جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وفيه كما في المسالك وغيرها أنه قد يلزم به لمصلحة من المصالح ، ويدفع بانحصار الأمر فيه حينئذ مع عدم حصولها في غيره.

اللهم إلا أن يقال : إنها تكفي في أمر الإمام عليه‌السلام بخصوصه له لا من حيث اقتضائها الوجوب عليه ، بل له إلزامه به اقتراحا بناء على ما عرفت من أن القضاء لا خطاب به لأحد غير الامام عليه‌السلام وأن وجوبه على غيره إنما هو من جهة أمره الذي قد يكون تعيينا وقد يكون كفائيا نحو أمر السادة للعبيد بعد أن كان أمر السياسة الدينية إليه والأمر بطاعته.

أما إذا لم يكن من هذه الحيثية ونحوها فالظاهر كما ذكر المصنف أنه لا يلزم بما ليس لازما عند الله في أفراد الواجب المخير والموسع والكفائي إذ أمره أمر الله تعالى شأنه ، وفي الدعائم (١) عن جعفر بن محمد عليه‌السلام أنه قال : « ولاية أهل العدل الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من الله وطاعتهم واجبة ، ولا يحل لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلف عن أمرهم » إلى آخره ، هذا كله مع وجود غيره.

( أما لو لم يوجد غيره تعين هو ) للانحصار ( و ) حينئذ فإذا أمره الإمام عليه‌السلام ( لزمه الإجابة و ) ليس له الامتناع ، فان امتنع فسق وخرج عن أهلية القضاء لذلك وإن كان لا يسقط الوجوب عنه لقدرته على تحصيل الشرط بالتوبة.

بل ( لو لم يعلم به الامام عليه‌السلام وجب أن يعرف نفسه لأن ) فعل ( القضاء من باب الأمر بالمعروف ) غالبا فيجب تحصيل مقدمته ، ولا ينافي ذلك ما قدمناه من كون منصب القضاء للإمام (ع)

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ٥.

٤١

ولو تعدد القابلون له ولم يعلم بهم الإمام فأعلمه أحدهم على وجه قام به سقط عن الباقين ، بل في استحبابه لهم إشكال.

بل في استحباب الابتداء بذلك تعرضا للولاية عند الحاجة ذلك أيضا ، بل‌ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لعبد الرحمن بن بكرة (١) : « لا تسأل الامارة ، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ».

نعم لا يبعد رجحان طلب ذلك إذا وثق من نفسه وكان قصده إقامة كلمة الحق ، كما عرفته سابقا ولو ببذل مال لجائر أو عادل لبيت المال إن قلنا بجوازه على ابتداء التولية أو استدامتها ، بل ربما وجب ، إذ احتمال أنه رشوة أو كالرشوة لا وجه له ، وإن حكى عن بعض ذلك.

لكن لا يخفى عليك ما فيه ، خصوصا بعد الإحاطة بما تقدم في مكاسب الكتاب (٢) بل لا بأس ببذل المال على عزل من هو ليس أهلا للقضاء.

ومما ذكرنا ظهر لك الحال في جميع صور المقام وإن أطنب بها في المسالك حتى قول المصنف ( وهل يجوز أن يبذل مالا ليلي القضاء؟ ) ( قيل : لا لأنه كالرشوة ) والله العالم.

المسألة ( الثالثة : )

( إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة مع استكمال الشرائط المعتبرة ) في القاضي ( فيهما فان قلد ) الامام ( الأفضل ) منصب القضاء ( جاز ) قطعا وإن كان المفضول أورع ، لأن ما عند الأفضل من العدالة يكفي في منعه من التهجم على المحارم ويبقى فضله خاليا عن المعارض ،

__________________

(١) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٠٠ عن عبد الرحمن بن سمرة.

(٢) راجع ج ٢٢ ص ١٤٥ ـ ١٤٩.

٤٢

نعم مع تساويهما في العلم يقدم الأعدل ، لكونه أرجح حينئذ ، فيكون الحاصل حينئذ ترجيح أعلم الورعين وأورع العالمين ، لقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح.

( و ) على كل حال فـ ( ـهل يجوز العدول إلى المفضول ) مع وجود الأفضل؟ ( فيه تردد ) من الاشتراك في الأهلية ، ولما هو المعلوم من إفتاء الصحابة مع اختلافهم في الفضيلة وعدم النكير عليهم ، فيكون ذلك إجماعا منهم ، ولما في تكليف العامي بذلك من العسر والحرج ، لعدم تأهله لمعرفة الأفضل من غيره.

ومن أن الظن بقول الأعلم أقوى فيجب أتباعه ، إذ أقوال المفتين بالنسبة إلى المقلد كالأدلة بالنسبة إلى المجتهد في وجوب اتباع الراجح ، ولخبر عمر بن حنظلة (١) وغيره المتقدمة سابقا المنجبر اسنادها بالتعاضد وتلقي الأصحاب لها بالقبول.

وفعل الصحابة بعد إعراضهم عن الامام عليه‌السلام ليس حجة عندنا. وتعرف الأفضل ممكن بشهادة أهل الخبرة كتعرف أصل الأهلية.

