جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

من جهد في غير كلأ ولا ماء ، فهو لمن أخذه ، لأنه خلاه آيسا منه ورفع يده ، فصار مباحا ، وليس هذا قياسا ، وإنما هذا على جهة المثال ، والمرجع فيه إلى الإجماع وتواتر النصوص دون القياس والاجتهاد ».

قلت : لعل ذلك هو العمدة في تملك المعرض عنه ، مضافا إلى السيرة في عطب المسافر ونحوه ، وإلا فمن المعلوم توقف زوال الملك على سبب شرعي كتوقف حصوله ، ولا دليل على ارتفاع الملك عن صاحبه بالاعراض على وجه يتملكه من أخذه كالمباح.

ومن هنا احتمل جماعة إباحة التصرف في المال المعرض عنه دون الملك ، بل عن ثاني الشهيدين والمقداد الجزم بذلك ، وعن بعض أنه لا يزول الملك بالإعراض إلا في الشي‌ء اليسير كاللقمة وفي التالف كمتاع البحر وفي الذي يملك بغاية قد حصلت كحطب المسافر.

وعن آخر اعتبار كون المعرض عنه في مهلكة ويحتاج الاستيلاء عليه إلى اجتهاد كغوص وتفتيش ونحوهما في حصول التملك به.

وربما استظهر من عبارة ابن إدريس المتقدمة اعتبار اليأس زيادة على الاعراض فيه أيضا ، إلى غير ذلك من كلماتهم التي مرجعها إلى تهجس في ضبط عنوان لذلك ، مع أن السيرة عليه في الجملة ، وليس في النصوص ـ غير ما عرفت ـ تعرض له.

فالأولى أن يقال : ما علم إنشاء إباحة من المالك لكل من يريد أن يتملكه كنثار العرس ونحوه يملكه الآخذ بالقبض أو بالتصرف الناقل أو المتلف أو مطلق التصرف على الوجوه أو الأقوال المذكورة في المعاطاة بناء على أنها إباحة ، وكذا ما جرت السيرة والطريقة على تملكه مما قام شاهد الحال بالاعراض عنه ، كحطب المسافر ونحوه ، أو ما كان كالمباحات الأصلية باندراس المالك كأحجار القرى الدارسة.

٤٠١

وأما المال الذي امتنع على صاحبه تحصيله بسبب من الأسباب كغرق أو حرق ونحوهما فيشكل تملكه بالاستيلاء عليه ، خصوصا مع العلم بعدم إعراض صاحبه عنه على وجه يقتضي إنشاء إباحة منه لمن أراد تملكه أو رفع يد عن ملكيته ، وإنما هو للعجز عن تحصيله نحو المال الذي يأخذه قطاع الطريق والظلمة ونحوهم.

وأما تملك بعض المال بالالتقاط على التفصيل المذكور في كتاب اللقطة (١) فهو قسم آخر خارج عما نحن فيه ، أي التملك مع العلم بصاحبه ووجوده وإرادة ماله ، لصيرورة الشي‌ء بالامتناع في نفسه كسائر المباحات الأصلية ، والله العالم.

( المقصد الأول)

( في الاختلاف في دعوى الأملاك )

(وفيه مسائل : )

( الأولى : )

( لو تنازعا عينا في يدهما ولا بينة قضي بها بينهما نصفين ) بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى‌ المرسل (٢) « أن رجلين تنازعا دابة ليس لأحدهما بينة فجعلها النبي (ص) بينهما ».

__________________

(١) راجع ج ٣٨ ص ٣٦٩ ـ ٣٧٧.

(٢) سنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٥٥.

٤٠٢

إنما الكلام في احتياج ذلك إلى اليمين من كل منهما وعدمه ، فظاهر المصنف ومحكي الخلاف والغنية والكافي والإصباح الثاني ، بل عن الأولين الإجماع عليه ، وهو الحجة بعد إشعار المرسل المزبور بذلك أو ظهوره.

( وقيل ) كما عن الأكثر بل المشهور على ما اعترف به في غاية المرام ، بل في المسالك والكفاية لم ينقل الأكثر فيه خلافا ( يحلف كل منهما لصاحبه ) لقاعدة البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، فان كلا منهما مدع ومدعى عليه باعتبار قضاء يد كل منهما بالنصف ، فهو بالنسبة إلى ما قضت به يده مدعى عليه وإلى الآخر مدع ، ولفحوى ما تسمعه من النصوص (١) المشتملة على تحليفهما مع البينة فمع عدمها بطريق أولى.

وقد يناقش بعدم اندراجهما في القاعدة المزبورة ، إذ الفرض أن يد كل منهما على العين لا نصفها ، ضرورة عدم تعقل كونها على النصف المشاع إلا بكونها على العين أجمع في كل منهما ، وحينئذ فلا مدعي ولا مدعى عليه منهما ، ضرورة تساويهما في ذلك إلا أن الشارع قد جعل القضاء في ذلك بأن العين بينهما كما سمعته من النبوي المرسل (٢) فالنصف هو القضاء بينهما في الدعوى المزبورة التي كان مقتضى يد كل منها الكل.

