جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وفي المسالك « وإن كانت بينة الآخر أي الخارج أسبق تأريخا فان لم يجعل سبق التأريخ مرجحا فكذلك يقدم الداخل ، وإن جعلناه مرجحا ففي ترجيح أيهما وعدمه أوجه : أحدها ترجيح اليد ، لأن البينتين متساويتان في إثبات الملك في الحال ، فيتساقطان فيه ، ويبقى من أحد الطرفين اليد ، ومن الآخر إثبات الملك السابق ، واليد أقوى من الشهادة على الملك السابق ، ولهذا لا يزال بها ، والثاني ترجيح السبق ، لأن مع أحدهما ترجيحا من جهة البينة ، ومع الأخرى ترجيحا من جهة اليد ، والبينة تتقدم على اليد ، فكذلك الترجيح من جهتها يتقدم على الترجيح من جهة اليد ، والثالث أنهما متساويان ، لتعارض المعنيين ».

قلت : لا يخفى عليك التحقيق في المسألة ، وهو بناء على أن للداخل بينة فلا ريب في تقديم قوله سواء كانت بينته الأسبق تأريخا أو بينة الخارج لبقاء مقتضي اليد الصالح لقطع الاستصحاب ، وإن قلنا لا بينة له فلا ريب في تقديم بينة الخارج التي لا تصلح اليد لمعارضتها ، والفرض عدم البينة له ، سواء اشتملت على تأريخ سابق أو لا.

هذا وقد يظهر من إطلاق المصنف عدم اشتراط إضافة البينة بالملك القديم التعرض للملك في الحال ، وفي المسالك وهو أحد الوجهين في المسألة ، لأن الملك إذا ثبت سابقا فالأصل فيه الدوام والاستمرار ، فلا يفتقر إلى التصريح باستمراره ، والثاني وهو المشهور أن الشهادة بالملك القديم لا تسمع حتى تقول هو ملكه في الحال أو لا أعلم له مزيلا ، حتى لو قال : لا أدري زال أم لا لا تقبل ، لتضمنها ترددا وريبة تنافي الشهادة.

بل في القواعد « لو قال : اعتقد أنه ملكه الآن بالاستصحاب ففي قبوله إشكال » وفي كشف اللثام « من أنه تصريح بمستند الشهادة بالملك في الحال ، إذ لا طريق إلى العلم ، فكما تسمع مع الإهمال تسمع مع التصريح ،

٤٤١

وهو خيرة التحرير ، ومن أنه ربما انضم إلى الاستصحاب أمور أخر تقوى بقاء الملك حتى يكاد يحصل العلم به ، وهو الأقوى ».

وفي المسالك « الحق أن إطلاق الشهادة بالملك القديم لا تسمع ، لعدم التنافي بين كونه ملكا له بالأمس مع تجدد انتقاله عنه اليوم وإن كان الشاهد يعلم بذلك ، بل لا بد من إضافة ما يفيد عدم علمه بتجدد الانتقال ، وذلك يتحقق بهذه الصيغ وإن كان الاقتصار على ما لا يشتمل على التردد أولى ».

قلت : لا مدرك للمسألة بحسب الظاهر إلا صدق اسم الشهادة عرفا ، فلا حكم للمشكوك فيها فيه فضلا عن غيرها ، ولا ريب في عدم صدق الشهادة بالملك في الحال بمجرد الشهادة على قدم الملك ، بل قد يشك في صدقها مع التصريح بالاستصحاب ، بل ومع قوله : « لا أعلم له مزيلا » فضلا عن قول : « لا أدري زال أم لا » وجواز الشهادة بالاستصحاب لا يقضي تحقق اسمها مع التصريح به أو بما يساويه ، وإنما المعلوم كونها شهادة عرفا قوله : « هو ملكه في الحال » ولعله لذا اقتصر عليه بضعهم كما عن آخر التصريح بإرادة تحقيق الملك الحال من قوله : « لا أعلم له مزيلا » نحو القول إن هذا الأمر قطعي لا أعلم فيه مخالفا ففي الحقيقة هو شهادة على عدوان اليد المعارضة.

ومنه حينئذ يعلم عدم انتزاع المال ممن في يده ببينة أنه لغيره سابقا ، ولا أعلم له مزيلا على إرادة عدم العلم حقيقة لا العلم بالعدم إلا بناء على انتزاعها منه بالاستصحاب ، وستسمع الكلام فيه عند تعرض المصنف له في المسألة الخامسة.

وما عساه يظهر من بعض الناس ـ من الإجماع على كون الشهادة المزبورة كالشاهدة على الملك في الحال في الانتزاع بها ، بل مرجع الأخيرة إلى الأولى عند التحليل ، ضرورة عدم الإحاطة بأسباب الانتقال التي منها‌

٤٤٢

ما يقع بين المالك وبين نفسه من دون اطلاع أحد ، وحينئذ فما دل على الأخذ بشهادة العدلين من‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « البينة على المدعي » شامل للصورتين ، بل محل البحث منهما هي الغالبة ، لندرة البينة المطلعة على العدم ـ لم أتحققه ، فإن تم كان هو الحجة وإلا فالمسألة ، محل نظر ، والظاهر عدم تماميته حيث يراد قيامها على مال في يد مسلم ، نعم ربما يقال بتماميته حيث لا تكون يد ، كما في خبر حمران (٢) المشتمل على دعوى ملكية جارية بنت سبع سنين ، فلاحظ.

