جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ولا شيئا منه ، ولا اقتضى له ولا شي‌ء منه ، ولا أجال به ولا بشي‌ء منه ، ولا أبرأه ولا عن شي‌ء منه ، وأن حقه لثابت ، ولا اقتضى له مقتض بغير أمره فأوصل إليه ، قال : فان ادعى أنه قد أبرأه منه أو قد أجال به لم يحلف المدعى عليه على أكثر من الذي ادعاه عليه ، وإن كانت الدعوى مبهمة فقال : ما له قبلي حق أو قد برئت ذمتي من حقه احتاج إلى هذه الألفاظ كلها حتى يأتي بجميع جهات البراءة ، ومن الناس من قال : أي شي‌ء ادعى ، فان المدعى عليه يحلف ما برئت ذمتك من ديني فإذا قال هذا أجزأه ، لأنها لفظة تأتي على كل الجهات ، فإن الذمة إذا كانت مشغولة بالدين أجزأه أن يقول ما برئت ذمتك من حقي ، وهذا القدر عندنا جائز كاف والأول أحوط وآكد ، فأما قوله وإن حقي لثابت فلا خلاف أنه ليس بشرط » انتهى.

وظاهر أول كلامه الموافقة على الحلف على الاستحقاق من دون دعوى البراءة أو غير ذلك مما لا ينافي الحكم الأول الذي لم يخالف فيه هو ولا غيره منا ، كما هو واضح.

وفي الثاني الشهادة على العين الذي لم يخالف فيه إلا التبعي والنخعي وشريح وابن أبي ليلى من العامة ، لأن الشهادة فيها على الملك الفعلي كي تصلح معارضة لليد ، فلا تحتاج إلى يمين ، والله العالم.

( و ) كيف كان فـ ( ـفي الإلزام بالجواب عن دعوى الإقرار تردد منشأه أن الإقرار لا يثبت حقا في نفس الأمر ) فلا توجب دعواه حقا لازما للمدعى عليه ( بل إذا ثبت قضى به ظاهرا ) فينحصر طريقه بالبينة حينئذ ، وأنه ينتفع به مع التصديق به في حق لازم ، فإنه إذا أقر بإقراره ثبت الحق.

لكن في القواعد والمسالك ومحكي الإيضاح وغاية المرام أن الأقرب‌

٣٨١

الثاني ، ولعله كذلك لأن المدار على ثبوت الحق ظاهرا ، فنكوله عن ذلك يثبت عليه الحق ، أو مع يمين المدعي الذي يجوز له الحلف عليه والأخذ به وإن لم يعلم استحقاقه من غير جهة إقراره الذي له الأخذ به ما لم يعلم كذبه ، لجواز استناده إلى سبب لا يعلم به ، ولأنه إذا سمعت دعواه بالبينة توجه له اليمين على عدمها ، لعموم‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ».

نعم قد يقال بعدم إلزامه باليمين على نفي ذلك بخصوصه إذا بذل اليمين على براءة ذمته الذي يأتي على ذلك كله ، نحو ما تسمعه في عدم إلزامه بجواب دعوى أنه أقرضه أو باعه بثمن في ذمته أو نحو ذلك ، معللين له بإمكان أدائه له والعجز عن إثباته ، فيكفي جوابه ببراءة ذمته مما يدعيه عليه ، فإنه يأتي على ذلك كله ، ومثله آت هنا.

اللهم إلا أن يفرق بأن الدعوى في الأول الشغل بسبب في الواقع ، فيكفي في جوابه نفي الواقع بخلاف الثاني ، فإن الدعوى فيه بصدور سبب من المدعى عليه يؤخذ به وإن لم يعلم الواقع.

وفيه أن الإقرار كما يؤخذ بظاهره وإن لم يعلم صحته وقد ادعاه على خصمه كذلك البيع عليه مثلا له الأخذ بظاهره أيضا ما لم يعلم فساده وقد ادعاه على خصمه ، فكما لا يلزم هناك الجواب بنفي البيع ويكفيه الجواب ببراءة الذمة كذلك هنا ، فتأمل.

( ولا تفتقر صحة الدعوى إلى الكشف ) عن الأسباب في الأملاك المطلقة عينا كانت أو دينا بلا خلاف كما عن المبسوط ، بل الإجماع بقسميه عليه ، بل قيل لا مخالف فيه من العامة.

بل ولا ( في النكاح ولا غيره ) من العقود ونحوها عندنا ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم.

٣٨٢

بل الإجماع بقسميه عليه ، خلافا للمحكي عن الشافعي في وجه له من احتياج النكاح إلى الكشف مطلقا ، وفي آخر أيضا ذلك إن ادعى النكاح لا الزوجية ، فيقول : تزوجتها بولي وشاهدين عدلين ورضاها ، وعن بعض أصحابه حمله على الندب ، وعن آخر تخصيصه بما إذا ادعى ابتداءه لا استدامته وله ( وللشافعية خ ل ) أيضا في غيره من العقود أيضا من الاحتياج إلى الكشف مطلقا في وجه ، وفي خصوص ما لو تعلقت بجارية في آخر للاحتياط في الفروج ( و ) الكل كما ترى.