( و ) لكن مع ذلك كله فـ ( ـالوجه ) عند المصنف ( الجواز ، لأن خلله ) إن كان ( ينجبر بنظر الامام عليه‌السلام ) الذي نصبه. وفيه أنه إنما يتم مع قربه منه واطلاعه على أحكامه لا مع بعده عنه على وجه لا يعلم شيئا من وقائعه ، وفرض المسألة أعم من الأول ، على أن أصل فرضها فيما ذكر خال عن الثمرة ، ضرورة كونه أعلم بما يفعل مع حضوره.

إنما الكلام في نواب الغيبة بالنسبة إلى المرافعة إلى المفضول منهم وتقليده مع العلم بالخلاف وعدمه ، والظاهر الجواز ، لإطلاق أدلة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ١.

٤٣

النصب المقتضى حجية الجميع على جميع الناس ، وللسيرة المستمرة في الإفتاء والاستفتاء منهم مع تفاوتهم في الفضيلة.

ودعوى الرجحان بظن الأفضل يدفعها ـ مع إمكان منعها في كثير من الأفراد المنجبر نظر المفضول فيها في زمانه بالموافقة للأفضل في الأزمنة السابقة وبغيرها ـ أنه لا دليل عقلا ونقلا في وجوب العمل بهذا الرجحان في خصوص المسألة ، إذ لعل الرجحان في أصل شرعية الرجوع إلى المفضول وإن كان الظن في خصوص المسألة بفتوى الفاضل أقوى نحو شهادة العدلين.

ومع فرض عدم المانع عقلا فإطلاق أدلة النصب بحاله ، ونفوذ حكمه في خصوص الواقعة يستلزم حجية ظنه في كليها ، وأنه من الحق والقسط والعدل وما أنزل الله ، فيجوز الرجوع إليه تقليدا أيضا ، والنصوص (١) السابقة إنما هي في المتنازعين في حق وقد حكما في أمرهما رجلين دفعة فحكم كل واحد منهما لكل واحد منهما ، ولا وجه للتخيير هنا ، كما في أصل المرافعة والتقليد ، ضرورة تحقق فصل الدعوى بقول أحدهما ، لاتفاق النصوص (٢) على ذلك ، وأنه لا يبطل حكم كل منهما بحكم الآخر ، فليس حينئذ إلا الترجيح للحكم في كلي الواقعة بالمرجحات التي ذكرها الامام عليه‌السلام وقال : إنه مع فرض فقدها أجمع يقف حتى يلقى الامام ، وهذا غير أصل التخيير في الترافع والتقليد المستفاد من إطلاق أدلة النصب المعتضد بالعمل في جميع الأعصار والأمصار.

بل لعل أصل تأهل المفضول وكونه منصوبا يجري على قبضه وولايته مجرى قبض الأفضل من القطعيات التي لا ينبغي الوسوسة فيها ، خصوصا بعد ملاحظة نصوص (٣) النصب الظاهرة في نصب الجميع الموصوفين‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ٥ والباب ـ ١١ ـ منها الحديث ١ و ٦.

٤٤

بالوصف المزبور لا الأفضل منهم وإلا لوجب القول « انظروا إلى الأفضل منكم » لا « رجل منكم » كما هو واضح بأدنى تأمل ، وخصوصا بعد إطلاق ما حكوه من الإجماع على قاضي التحكيم ، بل لعل التأمل في نحو المقبولة (١) من النصوص يقضي بجواز المرافعة إلى المفضول قبل تحقق الخلاف فيه.

ومن ذلك يعلم أن نصوص الترجيح (٢) أجنبية عما نحن فيه من المرافعة ابتداء أو التقليد كذلك مع العلم بالخلاف وعدمه. ومن الغريب اعتماد الأصحاب عليها في إثبات هذا المطلب ، حتى أن بعضا منهم جعل مقتضاها ذلك مع العلم بالخلاف الذي عن جماعة من الأصوليين دعوى الإجماع على تقديمه حينئذ لا مطلقا فجنح إلى التفصيل في المسألة بذلك.

وأغرب من ذلك الاستناد إلى الإجماع المحكي عن المرتضى في ظاهر الذريعة والمحقق الثاني في صريح حواشي الجهاد من الشرائع على وجوب الترافع ابتداء إلى الأفضل وتقليده ، بل ربما ظهر من بعضهم أن المفضول لا ولاية له أصلا مع وجود الأفضل ، ضرورة عدم إجماع نافع في أمثال هذه المسائل ، بل لعله بالعكس ، فإن الأئمة عليهم‌السلام مع وجودهم كانوا يأمرون الناس بالرجوع إلى أصحابهم من زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وغيرهم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يولي القضاء بعض أصحابه مع حضور أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو أقضاهم ، قال في الدروس : « لو حضر الإمام في بقعة وتحوكم إليه فله رد الحكم إلى غيره إجماعا ».

على أنه لم نتحقق الإجماع عن المحقق الثاني ، وإجماع المرتضى مبنى على مسألة تقليد المفضول الإمامة العظمى مع وجود الأفضل ، وهو غير‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي.

