جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

أو وقف تعذر مصرفه ، أو إلى المدعى عليه أو وارثه ، وهو الأصح.

ولو ادعى البطن الأول الوقف على الترتيب وحلفوا مع شاهدهم فقال البطن الثاني بعد وجودهم : إنه وقف تشريك ففي القواعد « كانت الخصومة بينهم وبين البطن الأول ، فإن أقاموا شاهدا واحدا حلفوا وتشاركوا ، ولهم حينئذ مطالبتهم بحصتهم من النماء من حين وجودهم » وفي كشف اللثام « وإن نكلوا خلص الوقف للأولين ما بقي منهم أحد ، وإن تجددوا وادعوا التشريك قبل حلف الأولين كانوا خصوما لهم ولغيرهم من الورثة ، ولكن لا يجدي نكولهم إلا المدعين ، فإنهم لما ادعوا الاختصاص فحلفوا مع شاهدهم ثبت لهم ذلك ، نعم إن انعكس بأن حلف هؤلاء ونكل الأولون صار نصيب الأولين ميراثا ، والله العالم.

المسألة ( الرابعة : )

( لو ادعى عبدا ) في يد آخر ( وذكر أنه كان له وأعتقه فأنكر المتشبث ) به ( قال الشيخ : يحلف مع شاهده ويستنقذه ) لأنه يدعي ملكا متقدما ، وحجته تصلح لإثباته وإن ترتب عليه العتق بعد ذلك بإقراره كمسألة الاستيلاد السابقة.

( و ) لكن قال المصنف وتبعه غيره ( هو بعيد ، لأنه لا يدعي مالا ) بل يدعي حرية العبد ، وهي ليست مالا ، بل ولا من حقوقه ، فلا تثبت بشاهد ويمين ، بل لو سلم ثبوت العتق بهما فهو فيما إذا ادعاه العبد لا المولى الذي يدعيه لغيره.

وفيه أنه لا فرق بينهما في عدم كون الحرية مالا وفي كونها متعلقة بمال ، على أن المولى قد يدعيها لإثبات الولاء له عليه بسبب عتقه ،

٣٠١

وبذلك يكون حقا من حقوقه ، بل هو إن لم يكن أولى من الاستيلاد فهو مساو له.

( ودعوى ) الفرق بينهما بأن مدعي الاستيلاد يدعي ملكا ثابتا بالفعل ، لأن أم الولد مملوكة للمولى ، وهو مما يثبت بهما ، ولما كانت أمومة الولد تستلزم ولدا منه كان إثبات الولد وانعتاقه تابعا ولازما لما يثبت بالشاهد واليمين لا بالاستقلال بخلاف عتق العبد ، فإنه ليس له أصل يثبت بذلك يستند إليه ويتبعه ، فلا يثبت مستقلا ( يدفعها ) أن ذلك لا يقتضي خصوصية الولد الموجود ، فليس المنشأ حينئذ إلا كونه مالا له بالشرع لولا إقراره ، وهو سبب آخر يترتب بعد إثبات ماليته ، فتأمل جيدا ، والله العالم.

المسألة ( الخامسة )

قد عرفت فيما مضى أن الموافق لضابط الأصحاب فيما ( لو ادعى عليه القتل وأقام شاهدا فان كان ) ذلك موجبا لمال كما لو كان ( خطأ أو عمد الخطأ حلف ) معه ( وحكم له ، وإن كان عمدا موجبا للقصاص لم يثبت باليمين مع الواحد ) لعدم تعلقه بالمال حينئذ ( و ) لكن ( كانت شهادة الشاهد لوثا ، وجاز له إثبات دعواه بالقسامة ) التي يثبت بها القصاص في سائر أفراد اللوث ، خلافا لما عن ابن حمزة ، فجعل الشاهد الواحد في القتل عمدا بمنزلة خمس وعشرين يمينا ، ومرجعه إلى قبوله في مثل ذلك ، وربما كان موافقا لما ذكرناه سابقا من كون المستفاد من النصوص (١) أن العنوان حقوق الناس التي تثبت بالأيمان بخلاف حقوق الله وحقوق الناس العامة ، مثل رؤية الهلال ، فتذكر وتأمل.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٤ ـ من أبواب كيفية الحكم.

٣٠٢

( خاتمة )

(تشتمل ) على ( فصلين : )

( الأول)

( في كتاب قاض الى قاض )

اعلم أن ( إنهاء حكم الحاكم إلى آخر إما بالكتاب أو القول أو الشهادة ، أما الكتابة فلا عبرة بها ) عندنا إجماعا كما في القواعد ومحكي الخلاف والسرائر والتحرير وغيرها في حد وغيره مختوما وغير مختوم ( لإمكان التشبيه ) وعدم القصد إلى الحقيقة ، وعدم الدليل شرعا على اعتبار دلالتها فضلا عما سمعته من الدليل على عدم اعتبارها.

مضافا إلى خبري السكوني (١) وطلحة بن زيد (٢) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام « أنه كان لا يجيز كتابة قاض إلى قاض في حد ولا غيره حتى وليت بنوا أمية فأجازوا بالبينات » المشهورين المستفيضين كما عن المختلف.