نعم ( ربما افتقرت ) صحة الدعوى ( إلى ذلك في دعوى القتل لأن ) أمره شديد و ( فائته لا يستدرك ) وللخلاف في أسبابه قيل : فلا بد من الوصف بالعمد أو خلافه ، وبأنه قتله وحده أو مع غيره بالمباشرة أو التسبيب ، ولعله لذا حكي عن المبسوط الاتفاق عليه.

لكن الانصاف عدم خلوه عن الاشكال إن لم يتم الإجماع المزبور باقتضائه بطلان دم المسلم ، خصوصا مع العذر من نسيان أو اشتباه ونحوهما ، بل قيل : إنه يمكن بحكم الأصل تشخيص أنه خطأ ، ومن هنا قال في الدروس بل والكتاب في القصاص : « الأقرب الاكتفاء في القتل بعدم التفصيل » بل هو ظاهر الأردبيلي ، بل قد يلوح من قول المصنف هنا : « وربما » إلى آخره نوع تأمل في إطلاق الحكم المزبور ، بل ينبغي الجزم بالعدم فيما كان لكلية حكم يترتب عليه ، فلا مانع حينئذ من الدعوى به وإثباته لأن يترتب عليه ذلك مع فرض عجزه عن إثبات الخصوصية ، بل ربما ظهر من الأردبيلي سماع دعوى الكلي وإن لم يترتب عليه حكم ، ولكنه مقدمة لإثبات الخصوصية فيما بعد.

وبالجملة لا فرق بين القتل وغيره في ذلك ، فإنه مع فرض عدم ترتب حكم على الكلي في غيره لم تسمع الدعوى به أيضا ، وإلا سمعت‌

٣٨٣

إن لم يثبت الإجماع المزبور ، وستسمع إنشاء الله في كتاب القصاص تمام الكلام في ذلك ، بل منه يعلم ما في الإجماع المزبور.

( و ) كيف كان فـ ( ـلو اقتصرت ) المرأة ( على قولها : هذا زوجي كفى في ) صحة ( دعوى النكاح ، ولا يفتقر ذلك إلى دعوى شي‌ء من حقوق الزوجية ، لأن ذلك يتضمن دعوى لوازم الزوجية ) وللعامة قول بالاشتراط بناء على أن ذكرها لمجرد الزوجية إقرار لا دعوى ، وهو واضح الضعف.

( و ) حينئذ فـ ( ـلو أنكر النكاح لزمه اليمين ، ولو نكل قضي عليه على القول بالنكول ، وعلى القول الآخر يرد اليمين عليها ، فإذا حلفت ثبتت الزوجية ) وعن التحرير « وفي تمكين الزوج منها إشكال ، من إقراره على نفسه بتحريمها ، ومن حكم الحاكم بالزوجية » ( وكذا السياق لو كان هو المدعي ) وإن كان لا خلاف هنا في قبول دعواه من دون ضم شي‌ء من لوازم الزوجية ، وقد تقدم في كتاب النكاح (١) بيان حكمهما مع الاختلاف ، فلاحظ وتأمل. وإن كان لا إشكال في استحقاقها المهر بالوطء إن قهرها أو قلنا بوجوب التمكين لحكم الحاكم بالزوجية أو اعتقدت ذلك ، وفي عدم استحقاقها لشي‌ء منه بدون الوطء لإقرارها ، وفي كشف اللثام « والظاهر استحقاقها النفقة لحبسها عليه » وفيه نظر.

( ولو ادعى أن هذه بنت أمته لم تسمع دعواه ) كما في القواعد والدروس والإرشاد والمسالك والكشف وغيرها ( لاحتمال أن تلد في ملك غيره ثم تصير له ) فلا تقتضي حينئذ الدعوى حقا لازما للمدعى عليه.

( وكذا لو قال : ولدتها في ملكي ، لاحتمال أن تكون حرة أو

__________________

(١) راجع ج ٢٩ ص ٥١٢ ـ ١٥٣.

٣٨٤

ملكا لغيره ) بالشرط ونحوه.

( وكذا لا تسمع البينة بذلك ما لم يصرح بأن البنت ملكه ، وكذا البينة ) لا تسمع ما لم تصرح بذلك لما عرفت ، لكن عن لقطة المبسوط والتذكرة سماع الدعوى والبينة في الثاني ، بل عن الأخير الإجماع عليه ، ولعله لأصالة تبعية النماء للمال حتى يعلم خلافه ، وهو كذلك حيث لا يكون لآخر يد تقضي بالملكية لها وإلا انقطع بها الأصل المزبور ، كما انقطع بها ما هو أقوى من ذلك ، وكلام الأصحاب هنا في الدعوى على آخر. ( ومثله لو قال : هذه ثمرة نخلي ) مثلا.

( وكذا لو أقر له من الثمرة في يده أو بنت المملوكة ) في يده بأنها ثمرة نخلتك وبنت مملوكتك التي ولدتها في ملكك ( لم يحكم عليه بالإقرار لو فسره بما ينافي الملك ) كما في القواعد ، بأن قال : ومع ذلك هي ملكي ، لما عرفت من عدم دلالة ذلك على الاعتراف بكونهما ملكا له ، إذ هو أعم.