بل قد يقال بعدم جواز الشهادة بالاستصحاب المعارض باليد التي لم يعلم فسادها وإن جوزناها به مع عدم المعارضة ، كما تجوز باليد وغيرها من الأمارات الشرعية ، فتأمل جيدا.

هذا وفي كشف اللثام « وللشيخ في كل من الخلاف والمبسوط قولان إذا لم يقيده بإحدى العبارتين أي الملك في الحال أو لا أعلم له مزيلا ، وكان وجه عدم اعتبار التقييد أنه إذا ثبت الملك استصحب إلى أن يظهر المزيل ، واستوجهه في محكي التحرير ، وهو كذلك إذا لم تعارضه يد أو غيرها مما تقتضي انقطاعه ».

ولكن لا يخفى عليك خروج ذلك عما نحن فيه الذي هو الشهادة بالملك الحالي لا استصحاب المشهود به الذي هو الملك السابق وأحدهما غير الآخر ، ضرورة أن الأخير عمل باستصحاب المشهود به لا بالشهادة عليه وفرق واضح بينهما. هذا كله في الشهادة بالملك السابق.

أما لو شهد بأنه أقر له بالأمس ففي القواعد « ثبت الإقرار ، واستصحب موجبه وإن لم يتعرض الشاهد للملك الحالي » وفي كشف اللثام « كما إذا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٩.

٤٤٣

سمعنا نحن منه الإقرار حكمنا بالملك للمقر له إلى ظهور المزيل ، والفرق بين ثبوت الملك بالإقرار وثبوته بالبينة ظاهر » وفيه نظر يأتي الكلام فيه عند تعرض المصنف.

وكيف كان فقد ظهر لك الحال في الترجيح بزيادة التأريخ ( وكذا ) بزيادة غيره.

أما ( الشهادة بالملك ) فلا ريب أنها ( أولى من الشهادة باليد لأنها محتملة ) للملك وغيره وإن كانت ظاهرة فيه لكن مع عدم معارضة الصريح فيه ، إذ من المعلوم عقلا ونقلا عدم معارضة الظاهر للنص ، ولذا لم تعارض اليد الفعلية الحسية البينة على الملك فعلا ، كما هو المعلوم من‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « البينة على المدعي » وغيره ، فضلا عن اليد الثابتة بالبينة.

( وكذا الشهادة بسبب الملك ) من شراء ونحوه ( أولى من الشهادة بالتصرف ) الذي يكون عن ملك وعن وكالة وعن غيرها وإن كان هو ظاهرا في الأول ، لكن مع عدم معارضة الصريح فيه ، نحو ما سمعته في اليد الذي ما نحن فيه قسم منها في الحقيقة ، ومن هنا تقدم البينة المزبورة على التصرف المحسوس فعلا فضلا عن الثابت بالبينة ، بل الظاهر كون الحكم كذلك وإن لم تشتمل بينة الملك على السبب ، إذ العلة جارية فيهما ، كما هو واضح.

وبذلك ظهر لك أن مقصود المصنف وغيره عدم التعارض بين بينة الملك أو اليد والتصرف حيث يتعلقان بمورد واحد ، كما لا تعارض بينة القديم للأقدم والحادث للقديم.

هذا ولكن في المسالك بعد ما ذكر نحو ما ذكرنا « ولا فرق على‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٥.

٤٤٤

هذا التقدير بين تقديم تأريخ شهادة اليد ـ بأن شهدت أن يده على العين منذ سنة ، وشهدت بينة الملك بتأريخ متأخر أو بأنه يملكه في الحال ـ وتأخره ، لاشتراك الجميع في المقتضى ، وهو احتمال اليد بخلاف الملك ، وفي هذه المسألة قول بتقديم اليد على الملك القديم ، وسيأتي الكلام فيه ».

وهو كما ترى ، ضرورة أجنبية ذلك عما نحن فيه ، وهو ما عرفت من إرادة بيان عدم تعارضهما بعد فرض تعلقهما بمورد واحد ، لا أن المراد عدم معارضة اليد الفعلية للملكية السابقة المختلف متعلق كل منهما ، نعم في معارضة اليد لاستصحاب الملك السابق بحث تسمع الكلام فيه إنشاء الله في المسألة الخامسة ، وهو غير ذلك.

المسألة ( الثالثة : )

( إذا ادعى شيئا ) في يد آخر ( فقال المدعى عليه : هو لفلان اندفعت عنه المخاصمة ) فعلا ( حاضرا كان المقر له أو غائبا ) وسواء قال : هو وديعة عندي أو عارية أو لم يقل ، لعدم يمين له عليه ، إذ لا يحلف على مال لغيره.

( و ) لكن ( إن قال المدعي : أحلفوه أنه لا يعلم أنها لي توجهت اليمين ) عليه كما في القواعد وغيرها ، بل هو أحد قولي الشيخ على ما قيل ( لأن فائدتها الغرم لو امتنع ) عنها وأحلف المدعى ، لحيلولته حينئذ بين المالك وماله بإقراره ( لا القضاء بالعين لو نكل أو رد ) لصيرورتها مال الغير بالإقرار السابق الذي لا يبطله الإقرار اللاحق فضلا عما كان بحكمه.

( وقال الشيخ : لا يحلف و ) ذلك لأنه ( لا يغرم لو نكل ) ‌

٤٤٥

بل أو أقر للمدعي ، لعدم صدق الإتلاف بذلك شرعا.