خلافا للمحكي عن أبي علي ، فجوزه في حقوق الناس دون حقوق الله تعالى ، وعن الأردبيلي موافقته على ذلك مع العلم بكتابته قاصدا لمعناه ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٣٠٣

قال : « ولهذا جاز العمل بالمكاتبة في الرواية وأخذ المسألة والعلم والحديث من الكتاب المصحح عند الشيخ المعتمد ، ولأنه قد يحصل منها ظن أقوى من الظن الحاصل من الشاهدين ، بل يحصل منها الظن المتآخم للعلم ، بل العلم مع الأمن من التزوير ، وأنه كتب قاصدا للمدلول ، وحينئذ يكون مثل الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم بأن القاضي الفلاني الذي حكمه مقبول حكم بكذا ، فإنه يجب إنفاذه وإجراؤه من غير توقف ؛ ويكون ذلك مقصود ابن الجنيد ، ويمكن أن لا ينازعه فيه أحد ، بل يكون مقصودهم الصورة التي لم يأمن فيها التزوير أو لم يعلم قصد الكاتب إرادة مدلول الرسم ».

قلت : التحقيق أن الكتابة من حيث إنها كتابة لا دليل على حجيتها قطعا مطلقا في إقرار وغيره ، بل عن ابن إدريس في نوادر القضاء التصريح بأنه لا يجوز للمستفتي أن يرجع إلا إلى قول المفتي دون ما يجده بخطه إلى أن قال : « بغير خلاف من محصل ضابط لأصول الفقه » وبني على ذلك عدم حجية المكاتبة ، قال : « لأن الراوي للكتابة ما سمع الامام يقول ، ولا شهد عنده شهود أنه قال » وإن كان فيه ما ستعرف.

نعم إذا قامت القرائن الحالية وغيرها على إرادة الكاتب بكتابته مدلول اللفظ المستفاد من رسمها فالظاهر جواز العمل بها ، للسيرة المستمرة في الأعصار والأمصار على ذلك ، بل يمكن دعوى الضرورة على ذلك ، خصوصا مع ملاحظة عمل العلماء في نسبتهم الخلاف والوفاق ونقلهم الإجماع وغيره في كتبهم المعمول عليها بين العلماء ، ودعوى أن ذلك كله من جهة فتح باب الظن في الأحكام الشرعية وموضوعاتها واضحة الفساد ، ضرورة كون السيرة المزبورة على الأعم من ذلك ، كالوكالة والإقرار والوصايا والأوقاف وتصنيفهم كتب الفتوى للأطراف وعمل الناس بها‌

٣٠٤

ونحو ذلك ، ولكن مقتضى ذلك تكون الكتابة فيما نحن فيه بعد انتفاء احتمال التزوير وعدم القصد وغيرهما من الاحتمالات بمنزلة إخباره بالحكم فان قلنا بقبوله قبلت وإلا فلا.

وربما أشعر التعليل الأول في عبارة المصنف والثاني في عبارة غيره بإرادة غير هذا الفرد من الكتابة ، كما أنه يمكن حمل كلام ابن الجنيد ومن وافقه على ما ذكرنا ، فيعود النزاع لفظيا ، وتحمل الروايتان على العمل بالحكم بالكتابة ، بمعنى إيجاد الحكم بها باللفظ. أو على العمل بها من حيث إنها كتابه ، إذ من المعلوم عدم دلالتها على كونها منه وأنه قصد بها معنى اللفظ المستفاد من رسمها.

وبهذا يفرق بينها وبين اللفظ الذي يحكم بمجرد صدوره على اللافظ بما يقتضيه لفظه إلا أن يعلم خلافه ، بخلاف الكتابة ، فإنها من قسم الأفعال لا دلالة فيها كذلك ، لا أن المراد منهما الأعم من ذلك حتى ما ذكرناه من الفرد الذي لا ينبغي التوقف في اعتباره في كل ما لا يشترط فيها اللفظ كالصيغ ونحوها ، بل دعوى عدم جريان حكم الإقرار والاخبار والرواية والشهادة والفتوى ونحو ذلك على المستفاد مما ذكرته من فردها أيضا واضحة المنع ، وعلى تقديره فالمراد هنا معرفة صدور الحكم منه ولو باخباره ، ولا ريب في حصولها بها. وبذلك يظهر لك النظر فيما أطنب به في الرياض.

نعم يمكن دعوى عدم اعتبارها هنا بالخصوص ، للخبرين المشهورين رواية وفتوى ، إلا أنك قد عرفت بقرينة التعليل وغيره احتمال إرادة غير الفرد المزبور ولعله الأقوى.

( وأما القول مشافهة فهو أن يقول للآخر : حكمت بكذا أو أنفذت أو أمضيت ) أو نحو ذلك بقصد الاخبار به عما وقع له من‌

٣٠٥

الفصل ( ففي القضاء به ) لحاكم آخر ( تردد ) أقربه القبول كما ستعرف وإن ( نص الشيخ في الخلاف ) بـ ( ـأنه لا يقبل ).

( وأما الشهادة فإن شهدت البينة بـ ) ـإنشاء ( الحكم وبإشهاده إياهما على حكمه تعين القبول ) بلا خلاف محقق أجده فيه وإن أشعر به ما عن المختلف ، بل عن غاية المراد عليه استقر فتاوى معظم الأصحاب ، بل عن الإيضاح أنه اتفق عليه ، ولعله لعموم ما دل (١) على وجوب قبول حكمه الذي هو من حكمهم عليهم‌السلام ولذا كان الراد عليه رادا عليهم ، وما دل على حجية البينة و ( لأن ذلك مما تمس الحاجة إليه ، إذ احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعدة غالب ، وتكليف شهود الأصل التنقل ) إلى تلك البلاد لو فرض حاكم فيها وأمكن تزكية الشهود فيها ( متعذر أو متعسر ، فلا بد من وسيلة إلى استيفائها مع تباعد الغرماء ، ولا وسيلة إلا رفع الأحكام إلى الحكام ، وأتم ذلك احتياطا ) في الإنهاء ( ما حررناه ) من حضور الشاهدين إنشاء الحكم وإشهادهما عليه.