لكن في المسالك « أن ظاهر المصنف كون ذلك إقرارا بالملك مع عدم إضافة ما ينافي ذلك إليه ، عملا بالظاهر من كونهما تابعين للأصل ، حيث لا معارض ، ولو كان هناك شي‌ء لذكره ، فإطلاقه كونهما من الأصل الذي هو مملوك للمقر له ظاهر في تبعيتهما له بخلاف الدعوى ، فان شرطها التصريح بالملك له ولو بالاستلزام ولم يحصل ، وتبع المصنف على هذا الحكم العلامة في القواعد والتحرير ، والفرق بين الدعوى والإقرار لا يخلو من إشكال ، لأن الاحتمال قائم على تقدير الإقرار والدعوى ، والعمل بالظاهر في الإقرار دون الدعوى لا دليل عليه ، والفرق باشتراط التصريح فيها دونه رجوع إلى نفس الدعوى وفي الإرشاد أطلق عدم سماع الدعوى والإقرار معا ، ولم يعتبر التقييد في الإقرار بتفسيره بما ينافي‌

٣٨٥

الملك وهذا هو الظاهر ».

وفيه أنه لا ظهور في عبارتي المصنف والفاضل باعتبار التقييد المزبور وأن المراد عدم الحكم عليه لو فسره ولو بعد حين بما ينافي الملك بأنه إنكار بعد إقرار ، وليس إلا لعدم ظهور العبارة في ذلك ، وليس المراد عدم الحكم بالإقرار إن فسره ، بمعنى إضافة ذلك إليه متصلا وإلا حكم عليه به. وعلى كل حال فالحكم فيه كما عرفت.

( ولا كذلك لو قال : هذا الغزل من قطن فلان ) حال كونه ملكا له ( أو هذا الدقيق من حنطته ) كذلك ، فإنه إقرار ، فلو عقبه بما ينافي ذلك كان إنكارا بعد إقرار ، لأن الغزل والدقيق نفس حقيقة القطن والحنطة ، وإنما تغيرت الأوصاف ، فملك الأصل يقتضي ملك الفرع ، بخلاف الثمرة والولد ، فإنهما منفصلان عن أصلهما جنسا ووصفا وشرعا ، فالإقرار بالفرعية لا تقتضي الإقرار بالملك ، وكذا في المسالك وغيرها ، بل لا أجد فيه خلافا ، بل هو عندهم من الواضحات.

لكن قد يشكل بأن فرض التداعي يقتضي كونه في يد آخر على جهة الملكية ، واعترافه بكونه من حنطته التي هي ملكه لا يقتضي الاعتراف بكونه ملكا له الآن ، فلو عقبه بقوله : ولكنه الآن ملكي لم يكن منافيا لكلامه السابق ، ضرورة احتمال تجدد الملك له بعد ذلك فيده حينئذ بحالها.

اللهم إلا أن يفرض عدم احتمال تجدد ناقل ، وحينئذ يتجه كونه اعترافا به ، ضرورة اقتضاء ملكية الحنطة ملكية دقيقها وملكية القطن ملكية غزله ، لعدم تصور كون الحنطة ملكا له وبصيرورتها دقيقا تخرج عن ملكه ، بخلاف الأمة والشجرة ، فإنه لا مانع من كونه مالك الأصل ، والفرع ملك لغيره بشرط أو صلح أو غير ذلك على وجه يخرج من ملكه ويكون ملكا لغيره ، وهذا المعنى لا يتصور في الحنطة والقطن ونحوهما ،

٣٨٦

اللهم إلا أن يفرض بنذر ونحوه على خروج الحنطة عن ملكه بصيرورتها دقيقا وكذا القطن ، والبحث في صحته ، والله العالم.

( الفصل الثاني في التوصل إلى الحق )

الذي هو عقوبة أو مال ، فان كان الأول كالقصاص والقذف ، ففي المسالك وغيرها بل في الكفاية لا أعرف فيه خلافا لا بد فيه من الرفع إلى الحاكم لعظم خطره والاحتياط في إثباته ، ولأن استيفاؤه وظيفة الحاكم على ما تقتضيه السياسة وزجر الناس.

وفيه أن إطلاق السلطان للولي وتسلط الناس على استيفاء حقوقها وغير ذلك يقتضي عدم اعتبار الرفع إلى الحاكم مع فرض معلومية الحال وإقرار الخصم ، كما أنه يقتضي مباشرته لا خصوص الحاكم.

وإن كان الثاني فـ ( ـمن كانت دعواه عينا في يد انسان ) معترف بها أو معلوم حالها ( فله انتزاعها ) منه ( ولو قهرا ) بمساعدة ظالم أو بنفسه وإن استلزم ضررا بتمزيق ثوب أو كسر قفل أو نحو ذلك ( ما لم تثر فتنة ) بل وإن ثارت ما لم تصل إلى حد وجوب الكف عن الحق له لترتب تلف الأنفس والأموال وغيره من الفساد الذي يمكن دعوى العلم من مذاق الشرع بعدم جواز فعل ما يترتب عليه ذلك وإن كان مباحا في نفسه أو مستحبا بل أو واجبا وإن لم يكن الترتيب ترتيب سببية أو علية ، كما أشار عليه‌السلام إليه بقوله في بيع الوقف (١) : « إنه ربما حصل من الاختلاف تلف الأنفس والأموال » ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من كتاب الوقوف والصدقات ـ الحديث ٦ وفيه‌ « فإنه ربما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس ».