٤٥

ما نحن فيه ، ضرورة ابتنائها على قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، فلا نصب من الله تعالى شأنه لها مع وجود الأفضل ، ولا مدخلية لهذه المسألة فيما نحن فيه قطعا ، وظني والله أعلم اشتباه كثير من الناس في هذه المسألة بذلك.

ولا يخفى عليك أنه لا مدخلية للتوسعة فيما نحن فيه منهم عليهم‌السلام في جواز الرجوع إلى رواة أحاديثهم وفقهاء شرعهم وإن تفاوتوا في تلك المسألة بوجه من الوجوه ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، خصوصا بعد أن كان لا مانع عقلا والنقل يقتضيه ، فيجوز حينئذ نصبه والترافع إليه وتقليده مع العلم بالخلاف وعدمه.

نعم لو فرض أن المتخاصمين قد حكموا رجلين فصاعدا في أمرهم فاختلف الحكم الصادر منهم في ذلك رجح بالمرجحات المذكورة ، ودعوى اقتضاء ذلك الترجيح في أصل المرافعة وفي التقليد ابتداء مع العلم بالخلاف أو مطلقا ممنوعة كل المنع ، والله العالم.

ثم إنه بناء على تقدم الأفضل فهل هو من حكم المانع أو الشرط؟ وجهان ، لا يخفى عليك الثمرة بينهما ، كما أنه لا يخفى عليك ظهور النص (١) في مضي حكم المفضول مع الترافع إليه خاصة وإن علم بعد حكم الفاضل بخلافه سيما إذا لم يعلم بكونه أفضل إلا بعد ذلك.

والظاهر أن المدار على الفضيلة في الفقه ولو باعتبار الفضيلة في المقدمات على وجه يعد كونه أفقه ، أما ما لا مدخلية له فيه فلا عبرة به.

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من أبواب صفات القاضي الحديث ١.

٤٦

المسألة ( الرابعة : )

( إذا أذن الامام عليه‌السلام له في الاستخلاف ) مطلقا أو على وجه خاص عنه نفسه أو عن الامام ( جاز ، ولو منع ) عنه ( لم يجز ) وإن صعب عليه القيام بما فوضه إليه لسعته بلا خلاف في شي‌ء من ذلك ، بل ولا إشكال ، لأن الحكومة حق له ، فهو مسلط عليها تسلط المالك على ملكه من غير فرق بين الاحتياج لذلك لسعة الولاية أو لا ، كما لو أذن للوكيل في التوكيل أو نهاه.

( ومع إطلاق التولية ) نظر ( إن كان هناك أمارة تدل على الاذن ) في ذلك ( مثل سعة الولاية التي لا تضبطها اليد الواحدة جاز الاستنابة ) لشهادة الحال بالاذن فيها ، وهل يستخلف حينئذ في القدر الزائد على ما يمكنه القيام به أو في الكل؟ وجهان تقدما في توكيل الوكيل.

( وإلا ) تكن هناك أمارة ( فلا ) يجوز الاستنابة ( استنادا إلى أن القضاء موقوف على الاذن ) والفرض حصولها له دون غيره على نحو ما سمعته في الوكيل بخلاف الأول الذي قد عرفت شهادة الحال بالاذن ، لكن هل هي في النيابة عنه أو عن الامام عليه‌السلام؟ كما سمعته في التوكيل وإن كان الأقوى الأول ، اللهم إلا أن يقال : فرق بين المقام وبين الوكيل بتحقق الولاية فيه نحو الوصاية ، بل وأقوى ، بل هو ظاهر نصب الغيبة المساوي في الكيفية لنصب الحضور ، وحينئذ يكون التوكيل مع الإطلاق.

لكن في المسالك ـ بعد أن احتمله مستدلا له بأنه ناظر في المصالح‌

٤٧

العامة فيمكن من الاستنابة كالإمام ، ولأنه قد وثق بنظره الذي من جملته الاستنابة ـ قال : « ويضعف الأول بأنه قياس مع وجود الفارق ، وإنما رضي بنظره في القضاء بنفسه لا مطلقا ».

وفيه أن الدليل ما عرفت إلا أن يمنع اقتضاء النصب للقضاء في زمن الحضور أزيد من معنى التوكيل بخلاف النصب في زمن الغيبة ، فإنه إحداث ولاية كما هو مقتضى جعله حجة عليهم ، كما أنه حجة الله.

وحينئذ يتجه التفصيل في النصب بين أن يكون على معنى التوكيل فليس له الاستنابة إلا بالاذن ، وبين أن يكون على معنى الولاية ، فيجوز كما في نصب الغيبة.

ودعوى عدم جواز النصب بالمعنى الثاني ـ لمنافاته كون الحكومة من الله للإمام عليه‌السلام ضرورة عدم صلاحيته للغير ولاية لا نيابة ، وإنما جاز التوكيل في زمن الغيبة لظهور الأدلة في معنى الوكالة المطلقة ـ يدفعها أن ذلك هو المراد بالولاية ، فلا منافاة بين كون الحكومة له وبين توليته غيره على حسب ولاية الأب والجد اللذين جاز لهما إثباتها لغيرهما بالوصاية.