( لا يقال : ) يمكن أن ( يتوصل إلى ذلك بالشهادة على شهود الأصل ) فلا تمس الحاجة إلى الإنفاذ المزبور الذي هو حكم بغير علم ( لأنا نقول : ) أولا شهادة الفرع ليست عامة ، وثانيا ( قد لا يساعد شهود الفرع على التنقل و ) أيضا لا يمكن فروع الفروع لأن ( الشهادة الثالثة لا تسمع ) فضلا عما فوقها بخلاف الإنفاذ ، فإنه يستمر باستمرار الأزمنة.

وظاهر المسالك تفسير ذلك بأن « في الشهادة على الشهادة قصورا عن الشهادة على الحكم من حيث إنها مقصورة على المرتبة الثانية ، فلا تسمع‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١.

٣٠٦

الشهادة الثالثة على الشهادة ، والمرتبة الثالثة من الشهادة على الشهادة بمنزلة المرتبة الثانية من الشهادة على الشهادة على الحكم ، فتكون مسموعة ، فإذا تعذر وصول شهود الأصل في المرتبة الأولى من الشهادة على الحكم حصل الغرض من الشهادة عليهما دون ما لو كانت الشهادة على شهادة الأصل ، لأنها تنقص عنها بمرتبة ، فقد لا يحصل الغرض بدون المرتبة الثالثة التي هي ثانية في الشهادة على الحكم ».

إلا أنه كما ترى فرض نادر ، بل هو خلاف ظاهر العبارة ، خصوصا بملاحظة عبارة الفاضل في القواعد الظاهرة في إرادة مؤداها.

واحتمال كون مراده أنه لو لم يشرع الإنفاذ لبطل إقامة الحجج بتطاول الأزمان ـ ضرورة توقف الحكم على شهود الأصل أو فروعهم ، والفرض أن الشهادة الثالثة لا تسمع ، بخلاف ما لو قلنا بمشروعيته ، فإنه يبقى حينئذ على تطاول المدد بتجديد إنفاده عند كل حاكم ، ولعله إلى ذلك أشار في القواعد كما عساه يفهم من الأصبهاني في شرحه ، حيث إنه بعد أن استدل بالحاجة قال : « ولخوف الاندراس ، والشهادة الثالثة غير مسموعة » ـ يستلزم التكرار فيما بعده ، وهو قوله :

( ولأنه لو لم يشرع إنهاء الأحكام ) إلى الحكام لينفذوها ( بطلت الحجج مع تطاول المدد ) التي يموت فيها الحاكم وشهود الأصل وفروعهم ، وقد عرفت أن الشهادة الثالثة غير مسموعة إلا أن يفرض له تقريران ، والأمر سهل.

( ولأن المنع من ذلك يؤدي إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة ، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى آخر ، فان لم ينفذ الثاني ما حكم به الأول اتصلت المنازعة ) وفات الغرض من نصب الحكام.

( ولأن الغريمين لو تصادفا أن حاكما حكم عليهما ألزمهما الحاكم ) ‌

٣٠٧

الآخر ( ما حكم به الأول ) إجماعا على ما حكاه غير واحد ( فكذا لو قامت البينة ، لأنها تثبت ما لو أقر به الغريم ألزم به ).

ولا يخفى عليك أن هذه الأدلة الأربعة يظهر من بعضها أنها مساقة بثلاث الاكتفاء بالشهادة في إثبات حكم الحاكم ، ومن آخر أنه مساق لإثبات مشروعية حكم الحاكم الآخر بإنفاذ ما حكم به الأول ، إلا أن الأولى الاستناد في إثبات الأول إلى عموم دليل حجية البينة والقضاء بها ، وفي الثاني إلى عموم حكم الحاكم وأن الراد عليه راد علينا ، وأن حكمه حكمهم عليهم‌السلام (١) وما ندري أن النزاع في أي المقامين ، لأن كلامهم مشوش ، ضرورة ظهور بعضه في المفروغية من مشروعية إنفاذ الحكم الأول بعد فرض معلوميته ولو بالإقرار من الخصمين فضلا عما لو فرض حضور الحاكم الثاني عند إنشاء الأول له ، كظهور آخر في المفروغية عن قابلية البينة لإثبات ذلك.

اللهم إلا أن يكون مستند الثاني ما في ذيل الخبرين (٢) السابقين اللذين لا جابر لهما في خصوص ذلك ، بل قد عرفت عدم معروفية المخالف وإن أرسله في المختلف عن جماعة ، مع احتماله أو ظهوره في إرادة البينة على كون الكاتب من القاضي فينفذون ما فيه حينئذ ، وهو غير المفروض.

نعم يتجه على الأصحاب أن الموافق لعموم حجية البينة وما ذكروه من الأدلة عدم اعتبار حضورها مجلس الخصومة وسماعها شهادة الشاهدين وإنشاء الحكم من الحاكم وإشهادها على ذلك ، إذ ليس هي حينئذ إلا كباقي البينات التي لا ريب في حجيتها في الإخبارات والإنشاءات من دون‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٣٠٨

اعتبار شي‌ء من ذلك ، ويمكن إرادة الأصحاب من ذلك الاستظهار والاحتياط في المشهود به لا الشرطية ، كما أومأ إليه المصنف بقوله : « وأتم ذلك » إلى آخره.

