جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

بجامع الكوفة ) (١) بل عن ظاهر المقنعة والنهاية والمراسم والسرائر ، الاستحباب ، لأن القضاء من أفضل الطاعات ، والمسجد من أشرف البقاع ، وعن بعض الكتب (٢) أنه بلغ عليا عليه‌السلام أن شريحا يقضي في بيته ، فقال : « يا شريح اجلس في المسجد ، فإنه أعدل بين الناس ، وأنه وهن بالقاضي أن يجلس في بيته ».

وقيل ـ والقائل الصدوق فيما حكي عن الفقيه والمقنع ـ : يكره عملا بعموم الأخبار المتقدمة وحملا للواقع على الضرورة والدلالة على الجواز.

بل قد عرفت في أحكام المساجد من كتاب الصلاة (٣) عن جملة من كتب الأصحاب التصريح فيها بكراهة إنفاذ الأحكام ، وإن قيل المراد الحبس على الحقوق والملازمة عليها ، لكن يدخل فيه إقامة الحدود ، وهي مذكورة معه في الكتب المزبورة.

وقد يقال : إن القضاء من حيث كونه قضاء لا كراهة فيه ، بل لا يبعد رجحانه ، نعم قد يقترن بما يرجح تركه في المسجد أو يحرم فعله ، وهو خارج عن محل البحث ، وربما كان ذلك أولى بالجمع من غيره ، والله العالم.

( وأن يقضي وهو غضبان ) للنبوي (٤) « لا يقضي القاضي وهو غضبان » ولما فيه من المخاطرة في الوقوع في الخطأ معه.

( وكذا يكره مع كل وصف يساوي الغضب في شغل النفس ، كالجوع والعطش والغم والفرح ومدافعة الأخبثين وغلبة النعاس ) ‌

__________________

(١) البحار ـ ج ٤٠ ص ٢٧٧ وج ٦٢ ص ١٦٧.

(٢) المستدرك الباب ـ ١١ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ٣.

(٣) راجع ج ١٤ ص ١١٥ ـ ١١٧.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ١ وسنن البيهقي ج ١٠ ص ١٠٥.

٨١

ونحو ذلك ، وعنه أيضا صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « لا يقضي وهو شبعان ريان » وفي آخر : « لا يقضي وهو غضبان مهموم ، ولا مصاب محزون » وفي وصيته عليه‌السلام لشريح (٢) : « ولا تقعد في مجلس القضاء حتى تطعم » وقال عليه‌السلام (٣) له أيضا : « لا تسار أحدا في مجلسك وإن غضبت فقم ، ولا تقضين وأنت غضبان » وفي البحار عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) ما حاصله أنه « سئل عن مسألة فأحجم فقيل له : عهدنا بك يا أمير المؤمنين إذا سئلت كنت كالحديدة المحماة ، فقال : كنت حازقا ، ولا رأي لحازق إلى ثلاثة أيام » الحديث. وقال أبو عبد الله عليه‌السلام (٥) : « لسان القاضي من وراء قلبه ، فان كان له قال ، وإن كان عليه أمسك ».

نعم إن كان معصوما من الخطأ مؤيد مسدد لا بأس بقضائه وهو في شي‌ء من هذه الأحوال ، وقد‌ روي (٦) « أن الزبير بن العوام ورجلا من الأنصار اختصما في شراج الحرة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال النبي : اسق زرعك يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال الأنصاري لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن كان ابن عمتك ، فاحمر وجهه وقال له : اسق زرعك يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ أصول الجدر » فقضى صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد غضبه للزبير باستيفاء تمام حقه بعد أن‌

__________________

(١) سنن البيهقي ـ ج ١٠ ص ١٠٦ وفيه‌ « لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان » ‌

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ٢.

(٤) البحار ـ ج ٢ ص ٥٩ ـ ٦٠ وج ٤٢ ص ١٨٧ عن أمالي الشيخ الطوسي ( ج ٢ ص ١٢٨ ط النجف ) وفي الموارد الثلاثة هكذا : « فقال : كنت حازقا ، ولا رأي لثلاثة : لا رأي لحاقن ولا حازق ... »

‌(٥) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ٢.

(٦) سنن البيهقي ج ٦ ص ١٥٣.

٨٢

كان قد استنزله عن بعضه ، وربما استثنى لذلك بعضهم مطلق الغضب لله تعالى ، والأولى ما ذكرنا ، لأنه على كل حال يشوش الذهن.

( و ) على كل حال فـ ( ـلو قضى والحال هذه نفذ إذا وقع حقا ) بلا خلاف ، للعمومات السالمة عن المعارض بعد حمل النصوص السابقة على الكراهة ، لقصورها من وجوه عن الحرمة.

( وأن يتولى البيع والشراء لنفسه ) في مجلس الحكم وغيره مع من يعلم أنه يحاسبه وغيره ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا » بل‌ في آخر « لعن إمام يتجر في رعيته » ولما في ذلك من تشويش البال واحتمال المحاباة المقتضى ميل قلبه وخوف خصم من عامله من ميل القاضي والتهمة وغير ذلك.