فلا ريب في أن التحقيق أن النصب للقضاء يقع على الوجهين المزبورين وإن كانا هما معا بمعنى الاستنابة ، إلا أنها بالمعنى الثاني استنابة خاصة هي للولاية أقرب منها للوكالة في مثل نصب الغيبة ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

ولا يخفى عليك ما يتفرع على ذلك ولا ما يتفرع على الاستنابة عنه أو عن الامام عليه‌السلام التي قد مر كثير منها في وكيل الوكيل.

وعلى كل حال فحيث يجوز الاستخلاف للقضاء فلا ريب في أنه يعتبر فيه ما يعتبر في المنصوب الأصيل ، ضرورة كونهما منصوبين له ، فلا بد من كونه مجتهدا بناء على اعتباره في القضاء.

٤٨

نعم في المسالك « إلا أن يفوض إليه أمرا خاصا لا يتوقف على الاجتهاد كسماع البينة ونقلها إليه ، وفي التحليف بعد أن سمع الحاكم البينة دون الحكم ، فيكفيه العلم بشرائط ذلك ـ قال ـ : ومن هنا يظهر أن المجتهد في حال الغيبة لا يمكنه تولية أحد الحكم بين الناس مطلقا ، لأن النائب إن كان مجتهدا كان أصلا كالمستنيب ، وإن كان المستنيب أعلم وقلنا بترجيحه حيث لا يشترط الأفضلية أو حذر الوصول إلى الأفضل وإن كان مقلدا لم ينفذ حكمه مطلقا ، وإنما يتصور ذلك في القاضي المنصوب من قبل الامام عليه‌السلام إذا استناب مجتهدا غير منصوب ».

قلت : قد يقال : إن لم يكن إجماع لا مانع من التوكيل في إنشاء صيغة الحكم من قول : « حكمت » ونحوه ، نحو إنشاء صيغة الطلاق الذي هو بيد من أخذ بالساق ، فان عمومات الوكالة سواء في تناولهما ، بل لعل شمولها لنحو ذلك أولى من شمولها لسماع البينة وللتحليف ونحوهما ، اللهم إلا أن يراد عدم قبول الحكم الذي هو بمعنى الفصل للتوكيل ، وهو مصادرة.

كما أنه قد يقال ـ إن لم يكن إجماع ـ بجواز تولية الحكم للمقلد على أن يحكم بفتوى مقلده مثلا ، لما عرفته سابقا من العمومات السالمة عن المعارض ، واختصاص النصب في زمن الغيبة بالمجتهد بناء على ظهور دليله في ذلك لا يقتضي عدم جواز تولية هذا المنصوب على الإطلاق وأنه الحجة من الامام عليه‌السلام على الناس كما أن الامام حجة الله عليهم ، بل قد عرفت كونه وليا.

بل لعل ظاهر الدليل أن حجيته على حسب حجيته ، فله حينئذ استنابته وله تولية الحكم بفتاواه التي هي عدل وقسط وحكم بما أنزل الله تعالى ، كما أشرنا إليه سابقا ، ولعله لذا حكي عن الفاضل القمي جواز‌

٤٩

توكيل الحاكم مقلده على الحكم بين الناس بفتاواه على وجه يجري عليه حكم المجتهد المطلق ، وهو قوي إن لم يكن إجماع ، كما لهجت به ألسنة المعاصرين وألسنة بعض من تقدمهم من المصنفين إلا أن الانصاف عدم تحققه ، نعم قد يقال : إن المسلم من اختصاص النصب في زمن الغيبة للمجتهد لقوله عليه‌السلام : « عرف قضاءنا ونظر في حلالنا وحرامنا » (١) وهو لا ينافي المفروض ، كما عرفت.

ثم إنه قد يتصور أيضا في زمن الغيبة على تقدير الشرط المزبور بتولية المفضول بناء على اختصاص النصب بالأفضل وأنه لا حكم له معه ، وإن كان قد عرفت ضعف القول به بما لا مزيد عليه ، بل قد يمنع تصوره عليه أيضا ، لعدم حكم له مع الأفضل ، وحينئذ لا يكون للاستخلاف موضوع في زمن الغيبة بناء على الشرط المزبور.

لكن قد يستفاد من مفروغية مشروعيته في الجملة ولو في زمن الحضور جواز نصب نائب الغيبة قيما على نحو الوقف والأطفال على معنى إحداث ولاية لهم على ذلك ، كما صرح به غير واحد ، ضرورة كونه من توابع الاستخلاف في القضاء المفروض جوازه في الحضور ، فيجوز ذلك لنائب الغيبة ، لظهور ما دل على ولايته في الأعم من ذلك.

بل قيل بعدم انعزال من ينصبه قيما للأطفال مثلا بموته ، بل ليس له عزله وإن كان لا يخفى عليك ما فيه ، ضرورة كونهم فروعه الذين ينعزلون بانعزاله بموت ونحوه ، إذ هو ليس أزيد من الامام عليه‌السلام الذي ينعزل نوابه بموته ، نعم لو قلنا بجواز تولية ذلك من قبل الامام عليه‌السلام أمكن حينئذ عدم انعزالهم بموته ، لكونهم من فروع‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١ وفيه‌ « نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ».