بل في كشف اللثام التصريح بعدم اعتبار الاشهاد ، وأنه ذكره الفاضل للاحتياط ، كما أن في غيره التصريح بعدم اعتبار حضور المخاصمة وسماع شهادة الشاهدين ، بل لعل ذلك أيضا ظاهر المحكي عن ابن حمزة وغيره ممن أطلق قبول البينة هنا على الحكم.

ومن ذلك يظهر لك النظر في جملة من الكلمات ، خصوصا ما أطنب به في الرياض من تأصيل أصل هنا مقطوع بالعمومات ، وقد بنى عليه كثيرا من مسائل هذا الفصل ، فلاحظ وتأمل ، وربما نشير إلى بعض ذلك فيما يأتي إنشاء الله.

وحاصله « أن قضاء التنفيذ قسم آخر من القضاء غير أصل القضاء بالواقعة بموازينها المقررة شرعا ، وهي البينة والأيمان ، بخلاف الحكم بحكم الأول الذي هو من القول بغير علم ، بل لعله مناف لرأي الحاكم الآخر ، وأقصى ذلك عدم جواز نقضه ، لا تنفيذه بمعنى إنشاء حكم منه على المحكوم عليه أولا بحكم الأول حتى لو كان حاضر الإنشاء فضلا عن ثبوته بالكتاب أو الاخبار أو البينة إلا أنه خرج ما خرج بالإجماع ، ويبقى غيره على الأصل ».

وفيه أنه يمكن استفادة قضاء التنفيذ من أدلة أصل القضاء التي‌ منها « جعلته حاكما وحجة كما أنا حجة » (١) ونحو ذلك مما يشمل القضاء التنفيذي أيضا.

واحتمال كون المراد من ذلك عدم نقضه لا إنشاء إلزام بإلزام الأول‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١ و ٩. وهو نقل بالمعنى.

٣٠٩

من حيث إلزامه يدفعه ما سمعته من الأدلة الدالة على مشروعيته ، مضافا إلى إطلاق كونه حاكما وحجة المقتضي لتناول ذلك لو صدر منه ، فتأمل جيدا ، فإن المسألة غامضة ولم أجد من نقحها كما ذكرنا. بل ستسمع كلام بعض أن الإنفاذ ليس حكما ، بل هو إقرار الحكم ، والتحقيق ما عرفت.

وحينئذ ينبغي لحاكم التنفيذ عدم الحكم حتى يطلبه منه من له الحكم بناء على اعتبار مثل ذلك في أصل الحكم ، كما أنه ينبغي ملاحظة تسلسل حكام الإنفاذ وما لذلك من الأحكام التي ستسمع بعضها في حاكم الأصل بالنسبة إلى عروض الجنون والفسق والعزل ونحو ذلك ، والله العالم.

وكيف كان فقد أشار المصنف إلى دليل الخصم إن كان بقوله : ( لا يقال فتوى الأصحاب أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض ولا العمل به ) وهو بإطلاقه شامل لمحل النزاع‌ ( و ) رواية طلحة بن زيد (١) والسكوني (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أن عليا عليه‌السلام كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض في حد ولا غيره حتى وليت بنوا أمية فأجازوا بالبينات » ( لأنا نجيب عن الأول بمنع دعوى الإجماع على خلاف موضع النزاع ) بل قد عرفت أن الخلاف في ذلك بيننا غير محقق ، ومنه حينئذ يعلم عدم إرادة هذا الفرد من الإطلاق المزبور الممكن دعوى انسياق غيره منه ، بل لعله الظاهر منه ، وذلك ( لأن المنع من العمل بكتاب قاض إلى قاض ليس منعا من العمل بحكم الحاكم مع ثبوته ) بالبينة على الوجه المفروض ، ضرورة كون المراد من العمل بالكتاب من حيث كونه كتابا ( ونحن نقول ) بذلك ( فـ ) ـانك قد عرفت أنه ( لا عبرة عندنا بالكتاب مختوما كان أو مفتوحا ) خلافا لبعض العامة.

( و ) ربما يؤيد ذلك أنه ( إلى جواز ما ذكرناه أومأ ) ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٨ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٣١٠

غير واحد منهم ( الشيخ أبو جعفر رحمه‌الله في الخلاف ) مصرحا بالقبول في الفرض المزبور مع التصريح بعدم جواز العمل بكتابة قاض إلى قاض ، وما ذاك إلا لأنه ليس منه ، كما هو واضح.

( ونجيب عن الرواية بالطعن في السند ، فإن طلحة بتري ) وهم فرقة من الزيدية ، وعن الفهرست والنجاشي أنه عامي ( و ) أما ( السكوني ) فهو مشهور الحال وأنه ( عامي ) ولا جابر لهما في خصوص المفروض ، بل الموهن محقق ، وشهرة مضمونها في غير المفروض لا يقتضي جبرها فيه.

( ومع تسليمها نقول بموجبها ، فانا لا نعمل بالكتاب ) من حيث إنه كتاب ( أصلا ولو شهد به ) أنه كتاب القاضي شاهدان فصاعدا ، وهو المراد من‌ قوله عليه‌السلام في ذيله : « فأجازوا بالبينات » حتى يوافق صدره الذي منعه علي عليه‌السلام لا أن المراد عدم جواز العمل بالبينة على الحكم الموافقة لما في الكتاب ، فإنه لم يحك عن علي عليه‌السلام منعه.