بل الظاهر إلحاق غير البيع والشراء من المعاملات بهما ، بل قيل : يكره له النظر في نفقة عياله وضيعته ونحو ذلك مما يشغل قلبه ، وحينئذ فالأولى توكيل من لا يعرف أنه وكيله ، وعن المناقب لأخطب خوارزم عن أبي مطر (٢) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « أنه أتى سوق الكرابيس فقال : يا شيخ أحسن بيعي في قميصي بثلاث دراهم ، فلما عرفه لم يشتر منه ، ثم أتى إلى آخر فلما عرفه لم يشتر منه ، فأتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ».

( وكذا ) يكره له أيضا أن يتولى ( الحكومة ) بأن يقف بنفسه مع خصمه عند قاض آخر ، وروي (٣) « أن عليا عليه‌السلام

__________________

(١) الجامع الصغير للسيوطي ج ٢ ص ١٤٦ وذكره ابن قدامة في المغني ج ١١ ص ٤٣٩.

(٢) سنن البيهقي ـ ج ١٠ ص ١٠٧.

(٣) ورد في نهج البلاغة عنه ( ٧ ) : « أن للخصومة قحما » ‌وقال ـ ابن أبي الحديد في شرحه ج ١٩ ص ٢٦٠ ط مصر : « هذه الكلمة قالها أمير المؤمنين عليه‌السلام حين وكل عبد الله بن جعفر في الخصومة عنه وهو شاهد ».

٨٣

وكل عقيلا في خصومة ، وقال : إن للخصومة قحما ، وإني لأكره أن أحضرها » وما اتفق وقوعه منه عليه‌السلام (١) أو من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) إنما كان لبيان بعض الأحكام الشرعية التي أخطأ فيها من نصب نفسه قاضيا للناس أو لغير ذلك من المصالح.

( وأن يستعمل الانقباض ) في وجوه الخصوم ( المانع من اللحن بالحجة ) والتفطن بها وتحريرها على وجه الكمال.

( وكذا يكره ) له ( اللين الذي لا يؤمن معه جرأة الخصوم ) ويفضي إلى سقوط محله عن القلوب.

( ويكره ) له أيضا ( أن يرتب الشهادة ) (٣) ( قوما ) مخصوصين ( دون غيرهم ) لما فيه من التضييق على الناس ( و ) الغضاضة على غيرهم من العدول.

بل ( قيل ) والقائل الشيخ في محكي المبسوط ( يحرم ) ذلك ( لاستواء العدول في موجب القبول ، ولأن في ذلك مشقة على الناس بما يلحق من كلفة الاقتصار ) قال : « لا يجوز للحاكم أن يرتب شهودا يسمع شهادتهم دون غيرهم ، بل يدع الناس ، وكل من شهد عنه فان عرفه وإلا سأل عنه على ما قلناه ، وقيل : إن أول من رتب شهودا لا يقبل غيرهم إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي ، والصحيح ما قلناه ، لأن الحاكم إذا رتب قوما فإنما يفعل هذا بمن هو عدل عنده‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٣) وفي الشرائع « للشهادة ».

٨٤

وغير من رتبه كذلك مثله أو أعدل منه ، فان كان الكل سواء لم يجز أن يخص بعضهم بالقبول دون بعض ، ولأن فيه مشقة على الناس لحاجتهم إلى الشهادة في الحقوق في كل وقت من نكاح وطلاق وغصب وقتل وغير ذلك ، فإذا لم يقبل إلا قوما دون قوم شق على الناس ، ولأن الشاهد إذا علم أنه لا يقبل إلا قول غيره ربما تقاعد عنها حتى يأخذ الرشوة ، ولأن فيه إبطال الحقوق ، فان كل من له حق لا يقدر على إقامة البينة به ممن كان مقبول الشهادة راتبا لها دون غيرهم ، فاما أن يرتب قوما عرف عدالتهم وسكن إليهم يسمع قولهم ويقبل شهادتهم ، فإذا شهد عنده بالحق غيرهم بحث عنهم ، فإذا تزكوا حكم بذلك فلا بأس به ».

ومن ذلك يعلم أن الشيخ غير مخالف في مفروض المتن ، ضرورة أنه لا إشكال في حرمة الترتيب على وجه لا يسمع غيرهم وإن جمع شرائط قبول الشهادة ، كما لا إشكال في جواز ترتيب أناس لتحمل الشهادة وإن قبل شهادة غيرهم أيضا ، وهو الذي أشار إليه أخيرا ؛ لكن لا يخلو من مرجوحية ، لاحتمال التهمة والرشوة وغير ذلك.

ومن هنا قال في كشف اللثام بعد حكاية ما سمعته عنه « والحق أن ما تضمنه هذا الكلام من قهر الناس على أن لا يحملوا الشهادة سوى من عينهم لها أو عدم سماع شهادة غيرهم من العدول مع معرفته باجتماع شرائط القبول وتمكنه من المعرفة فلا شبهة في حرمته ، وإنما المكروه أن يرتب قوما لتحمل الشهادة من غير قهر ولا رد لشهادة غيرهم » ومرجعه إلى ما ذكرناه.