( والأقرب ) عند المصنف وغيره ( أنه يغرم ، لأنه حال بين المالك وبين ماله بإقراره لغيره ) فهو كالمتلف نحو ما تسمعه في ضمان شاهد الزور.

هذا ولكن في المسالك بعد أن فرع توجه الدعوى على القول بالغرم بإقراره اللاحق قال : « وإن قلنا لا ـ وهو أحد قولي الشيخ ـ فان قلنا النكول ورد اليمين كالإقرار لم يحلفه ، لأنه وإن أقر أو نكل وحلف المدعي لا يستفيد شيئا ، وإن قلنا كالبينة فله التحليف ، لأنه قد ينكل فيحلف المدعي ، فإذا حلف وكانت العين تالفة أخذ القيمة ».

وفيه ـ بعد الإغماض عما في تقييده بتلف العين ـ أن غاية ذلك كون اليمين المردودة كالبينة على إقراره مع علمه بكونه للمدعى ، والفرض عدم اقتضاء ذلك الغرم لو أقر به هو ، وليس هو بينة على كون المال له ، ضرورة كون الدعوى علمه بالمال ( بالحال خ ل ) فهي تكون كالبينة على ذلك ، ولا تزيد على الإقرار المفروض عدم الغرم به كما هو واضح ، ولذا حكى عن الشيخ إطلاق عدم توجه اليمين على التقدير المزبور ، فتأمل.

( ولو أنكر المقر له حفظها الحاكم ) بعد أن ينتزعها منه ، ( لأنها خرجت عن ملك ) ه‍ أي ( المقر ولم تدخل في ملك المقر له و ) حينئذ فـ ( ـلو أقام المدعي بينة ) ولو شاهدا ويمينا على أنها له ( قضي ) بها ( له ) أما إذا لم تكن له بينة فلا يقضي بها له.

واحتمل في القواعد دفعها إليه بلا بينة ولا يمين ، لعدم المنازع له فيه ، وهو بعيد ، لكونها في يد.

وأبعد منه ما عن بعض العامة من أنه يقال للمقر إنك نفيت أن تكون لك وقد رده المقر له ، فان لم تقر به لمعروف تنصرف الخصومة‌

٤٤٦

إليه أو تدعيه لنفسك وإلا جعلناك ناكلا ، وحلف المدعي واستحق ، إذ لا يخفى عليك ما فيه.

وعن التحرير احتمال تركها في يد المقر إلى قيام حجة ، لأنه أقر للثالث ، وبطل إقراره ، فكأنه لم يقر ، وفيه أن بطلانه بالنسبة إلى تملك المقر له لا بالنسبة إلى نفيها عنه ، كما هو واضح.

وإن رجع المقر له عن إنكاره وصدق المقر في كونه له فعن التذكرة أن له الأخذ عملا بإقرار المقر السالم عن إنكاره ، لزوال حكمه بالتصديق الطاري فتعارضا وبقي الإقرار سالما عن المعارض ، وتردد فيه في محكي التحرير ، وفيه منع زوال حكمه بذلك بالنسبة إلى نفيه عنه ، ومن هنا لو رجع ذو اليد فقال : غلطت بل هو لي لم يقبل منه ، كما عن الكتابين المزبورين الاعتراف به بناء على انتزاع الحاكم ، لخروجه عن يده وأخذه بإقراره الأول ، والله العالم.

ثم الحكم في المقر له الغائب كالحكم في الحاضر بالنسبة إلى تصديقه وتكذيبه ، وللمدعي إقامة البينة وأخذه قبل معرفة حاله ، ولكن هو من الحكم على الغائب ، فينبغي مراعاة شروطه السابقة كما له أيضا إحلافه على عدم العلم ، نحو ما سمعته في الحاضر.

نعم في القواعد « إذا نكل وحلف المدعي فهل ينتزع العين أو يغرم له؟ الأقرب الثاني ، وعلى الأول إن رجع الغائب كان هو صاحب اليد ، فيستأنف الخصومة معه ، ولو كان للمدعي بينة فهو قضاء على الغائب يحتاج إلى يمين ، ولو كان لصاحب اليد بينة على أنه للغائب سمعت إن أثبت وكالة نفسه ، وقدمت على بينة المدعي إن قلنا بتقديم بينة ذي اليد ، وإن لم يدع وكالة فالأقرب السماع وإن لم يكن مالكا ولا وكيلا ، لدفع اليمين عنه ، ولو ادعى رهنا أو إجارة سمعت ، فان سمعنا لصرف‌

٤٤٧

اليمين قدمت بينة المدعي في الحال ، وإن سمعنا لعلقة الإجارة والرهن ففي تقديم بينته أو بينة المدعي إشكال ».

وهو جيد إلا دعوى دفع اليمين عنه بالبينة المزبورة التي لا وجه لإقامتها منه مع فرض عدم كونه وكيلا ولا صاحب حق وإن قلنا بانتفاعه بها لو أقامها المقر له في دفع اليمين عنه من حيث الإقرار الذي لا حيلولة به في الفرض بناء على ثبوت المال بالبينة ، وأما ما ذكره من الإشكال فالأقرب أنهما معا خارجان ، والله العالم.

ولو أقر بها لمن يمتنع مخاصمته وتحليفه كما لو قال : هي وقف على الفقراء ، أو على مسجد ، أو على ابني الطفل ، أو هي ملك له انصرفت الخصومة عنه ، ولا سبيل إلى تحليف الولي ولا الطفل ، ولا تغني إلا البينة.

