جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وكذا قوله ( وفي انعقاد قضاء الأعمى تردد ) وخلاف ( أظهره ) وأشهره كما في المسالك ( أنه لا ينعقد ، لافتقاره إلى التمييز بين الخصوم وتعذر ذلك مع العمى إلا فيما يقل ) وعمى شعيب عليه‌السلام على تقدير تسليمه ليس بحجة في شرعنا ولا على القاضي غير النبي لانجبار النبوة بالعصمة ، إذ هو أيضا كما ترى مخالف لما عرفت ، لمجرد اعتبار لا ينطبق على أصولنا ، ويمكن رفعه بوضع مميز أو بغيره ، إذ طرق التمييز غير منحصرة في البصر ، وربما لا يحتاج إلى ذلك ، كما هو واضح.

( و ) على كل حال فـ ( ـهل يشترط الحرية؟ قال في المبسوط : ) ( نعم ) بل في المسالك نسبته إلى الأكثر ، لقصور العبد عن هذا المنصب العظيم واستغراق وقته بحقوق المولى ( والأقرب أنه ليس شرطا ) لما عرفت ، بل إطلاق دليل نصب نائب الغيبة يقتضي خلافه ، والفرض إذن المولى في ذلك فلا استغراق لوقته.

ولا يخفى عليك بعد ما ذكرنا الحكم في كثير من الشرائط المذكورة في كتب العامة التي لم يذكرها الأصحاب ، كالنطق فلا يصح قضاء الأخرس ، والسمع فلا قضاء للأصم ، وغير ذلك مما ليس في أدلتنا ما يشهد له.

نعم ذكر بعض أفاضل المتأخرين أن كل ما شك في اشتراطه في ذلك فأصالة عدم ترتب الأثر ونحوها يقتضيه.

ولكن فيه أنه إن كان المراد اعتباره في نائب الغيبة فلا ريب في انقطاعه بإطلاق دليله أو عمومه ، ومع فرض الشك على وجه لا يتناوله الإطلاق المزبور فلا ريب في أن الأصل يقتضي عدم وقوع الاذن له بعد فرض انحصارها في الدليل المفروض.

وإن كان اعتباره في من ينصبه الامام عليه‌السلام حال حضوره‌

٢١

ففيه أولا أنه أدري في هذا الحال. مضافا إلى أن مقتضى عموم ولايته وأن الحكومة له ـ فهو مسلط عليها كتسلط الملاك على أملاكهم ـ جواز ذلك له ، كما هو واضح.

هذا وقد يظهر من الروضة اعتبار جميع هذه الشرائط في الفتوى أيضا ، وهو مبني على انحصار دليل قبولها بدليل قبول الحكم ، فيعتبر فيها حينئذ ما يعتبر فيه.

لكن لا يخفى عليك ما فيها ، ضرورة منع انحصار دليلها في ذلك ، بل هو العقل بعد كون الفتوى الصحيحة مما أنزل الله ومن القسط والعدل والحق وغير ذلك مما وجب على الناس قبوله عقلا ونقلا ، فجميع ما دل على الأمر بالمعروف والأخذ بما أنزل الله والقيام بالعدل دال عليه وإن فقد شرط منصب القضاء بعدم الكتابة مثلا أو بالعمى أو بالذكورة أو نحو ذلك مما لا مدخلية لاندراج فتواه فيما عرفت قطعا ، كما هو واضح بأدنى التفات. ومن هنا كانت شرائط الفتوى غير شرائط القضاء ، كما لا يخفى على من لاحظ كتب أصحابنا في الأصول والفروع.

بل مما ذكرنا يظهر أن قبول الفتوى بعد اندراجها في الحق والعدل والقسط ونحو ذلك لا يحتاج إلى إذن من الامام عليه‌السلام بل الكتاب (١) والسنة (٢) بل والعقل متطابقة على وجوب الأخذ بها ، وحينئذ فدليل التقليد غير دليل القضاء.

نعم قد يستفاد من دليل الثاني أن الفتوى بكلي الواقعة المخصوصة من الحق ومما أنزل الله ومن حكمهم ومن العدل والقسط ونحو ذلك ، ضرورة التلازم بين كون الحكم بالخصوصية كذلك وبين كون الحكم الشرعي‌

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٥٨ و ١٣٥ وسورة المائدة : ٥ ـ الآية ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي.

٢٢

في كلي تلك الخصوصية الذي هو فتوى المجتهد كذلك.

وبذلك ظهر لك أن دليل التقليد حينئذ هو جميع ما في الكتاب (١) والسنة (٢) من الأمر بأخذ ما أنزل الله تعالى والقيام بالقسط والعدل ونحو ذلك ، واختلاف المجتهدين بسبب اختلاف الموازين التي قررها صاحب الشرع لمعرفة الأحكام غير قادح في كون الجميع مما أنزل الله تعالى شأنه من الحكم ، فإن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم كما هو مقرر في محله.