٣٨٧

بل ربما أشير إليه بقوله تعالى (١) ( إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ ) وغير ذلك ، بل قد يستفاد من الأول كون المدار على مظنته بل احتماله احتمالا معتدا به فضلا عن العلم ( ولا يفتقر ) انتزاعها في الظاهر والواقع ( على إذن الحاكم ) إذا كانت على الوجه المزبور.

( نعم لو كان الحق دينا وكان الغريم مقرا باذلا لم يستقل المدعي بانتزاعه من ) دونه أو ( دون الحاكم ) لو فرض عذره بمرض ونحوه على وجه يتعذر منه التوكيل بلا خلاف بل ولا إشكال ( لأن للغريم ) نفسه ( تخييرا في جهات القضاء ) لأنه المخاطب ( فلا يتعين الحق في شي‌ء من دون تعيينه أو تعيين الحاكم مع امتناعه ) أي امتناع تعيينه لحبس أو مرض أو نحوهما ، لأن له الولاية العامة في ذلك ، ولو كان الغريم مقرا ممتنعا ففي القواعد « استقل الحاكم بالأخذ دونه » ويمكن دعوى استفادته من المتن أيضا.

وقد يشكل بإطلاق ما تسمعه من الأدلة وغيرها خصوصا مع القول به في الجاحد الذي ساوى في المسالك بينه وبين المماطل في الحكم ، واعترف الفاضل في القواعد بأن حكمه ما أشار إليه المصنف بقوله ( ولو كان المدين جاحدا وللغريم بينة تثبت ) حقه ( عند الحاكم والوصول إليه ممكن ففي جواز الأخذ تردد ) وخلاف ( أشبهه ) وفاقا للأكثر كما في كشف اللثام وغيره ( الجواز ، وهو الذي ذكره الشيخ في الخلاف والمبسوط ) ومحكي التهذيب والنهاية ( وعليه دل عموم الاذن في الاقتصاص ) كتابا بقوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا ) (٢)

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ الآية ٧٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ الآية ١٩٤.

٣٨٨

( وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ ) (١) ( فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) (٢) وسنة‌ « لي الواجد يحل عقوبته وعرضه » (٣) بناء على إرادة ما يشمل ذلك من العقوبة ، وما يشمل الجحود من اللي ، و‌ « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » (٤) إن لم نقل ذلك إذن منه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وخبر جميل بن دراج (٥) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يكون له على الرجل الدين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال : نعم ».

وصحيحتي داود بن رزين وابن زربي قال في إحداهما (٦) : « قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : إني أخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها ، والدابة الفارهة يبعثون فيأخذونها ، ثم يقع لهم عندي المال فلي أن آخذه؟ فقال : خذ مثل ذلك ولا تزد عليه ».

وقال في الأخرى (٧) : « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إني أعامل قوما فربما أرسلوا إلى فأخذوا مني الجارية والدابة فذهبوا بهما مني ثم يدور لهم المال عندي فآخذ منه بقدر ما أخذوا مني؟ فقال : خذ منهم بقدر ما أخذوا منك ، ولا تزد عليه » إن لم يكن ذلك إذنا منه (ع)

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٩٤.

(٢) سورة النحل : ١٦ ـ الآية ١٢٦.

(٣) راجع التعليقة (١) من ص ١٦٤.

(٤) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٤١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ١٠ ـ ١ من كتاب التجارة.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ١٠ ـ ١ من كتاب التجارة.

(٧) أشار إليه في الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ١ وذكره في الفقيه ج ٣ ص ١١٥ ـ الرقم ٤٨٩.

٣٨٩

كما هو الظاهر ، ومثله‌ خبر علي مهزيار (١).

وصحيح أبي بكر (٢) « قلت له : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي؟ قال : فقال : نعم ، ولكن لهذا كلام ، قلت : وما هو؟ قال : تقول : اللهم إني لا آخذه ظلما ولا خيانة ، وإنما أخذته مكان مالي الذي أخذ مني لم أزد عليه شيئا » وفي‌ خبر آخر له (٣) « اللهم إنما آخذ هذا مكان مالي الذي أخذه مني » وفي آخر له (٤) « اللهم إني لم آخذ ما أخذت منه خيانة ولا ظلما ، لكن أخذته مكان حقي » إلى غير ذلك من النصوص.

وما في الأخير من جواز الأخذ بعد الحلف منزل على الحلف من دون استحلاف أو عند غير الحاكم أو نحو ذلك حتى لا ينافي غيره من النصوص ، ولا ريب في استحباب القول المزبور وإن أطنب بعض الناس بدعوى الوجوب الذي يمكن تحصيل الإجماع على خلافها.