ومنه يظهر لك عدم كون كل منهما مدعيا لنصف الآخر ومدعى عليه في نصفه كي يتوجه التحالف ، بل المتجه إلغاء حكم يد كل منهما بالنسبة إلى تحقق كونه مدعى عليه ، ويكون كما لو تداعيا عينا لا يد لأحد عليها ولا بينة لكل منهما ، فان القضاء حينئذ بالحكم بكونها بينهما ، لكون الدعوى كاليد في السبب المزبور المحمول على التنصيف بعد تعذر إعماله في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم.

(٢) سنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٥٥.

٤٠٣

الجميع للمعارض الذي هو استحالة اجتماع السببين على مسبب واحد ، إذ لا وجه لاستحقاق كل منهما اليمين على الآخر ، ضرورة عدم كونه مدعى عليه بعدم يد له على العين يراد رفعها عنه ، فقول كل منهما : هي لي دعوى بلا مدعى عليه ، فلا يمين فيها ، فتأمل جيدا فإنه دقيق نافع ، أو يقال في الفرض باعتبار ثبوت اليد لكل منهما على العين مدعى عليه لو كان مدعي خارج عنهما ، وإلا فلا يتصور كونه منهما بعد أن كان مع كل منهما عنوان المدعي عليه ، لمعلومية التباين بين المدعي والمدعى عليه.

ومن هنا كان التحالف إذا كان كل منهما مدعي منكر ، بمعنى أنه مدعي لشي‌ء ومنكر لآخر ، كما هو ظاهر في النظر إلى أفراد ذلك ، لا في مثل المقام الذي دعوى كل منهما الكل ، والفرض أن اليد لكل منهما ، فلا يكون مدعي فيما هو مدعى عليه فيه.

اللهم إلا أن يقال : إن اليمين هنا لترجيح أحد السببين كالترجيح بها لإحدى البينتين وإن ترتب عليه كون العين للحالف منهما بخلاف ما لو حلفا معا أو لم يحلفا كذلك ، وليس هو يمين إنكار ويمين رد حتى يأتي فيه البحث الذي تسمعه من الاكتفاء بيمين واحدة جامعة بين الإثبات والنفي أو يمينين.

أو يقال : إن لكل منهما إحلاف صاحبه ، بمعنى أن التحالف أمر راجع إليهما لا يجبر الحاكم عليه ، ولا يتوقف عليه القضاء بالنصف ، بل كل منهما ميزان للقضاء.

وكان هذا هو الذي فهمه الأصبهاني في كشفه من المصنف في النافع ، فإنه بعد أن ذكر القول الأول قال : « ولم يذكر الحلف في الغنية والإصباح ، ونسبه في الشرائع إلى القيل ، ولعل الوجه فيه أنهما إن لم يحلف أحدهما صاحبه كان الحكم أيضا كذلك ، ولذا قال في النافع بعد الحكم بكونها بينهما : ولكل منهما إحلاف صاحبه ».

٤٠٤

ولكن غيره قد جعله من القائلين بالقول الأول ، ولعله المنساق من مثل هذه العبارة التي عبر بنحوها القائل باعتبار ذلك في القضاء ، خصوصا بعد معلومية توقف القضاء عليه أو على البينة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « إنما أقضي عليكم بالبينة أو اليمين ».

فحمل كلامه حينئذ خاصة على إرادة عدم توقف القضاء بالنصف على التحالف ، بل موكول إلى اختيارهما إن أراداه تحالفا ، وجرى حكم التحالف والنكول عليه ، وإلا قضي بينهما بالنصف بدونه لا يخلو من نظر. اللهم إلا أن يكون ذلك مراد الجميع بقرينة تقديم القضاء بالنصف على الحلف.

ولكن فيه أيضا أن مشروعية التحالف منهما تقتضي تحقق التداعي بينهما ، ولا يكون فصل فيه الذي هو بمعنى القضاء بين المتخاصمين إلا بميزانه من البينة أو اليمين ، وعدم تحليف من له اليمين لا يقتضي صحة القضاء بدونه ، بل أقصاه بقاء العين في يد المدعى عليه بالسبب المقتضي لذلك شرعا ، وحق الدعوى باق متعلق بهما إذا أسقط حقه بناء على قيام مثل ذلك مقام إحلافه ، فيحكم الحاكم حينئذ بكونها للمدعي على وجه لا تسمع الدعوى المزبورة فيها ، لأن ذلك هو معنى القضاء ، نعم لو لم يكن ثم تداع بينهما مثلا وقد ماتا والعين في أيديهما فهي على النصف بينهما شرعا من دون قضاء ، لعدم تداع ، وعلى تقديره من الورثة كان له القضاء به عليهم من دون يمين إن لم يدع بعضهم على بعض العلم بالحال ، وإلا توقف القضاء به على اليمين.

بل لعله أيضا كذلك في الأصيلين إذا ادعى أحدهما على الآخر أن يده من يده أو أنه عالم بكونه مبطلا وأن العين أجمع لصاحبه وإن لم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١ وفيه‌ « إنما اقتضي بينكم بالبينات والأيمان ».

٤٠٥

نقل به في أصل دعوى كل منهما العين له ، ضرورة تحقق المدعي والمدعى عليه في تلك دونها ، فتأمل جيدا. وقد تقدم لنا بعض الكلام في المسألة في كتاب الصلح (١) فلاحظ وتأمل ، والله العالم.