( و ) كيف كان فـ ( ـهنا مسائل : )

( الأولى )

لا خلاف عندنا بل الإجماع بقسميه عليه في أنه ( يشترط في ثبوت الولاية ) للقضاء وتوابعه ( إذن الإمام عليه‌السلام أو من فوض إليه الإمام ) ذلك ، لما عرفت من أن منصب الحكومة له.

( و ) حينئذ فـ ( ـلو استقضى أهل البلد قاضيا لم تثبت ولايته ) عندنا ولم ينفذ حكمه ( نعم ) قد ذكر غير واحد من الأصحاب ، بل لم يذكر أحد فيه خلافا ، بل ظاهر بعضهم وصريح آخر الإجماع عليه أنه ( لو تراضى الخصمان بواحد من الرعية فترافعا إليه فحكم لزمهما حكمه ) وإن كان هناك قاض منصوب ، بل وإن كان إمام ، بل ( و ) على أنه ( لا يشترط رضاهما بعد الحكم ) منه.

لكن في الروضة وغيرها في اشتراط تراضي الخصمين بالحكم بعده قولان ، بل في بعض القيود أنه للشيخ في بعض أقواله ، بل في التحرير ولو تراضى خصمان بواحد من الرعية وترافعا إليه فحكم لم يلزمهما الحكم‌

__________________

(١) سورة النساء : ـ الآية ٥٨ و ١٣٥ وسورة المائدة : ٥ ـ الآية ٨.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي.

٢٣

بل في بعض قيوده وإن كان فيه شرائط الاجتهاد مع ظهور الامام عليه‌السلام.

وكيف كان فهذه المسألة كما ذكرها الخاصة ذكرها العامة أيضا ، قال في الروضة من كتبهم : « الخامسة : هل يجوز أن يحكم الخصمان رجلا غير القاضي؟ وهل لحكمه بينهما اعتبار؟ قولان ، أظهرهما عند الجمهور نعم ، وخالفهم الامام والغزالي ، فرجحا المنع ، وقيل : القولان في الأموال فقط ، فأما النكاح واللعان والقصاص وحد القذف وغيرها فلا يجوز فيها التحكيم قطعا ، والمذهب طرد القولين في الجميع ، وبه قطع الأكثرون ولا يجري في حدود الله على المذهب ، إذ ليس لها طالب معين ، وفي التهذيب وغيره ما يقتضي ذهاب بعضهم إلى طرد الخلاف فيها ، وليس بشي‌ء ، وقيل : القولان في التحكيم في حقوق الآدميين مخصوصان بما إذا لم يكن في البلد قاض فان كان لم يجز ، وقيل : هما إن كان قاض وإلا فيجوز قطعا ، والمذهب طردهما في الحالين ، فإذا جوزنا التحكم اشترط في المحكم صفات القاضي ، ولا ينفذ حكمه إلا على من رضي بحكمه ، حتى لا يضرب دية الخطأ على العاقلة إذا لم يرضوا بحكمه ، ولا يكفي رضا القاتل ، وقيل : يكفي والعاقلة تبع له ، والصحيح الأول ، قال السرخسي : الخلاف مخصوص بقولنا : تجب الدية على الجاني ثم تحملها العاقلة ، فإن قلنا يجب عليها ابتداء لم تضرب عليهم إلا برضاهم قطعا ، وهذا أحسن ، قال السرخسي : وإنما يشترط رضا المتحاكمين إذا لم يكن أحدهما القاضي نفسه ، فان كان فهل يشترط رضا الآخر؟ فيه اختلاف نص ، والمذهب أنه لا يشترط ، وليكن هذا مبنيا على جواز الاستخلاف إن جاز ، فالمرجوع إليه نائب القاضي ، قال : ويشترط على أحد الوجهين كون المتحاكمين بحيث يجوز للمحكم أن يحكم لكل واحد منهما ، فان كان أحدهما ابنه أو أباه لم يجز ، وليس للمحكم الحبس ، بل غايته الإثبات والحكم ، وقيل : يحبس وهو‌

٢٤

شاذ ، وهل يلزم حكمه بنفس الحكم كحكم القاضي أم لا يلزم إلا بتراضيهما بعد الحكم؟ فيه قولان ، ويقال : وجهان ، أظهرهما الأول ، ومتى رجع أحدهما قبل الحكم امتنع الحكم حتى إذا أقام المدعي شاهدين ، فقال المدعى عليه : عزلتك لم يكن له أن يحكم ، وقال الإصطخري : إن أحس المدعى عليه بالحكم فرجع ففي تمكينه من الرجوع وجهان خرجهما ، والمذهب الأول ».