٥٠

الإمام حينئذ ، لكن جواز ذلك لا يخلو من نظر ، للشك في أصل ثبوت الولاية لهم على الوجه المزبور ، وعلى تقديره فالمتجه جواز عزله له ، إذ كما أن له ولاية على النصب له ولاية على العزل ، لإطلاق الدليل ، إلا أن الانصاف الشك في ذلك ، والأصل العدم.

وكذا الشك في استفادة الولاية لكل حاكم على عزل نائب الآخر ، بل لعل المستفاد عدم ولاية لأحدهم على ما دخل في ولاية الآخر ، ولا أقل من الشك ، والأصل العدم ، والله العالم.

المسألة ( الخامسة : )

( إذا ولي من لا يتعين عليه القضاء ) لوجود غيره ( فان كان له كفاية من ماله فالأفضل أن لا يطلب الرزق من بيت المال ) توفيرا لغيره من المصالح ( ولو طلب جاز ، لأنه من المصالح ) المعد لها التي من جملتها القضاء الذي فيه قيام نظام النوع والمعروف ، لكن قد يشكل ذلك بأنه يؤدي واجبا وإن لم يكن متعينا عليه ، فلا يجوز أخذ العوض عنه. بل لو قلنا بكون القضاء من العبادات كما عساه يظهر من بعضهم أشكل أخذ العوض عليه مطلقا أيضا ، لما فيه من الجمع بين العوض والمعوض عنه.

كل ذلك مضافا إلى إمكان دعوى اختصاص بيت المال المجتمع من نحو الزكاة والصدقات وغيرهما بذوي الحاجات لا الأغنياء.

( و ) كذا ( إن تعين عليه القضاء ) بتعيين الامام عليه‌السلام ولعدم وجود غيره ( ولم يكن له كفاية جاز له أخذ الرزق ) من بيت المال ، لمكان حاجته حينئذ واشتغاله بأمر متعين عليه فيه قيام نظام النوع.

٥١

( و ) أما ( إن كان له كفاية قيل ) بل في المسالك أنه الأشهر ( لا يجوز له أخذ الرزق ، لأنه يؤدي فرضا ) فلا يجوز له أخذ العوض عنه كغيره من الواجبات.

والثاني الجواز ، لعدم خروجه بالوجوب عن كونه من المصالح التي يؤخذ الرزق عليها وإن وجبت كالجهاد ، فيكون الارتزاق من بيت المال مسببا للقيام بمصلحة من مصالح المسلمين ، سواء كانت واجبة أم لا ، وسواء كان القائم محتاجا إليه أم لا.

ولكن الانصاف عدم خلو ذلك عن الاشكال ، لعدم الدليل ، وإنما المسلم الارتزاق مع الحاجة إليه ولو بسبب القيام بالمصلحة المانع له من التكسب ، سواء تعين عليه ذلك أو لا ، وليس هو في الحقيقة عوض معاملي ، بل لأن بيت المال معد للمحاويج سيما القائمين بمصالح المسلمين الذين يمنعهم القيام بذلك عن التكسب للمعاش ، وفي الدعائم (١) عن علي عليه‌السلام أنه قال : « لا بد من إمارة ورزق للأمير ، ولا بد من عريف ورزق للعريف ، ولا بد من حاسب ورزق للحاسب ، ولا بد من قاض ورزق للقاضي ، وكره أن يكون رزق القاضي على الناس الذين يقضي لهم ، ولكن من بيت المال » وهو وإن كان مطلقا ولكن لا جابر له على إطلاقه ، هذا كله في الارتزاق.

( أما لو أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف ) وقد ذكرنا التحقيق فيه في المكاسب (٢) وأنه لا يجوز مطلقا ، ولكن قال المصنف هنا ( والوجه التفصيل ) بين من لم يتعين عليه وكان مضطرا إليه‌

__________________

(١) ذكر صدره في المستدرك ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٣ وذيله في الباب ـ ٨ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ٢.

(٢) راجع ج ٢٢ ص ١٢٢ ـ ١٢٤.

٥٢

وبين غيره ، فيجوز في الأول دون الثاني وإن كان الأولى الامتناع أيضا.

وإلى ذلك أشار بقوله ( فمع عدم التعيين وحصول الضرورة قيل : ) ( يجوز ، والأولى المنع ) وإن كانت عبارته قاصرة التأدية ، ولعل الوجه في ذلك اقتضاء عدم الجواز تعطيل الوظيفة الدينية أو تحمل الضرر والحرج المنفيين عقلا وشرعا ، بل ربما كان من تكليف ما لا يطاق في بعض أفراده.

