جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وفي المسالك « لا فرق في عدم سماع دعوى الغلط في القسمة بمجردها بين كون القاسم منصوب الامام عليه‌السلام ومن تراضيا به وأنفسهما لأصالة الصحة إلى أن يثبت المزيل ، ولأن منصوب الامام عليه‌السلام كالقاضي لا تسمع الدعوى عليه بالظلم ، لكن لو أقام بينة سمعت ونقضت القسمة ، كما لو أقام البينة على ظلم القاضي وكذب الشهود » ثم اختار أن له إحلاف الشريك مطلقا وإن لم يدع عليه العلم.

وفي القواعد « ولو ادعى أحد المتقاسمين الغلط عليه وأنه أعطي دون حقه لم تتوجه له الدعوى على قسام القاضي بغير الأجر ، ولا له عليه يمين ، بل إن أقام بينة سمعت ونقضت القسمة ، وإن فقدها كان له إحلاف شريكه ، فان حلف بري‌ء ، وإن نكل أحلف هو ونقضت ، هذا في قسمة الإجبار ، وأما قسمة التراضي فالأقرب أنه كذلك ».

وربما احتمل اقتضاء المفهوم في كلامه توجه الدعوى على القسام إذا كان بأجرة ، لأنه ليس أمين الحاكم حينئذ ، بل هو وكيل المتقاسمين » وأيضا فهو في محل التهمة فتتوجه عليه الدعوى ، وفي كشف اللثام « لم أر هذا لغيره ».

وفي الدروس « ولو ادعى الشريك الغلط في القسمة أو في التقويم ولا بينة حلف الآخر » وفي المبسوط « إذا ادعى الغلط في قسمة التراضي كاختصاص أحدهما بالعلو والآخر بالسفل أو كان فيها رد أو كانا قد اقتسما بأنفسهما لم يلتفت إليه ، لأنه إن كان مبطلا فظاهر ، وإن كان محقا فقد رضي بترك هذه الفضلة ، ويشكل بإمكان عدم علمه بها حال القسمة ، فالوجه السماع حينئذ ، قيل ولا تقبل شهادة القاسم إن كان بأجرة ، وإلا قبلت لعدم التهمة ، ولا يحلف قاسم القاضي لأنه حاكم ».

والمحكي عن المبسوط أنه لم يسمع دعواه مطلقا من غير فرق بين‌

٣٦١

قسمة الإجبار والتراضي وإن كان قد قال في وجه الأخير : « إنها لم تخل من أحد أمرين : إما أن اقتسما بأنفسهما أو قسم بينهما قاسم لحاكم ، فان اقتسما بأنفسهما لا يلتفت إلى قول المدعي ، لأنه إن كان مبطلا سقط قوله ، وإن كان محقا فقد رضي بترك هذه الفضلة ، فلا معنى لرجوعه فيها ، وإن كان القاسم قاسم الحاكم فمن قال يلزم بالقرعة قال الحكم فيها كقسمة الإجبار ، وقد مضى ، يعني لم تقبل ، ومن قال لا تلزم إلا بتراضيهما بعد القرعة فالحكم كما لو تراضيا من غير حاكم » كما أنه أشار بقوله : « قيل » إلى ما في التحرير من أن الأقرب ذلك.

ثم قال فيه أيضا : « ولو ادعى أحد الشريكين الغلط في القسمة وأنه أعطى دون حقه وأنكر الآخر فالقول قول المنكر مع يمينه ، ولا تقبل دعوى المدعي إلا بالبينة ، فإن أقام شاهدين على الغلط نقضت القسمة وأعيدت ، وإن لم تكن هناك بينة كان له إحلاف الشريك ، سواء كانت القسمة تلزم بالقرعة أو تتوقف على التراضي ، كما لو اقتسما بأنفسهما ، فإنه تسمع دعواه ، ويحلف خصمه أيضا مع عدم البينة ، وعلى كل تقدير فليس له إحلاف قاسم القاضي على عدم الغلط ، لأنه حاكم ، ولو حلف بعض الشركاء ونكل الباقون حلف مدعي الغلط ، وأفادت يمينه نقض القسمة في حق الناكلين دون الحالفين » إلى غير ذلك من كلماتهم في المقام.

إلا أن ظاهر ما سمعته منها وغيره الاتفاق على اقتضائها توجه اليمين على الشريك وإن لم يدع عليه العلم ، بل قيل : لم يوجد له موافق على ذلك إلا ما عساه يفهم من عبارتي المبسوط والمجمع. فما في الكفاية ـ من أنه لو ادعى عليه العلم مكن منه على الأشهر ، وإلا ففيه قولان ـ في غير محله.

قلت : الظاهر أنه كما ذكر المصنف مع فرض كون القاسم غيرهما ،

٣٦٢

ضرورة عدم اليمين له عليه ، خصوصا إذا كان منصوب الامام عليه‌السلام لكونه أمينا لهما ، فلا يمين عليه مع فرض عدم التهمة ، لأن دعوى الغلط كما هو المفروض غيرها ، وليس له على الشريك اليمين على نفيه بعد أن كانت القسمة فعل غيره.

بل قد يقال : لا يمين له عليه أيضا إذا كانا قد اقتسما بأنفسهما أيضا من دون دعوى العلم ، لأن دعواه من دونها لا توجب له حق اليمين على الشريك بعد اعتراف المدعي بكونه غير عالم به ، إذ هو معنى الغلط ، أي الخطأ بلا قصد ، فلا يتوجه له يمين عليه إلا مع دعوى أنك علمت بالغلط الذي وقع منا.