كل ذلك مع أنه لم نر للقائل بالمنع من شي‌ء يعتد به ـ وإن ذهب إليه المصنف في النافع ، بل حكي عن تلميذه الآبي في كشفه والفخر في إيضاحه ـ عدا الأصل المقطوع بما عرفت ، بل يمكن معارضته بأصل عدم وجوب الرفع إلى الحاكم ، وعدا دعوى قيام الحاكم مقام المالك ، فمع التمكن لا يجوز بغير إذنه ، وهو كالاجتهاد في مقابلة النص ، ونحو ذلك‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به الحديث ٨ من كتاب التجارة عن ابن مهزيار عن إسحاق بن إبراهيم ، ومماثلته انما هو في الاذن في التقاص ، والا فهو وارد في الوديعة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٤ ـ ٥ من كتاب التجارة.

(٣) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٤ ـ ٥ من كتاب التجارة.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ١١٥ ـ الرقم ٤٨٩.

٣٩٠

من الاعتبارات التي لا تصلح مدركا للحكم فضلا عن معارضة الدليل.هذا كله مع التمكن من الإثبات عند الحاكم.

( ولو لم تكن له بينة أو تعذر الوصول إلى الحاكم ) بل في المسالك « أو أمكن ولم تكن يده مبسوطة بحيث يمكنه تولي القضاء عنه » وإن كان فيه أن الفائدة الاستئذان منه.

وعلى كل حال فمتى تعذر ( ووجد الغريم من جنس ماله اقتص مستقلا بالاستيفاء ) بلا خلاف فيه عندنا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، لإطلاق الأدلة المزبورة وغيرها.

( نعم لو كان المال وديعة عنده ففي جواز الاقتصاص تردد ) أيضا وخلاف ( أشبهه الكراهة ) وفاقا لأكثر المتأخرين ، جمعا بين ما دل على الجواز من الأدلة السابقة وخصوص‌ صحيح البقباق (١) « إن شهابا ما رآه في رجل ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم ، قال أبو العباس : فقلت له : خذها مكان الألف التي أخذ منك فأبى شهاب ، قال : فدخل شهاب على أبي عبد الله عليه‌السلام فذكر ذلك له ، فقال : أما أنا فأحب أن تأخذ وتحلف ».

وخبر علي بن سلمان (٢) قال : « كتب إليه عليه‌السلام رجل غصب رجلا مالا أو جارية ثم وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه أيحل له حبسه عليه أم لا؟ فكتب عليه‌السلام نعم يحل له ذلك إن كان بقدر حقه ، وإن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه ويسلم الباقي إليه إنشاء الله ».

وبين ما دل على النهي عن ذلك بل عن مطلق الأمانة ، لخبر‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٢ من كتاب التجارة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٩ من كتاب التجارة.

٣٩١

ابن أخ الفضيل بن يسار (١) قال : « كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام ودخلت امرأة وكنت أقرب القوم إليها ، فقالت : أسأله ، فقلت : عما ذا؟ فقالت : إن ابني مات وترك مالا في يد أخي فأتلفه ثم أفاد مالا فأودعنيه فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شي‌ء؟ فأخبرته بذلك ، فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك ».

وخبر سلمان بن خالد (٢) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثم وقع له عندي مال فآخذه لمكان مالي الذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع ، قال : إن خانك فلا تخنه ، ولا تدخل فيما عبته عليه ».

وصحيح معاوية بن عمار (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قلت له : الرجل يكون لي عليه حق فيجحدنيه ثم يستودعني مالا ألي أن آخذ مالي عنده؟ قال : هذه الخيانة ».

بل لعل في‌ قوله عليه‌السلام : « ولا تدخل فيما عبته عليه » إشعار بذلك ، خصوصا بعد معلومية عدم كون المقاصة خيانة ، بل هي في قوة أداء الأمانة إلى من ائتمنه بعد أن جعله الشارع وليا له في استيفاء دينه منها ، وليس هو أخذا بغير حق الذي قد عابه عليه ، كما يومئ إليه الأدعية السابقة ، فمراد الامام عليه‌السلام بيان نوع مرجوحية بسبب كونها صورة الخيانة التي قد تأكد النهي عنها (٤) حتى‌ قال الصادق (ع)

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٣ من كتاب التجارة.

(٢) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٧ عن سليمان بن خالد.

(٣) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ١١ من كتاب التجارة.

(٤) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة والباب ـ ٣ ـ من كتاب الوديعة.

٣٩٢

في خبر عبد الله بن إسماعيل (١) : « أد الأمانة لمن ائتمنك وأراد منك النصيحة ولو أنه قاتل الحسين عليه‌السلام » وقال عليه‌السلام أيضا في خبر عمار (٢) : « اعلم أن ضارب علي عليه‌السلام بالسيف وقاتله لو ائتمنني على سيف واستشارني ثم قبلت ذلك منه لأديت إليه الأمانة » مضافا إلى تأكد الأمر (٣) بأداء الأمانة إلى أهلها.

وعلى كل حال فما عن النهاية والغنية والكيدري والقاضي ـ من القول بعدم الجواز ، بل عن الغنية الإجماع عليه ـ واضح الضعف وإن توقف فيه في ظاهر الدروس والروضة ، بل مال إليه الأردبيلي.