وفي المسالك « وإذا قضى له الحاكم بالبينة وكان الإقرار لطفل كتب الحاكم صورة الحال في السجل ليكون الطفل على حجته إذا بلغ ».

قلت : قد يقال : بعدم الحجة له لوجود وليه القائم مقامه الذي هو أولى من الوكيل ، فتأمل. هذا كله إذا أقر بها لمعين.

( أما لو أقر المدعى عليه بها لمجهول ) فقال : هي ليست لي ولكن لمن لا أسميه ففي القواعد وغيرها ( لم تندفع الخصومة ) عنه ( وألزم البيان ) أو الاعتراف للمدعي قيل أو الادعاء لنفسه.

وفيه أنه مناف لإقراره الأول ، كما أنه قد يناقش في أصل عدم اندفاع الخصومة عنه بعد الحكم شرعا بانتفاء المال عنه ، وحينئذ يأخذه الحاكم منه وينحصر إثباته للمدعي بإقامة البينة عليه.

ولو قال المدعي للعين : هي وقف علي وأقر بها من هي في يده لآخر وصدقه فقد عرفت انصراف الخصومة عنه ، لكن في المسالك في‌

٤٤٨

إحلافه هنا وإن قلنا به في غيره وجهان ، من حيث إن المدعي قد اعترف بالوقف والوقف لا يعتاض عنه ، ومن أنه مضمون بالقيمة عند الإتلاف والحيلولة في الحال كالإتلاف ، وهذا أقوى ».

المسألة ( الرابعة : )

( إذا ادعى ) مدع ( أنه ) مثلا قد ( آجره الدابة ) المعينة لمن هي في يده مدة معينة ( وادعى آخر أنه أودعه ) أو أعاره ( إياها ) في المدة المزبورة ( تحقق التعارض مع ) فرض ( قيام البينتين بالدعويين ) وعدم تصديق من هي في يده لأحدهما لموته أو عدم حضوره أو غير ذلك ( وعمل بالقرعة مع ) فرض ( تساوي البينتين في عدم الترجيح ) بشي‌ء من المرجحات السابقة ، فيحلف من خرجت القرعة باسمه ، فان نكل حلف الآخر وإن نكلا قسمت العين بينهما نصفين ، إذ هي حينئذ من دعوى الملك بدعوى اليد والتصرف من كل منهما ، فيجري فيها الحكم السابق ، ولا تكون المسألة حينئذ من مسألة الاختلاف في العقود كي ينبغي للمصنف ذكرها في الفصل الثاني ، بل هي من الاختلاف في الأملاك حينئذ ، ولذا ذكرها في فصله.

وأصرح منها عبارة الإرشاد ، قال : « ولو أقام بينة بإيداع ما في يد الغير منه وآخر بينة باستئجار القابض منه أقرع مع التساوي » ومثلها عبارته في التحرير ، وبما ذكرناه شرحها في مجمع البرهان إلى أن قال : « وإن نكلا يمكن الحكم بالقسمة كما مر ، ويحتمل ترجيح من صدقه المتشبث ، وأن للآخر تحليفه على عدم العلم بأنه له ، بل لكل واحد على تقديري دعوى العلم وإنكاره يمكن تحليفه ».

٤٤٩

قلت : لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه سابقا بعد أن كان ما نحن فيه منه. هذا وفي المسالك في شرح العبارة « المراد أن الدابة في يد المدعى عليه ، والمدعيان خارجان فادعى أحدهما أنه آجرها من صاحب اليد وادعى الآخر أنه أودعه إياها ، فان لم يقيما بينة حكم بها لمن يصدقه المتشبث ، وإن أقام كل منهما بينة بدعواه تحقق التعارض بين البينتين مع الإطلاق أو اتحاد التأريخين ، وحينئذ فيرجع إلى ترجيح إحدى البينتين بالعدالة أو العدد ، فان انتفى فالقرعة ، ولو تقدم تأريخ إحداهما بنى على الترجيح به وعدمه ، وقد تقدم نظيره في الملك وسيأتي مثله ، وقد كان ذكر هذه المسألة في المقصد الثاني أولى ، لأن الاختلاف فيها اختلاف في العقود ».

وفيه ـ مع أن ظاهر عدم العبرة بتصديق المتشبث مع قيام البينتين ـ أنه قد جعل المسألة من الاختلاف في العقود الذي معناه اختلاف فيها مع الاتفاق على المالك ، وهو غير ما ذكرناه ، على أن قوله أولا : « في يد المدعى عليه » يقتضي كون الدعوى منهما عليه ، مع أن المسألة في الدعوى بينهما مع قطع النظر عمن في يده ، فتأمل.

نعم هي في القواعد مفروضة في اختلاف العقود ، قال : « ولو ادعى استئجار العين وادعى المالك الإيداع تعارضت البينتان وحكم بالقرعة مع تساويهما » وشرحها في كشف اللثام فقال : « ولو ادعى استئجار العين وادعى المالك الإيداع فكل منهما يدعي عقدا مخالفا لما يدعيه الآخر وإن تضمن الأول تسلط ذي اليد على المنافع دون الثاني ، فإذا أقام كل منهما بينة تعارضت البينتان ، وحكم بالقرعة واليمين مع تساويهما فيما عرفت ، ومع نكولهما يقتسمان المنافع بانقسام المدة أو العين في تمام المدة ».