وحينئذ يتجه إطلاق المصنف عدم سماع دعواه مطلقا بدون البينة ، على معنى عدم اقتضائها يمينا مطلقا إلا مع دعوى العلم على الشريك ، على أن القسمة فيهما من فعلهما المشترك بينهما ، والحلف على نفي فعل الغير إنما هو مع دعوى العلم به عندهم ، وحينئذ لا ربط للدعوى المفروضة بالشريك على وجه يكون مدعى عليه حتى يندرج في‌ قولهم عليهم‌السلام (١) : « البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه » إلا مع دعوى علمه بذلك ، وبدونها تكون دعوى مجردة عن مدعى عليه ، فينحصر طريق ثبوتها بالبينة ، كما تسمعه من الإسكافي ، فمراد المصنف حينئذ عدم استحقاق المدعي بمجرد هذه الدعوى المفروض عدم اعتراف الشريك بها يمينا له عليه لعدم تعليقها بما يقتضيه على الشريك المفروض اعتراف خصمه بعدم علمه بالغلط المدعى به.

بل الظاهر عدم اقتضائها أيضا لو وجهها على منصوب الامام عليه‌السلام لاقتضائها فسقه بإنكاره ، فهي كدعوى العلم بالخطإ على الحاكم ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم.

٣٦٣

بل وعلى منصوبهما المفروض اعترافه بعدم التهمة له في قسمته ، لما عرفت من كون دعوى الغلط الخطأ من غير قصد ، وإنما هي بعد ذلك ، بمعنى أنه علم بالغلط وأخفاه ، والظاهر أن إقراره بعد ذلك بسبب توجيه اليمين عليه أو نكوله عنه أو رده على المدعي لا يقتضي بطلان القسمة التي هي متعلق حق الغير ، ولو أن هذا الإقرار يجدي في البطلان لكان الإقرار بعدم الغلط مجديا في الصحة ، نعم ربما يكون لليمين فائدة عدم استحقاق الأجرة أو الغرم أو نحو ذلك ، وهو غير المفروض الذي هو انتقاض القسمة ، فتأمل.

وبذلك يظهر لك النظر في جملة من الكلمات السابقة بل وغيرها مما لم ننقله أيضا فلاحظ وتأمل.

نعم ما يحكى عن أبي علي قد يظهر منه موافقته المصنف ، قال : « ولو ادعى أحد الشركاء غلطا لم تنقض القسمة حتى يقيم المدعي البينة بالغلط » بل يمكن تقييد إطلاق اليمين في العبارات السابقة بما إذا ادعى العلم أو بالمستفاد من عبارة التحرير ، وهو فرض إنكار الخصم بالتصريح بعدم الغلط في وجوب الدعوى ، وحينئذ يتوجه له اليمين عليه ، لتحقق الإنكار حينئذ ، وهو غير المفروض في عبارة المتن الذي هو مجرد دعوى الغلط ، فتأمل جيدا فإنه دقيق.

ثم لا يخفى عليك أن ما في التحرير من قبول شهادة القاسم إذا لم يكن بأجرة لا يخلو من نظر ، كما يشعر به نسبته إلى القيل في الدروس من حيث رجوعها إلى أنها شهادة على فعل نفسه ، فتخرج عن المنساق من موضوع الشهادة من غير فرق بين الأجرة وعدمها ، نعم يبقى قبول إخباره من حيث كونه أمينا ، وهو غير الشهادة ، ولا تفاوت فيه بين الأجرة وعدمها على الظاهر ، نعم ما ذكره من اختصاص الناكلين من‌

٣٦٤

الشركاء حيث يتوجه عليهم اليمين ببطلان القسمة في حقهم بعد حلف المدعي اليمين المردودة على الأصح جيد وإن حكي عن الشهيد في بعض فوائده بطلان أصل القسمة ، لأنها شي‌ء واحد فلا تتبعض ، إذ هو كما ترى ، ضرورة إمكان تعددها في الظاهر بالنسبة إلى أحكامها وإن اتحدت في الواقع ، كما في سائر النظائر ، والله العالم.

( الثانية : إذا اقتسما ) مثلا ( ثم ظهر البعض مستحقا فإن كان معينا مع أحدهما بطلت القسمة ) بلا خلاف بل ولا إشكال ( لبقاء الشركة ) حينئذ ( في النصيب الآخر ) لعدم التعديل ( ولو كان فيهما بالسوية لم تبطل ) بلا خلاف أيضا ولا إشكال ( لأن فائدة القسمة باق ، وهو إفراز كل واحد من الحقين ) بعد إخراج المستحق ، نعم عن بعض العامة احتمال البطلان لتبعض الصفقة ، من غير فرق في ذلك بين اتحاد جهة الاستحقاق وتعددها وبين اتحاد المستحق وتعدده.

نعم ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يحدث نقصا في حصة أحدهما خاصة بأخذه ولم يظهر به تفاوت بين الحصتين ، مثل أن يسد طريقه أو مجرى مائه أو ضوئه ، فإن القسمة حينئذ باطلة ، لبطلان التعديل.