وعلى كل حال فعلى المشهور يبدأ القاضي في الحلف بمن يراه أو بمن تخرجه القرعة ، وفيه أن المتجه ـ بناء على كونهما دعويين ـ تقديم الأسبق منهما ، ومع الاقتران يقدم من كان على يمين صاحبه.

وكيف كان فان حلفا معا كانت بينهما على النصف ، وإلا فإن حلف الأول ثم نكل الثاني ردت اليمين على الأول ، ولا يكفيه اليمين الأولى ، لأنها كانت على نفي استحقاق صاحبه فيما هو بيده من النصف ، واليمين المردودة على الإثبات ، وهو أن نصف صاحبه له ، نعم لو نكل الأول حلف الآخر يمينا واحدة جامعة بين النفي والإثبات من غير خلاف يعرف فيه بينهم.

ولا يخفى ما فيه من الاشكال إن لم يكن إجماعا بناء على الدعويين ، ضرورة اقتضاء تعدد الأسباب تعدد المسببات ، ولعل في ذلك تأييدا لما ذكرناه من عدم كونهما دعويين كي يترتب على كل منهما يمين ، بل هي مقالة واحدة من كل منهما ، فيمين كل منهما على أن الجميع له المقتضي عدم شي‌ء منه للآخر كاف في اختصاصه بالحق على القول بمدخلية اليمين في ذلك من غير فرق بين الأخير والأول ، فتأمل فإن منه يظهر لك النظر في جملة من الكلمات ، خصوصا المسالك وأتباعه ، هذا كله إذا كانت يدهما عليها.

( و ) أما ( لو كانت يد أحدهما ) خاصة ( عليها قضى بها للمتشبث مع يمينه إن التمسه الخصم ) المستحق لها عليه بلا خلاف‌

__________________

(١) راجع ج ٢٦ ص ٢٦٢.

٤٠٦

ولا إشكال ، إذ هو أظهر أفراد قاعدة « البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه » التي لا يخفى عليك ذكر أحكامها من القضاء بالنكول أو مع رد اليمين وغيره.

( ولو كانت ) في يد ثالث و ( يدهما ) معا ( خارجة ) عنها ( فان صدق من هي في يده أحدهما أحلف وقضى له ) لأنه صار بالإقرار له ، كذي اليد في قيام الشاهد فعلا على ملكه ، فيكون الثاني بالنسبة إليه مدعيا ، وهو مدعى عليه.

وقد يناقش بعدم اقتضاء ذلك صدق كونه مدعى عليه عرفا في تلك الدعوى المتعلقة أولا بمن في يده المال ، نعم له استئناف دعوى جديدة نحو استئنافها لو انتزعها منه بيمين مردودة مثلا أو بشاهد ويمين ، وتدفع تبعية الدعوى بها لها في يد من كانت.

وفيه أن الكلام في المدعى عليه بينها لا بها ، ولا ريب في عدم كونه مدعى عليه قبل تصديقه الذي قد يفرض تأخيره عن دعوى الأول فتأمل.

وله اليمين على المصدق أيضا ، لفائدة الغرم مع النكول لا العين ، وفي القواعد « ولو كانت في يد ثالث حكم لمن يصدقه بعد اليمين منهما » أي الثالث ومن يصدقه كما في كشف اللثام ، وفيه أن يمين المصدق لا دخل له في الحكم بها لمن صدقه ، ويمكن تعلق « منهما » بقوله : « يصدقه » فيكون المراد بعد اليمين من المقر له ، وحينئذ تكون كعبارة المصنف ، لكنه خلاف الظاهر.

هذا وفي كشف اللثام أيضا وغيره « والمصدق يحلف للآخر إن ادعى علمه بملكه » وفيه أن الظاهر توجه اليمين عليه على البت ، لأنه مدعى عليه.

اللهم إلا أن يقال : إنه بإقراره بها لأحدهما انصرفت تلك الدعوى‌

٤٠٧

عنه لتبعيتها للعين ، فيمين البت حينئذ على من صارت له ، نعم تبقى عليه دعوى العلم لإرادة الغرم.

وفيه أيضا أن الدعوى قد تعلقت به والعين في يده على وجه استحق عليه اليمين على البت ، لكن ستسمع من المصنف وغيره المفروغية من انصراف الخصومة بالإقرار بالعين لمعين ، وليس المراد إلا انصراف تلك الدعوى وإن بقيت دعوى العلم للغرامة مع احتمال إرادة انصرافها بالنسبة إلى انتزاع العين وإن بقيت الدعوى بها للغرامة ، لكنه في غاية البعد ، وستسمع إنشاء الله زيادة لذلك في المسألة الثالثة.

( وإن قال : هي لهما قضي بها بينهما نصفين وأحلف كل منهما لصاحبه ) بناء على استحقاق اليمين ، وكذا إن نكلا ، وإن نكل أحدهما كان الكل للآخر ، وفي كشف اللثام « وغرم الثالث النصف إن سلم إلى الناكل واعى الحالف عليه العلم فأحلفه فنكل » وهو لا يخلو من إشكال لوصول حقه تماما إليه.

