخذّ عليكم الحجّة ، وقدّم اليكم بالوعيد ، وانذركم بين يدي عذاب شديد ، فاستدركوا بقية أيامكم ... » (٢).

وبالعقيدة والشريعة الالهية تصل الاُمّة إلى التكامل والارتقاء والخير والسعادة ، وهي متوقفة على أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وتعاونوا على البر والتقوى ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات ، وسلّط بعضهم على بعض ، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في

__________________

١) نهج البلاغة : ٤٣ ـ ٤٤ ، الخطبة / ١.

٢) نهج البلاغة : ١١٧ ، الخطبة / ٨٦.

٣٨

السماء » (١).

وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتم القضاء على البدع وتحجيم الانحراف العقائدي والتشريعي ، وتثبيت الايمان في القلوب.

ثانيا : اصلاح الأخلاق : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتهيأ الاجواء الروحية والنفسية للانتصار على الاهواء والشهوات ، والتعالي على أثقال المطامع ؛ لأنّه يتتبع دخائل النفوس ، وينفذ إليها بالكلمة الطيبة والقول السديد.

فإنّ النفوس تتلقى وتستجيب لمن يريد تربيتها واصلاحها ، وإنّها لتتطلع إلى أفق أرحب واهتمامات أرفع ، وتتوجه إلى الفضائل والمكارم وحسن السيرة إذا ما تمّ تعاهدها بالمعروف ، وإبعادها عن ساحة المنكر.

والأمر بالمعروف يدفع إلى العمل الصالح بعد التعالي على جميع أغلال الانحراف والفساد ، فيصبح الانحراف والفساد فلتة عارضة وحادثة منقطعة ، تعود إلى الأصل وهو الاستقامة على المنهج الذي يريده اللّه تعالى.

عن أنس عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّ من الناس ناسا مفاتيح للخير مغاليق للشر ، وإنّ من الناس ناسا مفاتيح للشر مغاليق للخير ، فطوبى لمن جعل اللّه تعالى مفاتيح الخير على يديه ، وويل لمن جعل اللّه مفاتيح الشر على يديه ».

ويعني صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك : ان الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هو

__________________

١) المقنعة : ٨٠٨.

٣٩

مفتاح للخير ومغلاق للشر (١).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يساعد على العودة إلى الاستقامة بعد الانحراف ، وإلى الأمل بعد اليأس ، فبه يتم الحث على التوبة والاستغفار ، واستثمار الفرص الجديدة لاصلاح النفس وتهذيب الأخلاق.

ثالثا : نصرة المظلومين وردع الظالمين : شُرّع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للحفاظ على سلامة العلاقات وعلى الحفاظ على الحرمات ، بالدعوة إلى العدل والرحمة والنهي عن الجور والظلم ، واعطاء كل ذي حقّ حقّه دون اعتداء أو اضطهاد أو استغلال ، فإذا وجد الظالم والجائر من يردعه بقول أو بفعل ؛ فإنّه سيخفف من ممارساته العدوانية أو يتخلّى عنها ، وسيجد الناس إنّ لهم سندا يدافع عن حقوقهم ، فيعيشون الامن والطمأنينة.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا يكوننَّ أفضل ما نلت من دنياك بلوغ لذةٍ وشفاء غيظٍ ، وليكن إحياء حقٍ وإماتة باطل » (٢).

وقال عليه‌السلام : « رحم اللّه امرءا أحيى حقا وأمات باطلاً وأدحض الجور وأقام العدل » (٣).

وجعل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمة العدل عند السلطان الجائر من أفضل الجهاد ؛ لأنّها وسيلة لردعه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل الجهاد كلمة عدلٍ عند

__________________

١) تنبيه الغافلين : ٩٤.

٢) تصنيف غرر الحكم : ٦٩.

٣) تصنيف غرر الحكم : ٦٩.

٤٠