إلى غير ذلك مما ذكروه في كتبهم مما هو مبني على استحسان أو قياس أو مصالح مرسلة أو‌ رواية غير ثابتة عندنا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) « من حكم بين اثنين فتراضيا به فلم يعدل فعليه لعنة الله تعالى ».

قال في المسالك : « ولو لم يكن لحكمه اعتبار ولزوم لما كان لهذا التهديد معنى ، ولكان التحذير على فعله لا على عدم العدل ، ولأن التهديد على عدم العدل يدل على أن العلة عدم عدله ، ولو لم يكن جائزا كان التهديد بالأعم أولى ».

وفيه أن الاستدلال حينئذ بنحو قوله تعالى (٢) ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) وغيره مما ورد في الكتاب (٣) والسنة (٤) أولى ، ولذا استدل على مشروعيته بها في كشف اللثام ، وبنصوص (٥) نائب الغيبة ، وبما دل (٦) على الأمر بالمعروف.

__________________

(١) ذكره ابن قدامة في المغني ج ١١ ص ٤٨٤.

(٢) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٤٤ و ٤٥ ٤٧.

(٣) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٨٥ و ١٠٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ٧ و ٨.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ٥ والباب ـ ١١ ـ منها الحديث ١ و ٦ و ٩.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأمر والنهي من كتاب الأمر بالمعروف.

٢٥

لكن قد عرفت تقييد تلك العمومات بإذن الإمام عليه‌السلام لأن الحكومة له ، ودعوى أن المنصب له لا خصوص الحكم في واقعة مخصوصة رضي المتنازعان فيها بحكم من حكماه كما ترى مناف لظاهر الدليل المزبور المعتضد بقوله تعالى (١) ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) وبالأمر (٢) بالرد فيما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله وأولي الأمر الذين هم الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم ، فإنهم أدرى باستنباطه من غيرهم.

ونصوص نائب الغيبة منافية لفرض موضوعه الذي هو فقد الاذن له ، كما هو واضح. وأدلة الأمر بالمعروف لا تقتضي الحكومة.

وأغرب من ذلك الاستدلال عليه في المسالك بوقوعه في زمن الصحابة ولم ينكر أحد منهم ذلك ، مع أن من المعلوم عندنا انقلاب الأمر بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى صار المنكر المعروف والباطل المألوف.

وبذلك ظهر لك أن ما ذكره العامة من مشروعية قاضي التحكيم فضلا عما ذكروه من الفروع التي سمعتها يشكل انطباقه على أصولنا وإن ذكرها الأصحاب الذين هم أدرى منا بكيفية تطبيق ذلك.

نعم في‌ خبر أحمد بن الفضل الكناسي (٣) المروي عن الكشي قال : « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أي شي‌ء بلغني عنكم؟ قلت : ما هو؟ قال : بلغني أنكم أقعدتم قاضيا بالكناسة ، قال : قلت : نعم جعلت فداك ، رجل يقال له عروة القتاب ، وهو رجل له حظ من عقل نجتمع عنده فنتكلم ونتسائل ثم يرد ذلك إليكم ، قال : لا بأس » ‌

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٦٥.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٥٩ و ٨٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ٣١.

٢٦

إلا أنه كما ترى ظاهر في إرادة تعرف الحكم في أحاديثهم من القضاء فيه لا فصل الخصومات الظاهر في إنكاره عليهم ، ولو سلم فهو مؤيد لما ذكرناه سابقا من الاذن سابقا في الفصل بين الناس بأحكامهم وأنه يكون في الحقيقة فضلا منهم وإن ناب الشيعي في ذكره عنهم باجتهاد أو تقليد صحيحين.

وعلى كل حال فتجشم الاذن له مما عرفت أو مشروعيته وإن لم يكن بإذن خاصة وإنشاء نصب كذلك يقتضي نفوذ حكمه في جميع ما يقع فيه التداعي من المال والنكاح والقصاص والحدود وغيرها كما نسبه في المسالك إلى ظاهر الأصحاب.

لكن في القواعد الإشكال في أهلية الحبس له واستيفاء العقوبة ، والجزم بأنه لا ينفذ حكمه على غير المتراضيين حتى لا يضرب دية الخطأ على عاقلة الراضي بحكمه.

ووجه الإشكال في الأول في كشف اللثام من عموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأدلة التحكيم الناهية عن الرد لمن له أهلية القضاء وإفضاء تعطيلها إلى الفساد ، وقول الصادق عليه‌السلام لحفص بن غياث (١) : « إقامة الحدود إلى من إليه الحكم » وهو خيرة السيد والشيخ في التبيان وجماعة ، ومن الاحتياط في الدماء وعصمتها ، واشتراك الحدود بين حق الله وحق الناس ، والتحكيم إنما هو في حق الناس ، وهو قول الشيخ في النهاية والاقتصاد وسلار وجماعة.

قلت : ولا يخفى عليك ما في الثاني بعد فرض صحة الأول.