اللهم إلا أن يقال : إنه وصل إليه باليمين المردودة ، فهو كما لو وصل إليه بعوض لا يدفع الدعوى على من في يده ، مع أنه لا يخلو من نظر ، ضرورة الفرق بين الفرض وبين العوض الذي هو غرامة ، نعم قد يشهد له أنه لو فرض سبق الدعوى على المصدق فنكل وحلف المدعي وغرم له ثم تداعيا بينهما فنكل أحدهما وحلف الآخر الذي قد غرم المصدق فانتزع العين من صاحبه فان المتجه حينئذ إرجاع الغرامة التي أخذها ، لوصول العين إليه ، وليس له أزيد منها ، مع أن الأصحاب قد أطلقوا الحكم في الدعويين ، ولم يشر أحد منهم إلى ترتيب بينهما ، أو إلى رد ما اقتضاه أحدهما بعد انتزاع العين في الأخرى ، اللهم إلا أن يكون أو كلوا ذلك إلى ما تقتضيه القواعد ، وهو ما عرفت ، وقد صرح به في المسالك‌

٤٠٨

في المسألة الثالثة من المقصد الأول في الاختلاف في الأملاك فتأمل جيدا.

وعلى كل حال فقد عرفت أن لهما على المصدق اليمين إن ادعيا عليه أو أحدهما العلم أو مطلقا ، فان نكل حلف المدعي وغرم له النصف ، فان حلفا غرم لهما الكل.

( ولو دفعهما ) بأن قال : ليست لكما ( أقرت في يده ) بعد اليمين لهما ، فان نكل فكما لا يد لأحد عليه ، فان قلنا بالتحالف فيه فان حلفا أو نكلا اقتسماه ، وإن حلف أحدهما خاصة كان له.

ولو قال : ليست لي أو لا أعرف صاحبها أو هي لأحدكما ولا أعرف عينه ففي القواعد « قرع بينهما ، لتساويهما في الدعوى وعدم البينة » وفي التحرير وكشف اللثام « فمن خرجت باسمه حلف وكانت له ، فان نكل حلف الآخر ، وإن نكلا قسمت بينهما ـ ثم قال ـ : والوجه عندي التحالف وفاقا للتذكرة ، فإن حلفا أو نكلا كانت بينهما ، وإلا فللحالف ».

قلت : لا وجه للقرعة بعد ظهور الأدلة في التنصيف مع التساوي في السبب المقتضي للملك ، والكلام في اعتبار التحالف وعدمه في القضاء بذلك ما عرفت ، وحينئذ فلا إشكال ولا اشتباه حتى يحتاج إلى القرعة.

ثم إنه على القول بها لا حاجة حينئذ إلى اليمين ، ضرورة كونها هي ميزان القضاء للدعوى المزبورة ، واحتمال أنها تجعل من يخرج اسمه بها كصاحب اليد يقتضي عدم القسمة بينهما مع فرض النكول منهما ، ضرورة أن النكول عن اليمين المردودة يوجب عدم الحق للناكل وانحصاره في الراد.

ثم إن القرعة مع قوله ليست لي أو لا أعرف صاحبها في غير محله ، لعدم ما يقتضي انحصار الحق فيهما كي يستخرج بالقرعة ، ولعله لذا اقتصر ثاني الشهيدين في احتمالها على صورة إقراره لأحدهما ، والتحقيق ما عرفت من عدم اعتبار القرعة هنا ، بل يقضي فيها بالتنصيف بينهما مع التحالف أو بدونه على القولين السابقين ، والله العالم.

٤٠٩

المسألة ( الثانية : )

( يتحقق التعارض في الشهادة مع تحقق التضاد ، مثل أن يشهد شاهدان بحق لزيد ، ويشهد آخران أن ذلك الحق بعينه لعمرو ، أو يشهدا أنه باع ثوبا مخصوصا لعمرو غدوة ، ويشهد آخران ببيعه بعينه لخالد في ذلك الوقت ) ونحو ذلك ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، كما إذا شهدت إحدى البينتين بملك أحدهما أمس والأخرى بملك الآخر اليوم ، عمل بالثانية ، لإمكان صدقهما معا.

( و ) من المعلوم أنه ( مهما أمكن التوفيق بين الشهادتين وفق ، فان ) لم يمكن بأن ( تحقق التعارض ) بينهما على وجه يقتضي صدق كل منهما تكذيب الأخرى ، كما لو شهدت إحداهما أن هذه العين ملك زيد الآن والأخرى تشهد أنها ملك عمرو الآن ( فـ ) ـلا يخلو الحال عن أحد أمور ثلاثة أو أربعة ، لأنه ( إما أن تكون العين في يدهما أو ) في ( يد أحدهما أو في يد ثالث ) أو لا يد لأحد عليها ( ففي الأول يقضي بها بينهما نصفين ) من دون إقراع ولا ملاحظة ترجيح بأعدلية أو أكثرية بلا خلاف أجده بين من تأخر عن القديمين الحسن وأبي علي ، بل صرح غير واحد منهم بعدم الالتفات إلى المرجحات الآتية في غير هذه الصورة.

