جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

لم يتعرض لجحوده سمعت » بل عن التحرير الجزم بعدم سماع بينته إلا لأخذ المال لو اعترف باعترافه ، ومرجعه إلى اشتراط ادعاء الجحود إذا طلب الحكم دون المال ، والتردد إذا لم يتعرض لجحوده من اشتراط سماعها به ولم يعلم ، ومن تنزل الغيبة منزلة السكوت النازل منزلة الجحود ، لاحتماله الجحود في الغيبة وإن لا يقدر بعد على الإثبات إذا ظهر الجحود.

ولكن لا يخفى عليك إطلاق النص والفتوى ومعقد الإجماع ، وما في الخبرين من أنه على حجته إذا قدم لا يقتضي اشتراط دعوى جحوده في الحكم ، نعم قد يتوقف في صورة العلم باعترافه بناء على اشتراط الخصومة في مطلق القضاء على الحاضر ، وقد عرفت الكلام فيه سابقا والمتيقن من الخبرين غير المفروض ، نعم لا إشكال في تناولهما غير معلوم الحال ، كما هو واضح.

المسألة ( الأولى : )

( يقضى على من غاب عن مجلس القضاء مطلقا مسافرا ) كان بلا خلاف أجده فيه ولو دون المسافة ، إلا ما يحكى عن يحيى بن سعيد فاعتبرها ، وإطلاق النص والفتوى حجة عليه ، بل وإطلاق الأمر (١) بالحكم بالبينات وبالقسط والعدل ونحو ذلك مع عدم الضرر على المحكوم عليه بعد أن كان هو على حجته ، ودعوى انسياق بلوغ المسافة من الغائب ممنوعة.

بل مقتضى ما سمعت جواز الحكم عليه ( و ) إن كان ( حاضرا ) ‌

__________________

(١) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٥٨ وسورة المائدة ٥ الآية ٤٢ وسورة ص : ٣٨ الآية ٢٦.

والوسائل الباب ـ ١ و ٢ ـ من أبواب كيفية الحكم.

٢٢١

لم يتعذر عليه الحضور نحو سماع البينة عليه بعد المرافعة وإن لم يكن حاضرا عند الشهادة بلا خلاف أجده فيه ، نعم لو كان في المجلس لم يقض عليه إلا بعد علمه كما في الدروس.

( وقيل ) كما عن المبسوط وتعليق الإرشاد ( يعتبر في الحاضر تعذر حضوره مجلس الحكم ) اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن الذي هو محل ضرورة.

وفيه أن الأصل مقطوع بما عرفت ، وما في الخبرين (١) من أنه على حجته إذا قدم لا يقتضي اختصاص الغائب بذلك ، على أن الخصم قد سلم شموله للحاضر المتعذر عليه الحضور ، مضافا إلى ما سمعته من خبر أبى سفيان (٢) بناء على أنه من الحكم عليه بما سمعت ، وقد قيل : إنه كان حاضرا بمكة وكذا خبر أبى موسى الأشعري (٣) بل وصحيح زرارة (٤) كل ذلك مع الانجبار بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا ، بل لعلها كذلك بناء على عدم قدح مثل الخلاف المزبور فيه ، والله العالم.

المسألة ( الثانية : )

( يقضى على الغائب في حقوق الناس كالديون والعقود ) والإيقاعات والأحكام وغيرها لأنها مبنية على الاحتياط مضافا إلى ما سمعت.

( ولا يقضى ) عليه ( في حقوق الله تعالى ك‍ ) الحد المترتب على ( الزنا واللواط ، لأنها مبنية على التخفيف ) لغنائه عنها ، ولذا درئت بالشبهة التي يكفي فيها احتمال أن للغائب حجة تفسد الحجة التي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٢) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٤١.

(٣) كنز العمال ـ ج ٥ ص ٥٠٧ ـ الطبع الحديث.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

٢٢٢

قامت عليه بها بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل نسبه غير واحد إلى فتوى الأصحاب.