ومنه يعلم قوة بطلانها لو ظهر في نصيب أحدهما عيب لم يعلم قبل القسمة ، لفقد التعديل ، لكن ظاهر التحرير التخيير بين فسخها وبين الرجوع بالأرش كالبيع ، وهو مشكل خصوصا مع القول بعدم قابليتها للفسخ ، بل متى صحت لزمت ولا تعود إلا بسبب جديد مقتض للشركة ، فما في القواعد من جريانه فيها إذا اتفقا عليه محل نظر وتأمل ، إذ ليس في أدلة الإقالة ما يقتضي مشروعيتها في فسخ سبب الافراز والتعيين كي يخرج به عن الأصل ، والله العالم.

( ولو كان ) المستحق ( فيهما ) معا لكن ( لا بالسوية

٣٦٥

بطلت ) القسمة أيضا ( لتحقق الشركة ) كما هو واضح.

وعلى كل حال فلا يضمن أحدهما درك ما يحدثه الآخر من غرس أو بناء لو ظهر الاستحقاق ، لعدم كون القسمة بيعا عندنا. وكذا لا يضمن له العيب المتجدد في الثلاثة.

( وإن كان المستحق مشاعا معهما فللشيخ قولان : أحدهما لا تبطل فيما زاد عن المستحق ، والثاني تبطل ، لأنها وقعت من دون إذن الشريك ) حتى لو كانت الإشاعة في نصيب أحدهما خاصة ( وهو الأشبه ) بأصول المذهب وقواعده.

ولا فرق في جميع ما سمعت بين أن يكونا عالمين بالاستحقاق أو جاهلين أو أحدهما جاهلا دون الآخر ، فان القسمة مع العلم بالاستحقاق المبطل للتعديل لا يدل على انتقال نصيب أحدهما أو شي‌ء منه إلى الآخر انتقالا لازما ، وغاية ما يلزم العلم رضا أحدهما بنقصان نصيبه مع سلامة المستحق له.

هذا وربما ظهر من تعليل المصنف وغيره الصحة مع الاذن على أن تكون حصته مشاعة معهما ، وحينئذ فلحوقها كاف. وأولى منه بذلك لو ظهر تعدد الشركاء في السهمين مثلا ورضوا بما وقع من القسمة ، إذ الظاهر جريان الفضولية فيها.

كما أن الظاهر جواز القسمة مع التراضي بينهم بإفراز حصة جملة من الشركاء عن جملة أخرى ، فإذا أراد أحد الفريقين تمييز سهامهم اقتسموا بينهم قسمة أخرى وهكذا ، بل وغير ذلك من الصور المتصورة في المقام حتى ما أشرنا إليه من القسمة بين الشريكين وبقاء الثالث على الإشاعة في نصيب كل منهما ، فإنه وإن لم يتميز حقه بالخصوص كما أنه لم يتميز حق كل منهما عن تمام الشركة ولكن تميزهما عن الآخر وانقطاع‌

٣٦٦

شركة الثالث عن المجموع كاف في صحتها المستفادة من مشروعية ما تعينه القسمة من المقطوع به كتابا (١) وسنة (٢) وإجماعا ، فكلما لم يعلم فساده محكوم بصحته على نحو ما عرفته في غيرها.

وتعريفها بأنها تمييز الحقوق لا يقتضي اشتراط صحتها بوقوعها على ما يقتضي إفراز كل سهم وإن رضي الشركاء باجتماع بعض مع بعض وبقاء سهم بعضهم مشاعا مع كل واحد من المقتسمين ، بل في بعض أدلة القرعة (٣) ما يقتضي شرعيتها في القسمة مشاعا مرات متعددة.

بل كلامهم كالصريح في قسمة مختلف السهام بجواز اقتضاء القرعة خروج سهم أحدهم وبقاء الباقي على الإشاعة ، وبجواز ما سمعته من الصور المشتملة على الاحتراز عن التفرق في الملك ، وغير ذلك مما يقتضي البناء على الأصل المزبور في مشروعية القسمة حتى يعلم الفساد ، لا أن المشروع منها مجمل فكلما شك فيه يبقى على أصل الاشتراك ، وإلا لأشكل الحال في كثير من صورها المصرح بجوازها مع التراضي مثل قسمة العبدين الخسيس والنفيس المقتضية لبقاء الإشاعة في النفيس دون الخسيس وغيرها من الصور ، والله العالم.

( الثالثة : لو قسم الورثة تركة ثم ظهر على الميت دين ) فلا ريب في صحة القسمة وإن كان الدين مستوعبا ، بل مع العلم بوجود الدين بناء على المختار من كونها ملكا لهم معه ، وتعلق حق الدين بها لا ينافي صحة القسمة وإن بيع نصيب الممتنع منهم من وفائه ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٨ وسورة القمر : ٥٤ ـ الآية ٢٨.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ و ٧ ـ من كتاب الشفعة.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١ و ٤ من كتاب الأطعمة والأشربة.

٣٦٧

إذ هو كما تعلق بها مع كلية سهم الوارث يتعلق بها مع تشخصه.

وحينئذ فقول المصنف ( فان قام الورثة بالدين لم تبطل القسمة ، وإن امتنعوا نقضت ، وقضى منها الدين ) لا يخلو من إشكال ، وكذا ما في الدروس « لو اقتسم الورثة ثم ظهر دين وامتنعوا من أدائه نقضت القسمة ، ولو امتنع بعضهم بيع نصيبه » بل وما في القواعد « ولو قسم الورثة التركة وظهر دين فإن أدوه من مالهم وإلا بطلت القسمة ، ولو امتنع بعضهم من الأداء بيع من نصيبه خاصة بقدر ما يخصه من الدين ، ولو اقتسموا البعض وكان في الباقي وفاء أخرج منه الدين ، فان تلفت قبل أدائه كان الدين في المقسوم إن لم تؤد الورثة ».