( و ) حينئذ ( كان الكتاب ) من حيث كونه كتابا ( ملغى ) عندنا ، وإنما عملنا بشهادة العدلين على حصول إنشاء الحكم وإن كتبه القاضي في كتابه ، بل قد يقال فيما ذكرناه نحن أيضا من العمل بالكتاب على الوجه المزبور : ليس عملا به من حيث كونه كتابا ، بل هو في الحقيقة عمل بالمعلوم من قصده إرادة ما دل على رسمها مما هو معلوم بالسيرة القطعية أن له حكم القول في ذلك ، وأنه بمنزلة إخباره الذي ستعرف البحث فيه.

هذا وفي المسالك « أنه أجاب في المختلف عن ضعف الروايتين بأنهما من المشاهير ، فلا يضر هذا الطعن في الراوي ، وهو يرجع إلى‌

٣١١

جبر الشهرة للضعف ، وقد تكلمنا عليه غير مرة ، واحتج على المنع أيضا بالإجماع على الحكم بالبينة واليمين ، وليس هذا أحدهما ، وجوابه أن هذا ليس حكما ، وإنما هو إقرار للحكم على حاله ، وهو معنى إنفاذه وعلى تقدير تسليمه فهو حكم بالبينة أيضا ، فلا ينافي الإجماع المدعى ، ولو سلم عدم كونه حكما بها منعنا الإجماع المذكور ، فان القول بجواز إنفاذ الحكم على هذا الوجه مذهب أكثر علماء الإسلام ، ومنهم جملة الأصحاب سيما المتأخرين ».

قلت : فيما حضرني من المختلف ذكر ذلك في مقام الرد على ابن الجنيد القائل بجواز العمل بالكتابة ، لا فيما نحن فيه ، فيمكن أن يكون قدسها نظره الشريف عن ذلك ، فظن فيما نحن فيه ، وإلا فهو موافق لجواز الحكم بالبينة على الوجه المزبور ، فتدبر.

وعلى كل حال ( إذا عرفت هذا ف ) اعلم أن ( العمل بذلك مقصور على حقوق الناس دون الحدود وغيرها من حقوق الله ) تعالى بلا خلاف أجده فيه ، بل حكى الإجماع عليه غير واحد ، بل قد يشهد له التتبع ، وهو حجة لا ما ذكروه من درء الحدود بالشبهات التي لا محل لها بعد قيام البينات.

اللهم إلا أن يقال : إن الشبهة حاصلة للحاكم الآخر حتى لو سمع إنشاء حكمه فضلا عن الشهادة به ، فلا يشرع قضاء التنفيذ في الحد ، للشبهة التي يسقط بها الحد المبني على التخفيف ، ولكن إن لم يكن إجماع فللنظر فيه مجال ، وعليه فالظاهر عدم مشروعية خصوص قضاء التنفيذ ، أما التنفيذ من باب الأمر بالمعروف ووجوب طاعة الحاكم وأنه حجة الله على الناس فالظاهر ثبوته ، بل للحاكم الآخر استيفاء الحد بأمر الحاكم الأول كغيره ممن يأمره ، كما أن له جميع مراتب الأمر بالمعروف ، فمن‌

٣١٢

حكم عليه حاكم آخر بالحد فله حبسه مع امتناعه ليتمكن الحاكم عليه بالحد منه ونحو ذلك ، فتأمل جيدا فإن المسألة غير محررة.

( و ) على كل حال فـ ( ـما ينتهي إلى الحاكم أمران : أحدهما حكم وقع بين المتخاصمين ، والثاني ) حكم وقع منه بعد ( إثبات دعوى مدع على الغائب ، أما الأول فإن حضر شاهدا الإنهاء خصومة الخصمين وسمعا ما حكم به الحاكم وأشهدهما على حكمه ثم شهدا بالحكم عند الآخر ثبت بشهادتهما حكم ذلك الحاكم وأنفذ ما ثبت عنده ) كما عرفت التفصيل في ذلك ، وأن التحقيق عدم اشتراط حضورهما مجلس الخصومة وسماعهما شهادة الشهود إن كانوا ، بل ولا إشهاده ويكفي فيهما حضور إنشاء حكومة الحاكم على وجه علما ذلك منه نحو باقي أفراد الإنشاء ، وحينئذ ينفذه الحاكم الآخر بل الحاكم نفسه لو فرض نسيانه ( لا أنه يحكم بصحة الحكم في نفس الأمر ) كما صرح به في القواعد وغيرها ( إذ لا علم له به ) وربما كان مبناه مخالفا لرأيه.

( بل الفائدة فيه قطع خصومة المختصمين لو عاودا المنازعة في تلك الواقعة ) وإن كان قد يتوهم أن له الحكم بثبوت الحق على نحو ما يحكم به بالبينة ، لأنه أحد الطرق المثبتة للحق ما لم يعلم خطأه ، بل أدلته بالنسبة إلى ذلك أقوى من أدلة البينة ، فله الحكم به بعد ثبوته عنده ، بل يمكن إرادة هذا المعنى من الإنفاذ المزبور ، وذلك لأن الفرض وقوع الفصل في الخصومة من الحاكم الآخر ، فلا يتصور لها فصل آخر على نحو الفصل الأول ، فليس حينئذ إلا الحكم بمعنى إنفاذ الحكم الأول على الوجه المزبور وإلا فالفائدة المزبورة موجودة في الحكم الأول أيضا.