٨٥

( وهنا مسائل : )

( الأولى )

لا خلاف بيننا معتد به في أن ( الامام (ع) يقضي بعلمه مطلقا ) في حق الله وحق الناس ، بل في محكي الانتصار والغنية والإيضاح ونهج الحق وغيرها الإجماع عليه ، وهو الحجة مضافا إلى‌ قول علي عليه‌السلام لشريح لما تخاصم مع من عنده درع طلحة (١) : « ويلك أو ويحك إمام المسلمين يؤمن من أمورهم على أعظم من هذا ».

ولقوله تعالى (٢) ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ). وقال (٣) ( أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ). وقال (٤) : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) ومن حكم بعلمه فقد حكم بالحق والعدل والقسط.

ولقول الصادق عليه‌السلام في خبر الحسين بن خالد (٥) : « الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب خمرا أن يقيم عليه الحد ، ولا يحتاج إلى بينة مع نظره ، لأنه أمين الله في خلقه ، وإذا نظر إلى رجل يسرق فالواجب عليه أن يزجره وينهاه ويمضي ويدعه : قال : فقلت : كيف ذاك؟ فقال : لأن الحق إذا كان لله تعالى فالواجب‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٦.

(٢) سورة ص : ٣٨ ـ الآية ٢٦.

(٣) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٥٨.

(٤) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٤٢.

(٥) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب مقدمات الحدود ـ الحديث ٣ من كتاب الحدود.

٨٦

على الإمام إقامته ، وإذا كان للناس فهو للناس ».

ولوجوب تصديق الإمام في كل ما يقوله وكفر مكذبه ، ولذا‌ قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام خصم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما تخاصما إليه في الناقة وثمنها (١) وهو يقتضي وجوب الخروج من حق يخبر به الامام ، وهو يقتضي وجوب إخبار الامام به ، وإلا لأدى إلى ضياع الحق ، هذا مع براءة ساحة الإمام عليه‌السلام لعصمته عن التهمة.

خلافا لما حكاه السيد عن أبي علي ، فلم يجوزه مستدلا بأن الله تعالى أوجب للمؤمنين فيما بينهم حقوقا أبطلها فيما بينهم وبين الكفار والمرتدين كالمواريث والمناكح وأكل الذبائح ووجدنا الله قد اطلع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله على من كان يبطن الكفر ويظهر الإسلام ، فكان يعلمه ولم يبين أحوالهم لجميع المؤمنين فيمتنعوا من مناكحتهم وأكل ذبائحهم.

ودفعه السيد بمنع أن الله تعالى قد أطلعه عليهم بأعيانهم ، قال : « فان استدل على ذلك بقوله تعالى (٢) ( وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) فهذا لا يدل على وقوع التعريف ، وإنما يدل على القدرة عليه ، ومعنى قوله ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) أي يستقر ظنك أو وهمك من غير ظن ولا يقين ـ قال ـ : ثم لو سلمنا اطلاعه على ذلك لم يلزم ما ذكره ، لأنه غير ممتنع أن يكون تحريم المناكحة والموارثة وأكل الذبائح إنما يختص بمن أظهر كفره وردته دون من أبطنهما ، وأن تكون المصلحة التي بها يتعلق التحريم والتحليل اقتضت ما ذكرنا ، فلا يجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبين أحوال من أبطن الردة والكفر لأجل هذه الأحكام التي ذكرناها ، لأنها تتعلق‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٢) سورة محمد (ص) : ٤٧ ـ الآية ٣٠.

٨٧

بالمبطن والمظهر لا على سواء ، وليس كذلك الزنا وشرب الخمر والسرقة ، لأن الحد في الأمور يتعلق بالمظهر والمبطن على سواء ».

هذا كله في الإمام عليه‌السلام ( وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس ) قطعا ( وفي حقوق الله تعالى على قولين : ) ( أصحهما القضاء ) وفي الانتصار والغنية ومحكي الخلاف ونهج الحق وظاهر السرائر الإجماع عليه ، وهو الحجة.

مضافا إلى ما ذكروه من استلزام عدم القضاء به فسق الحاكم أو إيقاف الحكم ، وهما معا باطلان ، وذلك لأنه إذا طلق الرجل زوجته ثلاثا مثلا بحضرته ثم جحد كان القول قوله مع يمينه ، فان حكم بغير علمه وهو استحلافه وتسليمها إليه لزم فسقه ، وإلا لزم إيقاف الحكم لا لموجب.

واستلزامه أيضا عدم وجوب إنكار المنكر وعدم وجوب إظهار الحق مع إمكانه أو الحكم بعلمه ، والأول معلوم البطلان فتعين الثاني ، وذلك لأنه إذا علم بطلان قول أحد الخصمين فان لم يجب عليه منعه عن الباطل لزم الأول وإلا ثبت المطلوب.

مضافا إلى ظهور كون العلم أقوى من البينة المعلوم إرادة الكشف منها. وإلى تحقق الحكم المعلق على عنوان قد فرض العلم بحصوله ، كقوله تعالى (١) ( السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ). و ( الزّانِيَةُ وَالزّانِي ) (٢) إلى آخرها. والخطاب للحكام فإذا علموا تحقق الوصف وجب عليهم العامل ، فان السارق والزاني تلبس بهذا الوصف لا من أقر به أو قامت عليه به البينة ، وإذا ثبت ذلك في الحدود ففي غيره بطريق أولى.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ الآية ٣٨.