وفيه أن ذلك إن تم اقتضى جوازه حتى مع التعين ، لأن وجوبه لا يدفع الضرر الناشئ من ترك السعي على ضرورة الرزق والصبر على الجوع والجهد ، بل قد يناقش في أصل ذلك بأن القضاء إن كان مما يقبل العوض بإجارة أو جعالة جاز وإن لم يكن محتاجا إلى ذلك ، وإلا لم يجز وإن كان محتاجا ، ضرورة عدم اقتضاء الحاجة انقلاب الموضوع ، وقد تقدم التحقيق في المكاسب (١).

هذا وفي المسالك « ثم على تقدير جوازه بوجه ففي جواز تخصيص أحدهما به أو جعله على المدعى أو التشريك بينهما أوجه ، من الشك في أنها تبع للعمل أو للمنفعة الحاصلة ، فعلى الأول هو عليهما وعلى الثاني يجب على المحكوم له أو على المدعي ».

وفيه أن هذه الوجوه لا تأتي بعد فرض كون دفع الجعل عنه معاملة ، ضرورة تبعيتها لمن وقعت معه ، نعم لو قلنا بوجوب دفع ذلك عوضا عنه شرعا أمكن جريان هذه الاحتمالات ، هذا كله في القاضي.

( أما الشاهد فلا يجوز له أخذ الأجرة ) على أدائها لا ( لتعين الإقامة عليه مع التمكن ) بل للوجوب عليه وإن كان كفائيا ، ومن هنا أطلق الأصحاب على ما اعترف به في المسالك عدم جواز أخذها له‌

__________________

(١) راجع ج ٢٢ ص ١٢٢ ـ ١٢٤.

٥٣

معه كما اعترف به في المسالك ، نعم لو احتاج السعي لها إلى معونة في سفر جاز له أخذها ، لأن الواجب الإقامة كما دلت عليه الآية (١) لا السعي لها مع أنه استشكله في المسالك أيضا بأن السعي حينئذ مقدمة الواجب المطلق فيكون أيضا واجبا كأصله ، ولكن قد يدفع بظهور الأدلة في وجوبه بدنا لا مالا ، أما التحمل فمع عدم تعينه عليه قد يقال بجواز الأخذ عليه ، لكن الأولى تركه ، وقد تقدم في المكاسب (٢) ما يستفاد منه تحقيق الحال فيه.

( و ) كيف كان فلا إشكال في أنه ( يجوز للمؤذن والقاسم وكاتب القاضي والمترجم ) له ( وصاحب الديوان ) أي الكتاب الذي يجمع فيه أسماء الجند والقضاة والمدرسين وغيرهم من المرتزقة والكتبة ونحوهما ( ووالي بيت المال أن يأخذوا الرزق من بيت المال المعد للمصالح ) التي هذه منها ، بل أهمها وإن لم يجز بعضهم أخذ الأجرة كما تقدم في المكاسب (٣) إذ الارتزاق ليس أجرة وإن كان هو عوض.

( وكذا من يكيل للناس ويزن ومن يعلم الآداب والسنن ) (٤) وغيرهم ممن يقوم بمصالح المسلمين ، نعم قد عرفت احتمال اشتراط ذلك بالحاجة واشتغالهم بهذه المصالح عن التكسب للمعاش ، ولا ريب في أولوية التعفف مع الاستغناء ، والله العالم.

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٢.

(٢) راجع ج ٢٢ ص ١٢٤.

(٣) راجع ج ٢٢ ص ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٤) وفي الشرائع : « ومن يعلم القرآن والآداب ».

٥٤

المسألة ( السادسة : )

( تثبت ولاية القاضي بـ ) ـما يثبت به غيرها من سماع إنشائها والإقرار به أو البينة على ذلك أو ( الاستفاضة ) التي تسمى بالشياع الذي يحصل غالبا منه سكون النفس واطمئنانها بمضمونه ، خصوصا قبل حصول مقتضى الشك ، بل لعل ذلك هو المراد بالعلم في الشرع موضوعا أو حكما ، وحينئذ فلا ريب في الاكتفاء به قبل حصول مقتضى الشك ، أما معه فقد يشك فيه لكن في غير الولايات التي جرت السيرة بالاكتفاء بها بمثل ذلك.

( وكذا ) غيرها أيضا مما جرت السيرة في أنه ( يثبت بالاستفاضة ) من ( النسب ) ولو من طرف الأم على الأصح ( والملك المطلق والموت والنكاح والوقف والعتق ) والرق ونحوها ، لا لبعض ما ذكره غير واحد من الاعتبارات كعسر إقامة البينة عليها ونحوه مما لا يصلح أن يكون مدركا لحكم شرعي ، بل للسيرة فيما قامت عليه منها مؤيدة بما قيل من أن المراد بظاهر الحكم في‌ مرسل يونس (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام الاستفاضة ، قال فيه : « سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أيحل للقاضي أن يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال : فقال : خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم : الولايات والمناكح والذبائح والشهادات والمواريث ، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه » وفي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

٥٥

الفقيه (١) « الأنساب » مكان « المواريث » كما أن فيما حضرني من بعض نسخ التهذيب (٢) « الحال » بدل « الحكم » بل هو الذي رواه عنه في الوافي والوسائل ، ولعله بناء على أن المراد بظاهر الحكم هو ما ظهر بين الناس من الحكم ، بمعنى نسبة المحمول إلى الموضوع في الأمور المذكورة ، إذ هو معنى الشياع والاستفاضة المذكوران ، بل هما ظاهر الحال أيضا.