إلا أن ذلك كله كما ترى ، ضرورة كون الحكم من الحاكم مجرد إلزام للخصم بالحق وفصل بينهما ، لا أنه هو دليل الحق كما أوضحنا ذلك‌

٣١٣

سابقا ، فالانفاذ حينئذ ليس إلا إلزام من الحاكم الثاني بما ألزمه به الحاكم الأول من حيث كونه حكم حاكم يجب طاعته ولا يجوز نقضه ، وقد تقدم بعض الكلام فيما له تعلق في المقام في المسألة الثالثة بعد ذكر الآداب فلاحظ ( و ) تأمل.

هذا كله مع حضور شاهدي الإنهاء إنشاء الحكم من الأول فـ ( ـان لم يحضرا الخصومة فحكى لهما الواقعة وصورة الحكم وسمى المتحاكمين بأسمائهما وآبائهما وصفاتهما وأشهدهما على الحكم ففيه تردد ) فضلا عن أدنى ذلك من الصور من أن إخباره بذلك بمنزلة شاهد واحد على صدور إنشاء الحكم ، وليس هو إقرارا ، لأنه في حق الغير ، ومن إطلاق ما دل على كونه حاكما (١) والنهي عن الرد عليه (٢) وأنه حجة (٣) في ذلك إخبارا وإنشاء.

( و ) لكن ( القبول أولى ) وفاقا للأكثر ، بل لم أجد فيه خلافا سوى ما يحكى عن الشيخ في الخلاف ، بل قيل : إن ظاهره دعوى الإجماع عليه ، إلا أني لم أجد من وافقه عليه سوى بعض متأخري المتأخرين ، بناء منهم على أن الأصل يقتضي عدم جواز الإنفاذ في غير صورة القطع ، لأنه قول بغير علم ، خرج ما خرج وبقي ما بقي.

ودعوى أولوية الفرض مما قام على إنشائه شاهدان عدلان ممنوعة ، إذ ليس الحاكم إلا عدل واحد. وفيه أن مشاهدتهما لإنشاء حكمه إنما هو من حيث قرائن الأحوال على ذلك ، وليست هي أولى من إخباره به ، على أنه شي‌ء لا يعلم إلا من قبله ، فيكون مصدقا فيه وإن تعلق به حق الغير.

بل لا يبعد استفادة حجية إخباره به مما دل على حجية إنشائه ، بل هو مقتضى‌ قوله عليه‌السلام : « هو حجتي عليكم » (٤) وان‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٩.

(٤) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٩.

٣١٤

الراد عليه راد علينا (١) بل قد يقال : إن كل من جعل حجة في شي‌ء كان إخباره به مصدقا فيه تعلق بالغير أو لا.

ولعله إلى ذلك أشار المصنف بقوله ( لأن حكمه كما كان ماضيا كان إخباره ماضيا ) وبذلك ينقطع الأصل المزبور ، هذا كله مع فرض إرادته الاخبار بذلك ، أما إذا حكي حال الخصومة وقصد الإنشاء فعلا للإشهاد بناء على صحة ذلك منه فلا ينبغي التوقف فيه ، إذ تلك المقدمات يكفي فيها إخباره ، لأن احتمال اعتبار التعدد فيها لأنها من مواضع الشهادة يمكن منعه.

( وأما الثاني وهو إثبات دعوى المدعي ) على غائب ( فـ ) ـالكلام فيها كالسابقة إلا أن الفرق بينهما حضور الخصمين في الأول دون الثاني ، وحينئذ إذا أردت تصويره كالأول الذي قد عرفت الحال في اعتبار ما ذكر شرطا فيه قلت ( إن حضر الشاهدان الدعوى وإقامة الشهادة والحكم بما شهد به ) الشاهدان مثلا ( وأشهدهما على نفسه بالحكم وشهدا بذلك عند الآخر قبلهما وأنفذ الحكم ) على حسب حاله الذي لا يمنع كون الغائب على حجته.

وإن أردت تصوير صورة الاخبار قلت ( ولو لم يحضرا الواقعة وأشهدهما بما صورته أن فلان بن فلان الفلاني ادعى على فلان بن فلان الفلاني كذا وشهد له بدعواه فلان وفلان ويذكر عدالتهما أو تزكيتهما فحكمت وأمضيت ففي الحكم به تردد ) على نحو ما عرفته في المسألة السابقة ( مع أن القبول أرجح خصوصا مع إحضار الكتاب المتضمن للدعوى وشهادة الشهود ) لتأكد أخباره بذلك ، وقد عرفت أن الأقوى قبول إخباره بحكمه للمدعي على فلان الغائب أو الحاضر في كذا من دون ذكر شي‌ء‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١.

٣١٥

من ذلك ، وكذا الكلام في الشهادة على إنشاء الحكم من دون هذه الأمور ، لعموم الأدلة وإطلاقها كما عرفت. نعم ينبغي ضبط أسماء الشهود ليتمكن الخصم من الجرح ونحوه ، وكذا غير ذلك مما له مدخلية في بقاء الخصم على حجته ، هذا كله في الحكم.