(٢) سورة النور : ٢٤ ـ الآية ٢.

٨٨

كل هذا وفي الانتصار « فان قيل : كيف تستجيزون ادعاء الإجماع وأبو على بن الجنيد يصرح بالخلاف ويذهب إلى أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شي‌ء من الحقوق والحدود؟ قلنا : لا خلاف بين الإمامية في هذه المسألة ، وقد تقدم إجماعهم ابن الجنيد وتأخره ، وإنما عول ابن الجنيد على ضرب من الرأي والاجتهاد ، وخطاؤه ظاهر ، وكيف يخفى إطباق الإمامية على وجوب الحكم بالعلم؟ وهم ينكرون توقف أبي بكر عن الحكم لفاطمة بنت رسول الله عليها‌السلام بفدك لما ادعت أنحلها أبوها ، ويقولون : إذا كان عالما بعصمتها وطهارتها وأنها لا تدعي إلا حقا فلا وجه لمطالبتها بإقامة البينة ، لأن البينة لا وجه لها مع العلم بالصدق ، فكيف خفي على ابن الجنيد هذا الذي لا يخفى على أحد؟ ـ ثم ذكر الأخبار التي سمعتها ثم قال ـ : فمن يروي هذه الأخبار مستحسنا لها معولا عليها كيف يجوز أن يشك في أنه كان يذهب إلى أن الحاكم يحكم بعلمه لو لا قلة تأمل ابن الجنيد؟ ». وتبعه غيره في شدة الإنكار على ابن الجنيد في عدم جواز القضاء بالعلم.

ولكن الإنصاف أنه ليس بتلك المكانة من الضعف ، ضرورة أن البحث في أن العلم من طرق الحكم والفصل بين المتخاصمين ولو من غير المعصوم في جميع الحقوق أو لا ، وليس في شي‌ء من الأدلة المذكورة ـ عدا الإجماع منها ـ دلالة على ذلك ، والأمر بالمعروف ووجوب إيصال الحق إلى مستحقه بل كون العلم حجة على من حصل له يترتب عليه سائر التكاليف الشرعية لا يقتضي كونه من طرق الحكم ، بل أقصى ذلك ما عرفت ، وأنه لا يجوز له الحكم بخلاف علمه ، بل لعل أصالة عدم ترتب آثار الحكم عليه يقتضي عدمه.

٨٩

كما أن‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » كذلك أيضا ، بل ظاهر الحصر في‌ صحيح هشام (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان ، وبعضكم ألحن بحجته من بعض » كذلك ، وكذا‌ قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في خبر إسماعيل بن أبي أويس (٣) : « جميع أحكام المسلمين على ثلاثة : شهادة عادلة أو يمين قاطعة أو سنة جارية مع أئمة هدى » وكذا الخبر الآخر عنه عليه‌السلام (٤) إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة في حصر طريق الحكم بالمعنى المزبور بالبينة واليمين.

وأقصى ما يخرج منها المعلوم كذبهما ولو لمخالفتهما لعلمه ، فلا يحكم حينئذ بهما ، وهو لا يقتضي الحكم بعلمه وأنه أحد طرق للفصل كالبينة ، بل هو أقوى ، اللهم إلا أن يحمل ذلك كله على ما هو الغالب أو الظاهر منها في صورة عدم العلم ، خصوصا مع ملاحظة إجماع الأصحاب ، ويمنع الأصل المزبور بإطلاق ما دل على قبول الحكم بالعدل ، كما في كل شرط يشك في توقف القبول عليه.

ومنه مع الإجماع المحكي مستفيضا المعتضد بالتتبع يظهر حينئذ ضعف المحكي عنه من عدم جواز الحكم بالعلم مطلقا للإمام وغيره في حق الله وحق الناس.

وفي المسالك عن مختصره الأحمدي من جواز الحكم في حدود الله دون‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٥ والباب ـ ٢٥ ـ منها الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٦ بطريق الخصال.

(٤) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٦.

٩٠

حق الناس ، والمحكي عن ابن حمزة عكس ذلك ، وعن حدود النهاية « إذا شاهد الامام من يزني أو يشرب الخمر كان عليه أن يقيم الحد ، ولا ينتظر مع مشاهدته قيام البينة والإقرار ، وليس ذلك لغيره ، بل هو مخصوص به ، وغيره وإن شاهد يحتاج إلى أن يقوم بينة أو إقرار من الفاعل ».

مع أنه لم نجد للجميع مستندا صالحا غير ما عرفت سوى اقتضاء ذلك التهمة ـ التي قد تحصل أيضا مع البينة وتزكية النفس الحاصلة بالجلوس في منصب القضاء ـ والنبوي في قضية الملاعنة (١) « لو كنت راجما من غير بينة لرجمتها » التي لم يثبت صحته في طرقنا ، ودعوى بناء حدود الله المسامحة والستر الممنوعة بعد الثبوت بالعلم.