كما أن المراد من الاكتفاء به في الشهادات أنه تجوز الشهادة بما يحصل منه بمعنى ، كما يقول : « دار زيد وقف وعمرو بن خالد » ونحو ذلك مما هو متعارف بين الناس من الحكم في ذلك إذا كان شائعا كما يومئ إليه الصحيح الآتي ، أو أن المراد متعلق الشهادة من عدالة أو جرح. وعلى كل حال فلا ريب في أنه مؤيد لما عرفت.

وفي‌ صحيح حريز (٣) قال : « كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله عليه‌السلام دنانير وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال إسماعيل : يا أبه إن فلانا يريد الخروج إلى اليمن وعندي كذا وكذا دينارا أفترى أن أدفعها يبتاع لي بها بضاعة من اليمن : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا بني أما بلغك أنه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل : هكذا يقول الناس ، فقال : يا بني لا تفعل ، فعصى أباه ودفع إليه دنانيره ، فاستهلكها ولم يأت بشي‌ء منها ، فخرج إسماعيل وقضى أن أبا عبد الله عليه‌السلام حج وحج إسماعيل تلك السنة فجعل يطوف البيت وهو يقول : اللهم أجرني واخلف علي ، فلحقه أبو عبد الله (ع)

__________________

(١) راجع الفقيه ج ٣ ص ٩ ـ الدقم ٢٩.

(٢) راجع التهذيب ج ٦ ص ٢٨٨ ـ الرقم ٧٩٨.

(٣) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من كتاب الوديعة ـ الحديث ١.

٥٦

فهمزه بيده من خلفه ، وقال له : مه يا بني ، فلا والله ما لك على الله هذا ولا لك أن يأجرك ولا يخلف عليك وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته ، فقال إسماعيل : يا أبه إني لم أره يشرب الخمر إنما سمعت الناس يقولون ، فقال : يا بني إن الله عز وجل يقول في كتابه ( يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) يقول : يصدق لله ويصدق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم ، ولا تأتمن شارب الخمر ، فان الله تعالى يقول ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) (٢) فأي سفيه أسفه من شارب الخمر ، إن شارب الخمر لا يزوج إذا خطب ، ولا يشفع إذا شفع ، ولا يؤتمن على أمانة ، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله أن يأجره ولا يخلف عليه ».

إذ هو كما ترى كالصريح في اعتبار الشياع الذي هو أعلى أفراده قول الناس وشهادة المؤمنين ونحوهما مما هو مذكور فيه ، وبه أدرجه فيما دل على النهي عن ائتمان شارب الخمر.

ومنه يعلم أنه لا مدخلية لمفاده الذي يكون تارة علما وأخرى متاخما له وثالثة ظنا غالبا في حجيته ، وإنما المدار على تحققه ، بل ظاهر الصحيح المزبور عموم اعتباره لغير المذكورات في المتن ، بل صريحه ثبوت الفسق به ، ولعله كذلك وإن اقتصر الجماعة على الأمور المخصوصة ، لكن المراد غلبة تحقق الشياع فيها ، لا أن المراد عدم اعتباره وإن فرض تحققه في غيرها ، إذ لا دليل على ذلك ، بل لعل ظاهر الأدلة خلافه ، بل صريح بعضهم ثبوت الهلال وغيره به ، وحينئذ فالتحقيق ما عرفت.

ولا ينافي ذلك ما في بعض النصوص (٣) من حصر الحجة والقضاء‌

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ ـ الآية ٦١.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٥.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٥٧

بالبينات ، إذ هو من قبيل العام والخاص بعد فرض قيام الدليل على حجيته ، مع احتمال كون المراد أنها حجة مطلقا بخلاف الشياع ، فان المعتبر منه قل ما يتفق في غالب الموضوعات خصوصا إذا كان المراد شياع الحكم الذي هو بمعنى التصديق ، كأن يقول : زيد ابن عمرو مثلا لا الإطلاق الذي هو ليس من ذلك ، وفرق واضح بينهما كما أومى إليه في خبر يونس (١) المزبور.

ومن التأمل فيما ذكرنا يظهر ما في كلام الأصحاب من التشويش والاضطراب والتهجس الناشئ من عدم دليل مخصوص على الحجية ، فيعتبر فيه العلم حينئذ ، ولكن ينبغي التعدي فيه عن المواضع المخصوصة ضرورة عدم الفرق بينها وبين غيرها بعد جعل المدار العلم ، والله العالم.