اللهم إلا أن يريدوا بالنقض ما ذكروه من البيع كما هو ظاهر المسالك أو صريحها لإفساد القسمة ورجوع المال إلى الإشاعة ، وإلا لاتجه بطلانها أيضا بامتناع البعض ، ضرورة اقتضاء فسادها في البعض فسادها في الجميع ، كما هو واضح.

نعم قد يشكل أصل جوازها مع استيعاب الدين بناء على مختاره من كونها على حكم مال الميت بأنه ليس للورثة حينئذ القسمة ، لعدم الملك لهم ، كما اختاره في كشف اللثام ، بل ومع عدم الاستيعاب بناء على بقاء ما قابل الدين منها مشاعا على حكم مال الميت.

لكن قد يجاب عن ذلك باكتفاء هؤلاء بتعلق حق الوارث بها في جواز القسمة التي هي غير منافية لتعلق حق الدين فتأمل.

ولو ظهرت وصية تمليكية بعد القسمة ففي المسالك « فان كانت بمال فهو كما ظهر دين ، وإن كانت بجزء شائع أو بعينه فعلى ما ذكرنا في ظهور الاستحقاق » وسبقه إلى ذلك في الدروس « والوصية بجزء من المقسوم تبطل القسمة ، بخلاف الوصية بالمال المطلق ، فإنها كالدين » ‌

٣٦٨

وسبقه إليه أيضا في القواعد « ولو ظهرت وصية بجزء من المقسوم فكالمستحق ، وإن كانت بمال فكالدين ».

وفيه أن الأول يتم إن لم نقل برجوعه إلى الإشاعة في التركة وإلا أشكل الصحة حينئذ ، ضرورة كونه حينئذ كالقسمة مع الوصية بجزء مشاع في البطلان ، لعدم إذن الشريك ، بل يمكن البطلان بناء على أنه كلي في التركة نحو الصاع من الصبرة في أحد الاحتمالين ، لأنه ليس كالدين في الذمة ، بل هو كلي في التركة ، فلا تجوز القسمة بدون إذن الموصى له ، لأنه مالك للمقسوم في الجملة ، إذ الكلي موجود بوجود أفراده ، بل لا يعقل ملك الكلي في الخارج ، ولا محل له. وبذلك يفترق عن الدين الذي محله الذمة وإنما تعلق في التركة استحقاق الغرماء.

اللهم إلا أن يقال : إنه باعتبار كون الموصى به كليا ولكن تعيين الفرد بيد الوارث فلا ينافي صحة القسمة حينئذ مع قيام الوارث بدفع الفرد منها ولو موزعا على الأنصباء ، نحو ما سمعته في الدين ، كما لا يمنع البائع من بيع باقي الصبرة قبل دفع الصاع منها على المشتري بناء على أنه كلي منها ، إلا أنه لا يخفى عليك ما فيها معا من التأمل ، والله العالم.

ومن اللواحق أيضا أنه لو أخذ أحد الشريكين بيتا في دار والآخر غيره وبيت الأول يجري ماؤه في حصة الثاني لم يكن للثاني منعه من الجريان عليه ، فان التعديل قد كان بأن يكون لكل منهما حصة بحقوقها ، إلا أن يشترط حين القسمة رد الماء عنه ، فإن أطلق بقي على حاله.

ولو وقع الطريق لأحدهما وكان لحصة الآخر منفذ وطريق إلى الدرب صحت القسمة وإلا بطلت ، لانتفاء التعديل إلا أن يجعل عليه مجازا في حصته أو يشترط سقوط المجاز ، خلافا لما عن القاضي من بطلان اشتراط سقوط المجاز.

٣٦٩

ولو كان مسلك البيت الواقع لأحدهما في نصيب الآخر من الدار فهو كمجرى الماء.

ومنها أن لولي الطفل والمجنون المطالبة بالقسمة ، لكن في القواعد « مع الغبطة لهما » وعليه الحصة من أجرة القسمة من مال المولى عليه لا بدونها » بل في كشف اللثام « وإن انتفت المفسدة واكتفينا في تصرفات الولي بانتفائها ، فان الإجبار بمجرده غير معلوم » وإن كان فيه بحث.

وإن طلب الشريك القسمة وانتفى الضرر أجبر الولي عليها وإن كانت الغبطة في الشركة ، للقاعدة السابقة ، وعليه الحصة من الأجرة من مال المولى عليه ، وعن التحرير احتمال العدم ، لأن أخذ الأجرة من ماله ـ ولا غبطة له ـ إجحاف.

وأما الكلام في المهاياة وقسمة الوقف فقد تقدم الكلام فيهما في كتاب الشركة (١) والله العالم.

( النظر الرابع )

( في أحكام الدعاوي )

( وهي تستدعي بيان مقدمة ومقاصد ، ) ( أما المقدمة فتشتمل على فصلين : )

__________________

(١) راجع ج ٢٦ ص ٣١٣ و ٣١٥.

٣٧٠

( الأول : في المدعي )

الذي قد استفاض في النصوص (١) أن البينة عليه ، كما استفاض (٢) كون اليمين على المدعى عليه ، ومن أنكر كما في بعض النصوص (٣).