( و ) حينئذ فلا إشكال في المسألة ، فـ ( ـيجوز ) له ( أن يحكم في ذلك كله من غير حضور شاهد ) يشهد بالحق معه ( يشهد الحكم ) أي يحضره ، كما عن الحسن بن حي قال في الحدود : « إن علم بعد القضاء ـ أي بعد تولي منصب القضاء ـ فلا يقضي حتى يشهد معه ثلاثة ، وفي غيره واحد » وعن الأوزاعي « أنه يشهد معه رجل آخر في القذف حتى يحده » وقال الليث : « لا يحكم في حقوق الناس حتى يشهد معه آخر » وقال ابن أبي ليلى : « من أقر عند القاضي بدين في مجلس الحكم فالقاضي لا ينفذ ذلك حتى يشهد معه آخر » إلى غير ذلك من أقوالهم المبنية على الرأي والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة.

هذا ولكن لا يخفى عليك قصور العبارة عن تأدية المعنى المزبور بناء على كون المراد بها الإشارة ، ضرورة عدم مدخلية شهادة الحكم في ذلك بمعنى حضوره ، إذ المراد شاهد آخر بالحق مع الحاكم حضر الحكم أو لم يحضره.

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٤٠٧.

٩١

كما أن ما في قواعد الفاضل من استحباب ذلك رفعا للتهمة لم نتحقق دليله ، بل لا يخلو من منع إن أراد جواز الامتناع من الحاكم إذا لم يكن غيره ، والله العالم.

وعلى كل حال ففي المسالك استثناء صور من القضاء بالعلم حتى على القول بالمنع : ( منها ) تزكية الشهود وجرحهم لئلا يلزم الدور أو التسلسل ، و ( منها ) الإقرار في مجلس القضاء وإن لم يسمعه غيره ، وقيل يستثني إقرار الخصم مطلقا ، و ( منها ) العلم بخطإ الشهود يقينا أو كذبهم ، و ( منها ) تعزير من أساء أدبه في مجلسه وإن لم يعلم غيره ، لأنه من ضرورة إقامته أبهة القضاء ، و ( منها ) أن يشهد معه آخر ، فإنه لا يقصر عن شاهد.

ولا يخلو الأخير منها من نظر ، لعدم وضوح دليل الاستثناء فيه مع فرض عدم جواز القضاء بالعلم ، بل والثاني إذا كانت الدعوى إقراره ، والفرض تعقيبه له بالإنكار ولم يسمعه منه إلا الحاكم ، فان طريق ثبوته حينئذ ليس إلا البينة ، اللهم إلا أن يقال : إن الإقرار حتى في الفرض أحد طرق الحكم كسماع البينة ، فتأمل جيدا.

ثم إن الظاهر إرادة الأعم من اليقين والاعتقاد القاطع ولو من تكثير أمارات من العلم ، لكون الجميع من الحكم بالحق والعدل والقسط عنده ولغير ذلك مما سمعته من أدلة المسألة وإن كان هذا الفرد من العلم مما يمكن فيه البحث نحو ما ذكروه في الشاهد ، وليت المانع اقتصر عليه في غير الامام باعتبار احتمال كونه خطأ عند غير القاطع ، والله العالم.

٩٢

المسألة ( الثانية : )

( إذا أقام المدعي بينة ولم يعرف الحاكم عدالتها فالتمس المدعي حبس المنكر ليعدلها قال الشيخ رحمه‌الله ) في محكي المبسوط : ( يجوز حبسه لقيام البينة بما ادعاه ) وربما تبعه جماعة بناء منهم على الاكتفاء في ثبوت الحق بالبينة التي لم يعلم فسقها وإن كان قد يطلب تزكيتها لاسترابة الحاكم أو التماس الغريم أو للاستظهار أو لنحو ذلك.

( و ) لكن ( فيه إشكال ) بل منع بناء على المختار ( من حيث ) عدم ثبوت الحق إلا بالبينة العادلة ، ضرورة أنه ( لم يثبت ) حينئذ ( بتلك البينة ) المفروضة ( حق يوجب العقوبة ) التي منها الحبس ولا المطالبة بكفيل أو رهن ، كما هو واضح.

ودفع ذلك ببعض الاعتبارات والاستحسانات مما لا ينطبق على أصولنا ، والبناء على أصالة العدالة يوجب حكم الحاكم ، فتخرج المسألة عن الفرض ، بل لا يخفى عليك في المحكي عن الشيخ من عدم الالتئام ، فلاحظ وتأمل ، والله العالم.

المسألة ( الثالثة : )

( لو قضى الحاكم على غريم ) مثلا ( بضمان مال وأمر بحبسه فعند حضور الحاكم الثاني ) يجب عليه أن ( ينظر ) في حكم الأول ، لاحتياج الاستيفاء منه إلى مسوغ ( فان كان الحكم ) الأول ( موافقا للحق لزم وإلا أبطله ، سواء كان مستند الحكم ) الثاني ( قطعيا ) ‌

٩٣

كإجماع أو خبر متواتر ( أو اجتهاديا ) كخبر الواحد ومنصوص العلة ونحوهما وقد أخطأ الأول في الاجتهاد ، لأنه يكون حينئذ الأول من الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.

( وكذا كل حكم قضى به الأول ) غير المفروض ( وبان للثاني فيه الخطأ ) ولو لفساد الاجتهاد من الأول ( فإنه ينقضه ، وكذا لو حكم هو ثم تبين الخطأ ) على نحو ما سمعته في غيره ( فإنه يبطل الأول ويستأنف الحكم بما علمه ) لما عرفت.