وما عساه يقال ـ : إن الأدلة بعد تعارض الخاصة منها وتساقطها فالعمومات بينهما تعارض العموم والخصوص من وجه ولا ترجيح ، والأصل حرمة التصرف في مال الغير وعدم تعيين الكلي في الذمة بتعيين غير المديون ونحو ذلك ـ يدفعه أولا منع عدم رجحان الأدلة الخاصة بعد قيام احتمال الكراهة أو ظهوره في الأدلة المعارضة دونها ، مضافا إلى اعتضاد عموم المقاصة بأدلة نفي الضرر والضرار والحرج وغير ذلك ، بل قد عرفت أن المقاصة ليست من الخيانة المندرجة في هذه العمومات.

بل لو لا شهرة الكراهة لأمكن المناقشة فيها بظهور‌ قوله عليه‌السلام (٤) : « أما أنا فأحب أن تأخذ وتحلف » في عدمها ، مع احتمال حمل ما دل على النهي عن خيانة من خان على ما لو استحلفه ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من كتاب الوديعة الحديث ٤ عن إسماعيل ابن عبد الله.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من كتاب الوديعة الحديث ٨.

(٣) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الوديعة.

(٤) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٢ من كتاب التجارة.

٣٩٣

فإنه لا يجوز حينئذ المقاصة ، كما أومأ إليه في‌ خبر عبد الله وضاح (١) مع اليهودي الذي حلفه ، ثم وقع له عنده أرباح تجارة دراهم كثيرة فسأل أبا الحسن عليه‌السلام عن ذلك فقال له : « إن كان ظلمك فلا تظلمه ، ولو لا أنك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك » وهو دليل آخر أيضا على جواز المقاصة ، كما هو واضح.

بل من إطلاق الأدلة السابقة وترك الاستفصال في بعضها وخصوص نصوص (٢) الجارية ( و ) الدابة الفارهة يستفاد أنه ( لو كان المال ) الذي له في ذمته ( من غير جنس الموجود ) عنده ( جاز أخذه بالقيمة العدل ، ويسقط اعتبار رضا المالك بالطاطه ) وجحوده بل واستئذان الحاكم أيضا في الأخذ المزبور وإن كان هو أولى من الأول ( كما يسقط اعتبار رضاه ) واستئذانه ( في ) متحد ( الجنس ) بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك بيننا ، نعم عن جماعة من العامة الاقتصار على الجنس ( و ) هو واضح الضعف.

بل مقتضى الإطلاق المزبور أنه ( يجوز أن يتولى ) بنفسه ( بيعها ) أي الوديعة مثلا ( وقبض دينه من ثمنها ) سواء كان من جنس حقه أم لا ( دفعا لمشقة التربص بها ) بل يجوز له بيع ثمنها إلى أن ينتهي إلى ما يساوي حقه في الجنس ثم يأخذه مقاصة ، لأن له على المالك ذلك ، وقد أقامه الشارع مقامه في الاستيفاء ، فلا يلزم بالمقاصة من غير الجنس كما عساه يتوهم في بادئ النظر من النصوص ، نعم حيث كان هو الولي في ذلك وجب عليه الجمع بين حقه وحق المالك.

ومن الغريب ما عن الكفاية « ويتخير عند الأصحاب بين أخذه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٨٣ ـ من أبواب ما يكتسب به.

٣٩٤

بالقيمة وبين بيعه وصرفه في جنس الحق ، ولا يجوز أن يتولى بيعه ويقبض ثمنه من دينه » مع أن الذي عثرنا عليه من كلمات الأصحاب والمحكي منها كالمبسوط والقواعد والدروس والإيضاح وغيرها جواز ذلك له بنفسه ، بل عن الأول أنه الأقوى عندنا كما ستسمع ، وهو كذلك بناء على عدم الرجوع إلى الحاكم في الأصل.

نعم عن المبسوط « ومن الذي يبيع؟ فقال بعضهم : الحاكم ، لأن له الولاية عليه ، وقال آخرون : يحضر عند الحاكم ومعه رجل قد واطأه على الاعتراف بالدين والامتناع من الأداء ـ ثم قال ـ : والأقوى عندنا أن له البيع بنفسه ، لأنه قد يتعذر إثباته عند الحاكم ، والذي قال الآخرون كذب يتنزه عنه » وظاهره أن الأولين من العامة أو من القائلين بالرجوع إلى الحاكم في أصل المسألة فضلا عن هذه الخصوصية ، ولكن الأقوى ما عرفت في الأصل.

بل فيما حضرني من نسخة الكفاية مناف للمحكي عنها ، قال : « ويتخير عند الأصحاب بين أخذه بالقيمة وبين بيعه وصرفه في جنس الحق ، ويستقل بالمعاوضة ، ويجوز أن يتولى بيعه وقبض دينه من ثمنه ، فان تلف قبل البيع ففي الضمان قولان ».

نعم قد يقال بوجوب الاقتصار في المقاصة على الأخذ من جنس حقه مع الإمكان ومن غيره مع عدم الإمكان ، لعدم إطلاق في الأدلة يوثق به على الجواز من غير الجنس مطلقا ، فيقتصر فيما خالف الأصل على المتيقن. فما في الرياض من الميل إلى عدم تعين ذلك عليه للإطلاق المزبور نصا وفتوى لا يخلو من نظر.