وفي المسالك « لا إشكال في الحكم بها بينهما نصفين ، لكن اختلف في سببه ، فقيل : لتساقط البينتين بسبب التساوي ، فيبقى الحكم كما لو لم تكن بينة ، وقيل : لأن مع كل منهما مرجحا باليد على نصفهما فقدمت بينته على ما في يده ، وقيل ( لأن يد كل واحد على النصف ، وقد

٤١٠

أقام الآخر بينة ) عليه ( فيقضى له بما في يد غريمه ) بناء على تقديم بينة الخارج ، فكل منهما قد اعتبرت فيما لا تعتبر فيه الأخرى ، ولذا لم يلحظ ترجيح بالعدد والعدالة ، وهذا هو الأشهر ، وتظهر الفائدة حينئذ في اليمين على من قضي له ، فعلى الأول يلزم لكل منهما ، وعلى الآخرين لا يمين ، لترجيح كل من البينتين باليد على أولهما ، فنعمل بالراجح ، ولأن البينة ناهضة بإثبات الحق على الثاني ، فلا يمين معها ».

قلت : لكن في التحرير بعد أن ذكر تعليل التنصيف بما سمعت مصرحا بكونه من تقديم بينة الخارج قال : « وهل يحلف كل واحد على النصف المحكوم له به أو يكون له من غير يمين؟ الأقوى عندي الأول مع احتمال الثاني ».

وفي التنقيح بعد أن ذكر التنصيف وجعل منشأه دائرا بين الأخيرين ، وأنه على أولهما يقضى لكل منهما بما في يده ، وعلى ثانيهما يقضى له بما في يد غريمه قال : « يكون لكل منهما اليمين على صاحبه ، فان حلفا أو نكلا فالحكم كما تقدم ، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي بها للحالف ».

وعن مهذب أبي العباس التصريح باليمين بناء على كون المنشأ دخولهما ، ولعل ذلك منه خلافا في أصل المسألة ، وهو أن تقديم بينة الداخل بمعنى إسقاطها بينة الخارج ، لا أنها حجة ، فيرجع الحاصل ـ كما لو لم تكن بينة ـ على المنكر منهما اليمين ، وهو الذي قواه في المختلف بعد أن حكى القولين في ذلك ، بل هو قوي في نفسه ، لاشتمال دليل تقديم بينة الداخل على اليمين كما ستعرف.

كما أن القول باليمين مع القول بكون المنشأ تقديم بينة الخارج لعله لخبر إسحاق بن عمار (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إن رجلين‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

٤١١

اختصما إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام في دابة في أيديهما وأقام كل واحد منهما البينة أنها نتجت عنده ، فأحلفهما علي عليه‌السلام فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف فقضى بها للحالف ، فقيل له : فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البينة ، فقال : أحلفهما ، فأيهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف ، فان حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين ، قيل : فان كانت في يد أحدهما وأقاما جميعا البينة ، قال : أقضي بها للحالف الذي هو في يده ».

بل ربما كان هو دليل التحالف على القول الأول وإن لم نقل به في غيره ، إلا أنه خبر واحد ، وفي سنده ما فيه ، والمشهور نقلا وتحصيلا على خلافه ، فلا يصلح مقيدا لما دل مما تسمعه من النصوص (١) وغيره على التنصيف بدونه ، وكان ذلك هو العمدة في القول به ، ضرورة أنه لو كان منشأه عند المصنف ما ذكره كان المتجه عنده التحالف مع عدم البينة ، وقد عرفت عدمه عنده ، بل كان ينبغي ملاحظة ما تسمعه منه من التفصيل في تقديم بينة الخارج على بينة الداخل ، فمن ذلك وغيره يعلم أن ذلك ليس منشأ حقيقة وإن ذكروه تقريبا للمقصود.

ويؤيده أيضا ما قدمناه سابقا من أن يد كل منهما على الكل لا النصف ، بل الظاهر عدم اندراج بينة كل منهما تحت ما دل على تقديم بينة المدعي ، لما تقدم من أن في كل منهما عنوان المدعى عليه باعتبار اليد ، على أن العمل بنصف ما يشهد به بينة كل منهما ليس عملا ببينة خارج ، ضرورة كون المشهود به الجميع فتأمل ، فليس هذا منهم إلا تأييدا لما قلناه سابقا من استفادة القضاء في ذلك بالنصف ، فيكون حينئذ ذلك ميزانا من موازين القضاء من غير حاجة إلى تحالف.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم.

٤١٢

ويدل عليه ـ مضافا إلى ما أسلفناه في كتاب الصلح (١) من خبر الدرهمين (٢) وقاعدة توارد السببين الممكن إعمالهما معا على مسبب واحد نحو المتسابقين على حيازة مباح ـ إطلاق‌ خبر تميم بن طرفة (٣) « إن رجلين ادعيا بعيرا فأقام كل واحد منهما بينة ، فجعله أمير المؤمنين عليه‌السلام بينهما » لكن في بعض النسخ « عرفا بعيرا » وحينئذ يكون ظاهرا في غير المقام ، بل قد يقال بظهور « ادعيا » في ذلك لا تداعيا في ما بينهما.

وإطلاق‌ قوله عليه‌السلام في الخبر الآتي (٤) : « لو لم تكن في يد أحدهما جعلتها بينهما نصفين » مضافا إلى إطلاق النبوي (٥) السابق وغيره.

بل هو كاد يكون صريح‌ المرسل (٦) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضا « في البينتين تختلفان في الشي‌ء الواحد يدعيه الرجلان أنه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بينة كل واحد منهما وليس في أيديهما ، فأما إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان ، وإن كان في يد أحدهما فالبينة فيه على المدعي واليمين على المدعى عليه ».