وفيه ما لا يخفى حتى دعوى القسمة بينهما على الوجه المزبور ، ومن‌

٤٥٠

هنا قال : « والأقوى أن القول قول المالك والبينة بينة الآخر ، للإنفاق على أن العين والمنافع ملك له ، فمن يدعي الاستئجار يدعي تمليك المنافع وهو ينكره ، وقد‌ روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) « في الثوب يدعيه الرجل في يد رجل فيقول الذي هو في يديه : هو لك عندي رهن ، ويقول الآخر : هو لي عندك وديعة ، قال : القول قوله ، وعلى الذي في يديه البينة أنه رهن عنده » ويحتمل العكس بعيدا بناء على أنه ذو يد واليد كما ترجح ملك العين ترجح ملك المنفعة » انتهى. وهو جيد لكن ينبغي بناء المسألة على تقديم بينة الداخل والخارج.

وكيف كان فما ذكره المصنف بناء على ما عرفت غير مفروض القواعد وإن أبيت عن تفسير المتن بما سمعت ، لعدم مدخلية اختلافهما في الإجارة والإيداع في ذلك ، ضرورة مساواته لما إذا ادعى كل منهما الإجارة أو الوديعة ، إذ المراد بيان كونها له بذلك. فالمتجه حينئذ تفسيرها بإرادة بيان التداعي بين المدعيين الخارجين مع قطع النظر عن المالك لغيبة مثلا أو غيرها ، فقال أحدهما : إن المالك قد آجرها لي سنة مثلا وقال الآخر : إن المالك أو دعنيها أو أعارنيها السنة المزبورة وأقام كل منهما بينة واتحد تأريخهما وعددهما وعدالتهما يقرع بينهما ، إلا أن الظاهر كونها قرعة تعيين لا لليمين ، إذ القول بالتنصيف بينهما على الوجه الذي سمعته من الفاضل في دعوى المالك وغيره واضح الضعف ، لعدم مساعدة الأدلة عليه ، وأقرب منه القول على تقدير اليمين وقوف الدعوى مع نكولهما وعدم الحكم بصحة دعوى أحد منهما ، والله العالم.

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ١٤ ـ من كتاب الرهن ـ الحديث ٢.

٤٥١

المسألة ( الخامسة : )

( لو ادعى دارا ) مثلا ( في يد انسان وأقام بينة أنها كانت في يده أمس أو منذ شهر قيل ) كما عن الإسكافي والشيخ في محكي المبسوط والخلاف ( لا تسمع هذه البينة ) بل ( وكذا لو شهدت له بالملك أمس ، لأن ظاهر اليد الآن الملك ) فعلا ( فلا تدفع بالمحتمل ) وهو اليد والملك السابقان ، ولعدم تطابق الشهادة والدعوى التي هي الملك الآن ، والاستصحاب مقطوع بظاهر اليد.

( وفيه إشكال ، ولعل الأقرب القبول ) عند المصنف كما هو أحد قولي الشيخ أيضا ، لأن اليد الحاضرة وإن كانت دليل الملك لكن السابقة المستصحبة والملك السابق كذلك أولى ، لمشاركتها لها في الدلالة على الملك الآن وانفرادهما بالزمن السابق ، فيكونان أرجح ، والحكم باستصحابها أوجب المطابقة بين الدعوى والشهادة ، ولأن الثابت من اقتضاء اليد الملكية فعلا حال عدم ما يعارضها ولو استصحاب يدعيه الخصم ، ولذا صرح غير واحد بانتزاع العين من يد من أقر بأنها ملك المدعي أمس.

بل في الكفاية « وفي كلامهم القطع بأن صاحب اليد لو أقر أمس أن الملك له أو شهدت البينة بإقراره له أمس أو أقر بأن هذا له أمس قضي به له » وإن استشكل هو في إطلاق ذلك.

ودعوى ظهور الفرق بين ثبوت الملك بالإقرار وبين ثبوته بالبينة كما سمعته سابقا من كشف اللثام كما ترى.

وكان عبارة الفاضل في القواعد لا يخلو من تدافع في الجملة ، حيث‌

٤٥٢

قال في المسألة : « ولو شهد أنه كان في يد المدعي بالأمس قبل ، وجعل المدعي صاحب يد ، وقيل : لا يقبل لأن ظاهر اليد الآن الملك ، فلا يدفع بالمحتمل ، نعم لو شهدت بينة المدعي أن صاحب اليد غصبه أو استأجرها منه حكم له ، لأنها شهدت بالملك وسبب يد الثاني » وقد قال سابقا : « ولو شهدت البينة بأن الملك له بالأمس ولم تتعرض للحال لم تسمع إلا أن تقول : وهو ملكه في الحال أو لا نعلم له مزيلا ، ولو قال : اعتقد أنه ملكه بالاستصحاب ففي قبوله إشكال ، أما لو شهد بأنه أقر له بالأمس ثبت الإقرار واستصحب موجبه وإن لم يتعرض الشاهد للملك الحالي ، ولو قال المدعى عليه : كان ملكك بالأمس انتزع من يده ، فيستصحب بخلاف الشاهد ، فإنه عن تخمين ، وكذا يسمع من الشاهد لو قال : هو ملكه بالأمس اشتراه من المدعى عليه ، أو أقر له المدعى عليه بالأمس ، لأنه استند إلى تحقيق ».