نعم لا يجب عليه بيع الوديعة بجنس حقه وإن حكي عن بعضهم ، ويمكن حمله على إمكان ذلك من غير ضرر على المالك ، أما مع عدمه‌

٣٩٥

فقد عرفت ظهور النفي في ولايته بالنسبة إلى ذلك ، فينبغي مراعاة المصلحة التي يلحظها الوكيل والولي ، فتأمل.

كما أن ظاهر النصوص جواز المقاصة وإن لم يعلم بانتقال العين إلى قيمتها في الذمة بتلف ونحوه ، بل وإن علم العدم ، فلا وجه لقصر الأصحاب عنوان المقاصة على الدين.

بل ظاهرها ملك المقاص العوض الذي يأخذه ، وينبغي أن يلزمه انتقال مقابله إلى ملك الغاصب ، لقاعدة عدم الجمع بين العوض والمعوض عنه ، بل قد يشكل استحقاق الرد عليه لو بذله له بعد ذلك ، بل لعله كذلك لو كان البذل من المالك استصحابا لملك العوض ، واحتمال كون الملك متزلزلا ـ نحو ما ذكروه في القيمة التي يدفعها الغاصب للحيلولة ـ مناف لقاعدة اللزوم بعد ظهور النصوص في الملك ، بل يمكن دعواه أيضا هناك ويجعل ما هنا دليلا عليه ، فتأمل جيدا.

( و ) كيف كان فـ ( ـلو تلفت ) العين التي قبضت لإرادة المقاصة بثمنها بلا تعد ولا تفريط ولو بالتكاسل في بيعها ( قبل البيع قال الشيخ : الأليق بمذهبنا أنه لا يضمنها ) للأصل ولأنها في يده أمانة شرعية أو بحكمها ، وتبعه الشهيدان في المسالك وظاهر غاية المراد والأردبيلي في مجمعه.

( والوجه ) كما في القواعد ومحكي الإيضاح ( الضمان ، لأنه قبض لم يأذن فيه المالك ) حتى يكون أمانة مالكية ، نعم أذن به الشارع ، ولكن لا منافاة بينه وبين الضمان بعد أن لم يكن في شي‌ء من النصوص الحكم بكونه قبض أمانة فيندرج في ما دل على عدم ضمانها ، كما أنه ليس في شي‌ء من الأدلة الشرعية عنوان للأمانة الشرعية على وجه يكون المقام منها موضوعا وحكما ، إذ ليس إلا الاذن في القبض لاستيفاء حقه ، وهو‌

٣٩٦

أعم من الائتمان الذي لا يستعقب الضمان كالالتقاط ونحوه ، وليس كل ما أذن الشارع في قبضه يكون أمانة خصوصا القبض لمصلحة القابض التي هي استيفاء حقه منها ، بل ذلك من المالك لا يقتضي الائتمان المزبور ، ( و ) حينئذ فتبقى قاعدة ضمان مال المسلم المستفادة من‌ عموم « على اليد » (١) وغيره بحالها فـ ( ـيتقاصان ) حينئذ ( بقيمتها مع التلف ) ولو بغير تفريط.

مضافا إلى أن القبض للمقاصة هو قبض ضمان لا قبض مجان ، بل هو أولى من قبض السوم ، وكونه وليا بمعنى أن له المقاصة بنفسه لا يقتضي عدم ضمانه نحو باقي الأولياء الذين ليس هو منهم بالمعنى الذي يترتب عليه ذلك.

وبذلك ظهر لك النظر في جملة من الكلمات المبينة على الأصل والاكتفاء بالإذن الشرعية في استيفاء الحق من مال الغير في تحقق الأمانة التي حكمها عدم الضمان ، وقد عرفت ما فيهما.

كما أن منه ظهر لك الحال في الزيادة على الحق وأنها على الضمان أيضا ، فما عن الفاضل في التحرير والقواعد من الحكم بعدم ضمانها مع قوله في الثاني بضمان ما قابل الحق لا يخلو من نظر.

وكذا لا يخلو ما يحكى من صريح بعض وظاهر آخر من عدم الضمان لو أخذه بعنوان المقاصة به ، ولكن لم ينشأها لإرادة معرفة قيمته فاتفق تلفه منه أيضا ، بل لعل هذا بالضمان أولى من الأول ، لما عرفت من القاعدة السابقة التي مقتضاها الضمان قبل البيع وبعده قبل استيفاء ( إنشاء خ ل ) المقاصة ، نعم لا ضمان معه ، ضرورة صيرورة المال ملكا له به وإن لم يعرف قيمته ، لعدم توقف صحة الاستيفاء على اقتران معرفة القيمة ، بل له قبضه‌

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ١ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ٤ وسنن البيهقي ج ٦ ص ٩٥.

٣٩٧

بالعنوان المزبور ثم تحسب له قيمة وقته وفاء ، كما لو دفع المالك أعيانا وفاء ، فإنها تحسب قيمتها وقت الدفع ، كما هو محرر في محله.

( مسألتان : )

( الأولى : )

( من ادعى ما لا يد لأحد عليه قضي له ) به من دون بينة ويمين بلا خلاف أجده فيه ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، لأصالة صحة قول المسلم وفعله بل كل مدع ولا معارض له.