( أما لو أخبر ) الحاكم الأول مثلا ( حاكما آخر بأنه ثبت عنده كذا لم يحكم به الثاني ) لأن الثبوت ليس حكما كي يندرج في أدلة الإنفاذ ( وليس كذلك لو قال : حكمت فـ ) ـانه يندرج في أدلة الإنفاذ كما عرفت إلا ( أن في ) ثبوت حكم ( ه‍ ) باخباره ( ترددا ) قد عرفت الكلام فيه وأن القبول أرجح.

هذا ولكن في المسالك ما يظهر منه أن وجه التردد غير ذلك قال : « قد ظهر من الأدلة المجوزة لقبول إنفاذ الحكم أن موردها الضرورة إلى ذلك في البلاد المتباعدة عن الحاكم الأول ، فذهب بعض الأصحاب إلى اختصاص الحكم بما إذا كان بين الحاكمين وساطة ، وهم الشهود على حكم الأول ، فلو كان الحاكمان مجتمعين وأشهد أحدهما الآخر على ذلك لم يصح إنفاذه ، لأن هذا ليس من محل الضرورة المسوغة للإنفاذ المخالف للأصل ».

وفيه أن ذلك ليس قولا لأحد من أصحابنا ، ولم نعرف أحدا حكاه غيره ، والضرورة المذكورة في الدليل إنما هي حكمة أصل المشروعية للإنفاذ ، لا أنها علته ، على أنها قد تتحقق فيه لقطع الخصومة مع عدم التباعد.

وحينئذ فلا إشكال في إنفاذه له مع فرض حضوره الإنشاء ، ضرورة كونه أقوى من إثباته له بالبينة ، كما أنه لا إشكال في إنفاذه له باخباره بناء على ثبوته بذلك ، إذ هو أقوى من ثبوت إخباره بالبينة قطعا.

وحينئذ فالتردد في أصل ثبوت الإنشاء باخباره ، وهو الذي قد ذكر‌

٣١٦

المصنف في صدر المبحث وحكى عن الشيخ في الخلاف المنع ، والوجه ثبوته به ، سواء شافعه الحاكم الثاني به أو ثبت بالبينة أخباره بذلك ، لظهور الأدلة في قبوله مخبرا ومنشئا.

وعلى كل حال فالفرق بين الثبوت والحكم واضح ، ضرورة عدم جواز الحكم من حاكم بالثبوت عند غيره ، وليس هو حكما حتى يجب عليه إنفاذه ، كما هو واضح ، والله العالم.

( و ) كيف كان فـ ( ـصورة الإنهاء ) بالبينة وإن كان قد عرفت عدم اعتبار جملة من ذلك فيها ( أن يقص الشاهدان ما شاهداه من الواقعة وما سمعاه من لفظ الحاكم ويقولا : وأشهدنا على نفسه أنه حكم بذلك وأمضاه ، ولو أحالا على الكتاب بعد قراءته ) عليهما ( فقالا : ) ( أشهدنا الحاكم أنه حكم بذلك جاز ) لأنها شهادة على أمر مفصل معلوم بالقراءة عليهما. وبالجملة فالأمر في هذه الشهادة كغيرها من الشهادات ( و ) من هنا كان ( لا بد ) فيها ( من ضبط الشي‌ء المشهود به بما يرفع الجهالة عنه ).

( و ) حينئذ فـ ( ـلو اشتبه على الثاني ) لعدم ضبط الشهود له بما ترفع الجهالة عنه ( أوقف الحكم حتى يوضحه المدعي ) بطريق شرعي كشهادة غير الأولين على تفصيله أو تذكرهما أو نحو ذلك ، كما هو واضح.

( ولو تغير حال ) الحاكم ( الأول ) بعد حكمه ( بموت أو عزل لم يقدح ذلك في العمل بحكمه ) بلا خلاف أجده فيه للأصل ( و ) إطلاق الأدلة فـ ( ـان تغير بفسق لم يعمل بحكمه ) كما في القواعد والإرشاد والدروس والمسالك وغيرها ، بل في الأخير « فرقوا بينه وبين الموت بأن ظهور الفسق يشعر بالخبث وقيام الفسق يوم الحكم » ‌

٣١٧

وظاهره النسبة إليهم ، إلا أنه لا يخفى عليك ضعف الفرق المزبور ، ولذا نظر فيه في المسالك بعد حكايته ، ثم حكى عن بعض العامة جواز إنفاذه كالموت ، قال : « وأما الإنفاذ السابق على ظهور الفسق فيقر عليه كأصل الحكم ».

وإليه أشار المصنف بقوله ( ويقر ما سبق إنفاذه على زمان فسقه ) وكذا الفاضل في القواعد والإرشاد ، ويرجع حاصله ـ بناء على أن المراد العمل بأصل الحكم لا خصوص إنفاذه ، كما عساه يظهر من المتن بل والمسالك وغيرها ـ إلى أن الحكم قبل الفسق إن أنفذه حاكم آخر قبل الفسق عمل به وإلا فلا ، إلا أنه لا نعرف له دليلا يقطع العذر ، وإن كان قد يقال : إنه مع حكم الآخر بإنفاذه يكون العمل في الحقيقة بحكم الثاني ، فلا يقدح فسق الأول بخلاف الفسق قبل الإنفاذ ، كما أنه قد يقال : إن مراد الأصحاب اشتراط حكم الثاني بإنفاذه ببقاء الأول على وصف العدالة لا بطلان حكم الأول بتجدد الفسق على وجه تعود الدعوى كما كانت قبل الحكم ، ضرورة منافاة ذلك لجميع الأدلة ، بخلاف ما ذكرناه ، فإنه قد يكون وجهه أصالة عدم نفوذ الحكم بالإنفاذ ، بل هو حينئذ كفسق الشاهد بعد الشهادة قبل الحكم ، وحينئذ يكون الفسق مانعا من الحكم بإنفاذه بخلاف الموت المقتضي لخروج الموضوع عن قابليته ، فلا إسناد للحكم إليه ، أما الفسق فهو حكم فاسق فعلا.