ومثلها عبارة الإرشاد قال : « ولو شهدت بملكه في الأمس لم تسمع حتى تقول : وهو ملكه في الحال أو لا أعلم زواله ، ولو قال : لا أدرى زال أم لا لم يقبل ، أما لو قال هو ملكه بالأمس اشتراه من المدعى عليه أو أقر له به أو غصبه من المدعي أو استأجره منه قبل ، ولو شهد بالإقرار الماضي ثبت وإن لم يتعرض للملك في الحال ، ولو قال المدعى عليه : كان ملكك بالأمس انتزع من يده ، ولو شهد أنه كان في يده أمس ثبتت اليد وانتزعت من يد الخصم على إشكال ».

وفي غاية المراد التصريح باختيار المصنف وكذا الفاضل في المختلف واقتصر في الدروس على نقل القولين من دون ترجيح ، ولعل الوجه في ذلك منهم ما أشرنا إليه سابقا من عدم الحكم بالشهادة حتى يضيف إليها ما يقتضي الشهادة بالحال ، أما مع عدم ذلك فليس إلا الاستصحاب ،

٤٥٣

وهي المسألة التي اختلف فيها كلام الشيخ.

وعلى كل حال فقد احتج في المختلف على مختاره بما حاصله أنه قد بينا تقديم البينة التي تشهد بالملك القديم على البينة التي تشهد بالملك الحادث ، وهو مما لا يجتمع مع القول بعدم الحكم بسبق اليد التي هي دليل ظاهر على الملكية ، فإذا ثبت بالبينة أو بالإقرار سبقها فقد ثبت دليل الملك ، وثبوت دليل الملك يقتضي ثبوت مدلوله ، وإلا لم يكن دليلا ، وقد عرفت تقديم بينة قدم الملك ، ثم حكى عن الشيخ الاحتجاج بأعمية اليد السابقة من الملكية ، وأجاب بمنع ذلك ، فان اليد مع عدم دليل ينافي الملكية دليل عليها ، وإلا لجاء ذلك في اليد المتأخرة أيضا.

وفي المسالك بعد أن ذكر القولين ومختار المصنف منهما ودليله قال : « وقد تقدم البحث فيه ، والفرق بين هذه والسابقة الموجب لإعادة البحث أن المعارضة في هذه بين اليد المتحققة والسابقة الثابتة بالبينة والملك السابق كذلك ، والسابقة وقع فيها التعارض بين البينتين الدالة إحداهما على اليد في الحال مع عدم ظهورها في غيره والأخرى على الملك السابق فلا تعرض فيها للمعارضة بين اليد السابقة والحالية ، وقد تأكد من إطلاقه الحكم هنا وفي السابقة تقديم الملك القديم بغير تقييد بكونه إلى الآن أو عدم المزيل أن إضافة ذلك غير شرط ، وإلا صح اشتراط إضافة ما يعلم منه أن الشاهد لم يتجدد عنده علم الانتقال ، لما بيناه من عدم المنافاة بين علمه بالملك وشهادته به مع انتقاله عن المالك الآن ».

وهو من غرائب الكلام ، كما أشرنا إليه سابقا ، ومقتضاه موافقة المصنف على القبول مع إضافة ما يعلم منه عدم علم الشاهد بالملك أمس بالانتقال ، وبالجملة لا يخفى على من تأمل كلمات الجميع ما فيها من الخلط والخبط في موضوعات المسائل ، إذ من المعلوم أن المراد في المسألة السابقة‌

٤٥٤

التي قدمنا فيها بينة الملك القديم على بينة الملك الحادث كون كل من البينتين تشهد بالملك فعلا للمال الخارج عنهما ويتعارضان في ذلك ، ولكن إحداهما تشهد مع ذلك بملك سابق لا تعارضها الأخرى فيه ، فترجح حينئذ أو يبقى استصحابه سالما عن المعارض ، وهذه غير الشهادة بالملك أمس فقط أو باليد السابقة الدالة عليه ، فإنه ليس إلا استصحاب ذلك ، وهو لا يصلح معارضا لما تقضي به اليد الحالة من الملك فعلا ، إذ هو وارد على الاستصحاب وقاطع له ، فلا مدخلية لهذه المسألة في تلك.

نعم لو قلنا بكون اليد أمارة على الملك في الجملة لا مطلقا أشكل الحال حينئذ ، ولكنه ظاهر الأصحاب ، ويمكن استفادته أيضا من التأمل في النصوص ، خصوصا الخبر (١) المشتمل على جواز الشهادة باليد والقسم على ذلك وإلا لم يقم للمسلمين سوق وغيره (٢) وبذلك مضافا إلى ما تقدم لنا ظهر لك الحال في المسألة ودليلها وما في الكلمات المزبورة.

وأما ما سمعته من الفرق بين الإقرار وغيره فالمسلم منه إن لم يكن إجماعا ما إذا بقيت العين في يد المقر ولم يعلم تجدد يد أخرى له ، فان الظاهر حينئذ أخذه بإقراره الرافع لحكم استدامة يده السابقة مع فرض عدم العلم بتجدد يد غيرها ، والأصل عدمها ، أما لو كان قد أقربها ودفعها إلى المقر له ثم وجدت في يده المقتضية كونه مالكا لها فان انتزاعها من يده لاستصحاب الإقرار السابق محل إشكال بل محل منع ، ضرورة عدم الفرق بينه وبين انتزاعها باستصحاب الملك السابق الثابت بالبينة الذي قد عرفت عدمه.