( ومن بابه أن يكون كيس ) مثلا ( بين جماعة فيسألون هل هو لكم فيقولون : لا ويقول واحد : هو لي ، فإنه يقضى به لمن ادعاه ) كما رواه‌ منصور بن حازم في الصحيح (١) « قلت للصادق عليه‌السلام : عشرة كانوا جلوسا ووسطهم كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي ، قال : هو للذي ادعاه ».

بل قد يظهر من الراوي المزبور المفروغية من هذا الأصل عند العقلاء أجمع‌ قال (٢) : « قلت له أيضا : إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه ، بل الخلق يعرفون بالله ، قال : صدقت ، قلت : إن من عرف له ربا فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطا وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي أن يطلب الرسل ، فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة ـ إلى أن قال ـ : فقلت لهم : من قيم القرآن؟ فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٢) الكافي ـ ج ١ ص ١٦٨.

٣٩٨

وحذيفة يعلم ، قلت : كله ، قالوا : لا ، فلم أجد أحدا يقول إنه يعرف ذلك كله إلا عليا عليه‌السلام وإذا كان الشي‌ء بين القوم فقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : أنا أدري فأشهد أن عليا عليه‌السلام كان قيم القرآن ».

بل قد يقال بظهور الصحيح المزبور في قبول دعوى المدعي ولو بعد قوله : « ليس لي » بناء على إرادة الحقيقة من قوله : « كلهم » ويمكن أن يكون على القواعد أيضا ، لأصالة صحة قوليه معا باحتمال التذكر وغيره ، لعدم المعارض.

وعليه حينئذ يتفرع جواز تمكينه من الزوجة التي أنكر زوجيتها ثم أقر بها ، ولا يمنعه الحاكم عن ذلك ، كما مر في كتاب النكاح.

هذا كله مع عدم اليد أما معها ولو يد غير ملك باعتراف صاحبها فقد يشكل إلزامه بدفعه إليه بمجرد دعواه ، ضرورة تحقق الخطاب معها بإيصاله إلى مالكه الواقعي ، ومجرد الدعوى ليس طريقا للفراغ من الشغل كما عرفت ذلك في كتاب اللقطة (١).

وفي محكي السرائر هنا بعد أن ذكر الصحيح المزبور فقال : « هذا الحديث صحيح ، وليس هذا في من أخذه بمجرد دعواه ، وإنما هو لما لم يثبت له صاحب سواه ، واليد على ضربين : يد مشاهدة ويد حكمية ، فهذا يدعيه ، لأن كل واحد منهم نفي يده عنه وبقي يد من ادعاه حكمية ، ولو قال كل واحد من الجماعة في دفعة واحدة أو مفترقا : هو لي لكان الحكم فيه غير ذلك ، وكذلك لو قبضه واحد في الجماعة ثم ادعاه غيره لم تقبل دعواه بغير بينة ، لأن يد المشاهدة عليه لغير من ادعاه ، والخبر الوارد في الجماعة أنه نفوه عن أنفسهم ولم يثبتوا لهم عليه يدا ، لا من‌

__________________

(١) راجع ج ٣٨ ص ٣٨٣ ـ ٣٨٧.

٣٩٩

طريق الحكم ، ولا من طريق المشاهدة ، ومن ادعاه له عليه يد من طريق الحكم فقبلنا فيه دعواه من غير بينة ففقهه ما حررناه ، وأيضا إنما قال ادعاه من حيث اللغة ، لأن الدعوى الشرعية من ادعى في يد غيره عينا أو دينا » وهو على طوله لا يخلو من نظر في محصوله ، والتحقيق ما ذكرناه ، والله العالم.

المسألة ( الثانية : )

( لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله ، وما أخرج بالغوص فهو لمخرجه ) على الأشهر عند الأصحاب ، كما في الكفاية وإن كنا لم نتحققه حتى من المصنف ، فإنه قال بعد ذلك : ( وبه رواية في سندها ضعف ) وظاهره التردد فيه ، نعم قد عمل بها في الإرشاد وظاهر المحكي عن النهاية والتذكرة والتحرير.

والأصل في ذلك‌ خبر الشعيري (١) « سألت الصادق عليه‌السلام عن سفينة انكسرت في البحر فاخرج بعضها بالغوص ، وأخرج البحر بعض ما غرق منها ، فقال : أما ما أخرجه البحر فهو لأهله ، الله تعالى أخرجه لهم ، وأما ما أخرج بالغوص فهو لهم ، وهم أحق به ».

وهو مع ضعفه وعدم الجابر له محتمل لإرادة كون الجميع لأهله ، والتفصيل إنما هو بإخراج الله وإخراج الغير ، كما عن بعضهم الجزم به.

وحمله في محكي السرائر على اليأس قال : « وجه فقه هذا الحديث أن ما أخرجه البحر فهو لأصحابه ، وما تركه أصحابه آيسين منه فهو لمن وجده وغاص عليه ، لأنه صار بمنزلة المباح ، ومثله من ترك بعيره‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من كتاب اللقطة ـ الحديث ٢.

٤٠٠