( و ) حينئذ فـ ( ـلو اشتمل الحكم ) المدعى به ( على الحقين ) المعينين ( قضى بما يخص الناس ) دون حق الله ، وذلك ( كالسرقة ) تقوم بها البينة على الغائب فـ ( ـيقضى ) بها ( بالغرم ) دون القطع ، لما عرفت. ولكن في المتن ( وفي القضاء بالقطع تردد ) لأنهما معلولا علة واحدة ، فلا وجه لتبعيض مقتضاها ، ولم نجده لغيره ، بل هو مناف لجزمه السابق إن كان المراد من إطلاقه ما يشمل المقام.

بل في المسالك « أن باقي الأصحاب قطعوا بالفرق وانتفاء القطع نظرا إلى وجود المانع من الحكم في أحدهما دون الآخر ، وتخلف أحد المعلولين لمانع واقع كثيرا ، ومنه في هذا المثال لو أقر بالسرقة مرة ، فإنه يثبت عليه المال دون القطع ، ولو كان المقر مجحودا عليه في المال ثبت الحكم في القطع دون المال ، والأصل فيه أن هذه ليست عللا حقيقة ، وإنما هي معرفات الأحكام ».

وربما نوقش بأنها وإن كانت معرفات إلا أنها يجري عليها حكم العلل التامة ، وعلى ذلك مبنى حجية منصوص العلة ، والتخلف في المثال المزبور باعتبار حصول العلة الشرعية في ثبوت أحدهما دون الآخر المفروض فيه اعتبار الحضور مع البينة وتعدد الإقرار ، كما أنه علة تامة في المال الموجود مع صدوره من غير المحجور عليه فيه.

وبالجملة لا فرق بين العلل الشرعية والعقلية بالنسبة إلى ذلك ، والاختلاف هنا لاختلاف العلل ، وهو جيد إن كان مرجعه إلى ما ذكرناه من درء الحد بالشبهة المتحققة في المقام. ومن هنا يتجه الاقتصار على‌

٢٢٣

عدم القضاء به خاصة ، أما الفسق ونحوه فهو ثابت وإن لم يكن من المال ، وإلا فلا يخفى عليك ما فيه ، ضرورة عدم دليل بالخصوص في اعتبار الحضور في القضاء بغير حقوق الناس في الغائب ، خصوصا بعد استدلال غير واحد منهم بالعموم الصالح لشمول الفرض ، فليس حينئذ إلا ما ذكرناه ، فتأمل جيدا.

المسألة ( الثالثة : )

( لو كان صاحب الحق غائبا ) وله وكيل ( فطالب الوكيل ) الغريم بما عليه ( فادعى الغريم التسليم إلى الموكل ولا بينة ) له ( ففي الإلزام ) له بالتسليم ( تردد بين الوقوف في الحكم ، لاحتمال الأداء ، وبين الحكم وإلغاء دعواه ، لأن التوقف يؤدي إلى تعذر طلب الحقوق بالوكلاء ، و ) لا ريب في أن ( الأول ) أي الإلزام بذلك ( أشبه ) بأصول المذهب وقواعده التي منها عدم دفع الحق المقطوع به شرعا بالمحتمل ، والتضرر مع أنه معارض باحتمال مثله أيضا لا يلتفت إليه بعد أن كان هو مقتضى ظاهر الشرع ، نعم قد يقال بلزوم التكفيل لو طلبه الدافع ، ضرورة مساواته لما في الخبرين (١) من التكفيل على المدعى على الغائب بعد إقامة البينة أو أولويته منه جمعا بين الحقين ورفعا للنزاع من البين ومصلحة للجانبين ، وحينئذ فإذا حضر الموكل أو أقيمت عليه البينة أو نكل عن اليمين استعيد المال وإلا فلا ، كما هو واضح.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٢٢٤

( المقصد الرابع )

( في كيفية الاستحلاف ، والبحث في أمور ثلاثة : )

( الأول في اليمين)

( و ) لا خلاف في أنه ( لا يستحلف أحد ) لإيجاب حق أو إسقاطه ( إلا بالله ) تعالى شأنه ( ولو كان كافرا ) بإنكار أصل واجب الوجود نعوذ بالله فضلا عن غيره ، بلا خلاف أجده في ذلك نصا وفتوى.