كما أنه لا يخفى عليك النظر في جملة من الفروع المذكورة ، خصوصا ما ذكر من اعتبار رضاهما به قبل الحكم ما لم يكن أحد المتخاصمين قاضيا وإن كان منصوبا له ، ضرورة كون المفروض رضاه بالمرافعة عنده ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب مقدمات الحدود ـ الحديث ١ من كتاب الحدود.

٢٧

وهو أعم من نصبه الذي لا بد من تقييده مع ذلك بكونه مأذونا له في النصب ، وخصوصا دعوى كون قاضي التحكيم منصوبا من المتحاكمين المعلوم عدم أهليتهما لذلك.

بل ( و ) فيما ذكروه هنا من أنه ( يشترط فيه ) جميع ( ما يشترط في القاضي المنصوب عن الامام عليه‌السلام ) عدا الاذن ، ضرورة أنه إذا كان المدرك له الإطلاق المزبور ، فليس في شي‌ء منه إيماء إلى الشرائط المزبورة ، خصوصا مثل الكتابة والبصر ونحوهما ، نعم يتجه اعتبار ما كان دليله عاما لمثله من الشرائط كالبلوغ والإسلام ونحوهما.

ولكن هذا الكلام سهل الخطب في المسألة عندنا كما أومأ إليه في المسالك حيث قال : « واعلم أن الاتفاق واقع على أن قاضي التحكيم يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب من الشرائط التي من جملتها كونه مجتهدا ، وعلى هذا فقاضي التحكيم مختص بحال حضور الامام عليه‌السلام فيفرق بينه وبين غيره من القضاة بكون القاضي منصوبا وهذا غير منصوب من غير الخصمين ، أما في حال الغيبة فسيأتي أن المجتهد ينفذ قضاؤه ، لعموم الاذن ، وغيره لا يصح حكمه مطلقا فلا يتصور حالتها قاضي التحكيم ».

ومراده بحال الغيبة ما يشمل زمان الصادق عليه‌السلام أيضا لأن نصب مطلق المجتهد كان فيه ، وهو من زمان الحضور ، ولا يتصور فيه قاضي التحكيم ، نعم يتصور فيما قبله مما لا إذن فيه لمطلق المجتهد ، كزمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل لعله خاص فيه أيضا ، لظهور دليل نصب المجتهد في جميع زمان الجور الذي نهينا فيه عن المرافعة إلى قضاتهم (١) من حيث غلبة الجائرين ، فيكون نصب الصادق عليه‌السلام مبنيا على نصب من قبله وأن هذا من قبيل الحكم الشرعي المتفق عليه‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي.

٢٨

فيما بينهم ، وحكم آخرهم كحكم أولهم ، ولو سلم عدم دلالته على ذلك فأقصاها إلحاق هذا الزمان إلى زمن نصب الصادق عليه‌السلام بزمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويختص به تصور قاضي التحكيم ، وربما احتمل تصوره في زمن الغيبة بالمرافعة إلى المفضول مع وجود الأفضل بناء على اختصاص النصب له دونه ، لكن ـ مع ما في الاحتمال المزبور من النظر ـ ستعرف أن التحقيق نصب الجميع.

وبالجملة فقد ظهر لك بالتأمل في جميع ما ذكرناه انحصار دليل مشروعية التحكيم بالإجماع المدعى ، وهو حجة على من لم يتبين خلافه ، أو إطلاق تلك الأدلة الذي إن لم يقيد بما سمعته من اعتبار إذن الامام عليه‌السلام في مطلق الحكومة ينفتح منه باب عظيم لا يختص بقاضي التحكيم ، كما أومأنا إليه في أول البحث ، وخصوصا إذا قلنا إن ذلك من المأذون فيه ، ولو لا دعوى الإجماع لأمكن القطع باستفادة نفوذ الحكم بالعدل الذي هو حكم الامام عليه‌السلام من جميع شيعته.

قال أبو بصير (١) : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قول الله تعالى في كتابه ( وَلا تَأْكُلُوا ) (٢) إلى آخرها فقال : يا أبا بصير إن الله قد علم أن في الأمة حكاما يجورون ، أما إنه لم يعن حكام أهل العدل ، ولكنه عنى حكام أهل الجور ، يا أبا محمد إنه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن حاكم إلى الطاغوت ، وهو قول الله عز وجل ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ) (٣) إلى آخرها ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٨٨.

(٣) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٦٠.

٢٩

وقال عليه‌السلام أيضا في خبره الآخر (١) : « أي رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ) (٢) إلى آخرها ».

وفي الآخر (٣) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ربما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي‌ء فيتراضيان برجل منا ، فقال : ليس هو ذاك ، إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط ».

إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة والصريحة في الاذن بالحكم بالحق والعدل ، وهو الذي عندهم ، وشيعتهم أجمع نواب عنهم في ذلك ، لأن المدار على الحكم بين الناس بحكمهم.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) في وصيته لكميل بن زياد « يا كميل لا غزو إلا مع إمام عادل ، ولا نقل إلا من إمام فاضل ، يا كميل هي نبوة ورسالة وإمامة ، ليس بعد ذلك إلا موالين متبعين أو مناوئين مبتدعين ، إنما يتقبل الله من المتقين ».

وقال الصادق عليه‌السلام في خبر جميل (٥) : « يغدوا الناس على ثلاثة أصناف : عالم ومتعلم وغثاء ، فنحن العلماء ، وشيعتنا المتعلمون ، وسائر الناس غثاء ».

وقال الباقر عليه‌السلام في خبر محمد بن مسلم (٦) : « ليس عند أحد من الناس حق ولا صواب ولا أحد من الناس يقضي بقضاء‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٢.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٦٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٨.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٣٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١٨.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٢٠.

٣٠

حق إلا ما خرج من عندنا أهل البيت » الخبر.

وفي الدعائم عن علي عليه‌السلام (١) « كل حاكم يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت ، وقرأ ( يُرِيدُونَ ) إلى آخرها (٢) ثم قال : والله فعلوا وتحاكموا إلى الطاغوت وأضلهم الشيطان ضلالا بعيدا ، فلم ينج من هذه الأمة إلا نحن وشيعتنا ، وقد هلك غيرهم ، فمن لم يعرف حقهم فعليه لعنة الله » فلاحظ وتأمل جيدا.

هذا ( و ) قد بان لك الحال في أنه بناء على المشروعية ( يعم الجواز كل الأحكام ) والله العالم.

( و ) كيف كان فـ ( ـسمع عدم ) حضور ( الامام عليه‌السلام ) كما في هذا الزمان ( ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت الجامع للصفات المشترطة في الفتوى ) المذكورة في كتب الأصول وبعض كتب الفروع بلا خلاف أجده فيه ، بل الإجماع بقسميه عليه لقول أبي عبد الله عليه‌السلام في خبر أبي خديجة (٣) : « إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا‌ ( فاجعلوه بينكم قاضيا ، فاني جعلته قاضيا ، فتحاكموا إليه ) ».

وخبره الآخر (٤) قال : « بعثني أبو عبد الله عليه‌السلام إلى أصحابنا فقال : قل لهم : إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو ترادى بينكم في شي‌ء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بينكم رجلا ممن قد عرف حلالنا وحرامنا ، فاني قد جعلته قاضيا ،

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٧.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٦٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٦.

٣١

وإياكم أن يتحاكم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر ».

ومقبول ابن حنظلة (١) « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك؟ فقال : من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتا ، لأنه أخذ بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به ، قلت : كيف يصنعان؟ قال : انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حاكما ، فاني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد ، والراد علينا الراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله ، قال : فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم ، فقال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ، قال : فقلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ، قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله وإلى الرسول ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بين‌

__________________

(١) ذكر صدره في الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١ وبعده وذيله في الباب ـ ٩ ـ منها ـ الحديث ١ وقطعة منه في الباب ـ ١٢ ـ منها الحديث ٩ مع الاختلاف في بعض قطع الحديث. راجع الكافي ج ١ ص ٦٧ وج ٧ ص ٤١٢ والتهذيب ج ٦ ص ٢١٨ و ٣٠١.

٣٢

وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات ، وهلك من حيث لا يعلم ، قال : قلت : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ، قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة أخذ به ، قال : قلت : جعلت فداك فان وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لها بأي الخبرين يؤخذ؟ قال : بما يخالف العامة ، فإن فيه الرشاد ، قلت : جعلت فداك فان وافقها الخبران جميعا ، قال : ينظر إلى ما حكامهم إليه أميل وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر ، فقلت : فان وافق حكامهم وقضاتهم الخبران جميعا ، قال : إذا كان كذلك فأرجه حتى تلق إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ».

وقد سمعت المروي عن صاحب الزمان روحي له الفداء (١).

وخبر داود بن الحصين (٢) « في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في الحكم وقع بينهما فيه اختلاف فرضيا بالعدلين ، واختلف العدلان بينهما ، عن قول أيهما يمضي الحكم؟ فقال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ، ولا يلتفت إلى الآخر ».

وخبر النميري (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حق يتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما ، قال : وكيف يختلفان؟ قلت : حكم كل واحد منهما للذي اختاره الخصمان ، فقال : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه ».

فهو حينئذ مأذون منهم ومنصوب من قبلهم في الحكم بين الناس‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٢٠.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٤٥.

٣٣

بحكمهم ، لا أن هذا الشرط ساقط في زمن الغيبة ، كما توهمه عبارة المسالك ، بل ظاهر خبر أبي خديجة الاكتفاء بتجزي الاجتهاد في الحكومة ، لصدق معرفة شي‌ء من قضائهم.