وحينئذ فما عن ظاهر ابن أبي عقيل ـ من اعتبار القرعة التي هي لكل أمر مشكل في خصوص ما نحن فيه لأن التنصيف تكذيب للبينتين ـ كأنه اجتهاد في مقابلة النص ، على أن نصوص القرعة (٧) في المقام مع عدم‌

__________________

(١) راجع ج ٢٦ ص ٢٢٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من كتاب الصلح الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٤.

(٤) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٣.

(٥) سنن البيهقي ـ ١٠ ص ٢٥٥.

(٦) المستدرك الباب ـ ١٠ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

(٧) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٥ و ٦ و ٧.

٤١٣

التصريح في شي‌ء منها بخصوص الفرض لاستخراج من يكون عليه اليمين ، وهو خلاف ظاهر المحكي عنه من التعويل عليها بدونه.

وكذا ما عن ابن الجنيد من أنه مع تساوي البينتين تعرض اليمين على المدعيين ، فان حلف أحدهما استحق الجميع ، وإن حلفا اقتسماها ، ومع اختلافهما يقرع ، فمن أخرجته القرعة حلف وأخذ العين ، فإنه كما ترى لا دليل عليه ، بل ظاهر الأدلة السابقة خلافه.

هذا وفي الرياض بعد أن نسب المختار ـ الذي هو التنصيف تساوت البينتان عددا وعدالة وإطلاقا وتقييدا أو اختلفت ـ إلى الأشهر ، بل عامة من تأخر إلا نادرا ، قال : « خلافا للمهذب ، وبه قال جماعة من القدماء ، فخصوا ذلك بما إذا تساويا في الأمور المتقدمة كلها ، وحكموا مع الاختلاف فيها لأرجحها ، واختلفوا في بيان المرجح لها ، فعن المفيد اعتبار الأعدلية خاصة هنا وإن اعتبر الأكثرية في غيرها ، وعن الإسكافي اعتبار الأكثرية خاصة ، وفي المهذب اعتبارهما مرتبا بينهما الأعدلية فالأكثرية ، وعن ابن حمزة في اعتباره التقييد أيضا مرددا بين الثلاثة غير مرتب بينها ، وعن الديلمي اعتبار المرجح مطلقا غير مبين له أصلا ».

ولم أعرف نقل هذه الأقوال على الوجه المزبور فيما نحن فيه لغيره ، والذي عثرت عليه في المقنعة في المسألة أجمع « وإذا تنازع نفسان في شي‌ء وأقام كل واحد منهما بينة على دعواه بشاهدين عدلين ولا ترجيح لبعضهم على بعض بالعدالة حكم لكل واحد من النفسين بنصف الشي‌ء ، وكان بينهما جميعا نصفين ، وإن رجح بعضهم على بعض في العدالة حكم لأعدلهما شهودا وإن كان الشي‌ء في يد أحدهما واستوى شهودهما في العدالة حكم للخارج اليد منه ونزعت يد المتشبث به منه ، وإن كان لأحدهما شهود أكثر عددا من شهود صاحبه مع تساويهم في العدالة حكم لأكثرهما شهودا‌

٤١٤

مع يمينه بالله عز وجل على دعواه » وليس فيها ما نحن فيه بالخصوص.

والذي عثرت عليه في النهاية أيضا في المسألة « ومن شهد عنده شاهدان عدلان على أن هذا لزيد وجاء آخران يشهدان أن ذلك الحق لعمرو فان كانت أيديهما خارجة منه فينبغي أن يحكم لأعدلهما شهودا ، فان تساويا في العدالة كان الحكم لأكثرهما شهودا مع يمينه بأن له الحق ، فإن تساويا في العدد أقرع بينهم ، فمن خرج عليه حلف وكان الحكم له ، فان امتنع من خرج اسمه في القرعة عن اليمين حلف الآخر ، وكان الحكم له ، فان امتنعا جميعا من اليمين كان الحق بينهما نصفين ، ومتى كان مع واحد منهما يد متصرفة فإن كانت البينة تشهد أن الحق ملك له فقط وتشهد الأخرى بالملك أيضا انتزع الحق من اليد المتصرفة ، وأعطى اليد الخارجة ، وإن شهدت البينة لليد المتصرفة بسبب الملك من بيع أو هبة أو معاوضة كانت أولى من اليد الخارجة » ولم يتعرض أيضا فيها لخصوص ما نحن فيه.

وأما ابن حمزة فقد ذكر في خصوص ما نحن فيه أنه إن تساوى البينتان كان المدعى به بينهما نصفين ، وإن اختلفا لم يخل من ثلاثة أوجه : إما أن تكون إحداهما مطلقة والأخرى مقيدة ، والحكم للمقيدة ، أو تكون إحداهما عادلة والأخرى غير عادلة ، والحكم للعادلة ، أو تكون إحداهما أكثر مع التساوي في العدالة ، والحكم لأكثرهما عددا.

وعلى كل حال لا أعرف دليلا يعتد به على شي‌ء منها على وجه يصلح لمعارضة ما عرفت.