قال في محكي المبسوط : « وإن كان وثنيا معطلا أو كان ملحدا يجحد الوحدانية لم يغلظ عليه ، وعندي أن الوثني والملحد يستحلف بالذي يعبده ويعتقد أنه الخالق والرازق أو أنه الرازق ، اعتقد وحدته أو تعدده أو بإحدى العبارتين ، وإن قيل له إن الله هو الخالق الرازق واستحلف بالله ثانيا كان أولى ، واقتصر على قوله : والله ، فان قيل كيف حلفته بالله وليست عنده بيمين قلنا : ليزداد إثما ويستوجب العقوبة » انتهى.

وقال الصادق عليه‌السلام في صحيح سليمان بن خالد (١) وحسن الحلبي (٢) : « أهل الملل من اليهود والنصارى والمجوس لا يحلفون إلا بالله » وخبر سماعة (٣) « سأله هل يصلح لأحد أن يحلف أحدا من‌

__________________

(١) ليس لسليمان بن خالد في المقام خبر غير ما سيأتي نقله آنفا.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٣ واللفظ مصطاد من صحيحة سليمان بن خالد الآتي وحسن الحلبي.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من كتاب الايمان الحديث ٥.

٢٢٥

اليهود والنصارى والمجوس بآلهتهم؟ قال : لا يصلح لأحد أن يحلف إلا بالله تعالى » وقوله عليه‌السلام في صحيح سليمان بن خالد (١) « لا تحلفوا اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي بغير الله ، إن الله عز وجل يقول ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) » (٢) وفي خبر الجراح المدائني (٣) « اليهودي والنصراني والمجوسي لا تحلفوهم إلا بالله عز وجل ».

بل مقتضى الإطلاق ذلك وإن تراضي الخصمان على الحلف بغيره ، نعم ظاهر النص والفتوى عدم اعتبار إضافة شي‌ء من صفات الذات أو الأفعال إلى الاسم في ترتب الأثر.

( و ) لكن ( قيل ) والقائل الشيخ في المحكي من مبسوطه : ( لا يقتصر في المجوس على لفظ الجلالة ، بل يضم إلى هذه اللفظة الشريفة ما يزيل ) هذا ( الاحتمال ) كخالق الظلمة والنور كما في الدروس و « كل شي‌ء » كما في اللمعة ( لأنه سمى النور إلها ) فيحتمل إرادته من المعرف ، فلا يكون حالفا بالله تعالى شأنه ، وعن فخر المحققين الميل إليه ، لتوقف الجزم بالحلف منه على ذلك ، بل هو ظاهر الشهيد في الدروس أو صريحه وكذا اللمعة ، وهو مناف لما عرفت من الإطلاق المزبور ، واحتمال عدم قصده ذلك بل العلم به بعد أن كان الواجب عليه شرعا ذلك لا يقدح ، لأن المدار في ثبوت الأثر دنيا وآخرة على نية المحلف لا الحالف ، فلا يجديه قصده المزبور بعد أن يذكر له أن المراد منه شرعا الحلف بالله تعالى واجب الوجود ، على أن الإضافة المزبورة لا يقتضي قصده ذلك ، لأنه لا يعتقد كونهما مخلوقين له فلا إله عنده كذلك ، وكذا خالق كل شي‌ء.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من كتاب الأيمان الحديث ١.