والمناقشة بعدم المعرفة لشي‌ء مطلقا إلا للمجتهد المطلق يدفعها الوجدان الصحيح ، للتجزي في الملكة والفعل على وجه يساوي معرفة المجتهد المطلق ، بل قد يزيد عليها.

واحتمال إرادة الملكة العامة من الشي‌ء ـ لأن غير الامام وإن كان مجتهدا مطلقا ليس عنده إلا شي‌ء من الأحكام ، إذ معرفتها أجمع مختصة بالإمام ـ مناف لظاهر الخبر (١) الذي لا معارضة بينه وبين المقبولة (٢) بناء على ظهورها في المجتهد المطلق ، لعموم الجمع المضاف فيها ، لأن أقصى الخبرين الاذن لكل منهما في ذلك.

هذا مضافا إلى ما سمعته من تلك المطلقات التي لا إشعار في شي‌ء منها باعتبار الاجتهاد فضلا عن كونه مطلقا.

ومن ذلك يعلم حينئذ أن فتوى المتجزى حجة له ولغيره ، ضرورة اقتضاء نفوذ حكمه الخاص صحة فتواه الكلية التي بني عليها الحكم الخاص ، وأنها مندرجة في القسط والعدل والحق وفيما أنزل الله ، وأنها من حكمهم.

نعم لو كان دليل التجزي الرجحان العقلي لظنه الاجتهادي على تقليده اتجه اختصاص ذلك به دون غيره ، لكن قد عرفت أن السمع واف بالدلالة عليه على الوجه المزبور ، بل صدق معرفة الحكم الشرعي بطرقه المقررة عنهم عليهم‌السلام لا تحتاج إلى دليل ، ضرورة كونها كمعرفة غيره من العلوم ، وبها يكون معلومه من أحكامهم عليهم‌السلام ومن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ١.

٣٤

العدل والقسط والحق ، كما هو واضح بأدنى تأمل ونظر.

( و ) على كل حال فـ ( ـلو عدل إلى قضاة الجور والحال هذه كان مخطئا ) آثما قطعا ، لما سمعته من النصوص المعتبرة (١) نعم لو توقف حصول حقه عليه ولو لامتناع خصمه عن المرافعة إلا إليهم جاز ، كما يجوز الاستعانة بالظالم على تحصيل حقه المتوقف على ذلك ، والإثم حينئذ على الممتنع ، كما هو ظاهر ما سمعته من النصوص (٢) الظاهرة في اختصاصه بالإثم.

وأشكله في الكفاية بأن حكم الجائر بينهما فعل محرم والترافع إليه يقتضي ذلك ، فيكون إعانة على الإثم ، وهي منهي عنها (٣).

ويدفعه منع كونه إعانة أولا ومنع حرمتها ثانيا ، خصوصا بعد ظهور النصوص فيما ذكرنا ، وخصوصا إذا كان الخصم منهم ، فإنه لا ينبغي التوقف في جواز أخذ الحق منه بحكم قضاتهم.

بل لعله المراد من‌ خبر علي بن محمد (٤) قال : « سألته هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منا في أحكامهم؟ فكتب يجوز لك ذلك إنشاء الله إذا كان مذهبكم فيه التقية والمداراة لهم » بناء على ما في الوافي من أن « المراد هل يجوز لنا أن نأخذ حقوقنا منهم بحكم قضاتهم كما يأخذون منا بحكم قضاتهم ، يعني إذا اضطر إليه ، كما إذا قدمه الخصم إليهم ».

ويمكن كون المراد أخذ نحو الشفعة بالجوار والعصبة منهم كما يأخذون منا ، أو غير ذلك مما لا يندرج فيه الأخذ بغير حق منهم ، فإنه غير جائز ، كما صرح به في خبر البغل (٥) المتقدم في الغصب.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي.

(٣) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٢.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٢٢٤ ـ الرقم ٥٣٥ والوسائل ـ الباب ١١ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل الباب ـ ١٧ ـ من كتاب الإجارة ـ الحديث ١.

٣٥

وفي‌ خبر ابن فضال (١) قال : « قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني عليه‌السلام وقرأته بخطه سأله ما تفسير قوله تعالى (٢) : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ ) فكتب إليه بخطه : الحكام : القضاة ، قال : ثم كتب تحته : هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي ، فهو غير معذور في أخذ ذلك الذي حكم به إذا كان قد علم أنه ظالم » بل ربما كان ذلك مقطوعا به ، فليس المراد حينئذ إلا ما ذكرناه أولا من الوجهين.

وقال علي بن الحسين عليهما‌السلام في خبر عطاء بن السائب (٣) : « إذا كنتم في أئمة الجور فامضوا في أحكامهم ، ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا ، وإن تعاملتم بأحكامنا كان خيرا لكم ».