وما عساه يتخيل ـ من الدليل عليها في الجملة من كون الشهادة كالاخبار المتعارضة التي يرجع فيها إلى الترجيح بغير المنصوص فضلا عنه ـ واضح الفساد ، ضرورة وضوح الفرق بينهما بأن مبنى حجية الخبر خصوصا في مقام التراجيح على قوة الظن بخلاف الشهادة المعلوم عدم‌

٤١٥

اعتبار ذلك فيها ، بل الترجيح فيها مقصور على مقام خاص منها بمرجح خاص للدليل الخاص ، بل لو رجح إحدى البينتين على الأخرى بشهادة جملة من الفساق على مضمون إحداهما لكان من منكرات الفقه.

وأما الاستدلال على بعضها بإطلاق بعض النصوص ففيه أنه يجب الخروج عنه بالأدلة السابقة المعتضدة بما سمعت ، فلا محيص حينئذ عن القول بالتنصيف من دون ملاحظة شي‌ء من هذه المرجحات ، نعم في اعتبار التحالف وعدمه ما عرفته سابقا حال عدم البينة ، بل لعل القول بعدمه هنا أولى على بعض الوجوه المتقدمة. هذا كله في القسم الأول.

( و ) أما الكلام ( في الثاني ) الذي هو أن تكون العين في يد أحدهما فالمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة أنه ( يقضي بها للخارج دون المتشبث ان شهدتا لهما بالملك المطلق ) مع التساوي في العدد والعدالة وعدمه ، بل عن الخلاف والغنية والسرائر وظاهر المبسوط الإجماع عليه ، بل عن الأول والأخير نسبته إلى أخبار الفرقة ، وهو الحجة بعد المرسل السابق عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) المنجبر بما سمعت ، والتعليل في‌ خبر منصور (٢) عن الصادق عليه‌السلام « قلت له : رجل في يده شاة فجاء رجل فادعاها وأقام البينة العدول أنها ولدت عنده لم يبع ولم يهب وجاء الذي في يده بالبينة مثلهم عدول أنها ولدت عنده لم يبع ولم يهب ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : حقها للمدعي ، ولا أقبل من الذي هي في يده بينة ، لأن الله عز وجل أمر أن تطلب البينة من المدعي ، فان كانت له بينة وإلا فيمين الذي هو في يده ، هكذا أمر الله عز وجل ».

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ١٠ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١٤.

٤١٦

ومنه يظهر وجه الاستدلال أيضا‌ بالخبر المشهور (١) وهو « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » بناء على أن المراد منه عدم قبول بينة للمنكر ، وأن ذلك مختص بالمدعي ، وإن كان دلالته على ذلك مع قطع النظر عن الخبر المزبور لا تخلو من نظر ، ضرورة عدم دلالته على أزيد من استحقاق المدعي على المنكر اليمين دون البينة بخلاف المنكر ، فان له على المدعي البينة ، وهو غير قبول البينة من المنكر ولو في الجملة ، المستفاد مما تسمعه من نصوص (٢) الباب وفتاوى الأصحاب.

مضافا إلى عموم ما دل على حجية شهادة العدلين كتابا (٣) وسنة (٤) ولا معارض لذلك كله إلا خبر منصور (٥) المزبور الذي في سنده ما فيه ، وموافق لصريح المنقول عن ابن حنبل ، ولعل ذلك لا يخلو من قوة وإن قلنا في خصوص الفرض بعدم النظر إليها في مقابلة بينة المدعي وإن جمعت المرجحات أجمع للإجماعات المحكية وغيرها.

( و ) كيف كان فـ ( ـفيه قول آخر ذكره في الخلاف ) وهو تقديم بينة الداخل ، لكنه ( بعيد ) لما عرفت ، بل لم نتحققه قولا له ، وذلك لأن المحكي عنه في البيع في مسألة العبد الذي يد أحدهما عليه « أن البينة بينة الخارج وإن شهدتا بالسبب » وفي كتاب الدعاوي « إذا ادعيا ملكا مطلقا ويد أحدهما عليه كانت بينته أولى ، وكذلك إن أضافاه إلى‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٥ والباب ـ ٢٥ ـ منها ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم.

(٣) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب كيفية الحكم.

(٥) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١٤.

٤١٧

سبب ، وإن ادعى الملك مطلقا والخارج أضافه إلى سبب كانت بينة الخارج أولى ، وبه قال الشافعي ، وقال أصحاب الشافعي : إذا تنازعا عينا يد أحدهما عليها وأقام كل واحد منهما بينة سمعنا بينة كل واحد منهما ، وقضينا لصاحب اليد ، سواء تنازعا ملكا مطلقا أو ما يتكرر ، فالمطلق كل ملك لم يذكر أحدهما سببه » وما يتكرر كآنية الذهب والصفر والحديد ، يقول كل واحد : صيغ في ملكي ، وهذا يمكن أن يصاغ في ملك كل واحد منهما ، وكذلك ما يمكن نسجه كالصوف والخز ، وما لا يتكرر سببه مثل ثوب قطن وإبريسم ، فإنه لا يمكن أن ينسج دفعتين ، وكذلك النتاج لا يمكن أن تولد الدابة دفعتين وكل واحد منهما يقول : ملكي نتج في ملكي ، وبه قال شريح والنخعي ومالك والشافعي ، وهل يحلف مع البينة : على قولين ـ إلى أن قال ـ : وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن كان التداعي ملكا مطلقا أو ما يتكرر سببه لم تسمع البينة من المدعى عليه ، وهو صاحب اليد وإن كان ملكا لا يتكرر سببه سمعنا بينة الداخل ، وهذا هو الذي يقتضيه مذهبنا ، وقد ذكرناه في النهاية والمبسوط وكتابي الأخبار ، وقال : أحمد لا تسمع بينة صاحب اليد بحال في أي مكان كان ، وروى ذلك أصحابنا ـ إلى أن قال ـ : ويدل على مذهبنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، والخبر المشهور (١) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه » ويدل على الأول ما رواه جابر (٢) وما رواه غياث (٣) أي المشتملان على تقديم بينة ذي اليد مع ذكر السبب ، وهو النتاج في كل منهما ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٥.