وعلى كل حال فالمرجع فيهما العرف على حسب غيرهما من الألفاظ التي لم تثبت لها حقيقة شرعية ولا قرينة على إرادة معنى مجازي خاص ، وما عن بعض الناس من ثبوتها في المدعي واضح الفساد ، نعم ربما ثبت حكم المنكر للمدعي كما في دعوى الرد للودعي وغيره ، لا أنه يكون بذلك مدعى عليه ، فلا مرجع حينئذ إلا العرف الذي لا اشتباه فيه في كثير من أفراده بل جميعها ، ولعله لذا اقتصر في الصحاح على قوله : « ادعيت على فلان كذا ، والاسم الدعوى » ومع فرض الاشتباه ينحصر الإثبات بالبينة التي هي حجة شرعية ، ومع فرض تعارضها تلتمس المرجحات وإلا فالقرعة كما ستعرف.

( و ) حينئذ فالواقع من المصنف وغيره بل قيل : إنه المشهور من تفسيره بأنه ( هو الذي يترك لو ترك الخصومة ) أي سكت عنه لو سكت عنها لا يراد منه إلا الإشارة إلى تميز معناه العرفي في الجملة ، نحو التعاريف اللفظية ، فلا يناقش بعدم الانعكاس أو عدم الاطراد ، ضرورة عدم كون ذلك معنى للمدعي المراد به هنا من قام به إنشاء الدعوى التي هي الاخبار الجازم المقتضي لترتب الحق على الغير أو الخروج من الحق الذي له عليه ، وإنما هو من لوازم الدعوى الأولى ، بخلاف‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٣.

٣٧١

الثانية التي هي نحو دعوى الإعسار والوفاء ورد المغصوب والوديعة ونحوهما مما لا يترك عن المطالبة بالحق لو ترك الدعوى بذلك. وقد اعترف به في المسالك في دعوى الرد من الأمين وإن اشتبه بذكر ذلك في وجه كونه مدعيا.

ومن ذلك يعلم ما في كلام جماعة أن هذا التفسير هو المتبادر المتناسب لما ذكره غير واحد من كون الدعوى بمعنى الطلب الذي منه ( وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ) (١).

مضافا إلى معلومية التغاير بين الدعوى بمعنى التداعي الذي هو المخاصمة وبينها بمعنى التمني ، وإلى عدم انطباقه على دعوى الزوج عدم التصرف بالزوجة مع الخلوة ، فإنه مدع عندهم ولا يترك لو ترك هذه الدعوى ، فإن الزوجة تطالبه بتمام المهر بدعوى دخوله بها ، والفرض أن القول قولها معها.

( و ) لعله لذا ( قيل : ) إن المدعي ( هو الذي يدعي خلاف الأصل ، أو أمرا خفيا ) منافيا للظاهر الشرعي ، فإنه حينئذ أشمل من الأول ، لاندراج دعوى الحق له والخروج عما عليه فيه ، لكونهما معا مخالفين للأصل ، واندراج دعوى ما يخالف الظاهر شرعا فيه أيضا ، وعن بعضهم حكاية التفسير بالمعطوف خاصة عن بعض وبالمعطوف عليه خاصة عن آخر ، وحينئذ تكون الأقوال الأربعة.

لكن ظاهر المصنف والنافع وغيره انحصار الخلاف في قولين ، ولعله لأن دعوى تفسيره بالأخير خاصة مما لا ينبغي صدوره ، ضرورة عدم منافاة أكثر الدعاوي للظاهر الذي هو مقتضى العادة ونحوها ، لا أن المراد به ولو من جهة الأصل الذي لم يعهد التعبير به ، بل في الغالب‌

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ ـ الآية ٥٧.

٣٧٢

يجعل مقابلا للأصل ، وكذا تفسيره بالمعطوف عليه. فإنه مناف لما يخالف الظاهر ( وكيف عرفناه فالمنكر في مقابلته ).

وعلى كل حال لا يخفى عليك أيضا أنه ليس شي‌ء منها منطبقا على معنى المدعي الذي قد عرفت ، وإنما المراد بتعريفه بذلك التمييز بذكر شي‌ء من خواصه اللازمة أو الغالبة وإن خرجت عن مفهومه.

مع أنه قد يناقش أيضا بأن فيه إجمالا ، لأنه إن كان المراد مخالفة مقتضى كل أصل بالنسبة إلى تلك الدعوى فلا ريب في بطلانه ، ضرورة أعمية المدعي من المخالفة للأصل ، فان كثيرا من أفراده موافقة لأصل العدم وغيره ، ولكنها مخالفة لأصل الصحة ونحوه ، وإن أريد مخالفة أصل في الجملة فلا تمييز فيه عن المنكر الذي قد يخالف أصلا من الأصول.

وأما تمييزه بمخالفته الظاهر فالظاهر إرادة إدراج ما ثبت في الأدلة الشرعية من تقديم قول مدعي الظاهر بيمينه في مقامات خاصة ، فيكون المخالف له حينئذ مدعيا ، ومن هنا كان الوجه ذكر ذلك منضما إلى دعوى مخالفة الأصل في تفسير المدعي لا مقتصرا عليه ، لخلو كثير من الدعاوي عنه.

وحينئذ قد يقال : إن ذلك ليس بأولى من القول بأنه من قبول دعوى المدعي بيمينه للدليل ، نحو ما ذكروه في دعوى الرد من الودعي ، ودعوى التلف من الأمين ونحو ذلك ، بل هذا أولى ، ضرورة صدق كون المرأة هي المدعية لدخول الزوج بها مع الخلوة ، وكذا غير ذلك من المقامات التي ثبت من الأدلة تقديم موافق الظاهر على مخالفه حتى مدعي الصحة على مدعي الفساد الذي هو مقتضى الأصول العقلية.