(٢) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٤٨.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من كتاب الأيمان الحديث ٢.

٢٢٦

( و ) كيف كان فـ ( ـلا يجوز الإحلاف بغير أسماء الله سبحانه كالكتب المنزلة والرسل المعظمة والأماكن المشرفة ) ونحوها فضلا عن غيرها بلا خلاف أجده للنصوص المزبورة (١) والنبوي (٢) « لا تحلفوا إلا بالله » وصحيح ابن مسلم (٣) « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : قول الله : ( وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ) وما أشبه ذلك ، فقال : إن الله عز وجل أن يقسم من خلقه بما شاء ، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به » ونحوه‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي (٤) : « لا أرى أن يحلف الرجل إلا بالله » بل‌ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) « من حلف بغير الله فقد أشرك » وفي آخر (٦) « فقد كفر ».

بل ظاهر العبارة وغيرها ترتب الإثم بذلك زيادة على عدم انقطاع الدعوى ، بل كاد يكون صريح الدروس والروضة ، حيث قالا : « وفي تحريمه في غير الدعوى نظر ، من الخبر والحمل على الكراهة ، أما بالطلاق والعتاق والبراءة فحرام قطعا ».

وحينئذ فلا يجوز حتى مع التراضي به وان أدرجاه في عقد شرعي كالصلح ونحوه على معنى صلح المدعي عن حلف المنكر مثلا بالقسم بغير الله بإسقاط الدعوى ، ضرورة كونه في مقام الدعوى ، كالصلح عنه بالحلف بالطلاق الذي هو محرم في نفسه في غير الدعوى.

وفي التحرير « ولا يجوز الإحلاف بشي‌ء من ذلك ، لأنه بدعة ، وكذا لا يجوز بالقرآن ولا بالبراءة من الله تعالى ولا من رسوله (ص) ولا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٢ ـ من كتاب الأيمان.

(٢) المستدرك الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٦ وسنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٩.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٣.

(٤) الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٤.

(٥) المستدرك الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٢ وسنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٩.

(٦) المستدرك الباب ـ ٢٤ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٢ وسنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٩.

٢٢٧

من أحد من الأئمة عليهم‌السلام ولا من الكتب المنزلة ، ولا يجوز الحلف بالكفر ولا بالعتق ولا بالطلاق ».

لكن في المسالك والمراد بعدم الجواز هنا بالنظر إلى الاعتداد به في إثبات الحق ، أما جواز الحلف في نفسه بمعنى عدم الإثم به ففيه وجهان من إطلاق الأخبار النهي عنه المقتضى للتحريم ، ومن إمكان حمله على الكراهة » وتبعه في الكفاية ، بل ظاهره كون الوجهين في الإثم به في الدعوى وإن لم يترتب عليه أثر ، وهو غير ما سمعته من الدروس والروضة من كونهما في الحلف بغير الله تعالى في غير الدعوى الشامل للتأكيد في الاخبار عن شي‌ء فضلا عن غيره وإن كان الانصاف عدم وجه معتد به للتردد في ذلك ، خصوصا بعد السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار من العلماء والعوام من القسم بغير الله في نحو ذلك ، بل قوله تعالى ( جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ) (١) مشعر بوجود أيمان بغيره تعالى ، بل يخطر في بالي وجود القسم في النصوص (٢) بغير الله تعالى شأنه.

وفي محكي المبسوط أن الحلف بغيره تعالى مكروه ، وعن أبي علي لا بأس أن يحلف الإنسان بما عظم الله من الحقوق ، لأن ذلك من حقوق الله عز وجل كقوله : « وحق رسول الله » « وحق القرآن » ثم ذكر نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الحلف بغير الله وبالآباء (٣) واحتمل أن يكون ذلك لا شراك آبائهم.