(٢) سنن البيهقي ـ ج ١٠ ص ٢٥٦.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٣.

٤١٨

والظاهر أن ما ذكره أولا ليس مذهبا له ، بل مذهبه الأخير الذي استدل عليه بما عرفت ، نعم في كشف اللثام نسبة الخلاف في المقام إلى المبسوط والوسيلة فقدما بينة الداخل لتأيد البينة باليد ، ولما سيأتي من أدلة التقديم مع شهادتهما بالسبب بناء على مساواة الإطلاق له أو أولويته منه ، وهل يستحلف مع ذلك؟ فعن الشيخ لا ، بناء على استعمال بينته ، والأقوى نعم ، للنص الكاشف أن بينته دفعت بينة المدعي بعد فرض عموم الدليل على حجية الجميع ، فيبقى حينئذ استحقاق المدعى عليه اليمين على مقتضى إطلاق دليله.

وإلى الصدوقين والمفيد لحكمهم بترجيح بينة الخارج بعد التساوي عدالة ، وزاد المفيد وعددا ، لخبر أبي بصير (١) سأل الصادق عليه‌السلام « عن رجل يأتي القوم فيدعي دارا في أيديهم ويقيم الذي في يديه الدار البينة أنه ورثها عن أبيه ولا يدري كيف كان أمرها ، فقال : أكثرهم بينة يستحلف وتدفع إليه ، وذكر أن عليا عليه‌السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة فقامت البينة لهؤلاء أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا وأقام هؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا ، فقضى بها لأكثرهم بينة واستحلفهم ، قال : فسألته حينئذ فقلت : أرأيت إن كان الذي ادعى الدار قال : إن أبى هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن ، ولم يقم الذي هو فيها بينة إلا أنه ورثها عن أبيه ، قال : إذا كان أمرها هكذا فهي للذي ادعاها وأقام البينة عليها ».

قال الصدوق : « لو قال الذي في يده الدار : إنها لي وهي ملكي وأقام على ذلك بينة وأقام المدعي على دعواه بينة كان الحق أن يحكم بها للمدعي ، لأن الله تعالى إنما أوجب البينة على المدعي ولم يوجبها على المدعى‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٤١٩

عليه ، ولكن هذا المدعى عليه ذكر أنه ورثها من أبيه ، ولا يدري كيف أمرها ، ولهذا أوجب الحكم باستحلاف أكثرهم بينة ودفع الدار إليه ».

ولعل التأمل في كلامه هذا يقتضي موافقته على تقديم بينة الخارج في المقام ، نعم يستحلف أكثرهم بينة مع تقييد بينة الداخل ، وحينئذ فنقل خلاف ذلك عنه لا يخلو من إشكال.

وعلى كل حال فلا يخفى عليك أخصية الدليل من الدعوى ، لعدم تعرض للأعدلية فيها ، بل خروجه عنها ، ضرورة ذكر السبب في بينة المنكر والإطلاق في بينة المدعي ، بل لا يخلو ذيله من منافاة لصدره ، إلا أن يفرض الأول على جهة ( وجه خ ل ) التعارض ، والثاني على عدمه.

وإلى أبي علي فرجح ذا اليد مع تساوي البينتين ، وحكم بإحلافهما ، قال : « فان حلفا جميعا أو أبيا أو حلف الذي في يده كان محكوما للذي هي في يده بها ، فان حلف الذي ليست في يده وأبى الذي في يده أن يحلف حكم بها للحالف قال ـ : ولو اختلف أعداد الشهود وكان الذي هي في يده أكثر شهودا كان أولى باليمين إن بذلها ، فان حلف حكم له بها ، ولو كان الأكثر شهودا ، الذي ليست في يده فحلف وأبى الذي هي في يده أن يحلف أخرجت ممن كانت في يده وسلمت إلى الحالف مع شهوده الأكثر من شهود من كانت في يده ».

وهو كما ترى وإن قال في كشف اللثام : « لعله جمع بين نصوص تقديم ذي اليد وما أطلق من النصوص بتقديم الأرجح من البينتين ».

( و ) كيف كان فـ ( ـلو شهدتا بالسبب قيل ) والقائل الشيخ في ظاهر النهاية والمحكي عن كتابي الأخبار ( يقضي لصاحب اليد ) وإن أطلق في الأول تقديم بينته إذا شهدت بالسبب وخصها في الأخيرين بما إذا شهدتا به ( لقضاء علي عليه‌السلام في الدابة ) ‌

٤٢٠