وبذلك ظهر لك أنه ليس مدار المدعي والمدعى عليه عرفا من يقدم قوله بيمينه ومن يطلب منه البينة ، فإنه قد يكون مدعيا عرفا ويقبل قوله بيمينه.

٣٧٣

كما أنه ظهر لك صدق المدعي عرفا مع موافقته الأصل والظاهر ، بل ولا يترك إذا ترك.

كل ذلك مع شدة الخفاء في تفسير المدعي بأنه الذي يدعي أمرا خفيا ، ضرورة عدم تفاوت الخفي والظاهر في صدق المدعي والمدعى عليه.

وأعظم من ذلك كله أنهم جعلوا هذه التعاريف المتعددة اختلافا من ذويها في معنى المدعي ، حتى أنهم رتبوا الأحكام عليها عند اختلاف مقتضاها الذي ذكروا مثاله اختلاف الزوجين قبل الدخول إذا أسلما في معية الإسلام وتعاقبه ونحو ذلك.

فقال في القواعد : « المدعي هو الذي يترك لو ترك الخصومة ، أو الذي يدعي خلاف الظاهر أو خلاف الأصل ، والمنكر في مقابلته ، ولو أسلما قبل الوطء فادعى الزوج التقارن فالنكاح دائم ، وادعت التعاقب فالزوج هو الذي لا يترك وسكوته ، والمرأة تدعي الظاهر ، وهو التعاقب ، لبعد التقارن ، ففي تقديم قول أحدهما احتمال ».

وفي الدروس « المدعي هو الذي يخلى وسكوته ، أو يخالف الأصل أو الظاهر ، والمنكر بإزائه ، والفائدة في مثل دعوى الزوج تقارن الإسلام قبل المسيس والمرأة تعاقبه ، فعلى الظاهر الزوج مدع ، وعلى التخلية هي ، لأنها لو سكتت لم يتعرض الزوج واستمر النكاح ، والزوج لا يخلى ، وكذا على مخالفة الأصل ، وفي دعوى الزوج الإنفاق مع اجتماعهما وإنكارها ».

وعلى هذا المنوال جرى ثاني الشهيدين في المسالك والروضة والأردبيلي في مجمع البرهان والأصبهاني في كشفه والسيد في رياضة وغيرهم.

والأصل في ذلك الشافعي ، قال في الروضة للرافعي : « في معرفة المدعي والمدعى عليه قولان مستنبطان من اختلاف قول الشافعي في مسألة‌

٣٧٤

إسلام الزوجين ، أظهرهما عند الجمهور أن المدعى من يدعي أمرا خفيا يخالف الظاهر ، والثاني من لو سكت خلي وسكوته ولم يطالب بشي‌ء ، فإذا ادعى زيد دينا في ذمة عمرو أو عينا في يده فأنكر فزيد هو الذي لو سكت ترك ، وهو الذي يذكر خلاف الظاهر ـ إلى أن قال ـ : فزيد مدع بمقتضى القولين ، وعمرو مدعى عليه ، ولا يختلف موجبهما غالبا ، وقد يختلف ، كما إذا أسلم زوجان قبل الدخول ، فقال الزوج : أسلمنا معا فالنكاح باق ، وقالت : بل على التعاقب ولا نكاح ، فان قلنا : إن المدعي من لو سكت ترك فالمرأة مدعية ، فيحلف ويستمر النكاح ، وإن قلنا بالأظهر فالزوج مدع ، لأن ما يزعمه خلاف الظاهر ، وهي مدعى عليها ، فتحلف ويرتفع النكاح » إلى آخر ما ذكر مما هو مسطور في كلمات الأصحاب ، خصوصا المسالك منها.

والذي يظهر أن المدعي والمدعى عليه معنى واحد ، وليس هذا اختلافا في معناهما على وجه يوجب اختلاف الأحكام ، وإنما ذكروا تعريفه ببعض الخواص لإرادة التمييز في الجملة ، وإلا فمن المقطوع أنه ليس بشي‌ء منها معنى المدعى ، وخصوصا المراد به هنا ، وهو الذي من التداعي بمعنى المخاصمة ، ولعله لذا جعله في اللمعة من كيفية الحكم ، وربما كان هو المومى إليه بقوله عليه‌السلام (١) « استخراج الحقوق بأربعة » وبقوله عليه‌السلام (٢) : « بالقضاء بالشاهد واليمين في‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٤.

(٢) الظاهر أنه ( قده ) أراد به ما في صحيح محمد بن مسلم المروي في الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١٢ حيث‌ قال عليه‌السلام : « لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس ، فأما ما كان من حقوق الله عز وجل أو رؤية الهلال فلا » ‌ولم نجد نص ما ذكره ( قده ) بعينه في الأخبار.

٣٧٥

حقوق الناس دون حقوق الله ».

وحينئذ فالمراد به الذي قام به إنشاء الخصومة في حق له أو خروج من حق عليه ، سواء وافق الظاهر والأصل بذلك أو خالفهما ، وسواء ترك مع سكوته أو لم يترك ، فان المدعي عرفا لا يختلف باختلاف ذلك.