( و ) كيف كان فـ ( ـلو لم يستفض إما لبعد موضع ولايته عن موضع عقد القضاء له ) فلا يحصل شياع ( أو لغيره من الأسباب ) كتعمد الامام عليه‌السلام إخفاءه لمصلحة من المصالح أو نحو ذلك ( أشهد الإمام عليه‌السلام أو من نصبه الامام على ولايته شاهدين ) عدلين ( بصورة ما عهد إليه وسيرهما معه ليشهدا له بالولاية ) بناء على عدم اعتبار حكم حاكم في حجية البينة أو كان ولو في غير تلك الولاية أو القاضي الأول إذا كان عزله معلقا على ثبوت ولاية الثاني عنده مثلا ، بناء على جواز مثل هذا التعليق في العزل ، كما صرح به في القواعد ، بل جوز فيها تعليقه على قراءة الكتاب المتضمن له وإن قال في المسالك : « إنه لا يوافق قواعد الأصحاب ، وقد حكموا ببطلان الوكالة المعلقة ، وهي أضعف حالا من ولاية القاضي ؛ ومن ثم قال في الدروس : وفي جواز تعليق العزل وجه ضعيف ».

وفيه أنه فرق واضح بين الوكالة التي هي عقد من العقود الممتنع‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٥٨

فيها التعليق المنافي لظاهر ما دل على تسبيبها وبين المقام الذي هو من المناصب ، نحو قوله : « فلان أميركم إن مات فلان أو عرض فيه عارض » ومن هنا جاز فيه ما لم يجز في الوكالة ، كالنصب في زمن الغيبة الذي لم يجز نحوه فيها قطعا ، بل قد عرفت جوازه في الوصاية التي هي من الولايات ، فلاحظ وتأمل ، فإنه قد ذكرنا سابقا عدم منافاة تعليق المنشأ للإنشاء الفعلي ، ولذا جاز في النذر والوصية وغيرهما ، نعم هو مناف لظاهر مقارنة ترتب المسبب للسبب الشرعي الذي هو كالعقلي بالنسبة إلى ذلك ، لظهور الأدلة ، أما في المقام فليس في الأدلة ما يقتضي ذلك ، فيبقى جوازه على مقتضى الإطلاق ، خصوصا بعد عدم إجماع هنا على اعتبار التنجيز ، بل العكس مظنته ، والله العالم.

( و ) على كل حال فـ ( ـلا يجب على أهل الولاية قبول دعواه ) وإن لم يكن له معارض ( مع عدم البينة ) والشياع ( وإن شهدت له الأمارات ) التي لم تجعل في الشرع دليلا على مثل ذلك ( ما لم يحصل اليقين ) بها فإنه ليس وراء العلم من شي‌ء ، كما في غير ذلك من الدعاوي ، كما هو واضح ، والله العالم.

المسألة ( السابعة : )

لا خلاف في أنه ( يجوز نصب قاضيين في البلد الواحد لكل منهما جهة على انفراده ) بأن خصص كل واحد منهما بطرف منها ، أو عين كل واحد منهما زمانا ، أو جعل أحدهما قاضيا في الأموال والآخر في الدماء والفروج ونحو ذلك.

( وهل يجوز التشريك بينهما في الجهة الواحدة ) على جهة الاجتماع‌

٥٩

على الحكم الواحد؟ وجهان أقواهما الجواز وفاقا للفاضل وولده فيما حكي عنهما ، كما في الوصيين والوكيلين ، للأصل ولأنه أضبط وأوثق للحكم ، خصوصا بناء على ما هو الحق عندنا من أن المصيب واحد.

نعم قد يمنع التشريك بينهما على إرادة كون القاضي مجموعهما على وجه يكون كل واحد نصف قاض ، بل الظاهر امتناع ذلك في جميع الولايات ، بل هو كذلك في الوكالة أيضا ، لعدم وفاء الأدلة في مشروعية ذلك ، فتبقى على أصالة العدم.

وإطلاق التشريك والمعية هنا وفي كتاب الوصية في عبارات الأصحاب يراد منها عدم نفوذ تصرف أحدهما بدون رضا الآخر ، لا أن المراد التشريك في نفس الوصاية ، بل كل منهما وصي إلا أنه لا ينفذ تصرفه إلا بتنفيذ الآخر ، ومن هنا لو مات أحدهما يبق الآخر وصيا ، بل لا يحتاج إلى ضم غيره معه من الحاكم ، بناء على كون المراد من التشريك المزبور حال إمكانه.

وإفراد الرسول في موسى وهارون والتشريك في الأمر يراد به إثبات الرسالة لكل منهما بدليل التصريح بنبوة هارون ، فلا ريب في كون المراد هنا ما ذكرناه ، وحينئذ فلو اختلف حكمهما وقف الحكم وإلا نفذ.

وأولى من ذلك بالجواز التشريك بينهما على جهة الاستقلال كما في نصب الغيبة وإن ( قيل بالمنع ) هنا أيضا قياسا على الولاية العظمى ( وحسما لمادة اختلاف الخصمين في الاختيار ).

( و ) لكن قد عرفت أن ( الوجه الجواز ) للأصل و ( لأن القضاء نيابة تتبع اختيار المنوب ) والقياس ـ مع بطلانه في نفسه عندنا ـ ممنوع هنا في المقيس عليه ، كما في موسى وهارون ، والتنازع يندفع بتقديم من سبق داعيه منهما.

٦٠