وبذلك يظهر لك الوجه بانتزاعها منها بإقراره بالغصبية أو الاستئجار أو نحوهما ، لأصالة عدم يد أخرى غير الى صادفت إقراره ، وحينئذ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٥.

٤٥٥

فالميزان ذلك ، فلاحظ انطباقه على ما في العبارات السابقة ، هذا كله مع شهادة البينة بملكه سابقا فقط.

( أما لو شهدت ) أي ( بينة المدعي ) مع ذلك بـ ( ـأن صاحب اليد غصبه أو استأجره حكم بها ) بلا خلاف ولا إشكال ( لأنها شهدت بالملك وسبب يد الثاني ) والأصل عدم تجدد يد أخرى غير الأولى له ، كما أن الأصل عدم تجدد سبب غير حكم الاستدامة للابتداء ( و ) هو واضح.

كوضوح الحكم فيما لو ( قال : غصبني إياها وقال آخر : بل أقر لي بها وأقاما البينة قضي ) بها ( للمغصوب ) الذي شهدت بينته له بالملك وسبب يد المتشبث وأنها عارية في مجموع وقتها ، وحينئذ يكون إقراره للغير بها في زمن اليد إقرارا بعين مغصوبة فلا ينفذ ( ولم يضمن المقر ) للمقر له شيئا ( لأن الحيلولة لم تحصل بإقراره ) لآخر ( بل بالبينة ) التي يزعم أنها ظالمة ، والله العالم.

( المقصد الثاني )

من المقاصد الأربعة

( في الاختلاف في العقود )

( إذا اتفقا ) المؤجر والمستأجر ( على استئجار دار معينة شهرا معينا واختلفا في الأجرة ) فاما أن يعدما البينة أو يجداها أو يجدها أحدهما خاصة ، وعلى التقديرات فالاختلاف إما بعد استيفاء المدة أو في‌

٤٥٦

أثنائها أو ابتدائها ، فيكون الصور حينئذ تسعة ، فإن عدما البينة فالقول قول المستأجر بيمينه في صورة الثلاثة على المشهور ، بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا ، لحصول عنوان المدعى عليه والمنكر فيه كحصول وصف المدعي للمؤجر ، فهما حينئذ بمنزلة ما لو ادعى عليه عشرة دنانير وأقر له بخمسة ، فإن القول قوله في نفي الزائد بغير إشكال.

خلافا للشيخ في المحكي عن مبسوطة فالتحالف ، وتبعه عليه بعض المتأخرين » نظرا إلى أن كلا منهما مدعي ومدعى عليه ، لأن العقد المتشخص بالعشرة غير العقد المتشخص بالخمسة ، فيكون كل منهما مدع لعقد غير العقد الذي يدعيه الآخر ، وهذا يوجب التحالف حيث لم يتفقا على شي‌ء ويختلفان فيما زاد عليه ، فإذا تحالفا حينئذ انفسخ العقد بحكم الحاكم ، ورجع المؤجر بأجرة المثل للمنفعة المستوفاة كلا أو بعضا وإلا فلا شي‌ء له.

وضعفه في المسالك وغيرها بأن « العقد لا نزاع بينهما فيه ، ولا في استحقاق العين المؤجرة للمستأجر ، ولا في استحقاق المقدار الذي يعترف به المستأجر ، وإنما النزاع في القدر الزائد ، فيرجع فيه إلى عموم الخبر (١) ولو كان ما ذكروه من التوجيه موجبا للتحالف لورد في كل نزاع على حق مختلف المقدار ، كما لو قال : أقرضتك عشرة فقال : بل خمسة ، فان عقد القرض المتضمن أحد المقدارين غير العقد المتضمن للآخر ، وكما لو قال : أبرأتني من عشرة من جملة الدين الذي علي فقال : بل خمسة ، فان الصيغة المشتملة على أحدهما غير الأخرى ، وهكذا القول في غيره ، وهذا مما لا يقول به أحد ، والحق أن التحالف إنما يرد حيث لا يتفق الخصمان على قدر ويختلفان في الزائد عنه ، كما لو قال المؤجر : آجرتك‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم.

٤٥٧

الدار شهرا بدينار فقال ، بل بثوب ، أو قال : آجرتك هذه الدار بعشرة فقال : بل تلك الدار ، ونحو ذلك. أما في المتنازع فالقول المشهور من تقديم قول المستأجر هو الأصح ».

قلت : قد يقال : إن المتجه التحالف إذا فرض كون مصب الدعوى منهما في تشخص العقد الذي هو سبب الشغل ، إذ لا فرق في مشخصاته بين زيادة الثمن ونقصانه وبين غيرهما من المشخصات ، نعم لو كانت الدعوى بينهما في طلب الزائد وإنكاره وإن صرحا بكون ذلك من ثمن الإجارة كان المؤجر حينئذ المدعي والمستأجر المنكر بخلاف الأول الذي لا يشخص الأصل أحدهما ، إذ كل منهما أمر وجودي والأصل عدمه ، والفرض أنه شخص واحد لا شخصان.

وفرق واضح بين ذلك وبين دعوى القرض والإبراء اللذين يتصور فيهما تعدد عقد القرض والإبراء ، إلا أن يفرض اتفاقهما على صيغة واحدة واختلفا فيما تضمنته ، فان المتجه حينئذ التحالف ، ولكن نتيجته فيها عدم ثبوت الزيادة المدعاة للمقرض ومدعي الإبراء ، بخلاف المقام الذي يرجع إلى أجرة المثل التي قد تخالف الزيادة المدعاة ، وبذلك يمكن عود النزاع لفظيا.