وحينئذ ففي مسألة الإسلام كل من الزوج والزوجة مدعى لو كان مصب دعواهما ذلك ، والزوجة خاصة مدعية لو كان دعواها انفساخ النكاح والزوج بقاؤه وبالعكس.

وكيف كان فالرجوع إلى العرف في مصداقهما أولى من ذلك كله ، ولعله لا اشتباه فيه بعد امتياز خصوص الدعوى بين المتخاصمين ، نعم قد يقدم قول المدعي بيمينه في مقامات كثيرة للأدلة الخاصة ، وذلك لا يخرجه عن كونه مدعيا ، وإنما يخرج عن الحكم بأن عليه البينة ، وليس كل من قدم قوله بيمينه منكرا ، وكل من طلب منه البينة مدعيا. ومن ذلك دعوى الودعي رد الوديعة ودعوى الأمين تلف المال وغير ذلك ، بل لعل منه تقديم قول مدعي الصحة ، فإنه مدع ، ولكن قدم قوله بيمينه ، فتأمل فإنه بما ذكرنا يظهر لك النظر في كلمات كثيرة في المقام ، والله الهادي.

( و ) كيف كان فلا خلاف في أنه ( يشترط ) فيه أي المدعي ( البلوغ والعقل ، وأن يدعي لنفسه أو لمن له ولاية الدعوى عنه ، وما يصح منه تملكه ، فهذه قيود أربعة ، فلا تسمع دعوى الصغير ولا المجنون ) بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم ، بل هو إجماع مضافا إلى انسياق غيرهما من الأدلة ، بل الدعوى أيضا إنشاء يترتب عليه أحكام ، وعبارته مسلوبة عنه ، كغيرها من الإنشاءات ، لاتفاق النص (١) الفتوى على أنه لا يجوز أمره حتى يبلغ.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب مقدمة العبادات الحديث ٢.

٣٧٦

( ولا دعواه ما لا لغيره إلا أن يكون وكيلا أو وصيا أو وليا ) كالأب والجد ( أو حاكما أو أمينا لحاكم ) بلا خلاف أجده في حكم المستثنى منه ، لأصالة عدم وجوب الجواب لغيرهم ممن لا حق له ، لكن قد يشكل بالمرتهن والودعي والمستعير والملتقط ونحوهم ، فان التزام عدم سماع دعواهم على وجه لا تقبل منهم البينة على من غصب منهم ذلك مثلا كما ترى ، ولا يندرج أحد منهم في أحد هؤلاء ، اللهم إلا أن يدعى اندراجهم في الولي في المتن بدعوى عموم الولاية لمثل ذلك.

لكن فيه أن غير المصنف قد صرح بإرادة الأب والجد من الولي ، أو يقال : إن المراد نفي سماع دعوى المال لغيرهم ، لا نفي سماعها من حيث حق العارية والرهانة مثلا ، كما أنه قد يشكل أيضا بدعوى المحتسبين أموال الأطفال والمجانين مثلا ، فان عدم سماع دعواهم مشكل ، واندراجهم في أحد هؤلاء أشكل ، اللهم إلا أن يتوكلوا من الولي الذي هو غير عالم بالحال ، ومع فرض عدم وجوده يكون المحتسب وليا.

ولا في حكم المستثنى وإن قال بعض مشايخنا : « لا يحلف الولي ولا يحلف ، إذ لا فائدة للمولى عليه في ذلك ، إذ لعله إذا بلغ صالح » وفيه أن عموم الولاية يقتضي أن له التحليف الذي هو حق من حقوقه فله استيفاؤه ، على أنه قد تقتضي المصلحة ذلك أيضا.

( و ) كذا ( لا تسمع دعوى المسلم خمرا أو خنزيرا ) ونحوهما مما لا يصح تملكه له ، نعم لا بأس بدعوى استحقاق ثمنها حال عدم الإسلام.

( ولا بد ) في السماع أيضا ( من كون الدعوى صحيحة ) في نفسها ، فلا تسمع دعوى المحال عقلا أو عادة أو شرعا ( لازمة ) أي ملزمة للمدعى عليه ( فلو ادعى هبة لم تسمع حتى يدعي الإقباض ، وكذا لو ادعى رهنا ) أو وقفا بناء على اعتبار القبض في الصحة ، إذ‌

٣٧٧

لا حق له عليه بدونه ، وفي كشف اللثام « فإن الإنكار فيما لم يلزم رجوع ، أو لأنه مع الإثبات لا يجبر على التسليم » وفي الأول منع واضح ، وفي الدروس التعبير عن ذلك بقوله : « وكل دعوى ملزمة معلومة فهي مسموعة ، فلا تسمع دعوى الهبة من دون الإقباض ، وكذا الرهن عند مشترطه فيهما ، ولا البيع من دون قوله : ويلزمك تسليمه إلى ، لجواز الفسخ بخيار المجلس ».

وكيف كان فلا أجد خلافا بينهم في الحكم المزبور ، بل ولا إشكالا. نعم عن الأردبيلي « ما المانع من أن يدعي الصحة أولا فيثبتها ويدعي اللزوم ، ثم إنه يرد عليهم مثله فيما إذا ضم إليها دعوى القبض ، إذ لعل الموهوب له أجنبي ، على أنه يرد مثله في دعوى البيع ، إذ على هذا لا بد من دعوى انقضاء المجلس أو الأيام الثلاثة في الحيوان ولا قائل به.