هذا ولكن قد يشكل وجوب النظر في الأول ـ وإن جزم به في المسالك ، بل ظاهره المفروغية منه عند ذكرهم من الأدب النظر في المحبوسين ـ بأن ذلك من آثار الحكم الأول الذي قد أمرنا بعدم رده بعد حمله على الوجه الصحيح ، فهو حينئذ كالتصرف بالمال الذي قد أخذ بحكمه من غير فرق بين الدار وغيرها.

على أنه لا إشكال في ثبوت الحق بحكم الحاكم ، فلا يجوز له النظر مع امتناع من له الحق عن المرافعة ، لانقطاع دعواه بحكومة الأول فضلا عن أن يجب عليه ، بل ربما يتوهم عدم محل للدعوى وإن تراضي الخصمان بتجديدها عند الحاكم الثاني ، وإن كان الأقوى خلافه ، بل الأقوى نفوذ حكمه وإن اقتضى نقض الأول ولو لدليل اجتهادي يعذر فيه.

ويمكن حمل عبارة المصنف على هذا أو على معنى ثبوت الحق بحكم حاكم عند حاكم آخر ، لأن أقصاه إلزام الخصم بمقتضى البينة التي قامت عنده مثلا ، ومثله لا يكون مثبتا للحق عند غيره ، وعدم جواز الرد عليه مع عدم العلم بفساده لا يقتضي تحقق الموضوع الذي يتوقف عليه مباشرة الثاني لاستيفاء الحق الذي هو من ولاية القضاء بالمعنى الأعم ، فليس له حينئذ ذلك إلا بعد ثبوت كونه مستحقا عليه عنده ، وليس في‌

٩٤

الأدلة أزيد من حرمة الرد ومن الإنكار على الراد له ونحو ذلك مما لا دلالة فيه على ثبوت الحق عند الثاني على وجه يكون وليا على استنقاذه.

ولكن لا يخفى عليك منافاة ذلك لما تسمعه من وجوب التنفيذ على الحاكم حكم آخر ، بل هو إنشاء حكم من الحاكم الثاني بإلزام الأول حتى لو خالف رأيه ، ودعوى أن المفروض عدم انتهاء الحكم فيه من الأول يدفعها ظهور العبارة في خلافها ، ضرورة كون حبسه لاستنقاذ الحق منه ، فلا محيص عن حمل العبارة على إرادة النظر إن شاء ، لا وجوبه أو نحو ذلك.

وحينئذ لا يحتاج إلى التقييد بفساد الاجتهاد الأول لتقصير ونحوه ، بل له نقضه مع تراضيهما بتجديده أو كان مما يلزم الحاكم الثاني تجديده لإرادة ثبوت العنوان عنده وإن كان اجتهاد الأول صحيحا. بل وكذا عبارة الإرشاد « وكل حكم ظهر بطلانه فإنه ينقضه ، سواء كان هو الحاكم أو غيره ، وسواء كان مستند الحكم قطعيا أو اجتهاديا » بل وما في القواعد « الأقرب أن كل حكم ظهر له أنه خطأ سواء كان هو الحاكم أو السابق فإنه ينقضه ويستأنف الحكم بما علمه » بناء على ما فهمه الشهيد من إرادة الأعم من القطع والظن بظهور الخطأ ، وسواء كان الأول عن اجتهاد صحيح أو لا.

ولعل الداعي لهم على حمل نحو عبارة المصنف وما شابهها على ما عرفت من فساد الاجتهاد ـ حتى جزم به المحقق الأردبيلي حاملا لعبارة الدروس عليه التي أشكلها في المسالك مع حمله عبارة المصنف وغيرها على إرادة فساد الاجتهاد ، وتبعه في كشف اللثام ، وإن أشكل الفرق بين الاجتهاد الصحيح وغيره ، خصوصا في هذه الأزمنة التي تكثرت فيها الأمارات حتى أنه ربما يطرح الخبر الصحيح في مقابلة الأصل ونحوه ـ هو أنها‌

٩٥

منافية في الظاهر لما هو المعلوم ـ بل حكى عليه الإجماع بعضهم ـ من عدم جواز نقض الحكم الناشئ عن اجتهاد صحيح باجتهاد كذلك ، وإنما يجوز نقضه بالقطعي من إجماع أو سنة متواترة أو نحوهما.

بل عن الشيخ أن الحكم خطأ ولو بمخالفة القاطع لم ينقض إذا كان حقا للناس ، لأن صاحب الحق ربما أسقط حقه ، نعم ينقض إذا كان حقا لله عز وجل ، كالعتق والطلاق ، وبه أفتى الفاضل في القواعد أولا وإن كان فيه ما عرفت من عدم الإجماع على عدم جواز النقض فيما ذكرناه من الفرض.