وقد يستفاد من هذا الخبر ـ مضافا إلى كون التقية دينا ـ صحة المعاملة بأحكامهم تقية على نحو الصحة في العبادة وإن افترقا بقاعدة الاجزاء في الثانية دون الأولى ، لكن هذا الخبر ـ مع كون التقية دينا ـ يقتضي الأعم إلا أنه لم يحضرني الآن كلام للأصحاب بالخصوص ، نعم في رسالة منسوبة للكركي الحكم بالبطلان في العبادة والمعاملة إلا ما نص فيه على الصحة كالوضوء ونحوه ، ولا ريب في فساده في العبادة ، أما المعاملة فمحل نظر.

هذا وفي الكفاية أيضا أنه يستفاد من الخبرين عدم جواز أخذ شي‌ء بحكمهم وإن كان له حقا ، وهو في الدين ظاهر ، وفي العين لا يخلو من إشكال ، لكن مقتضى الخبرين التعميم ، وكأن فرقه بين الدين والعين باحتياج الأول إلى تراض في التشخيص ، والفرض جبر المديون بحكمهم ، بخلاف العين.

وفيه أن الجبر وإن كان إثما فيه لكن لا ينافي تشخص الدين بعد‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٨٨.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٧.

٣٦

فرض كونه حقا ، على أن في صدر أحد الخبرين المنازعة في دين أو ميراث ، فلا بد من حمل الخبرين على الأعم من ذلك ، لكن على معنى أن أصل ثبوت الاستحقاق للدين أو العين قد كان بحكمهم الباطل ، لا أنهما ثابتان بالحكم الحق وأخذهما قد كانا بحكم الطاغوت ، مع احتمال التزام الحرمة فيهما أيضا في ذلك ، لكن على معنى حرمة التصرف وإن كانا مملوكين ، فيكونان بحكم السحت في الإثم ولو باعتبار المقدمة ، فتأمل جيدا ، والله العالم.

المسألة ( الثانية : )

( تولي القضاء ) ممن له القضاء كالنبي والامام ( مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه ) لعظم الفوائد المترتبة عليه المعلوم رجحانها عقلا ونقلا ، ولذا تولاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره من الأنبياء وفي وصية أمير المؤمنين عليه‌السلام لشريح (١) : « وإياك والتضجر والتأذي في مجلس القضاء الذي أوجب فيه الأجر وأحسن فيه الذخر لمن قضى بالحق ».الحديث. ونحوه غيره (٢)

لكن خطره عظيم ، ففي الخبر « من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين ، قيل : وما الذبح؟ قال : نار جهنم » (٣) وأنه « يجاء بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره قط » (٤) و « أن النواويس (٥) شكت إلى الله تعالى شدة حرها ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ وغيره من أبواب آداب القاضي.

(٣) المستدرك الباب ٣ من أبواب صفات القاضي الحديث ٤.

(٤) سنن البيهقي ـ ج ١٠ ص ٩٦ وفيه « في تمرة قط ».

(٥) هي موضع في جهنم أو مقابر النصارى.

٣٧

فقال لها : اسكني إن موضع القضاة أشد حرا منك » (١) وغير ذلك ـ خصوصا ما رواه الثمالي (٢) عن الباقر عليه‌السلام في قاض من بني إسرائيل عوقب لموضع هواه قد كان مع من كان الحق له ـ مما صار سببا لامتناع جماعة من أكابر التابعين وغيرهم عنه ، ولكنه محمول على أولوية تركه لمن لم يثق من نفسه بالقيام بشرائطه ، كما أنه يحرم على من علم بفقده لها.

( وربما وجب ) تولي القضاء مقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وللقيام منه بالقسط ( و ) لكن يكون ( وجوبه ) حينئذ ( على الكفاية ) لعموم الخطابات المعلوم إرادة حصوله من مجموعهم لا من مباشر بعينه ولو جميعهم. نعم قد يتعين فرد للانحصار أو لمصلحة اقتضت تعيين الامام عليه‌السلام له أو غير ذلك مما لا ينافي كون وجوبه الذي هو مفاد الخطابات الشرعية كفائيا ، كما هو واضح.

ولا ينافي ذلك توقف صحته على إذن الامام عليه‌السلام نحو ما تقدم في نحو غسل الميت الذي هو كفائي ، وصحته موقوفة على إذن الولي.

هذا ولكن في المسالك « أن حكم المصنف باستحبابه لمن يثق بنفسه محمول على طلبه من الامام ممن لم يأمره به إذا كان من أهله ، أو على فعله لأهله في حال الغيبة حيث لا يتوقف على إذن خاص ».

وفي الأخير أنه واجب وإن زاد أهله على قدر الكفاية وسقط بفعله عن الباقين ، وأما الأول فهو مخالف لما ذكره في الصورة السادسة.