وعلى كل حال فالمراد الحكم بإنفاذه وعدمه ، لا أصل العمل بحكمه في خصوص ما حكم به ، وإلا لاقتضى ذلك بطلان ما وقع من العمل بفتاواه الذي هو أولى بذلك من الحكم ، وهو معلوم البطلان.

ولكن الإنصاف أنه خلاف ظاهر العبارات ، بل لا وجه له أيضا ، ضرورة التلازم بين صحته في نفسه وبين إنفاذه ، فلا معنى لكونه‌

٣١٨

صحيحا يجب إنفاذه بمقتضى الأمر بالمعروف ولكن لا يجوز الحكم بإنفاذه ، فلا محيص عن القول بكون المراد بطلان العمل به على معنى عود الدعوى كما كانت قبله ، كما لا بعد في التزام ذلك في الفتوى أيضا ، على معنى عدم جواز العمل بها في الزمان المتأخر عن الفسق ، أما ما مضى فلا ينقض العمل الواقع بها.

بل لعل الأمر في الحكم كذلك أيضا ، على معنى أنه إن عمل به بعد صدوره وأخذ الحق ممن عليه ودفع لمستحقه وتمت آثاره لم ينقض لوقوع الفسق بعده ، وهو المراد من إقرار ما سبق إنفاذه على زمان فسقه بل لا موضوع لعدم العمل به ، بخلاف ما إذا لم يعمل به بعد ، بأن صدر من الحاكم ثم لم ينفذ بعد بالمعنى الذي سمعت ففسق ، فإنه لا يجوز إنفاذه فيه ولا في غيره ، من غير فرق بين القضاء بالنفوذ وبين ترتب الآثار عليه.

ويمكن استفادة بعض ما ذكرناه من‌ خبر الحسين بن روح المروي عن كتاب الغيبة للشيخ عن أبي محمد الحسن بن علي عليهما‌السلام (١) « أنه سئل عن كتب بني فضال ، فقال : خذوا بما رووا وذروا ما رأوا » بناء على إرادة الفتوى من الرأي فيه لا الوقف.

بل منه يستفاد أن الفتوى المعمول بها يبطل العمل بها من حين الفسق وما تأخر عنه في الزمان المستقبل فيما تجدد من أفرادها من الصلاة ونحوها ، دون ما تقدمها من ذلك المبني على أصل الصحة والبراءة وغيرهما من قاعدة الاجزاء ونحوها ، بل ليس هو مصداقا لقوله عليه‌السلام : « ذروا ».

ولو فسق قاضي التنفيذ قبل العمل لم يعمل على حكمه ، وبقي الحكم الأول كما إذا لم يحكم بإنفاذه.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب صفات القاضي الحديث ٧٩.

٣١٩

وبذلك كله ظهر لك المراد من عدم العمل بالحكم بعد الفسق قبل النفوذ ، ومن إقراره مع سبق نفوذه على الفسق ، بل ظهر لك ذلك في الفتوى.

بل قد يشكل أصل العمل بالحكم من الحاكم الذي حكم حاكم آخر بإنفاذه مع الفسق من الأول بعد الإنفاذ بأن مقتضاه بطلان الحكم الأول بالفسق المتأخر عنه ، وتبعية بطلان التنفيذ الذي هو تابع لصحة الأول.

اللهم إلا أن يقال بعدم تأثير الفسق في الأول مع سبق الحكم بالإنفاذ ، ضرورة اقتضاء الفسق البطلان من حينه لا من الأصل ، ولا وجه له بعد الحكم بصحته من الحاكم الذي لم يصدر ما يقتضي بطلان حكمه ، فيبقى على أصل الصحة المقتضي للعمل بالحكم الأول ، هذا كله في الفسق.

أما غيره من العوارض كالجنون والموت ونحوهما فالأصل يقتضي بقاء حكمه على الصحة المقتضي لتنفيذه بالمعنيين ، بل قد يستفاد من ذلك حكم فتواه أيضا الذي قلد ببعض أفرادها ، ضرورة تضمن الحكم للفتوى المفروض عدم انتقاضها أيضا بذلك ولو للأصل المزبور الذي لم يدل دليل على اشتراط أضدادها حين العمل بما يتجدد من أفراد الفتوى السابقة التي فرض التقليد فيها ، نعم الظاهر الإجماع على عدم جواز العمل ابتداء بفتاوى الأموات ، أما غير ذلك فلم يثبت.

بل يتجه حينئذ جواز العمل بفتوى من عرض له الجنون مثلا ابتداء مع عدم الإجماع فضلا عن الاستدامة ، ضرورة كون المستفاد من الأدلة اعتبار هذه الشرائط في حصول الفتوى ، بمعنى صدورها حال كونه عاقلا مثلا ، لا أنه يعتبر حال العمل بها كونه كذلك ، بل لعل ملكة الاجتهاد كذلك أيضا على إشكال ، ولكن الاحتياط طريق النجاة.

وبذلك يظهر لك النظر في كلام الكركي في كتاب الأمر بالمعروف‌

٣٢٠