وقد يناقش الشيخ بأن له الرئاسة العامة المقتضية للخطاب بإظهار الحق وتأييده ورد الباطل وإفساده من غير فرق بين الجميع ، نعم لو رضي المحكوم عليه بعد ظهور بطلان الحكم عليه ببذل ماله لمن في يده المال مثلا فلا بأس ، لأن الناس مسلطون على أموالهم ، ومجرد احتمال رضاه لا يرفع الخطاب بإظهار الحق وتدمير الباطل كما وقع منهم عليهم‌السلام وخصوصا أمير المؤمنين عليه‌السلام في قضايا متعددة وقعت من حكام الجور في زمانه (١).

نعم قد يقال : إن ذلك كله مع المخالفة للدليل العلمي الذي لا مجال للاجتهاد فيه ، ولكن وقع الحكم من الأول غفلة عنه أو جورا أو نحو ذلك ، أما القطعي النظري كإجماع استنباطي وخبر محفوف بقرائن وتكثر أمارات ونحو ذلك مما يمكن وجود عكسها عند الأول كما نراه بالعيان بين العلماء وخصوصا في دعوى الإجماع فلا يبعد عدم جواز النقض به في غير ما فرضناه ، ضرورة اندراج حكم الأول في الأدلة المقتضية لنصبه ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٦ والباب ٢١ منها الحديث ٢.

٩٦

فان المدار في صحته على معرفة حكمهم بالاجتهاد الصحيح الذي هو أعم من القطع النظري والظن ، واحتمال الإصابة للواقع في المقطوع بهما عند الحاكمين أو أحدهما لكل منهما متحقق للشي‌ء في حد ذاته وإن لم يكن محتملا عند القاطع ، إلا أنه هو حاكم بصحته في حق الحاكم الآخر ومن ترافع إليه من حيث ظهور دليل حجية اجتهاده في ذلك ، فلو نقضه حينئذ لكان ناقضا لحكمه نفسه الذي استفاده من دليل صحة الاجتهاد ، فلا يبعد القول بعدم جواز النقض أيضا بالقطع النظري كالظني ، لأنهما عند التأمل متحدان فيما قلناه ، ويختص النقض به في الفرض الأول الذي مرجعه إلى عدم اجتهاد صحيح ، بل له نقضه إذا كان كذلك في الظني أيضا ، ضرورة ظهور دليل صحة الحكم وحرمة الرد عليه فيما إذا كان عن اجتهاد صحيح وإن ظن الحاكم الثاني خطأه أو قطع بدليل قطعي نظري.

وقد بان لك من جميع ما ذكرنا أن الحكم ينقض ولو بالظن إذا تراضى الخصمان على تجديد الدعوى وقبول حكم الحاكم الثاني ، وينقض إذا خالف دليلا علميا لا مجال للاجتهاد فيه أو دليلا اجتهاديا لا مجال للاجتهاد بخلافه إلا غفلة ونحوها ، ولا ينقض في غير ذلك ، لأن الحكم بالاجتهاد الصحيح حكمهم ، فالراد عليه راد عليهم عليهم‌السلام والراد عليهم على حد الشرك بالله تعالى من غير فرق بين اقتضائه نقض فتوى وعدمه للإطلاق. ومن هنا جاز نقض الفتوى بالحكم دون العكس.

والمراد بنقضها إبطال حكم الكلي في خصوص الجزئي الذي كان مورد الحكم بالنسبة إلى كل أحد ، من غير فرق بين الحاكم ومقلدته وبين غيرهم من الحكام المخالفين له ومقلدتهم ويبطل حكم الاجتهاد والتقليد في خصوص ذلك الجزئي.

كما أنه لا فرق في ذلك بين العقود والإيقاعات والحل والحرمة‌

٩٧

والأحكام الوضعية حتى الطهارة والنجاسة ، فلو ترافع شخصان على بيع شي‌ء من المائعات وقد لاقى عرق الجنب من زنا مثلا عند من يرى طهارته فحكم بذلك كان طاهرا مملوكا للمحكوم عليه وإن كان مجتهدا يرى نجاسته أو مقلد مجتهد كذلك لإطلاق ما دل (١) على وجوب قبول حكمه وأنه حكمهم عليهم‌السلام والراد عليه راد عليهم ، ويخرج حينئذ هذا الجزئي من كلي الفتوى بأن المائع الملاقي عرق الجنب نجس في حق ذلك المجتهد ومقلدته. وكذا في البيوع والأنكحة والطلاق والوقوف وغيرها ، وهذا معنى وجوب تنفيذ الحاكم الثاني ما حكم به الأول وإن خالف رأيه ما لم يعلم بطلانه.

وأما عدم نقض الحكم بالفتوى حتى من ذلك الحاكم لو فرض تغير رأيه عن الفتوى بعد حكمه في جزئي خاص فلأصالة بقاء أثر الحكم وظهور أدلته في عدم جواز نقضه مطلقا ، وعدم اقتضاء دليل الفتوى أزيد من العمل بأفراد كلي متعلقها من حيث إنها كذلك ، فلا تنافي خروج بعض أفرادها بالحكم لدليلها ، بل لعله ليس من متعلق كليها المراد به ما عدا المحكوم عليه من أفرادها.