وفيه أن الصحة بدون القبض ليس حقا لازما للمدعى عليه ، ضرورة رجوع ذلك إلى التهيؤ للصحة مع تمام ما يعتبر فيها ، وهبة الأجنبي مع القبض صحيحة ، ويترتب عليها الأثر وإن جاز له الفسخ ، فان المراد باللازمة المقتضية للاستحقاق على المدعى عليه ، لا كون المدعى به أمرا لازما على وجه لا يكون به خيار للمدعى عليه ، وما سمعته من الدروس إنما يراد به إتمام الدعوى بما تكون به حقا لازما للمدعى عليه ، إذ يمكن مع البيع الفسخ بخيار أو إقالة أو غير ذلك ، فيحتاج إلى التتمة المزبورة ليثبت الاستحقاق ، لا أن المراد اعتبار اللزوم في صحة دعوى البيع.

ومنه يعلم النظر في ما بقي من كلامه نعم قد يقال : إن المنساق من الهبة المقبوضة ، فيكفي في صحة دعواها حينئذ ، وكذا الرهن والوقف ولكن فيه منع ، وعلى تقديره فهو بحث لفظي ، والله العالم.

( ولو ادعى المنكر فسق الحاكم أو الشهود ولا بينة فادعى علم المشهود له ففي توجه اليمين على نفي العلم تردد ) كما عن التحرير والإرشاد‌

٣٧٨

وغاية المراد ( أشبهه عدم التوجه ) كما في الدروس والمسالك ومحكي الإيضاح وغيره ( لأنه ) أي المدعى به ( ليس حقا لازما ) للمدعى عليه ( و ) قد عرفت اعتباره في سماع الدعوى فـ ( ـلا تثبت ) الدعوى المزبورة حينئذ ( بالنكول ) على القول بالقضاء به ( ولا باليمين المردودة ) على القول الآخر ، ( ولأنه ) أي القول بتوجه اليمين ( يثير فسادا ) وهو اجتراء الناس على تحليف كل من حكم له أو شهد له ، بل هو كالدعوى على الشهود بالكذب بل والحاكم بالفسق الذي هو مناف لمنصب الحكومة الذي قد عرفت سابقا عدم سماع الدعوى عليه بفسق أو جور إلا بالبينة.

وربما علل بعضهم الحكم المزبور بعدم ثبوته بالنكول واليمين المردودة ، وظاهره المفروغية منه ، بل ربما فسر عبارة المتن بذلك بعد إبدال الفاء بالواو ، ومقتضاه حينئذ عدم بطلان الحكم بالعلم بالفسق من المدعي وإن كان لو أقر بذلك بطل الحكم في حقه ، لعموم دليل الإقرار ، بخلاف العلم بالفسق واستحلاله المال ، لكون المفروض العلم واقعا أنه ماله ، نعم لو كان طريقه إليه شهادة الشهود مثلا وكان عالما بفسقهم لم يحل له ، فتأمل جيدا.

ولكن قد يناقش بمنعه أولا بعد فرض توجه اليمين له ، وبعدم التلازم بين توجه اليمين واستحقاق رده ، كما في كثير من المواضع ، بل قد يناقش في أصل عدم توجه اليمين ، لإطلاق‌ « البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه » (١) وبأن له حقا يترتب عليه إذا أقر بذلك ، ويكفي ذلك في كونه حقا لازما.

ومن هنا مال الأردبيلي قدس‌سره إلى توجه اليمين في غير‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب كيفية الحكم.

٣٧٩

دعوى العلم بفسق الحاكم لما فيه من الفساد ، كدعوى كذب الشهود وجوره.

وفيه أن الفساد بالدعوى على الحاكم ، أما الدعوى على غيره فلا فساد فيه ، على أن دعوى الجرح لا فساد فيها ، بل عن العلامة توجه اليمين في الدعوى على الشهود بالكذب ـ وإن كان هو كما ترى ـ مناف لمذاق الشرع.

( وكذا لو التمس المنكر يمين المدعي منضمة إلى الشهادة لم تجب إجابته ، لنهوض البينة بثبوت الحق ) فلا دعوى له عليه بحق لازم بلا خلاف فيه بيننا ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى النص (١) من غير فرق في ذلك بين العين والدين ، وقد تقدم الكلام فيه سابقا.

لكن في القواعد مع ذكر الحكم المزبور قال : « ولو التمس المنكر بعد إقامة البينة عليه إحلاف المدعي على الاستحقاق أجيب إليه ولو التمس المنكر يمين المدعي مع الشهادة لم يلزم إجابته ».

ويمكن أن يريد في الأول الحلف على الدين بعد دعوى البراءة منه ، إذ التماس الإحلاف دليل على ذلك ، أو المراد أنه لو ادعى أنه أقرضه مثلا مائة درهم وشهدت البينة على التسليم دون الثبوت في الذمة فالتمس المنكر الحلف على الاستحقاق أو اليمين على الاستحقاق فعلا الذي شهدت البينة على أصله ، نحو يمين الاستظهار الذي يمكن من فحواه الاستدلال على المقام وإن فرق بينهما بتوقف الإجابة هنا على سؤال المنكر بخلافه في الاستظهار ، ولعل‌ قول أمير المؤمنين عليه‌السلام لشريح (٢) : « ورد اليمين على المدعي مع بينته ، فان ذلك أجلى للعمى وأثبت في القضاء » محمول على نحو الفرض.

وعن المبسوط « وكيف يحلف؟ قال قوم : يحلف ما اقتضاه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١ و ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ١.

٣٨٠