واحتمال القول بأنه مدع ومنكر حتى على الفرض المزبور باعتبار موافقة دعوى النقيصة لأصل البراءة يدفعه أن ذلك الشخص ليس مقتضى أصل البراءة ، كما أنه يدفع القول بأن ضابط التحالف عدم اتفاقهما على قدر متفق عليه ـ وهو خلاف الفرض ـ أن النقيصة ليست قدرا متفقا عليها في العقد الذي هو محل النزاع ، ضرورة أن الخمسة فيه ليست جزء من العشرة في التقدير الآخر ، وإنما يتصور ذلك فيما لو اتفقا على ذكر مقدار مخصوص في العقد واختصما في عطف أمر زائد عليه ، لا في مثل المقام الذي محل النزاع فيه أن عقد الإجارة المشخص هل كان لفظ الثمن فيه‌

٤٥٨

خمسة أو عشرة ، كما هو واضح وقد أشرنا إلى ذلك في كتاب البيع (١) مع الاختلاف في الثمن لولا النص المخصوص فيه ، فلاحظ وتدبر.

اللهم إلا أن يقال : إن ذلك كله لا ينافي الاتفاق على شغل الذمة بمعنى الخمسة الذي هو قدر مشترك بين لفظها ولفظ العشرة مثلا ، ضرورة تحقق شغل الذمة بذلك على كل من التقديرين ، فلا يتحقق موضوع التحالف ، نعم قد يمنع انحصار موضوعه في ذلك ، وإنما العمدة فيه العرف الصادق في الفرض أن كلا منهما مدع ومدعى عليه ، فتأمل.

هذا وعن موضع من الخلاف القرعة مع اليمين ، ولعله لإشكال الحال عليه في أنه من التداعي أو من المدعي والمنكر وإن كان فيه أنه لا إشكال بحسب الاجتهاد فيه على ما ذكرناه ، بل وعلى غيره أيضا.

ولم يتعرض الشيخ لما إذا نكلا معا بعدها ، فهل تقسم الزيادة بينهما أو يوقف الحكم ، وفي الثاني إشكال مع فرض استيفاء المنفعة بل والأول ، لعدم شمول دليل التنصيف لها ، خصوصا مع كون نزاعهما في العقد الذي هو غير قابل للقسمة لا فيها نفسها ، وقد يقال مع الاستيفاء بوجوب دفع أقل الأمرين من أجرة المثل المفروض. كونها أقل مما يدعيه المؤجر ومن المسمى الذي يدعيه المستأجر على الثاني ويحتمل القرعة بلا يمين ، هذا كله مع عدم البينة لأحدهما.

( و ) أما إذا ( أقام كل منهما بينة بما قدره ) في دعواه ( فان تقدم تأريخ إحداهما ) للعقد بأن قال وقع في شهر رمضان مثلا والآخر في شوال ( عمل به ، لأن ) العقد ( الثاني يكون باطلا ) بعد اتفاقهما على عدم الإقالة.

( وإن كان التأريخ واحدا ) أو كانت البينتان مطلقتين ، بل أو‌

__________________

(١) راجع ج ٢٣ ص ١٨٤ ـ ١٨٦.

٤٥٩

إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة ، لعدم مدخلية جهل التأريخ هنا ، كما هو واضح ( تحقق التعارض ، إذ ) الفرض كون العقد واحدا ، و ( لا يمكن في الوقت الواحد وقوع عقدين ) صحيحين ( متنافيين ، وحينئذ ) فليس مع فقد الترجيح بينهما بالمرجحات السابقة إلا أن ( يقرع بينهما ، ويحكم لمن خرج اسمه مع يمينه ) للنصوص (١) السابقة ، فإن نكل حلف الآخر ، وإن نكلا معا فقد عرفت الكلام فيه.

و ( هذا اختيار شيخنا في المبسوط ) وهو متجه في صورة التحالف مع عدم البينتين ، ضرورة حصول التعارض بين الشهادتين بعقدين متخالفين يكذب كل منهما الآخر كالشهادة بعقدين على معنيين كدرهم ودينار ، فإن استيجار عين بألف في وقت يناقض استيجارها بألفين في عين ذلك الوقت ، كما أن استئجارها بدرهم في وقت ينافي استيجارها بدينار في ذلك الوقت بعينه ، بخلاف ما إذا شهدت بينة بأن عليه ألفا وأخرى بأن عليه ألفين أو بينة بإبرائه من ألف وأخرى بإبرائه من ألفين ، كما اعترف بذلك كله في كشف اللثام ، وهو يؤيد القول بالتحالف مع عدمهما ومشتمل على الفرق بين المقام وبين القرض والإبراء اللذين سمعت الإيراد به من ثاني الشهيدين.

( وقال آخر ) وهو الحلي في محكي السرائر ( يقضي ببينة المؤجر ، لأن القول المستأجر لو لم تكن بينة ، إذ هو يخالف على ما في ذمة المستأجر ، فيكون القول قوله ، ومن كان القول قوله كان البينة في طرف المدعي ، وحينئذ نقول : هو ) أي المؤجر ( مدع زيادة وقد أقام البينة بها ، فيجب أن تثبت ) لأنه خارج ولا بينة للمستأجر ، لأنه داخل ، إذ المراد من الداخل والخارج في كلامهم المدعي والمنكر‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٥ و ٦ و ٧ و ٨.

٤٦٠