نعم هي إنما تنقض بالفتوى على معنى بطلان الفتوى برجوع صاحبها عنها فيما لم يعمل به من أفرادها ، أما ما عمل به فيه منها فلا نقض فيما لا يتصور النقض فيه ، كما إذا كان فعلا قد فعله أو مالا أكله أو شربه ، بل لو كان من الأفعال التي لها قضاء أو إعادة كالصلاة ونحوها مما يندرج في قاعدة الاجزاء وغيرها فلا نقض فيه مع فرض كون الثانية ظنية أيضا ، بل لو عمل بالفتوى مما يقتضي الاستمرار والبقاء لم ينقض بالتغير ، كما لو تزوج امرأة ارتضعت معه عشر رضعات بفتوى عدم نشرها الحرمة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١.

٩٨

ثم رجع المفتي عن ذلك لم يبطل نكاحه وإن كان لا يجوز له تزويج امرأة أخرى كذلك إذا كان مقلدا له في ذلك ، لأن العقد المقتضى دوام النكاح قد وقع بالفتوى الأولى التي لم يعلم بطلانها ، فآثار حكم العقد باقية على حالها ، للأصل وغيره إلا إذا تعقبه حكم بالفسخ ، لما عرفت من نقض الفتوى به.

وهكذا كل ما كان من هذا القبيل من الأسباب المستقلة بدليل على لزومها بمجرد عدم العلم بفسادها ، فتبقى حينئذ على ذلك وإن تغير رأي المجتهد ، فإنه لا دليل على الفسخ به ، بل حاصل الأدلة خلافه كما يبقى على قاعدة الإجزاء مثل الصلاة والغسل والوضوء.

بل قد يقال : إن غسل النجاسة أيضا كذلك وإن كان لا يخلو من نظر وبحث ، ضرورة عدم مقتض للدوام فيه ، بل هو تابع لظن المجتهد ما دام باقيا ، فلو غسل مثلا شيئا بالماء القليل الملاقي للنجاسة بفتوى عدم تنجسه بذلك ثم تغير رأيه وجب تجديد الغسل ، لأن طهارة المغسول به مقيدة بما دام ظن المجتهد كذلك ، فهو حينئذ كالماء نفسه وهكذا. بل قد يقال في نحو الوضوء به بوجوب تطهير اليد وإن قلنا بصحة الوضوء به ، اللهم إلا أن يمنع ذلك لقاعدة العسر والحرج ، خصوصا فيما لو بنى به مثلا مسجدا ونحوه إلا أن ذلك كما ترى.

أما الفتوى بطهارة شي‌ء للأصل مثلا ثم تغير رأيه إلى النجاسة فلا إشكال في وجوب اجتنابه عليه ، لعدم استناد الطهارة المفتي بها أولا إلى سبب يقتضي بقاءها.

وما عن العميدي من الإجماع على النقض في نحو نكاح المرتضعة لم نتحققه ، بل لعله على العكس ، كما هو مقتضى السيرة مضافا إلى ما عرفت ، وحينئذ فالمراد بنقضها في نحو الفرض بطلان العمل بها في جميع المتجدد من أفرادها ، وأما ما وقع فلا نقض فيه.

٩٩

ومن ذلك كله بان لك الحال في الصور الأربعة : وهي نقض الفتوى بالفتوى وبالحكم ونقض الحكم بالفتوى وبالحكم.

ولكن بقي الكلام في الفرق بينهما ، والظاهر أن المراد بالأولى الاخبار عن الله تعالى بحكم شرعي متعلق بكلي ، كالقول بنجاسة ملاقي البول أو الخمر ، وأما قول هذا القدح نجس لذلك فهو ليس فتوى في الحقيقة وإن كان ربما يتوسع بإطلاقها عليه ، وأما الحكم فهو إنشاء إنفاذ من الحاكم لا منه تعالى لحكم شرعي أو وضعي أو موضوعهما في شي‌ء مخصوص.

ولكن هل يشترط فيه مقارنته لفصل خصومة كما هو المتيقن من أدلته ، لا أقل من الشك ، والأصل عدم ترتب الآثار على غيره ، أو لا يشترط ، لظهور‌ قوله عليه‌السلام (١) : « إني جعلته حاكما » في أن له الإنفاذ والإلزام مطلقا ، ويندرج فيه قطع الخصومة التي هي مورد السؤال ومن هنا لم يكن إشكال عندهم في تعلق الحكم بالهلال والحدود التي لا مخاصمة فيها.

وعليه حينئذ فإذا أريد الإلزام بشي‌ء وإنفاذه على وجه تنقطع عنه الخصومات الآتية من حيث الاختلاف في الاجتهاد أنشأ الحاكم إنفاذ تلك الخصومة منه على وجه تكون كما لو وقع النزاع فيها ، فإذا أنشأ الحكم بصحة تزويج المرتضعة معه عشر رضعات مثلا لم يكن لهما بعد ذلك الخصومة من هذه الجهة فتأمل.

ثم إن الفاضل في القواعد قال : « صورة الحكم الذي لا ينقض أن يقول الحاكم : قد حكمت بكذا أو قضيت أو نفذت الحكم بكذا أو أمضيت أو ألزمت أو ادفع إليه ماله أو اخرج من حقه أو يأمره بالبيع وغيره ، ولو قال : ثبت عندي أو ثبت حقك أو أنت قد قمت بالحجة أو أن دعواك ثابتة شرعا لم يكن ذلك حكما ، ويسوغ إبطاله ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١.

١٠٠