وكأنه أشار به إلى ما في الدروس « ولو لم يوجد سوى واحد تعين ، ولو وجد غيره ففي استحباب تعرضه للولاية نظر ، من حيث الخطر‌

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ٦ ـ من أبواب آداب القاضي الحديث ٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب آداب القاضي الحديث ١.

٣٨

وعظم الثواب إذا سلم ، والأقرب ثبوته لمن يثق من نفسه بالقيام به ».

وفي الروضة « ولو لم يعلم الامام لزمه الطلب ، وفي استحبابه مع التعدد عينا قولان : أجودهما ذلك مع الوثوق ».

وتبعه في كشف اللثام ، قال : « ويستحب التولية على الأعيان إلا من وجبت عليه عينا ، لأنه أمر مرغوب عقلا وشرعا ».

وأوضح ذلك في الرياض ، فقال : « واستحبابه ـ أي قبوله ـ عيني ، فلا ينافي ما قدمناه من أنه واجب كفائي ».

وفيه أن التنافي بينهما ظاهر ، ضرورة تبعية القبول والتعرض ونحوهما مما هو مقدمة لفعل القضاء ، فمع فرض كون وجوبه كفائيا تكون مقدمته كذلك.

نعم قد يقال : إنه لو فرض تلبس من تقوم به الكفاية من الناس بها أمكن القول بسقوطها حينئذ عن الباقين ، ولا يكفي في السقوط نفس وجود الغير من دون تلبس ، كما في غير المقام من الكفائي ، وحينئذ يمكن الكلام في الدليل على الاستحباب ، إذ لا دليل على رجحان تحصيل منصب القضاء لنفسه ، وإنما رجحانه إن كان فهو ليس إلا مقدمة للقضاء المفروض كونه واجبا كفائيا ولم يقم به أحد ، فإن التلبس بمنصبه والاستعداد له لا يقتضي فعله المتوقف عليه السقوط عن الباقين. ومن هنا لو وقع ممن تأخر عن الأولين في التلبس بمنصبه كان أداء واجب.

بل قد يقال لذلك : إن الواجب الكفائي لا يسقط وجوب مقدمته بالتلبس بها عن الباقين ، بل هي باقية على الوجوب ، وإن زاد من تلبس بها على قدر الكفاية ، ضرورة بقاء الخطاب بذيها ، لعدم الدليل على سقوطه بالتلبس بمقدماته ، بل ظاهر الأدلة خلافه.

ومن ذلك ظهر لك أنه لا مناص عن القول باختصاص منصب القضاء من حيث إنه كذلك بالإمام عليه‌السلام وخطاب وجوبه‌

٣٩

متوجه إليه خاصة ، وأما غيره فيستحب له توليه منه لما فيه من الفوائد. وربما يجب ذلك إذا كان مقدمة للأمر بالمعروف الذي هو واجب كفائي ، لا من حيث كونه قضاء الذي قد عرفت اختصاص خطاب وجوبه بالإمام عليه‌السلام نعم قد يجب كفاية أو عينا أيضا من حيث أمر الإمام عليه‌السلام به.

وبذلك حينئذ يظهر الوجه في الاستحباب المزبور مع قولهم بوجوب القضاء كفاية ، فتأمل جيدا فإنه دقيق جدا ، ضرورة تعدد موضوع الاستحباب والوجوب ، بل ظاهر المتن أنه مستحب ذاتي وربما عرض له الوجوب ، وحينئذ يكون كفائيا ، ولعل مراده ما ذكرناه ، والله العالم.

( وإذا علم الامام عليه‌السلام أن بلدا خال من قاض ) مع الحاجة إليه ( لزمه ) نصب قاض فيه بـ ( ـأن يبعث له ) أو يأمر أحدا قابلا له من أهله به ، لأنه من السياسة اللازمة له ( ويأثم أهل البلد بالاتفاق على منعه ) لما فيه من مخالفة الإمام عليه‌السلام ( و ) منع قيام كلمة الحق واختلال النظام ، بل ( يحل قتالهم طلبا للإجابة ) كما في كل مخالف للإمام عليه‌السلام في سياسة الرعية.

( ولو وجد من هو بالشرائط فامتنع ) عن قبول القضاء ( لم يجبر مع وجود مثله ) لعدم توقف السياسة حينئذ عليه ، ولو امتنعوا أجمع فسقوا وخرجوا عن قابلية منصب القضاء وإن كان لا يسقط الوجوب عنهم بذلك ، للقدرة على التوبة.

( ولو ألزم الإمام عليه‌السلام أحدهم ( قال في الخلاف : ) ( لم يكن له الامتناع ، لأن ما يلزم به الامام واجب و ) رده المصنف بأنا ( نحن نمنع الإلزام ) به مع عدم تعيينه ( إذ الإمام عليه‌السلام لا يلزم بما ليس لازما ).

٤٠