( و ) على كل حال ففي المتن وغيره ( لو رأى الحاكم ) أن ( إحلاف الذمي بما يقتضيه دينه أردع جاز ) نعم في اللمعة والروضة إلا أن يشتمل على محرم ، كما لو اشتمل الحلف على الأب والابن تعالى الله‌

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٥٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٠ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٦ و ٧.

(٣) سنن البيهقي ـ ج ١٠ ص ٢٨ و ٢٩.

٢٢٨

عن ذلك ، ولعله لخبر السكوني (١) « أن أمير المؤمنين عليه‌السلام استحلف يهوديا بالتوراة التي أنزلت على موسى عليه‌السلام » ولكن مع ضعفه واحتمال اختصاص ذلك بالإمام عليه‌السلام كما عن الشيخ في التهذيب أو بواقعة خاصة ، أو الحلف بمن أنزلها عليه أو الغلظ بذلك مع الحلف بالله لا تصلح معارضة (٢) للنصوص السابقة في ذلك ، فضلا عن التعدية من مضمونها إلى غيره ، على أنها لو صلحت لإثبات ذلك لم يختص بما إذا رآه الحاكم ، بل لو اقترحه المدعي أجيب إليه.

وأما‌ صحيح ابن مسلم (٣) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن الأحكام ، فقال : في كل دين ما يستحلفون به » وعن بعض النسخ « ما يستحلون به » وعلى التقديرين فهو مجرد إخبار عن شرائعهم ، لا أن المراد منه جواز الحلف بغير الله كي ينافي النصوص السابقة ، وكذا‌ خبر محمد بن قيس (٤) قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : قضى علي عليه‌السلام في من استحلف أهل الكتاب بيمين صبر أن يستحلفه بكتابه وملته » بناء على اختصاصه بالإمام عليه‌السلام إذا علم أن ذلك أردع لهم كما عن الشيخ ، بل ربما احتمل كون المجرورين في « كتابه » و « ملته » راجعين إلى من استحلف ، فتوافق الأخبار السابقة.

( و ) على كل حال ( يستحب للحاكم تقديم العظة على اليمين والتخويف من عاقبتها ) بذكر ما ورد من ذلك له من الترغيب في الترك والتخويف من الفعل ، وأنها إذا وقعت كاذبة تدع الديار بلاقع (٥) وأنه مبارز لله تعالى (٦) ويخشى عليه من انقطاع النسل والفقر في عقبه (٧)

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢ ٣ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٤.

(٢) هكذا في النسخة الأصلية ، والصحيح « لا يصلح معارضا » وكذلك الضمائر التي تليه فإنها ترجع الى خبر السكوني.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢ ٣ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٧.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢ ٣ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٨.

(٥) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ١٢.

(٦) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٤.

(٧) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ١ و ٧.

٢٢٩

بل في بعض النصوص (١) أن الحالف بالله صادقا آثم إلى غير ذلك مما ورد (٢) من التوعد على وقوعها كاذبا والترغيب في تركها تعظيما (٣) لله ، كما‌ روي (٤) « أن حضرميا ادعى على كندي في أرض من اليمن أنه اغتصبها أبو الكندي فتهيأ الكندي لليمين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يقطع أحد مالا بيمين إلا لقي الله أجذم ، فقال الكندي : هي أرضه ».

( ويكفي أن يقول : والله ما له قبلي حق ) لإطلاق الأدلة ( و ) إن كان ( قد يغلظ اليمين بالقول والزمان والمكان لكن ذلك غير لازم ولو التمسه المدعي ، بل هو مستحب ) لخصوص الحاكم ( استظهارا في الحكم ) خلافا لأبي حنيفة ، فلا يرى بالمكان تغليظا ، وللشافعي فيراه شرطا ، ولا يغلظ على المخدرة بحضور الجامع ونحوه ، وفاقا لمحكي النهاية والتحرير ، خلافا لما عن المبسوط من أنها كالبرزة ، ثم البرزة إن كانت طاهرة حضرت المسجد وإلا فعلى بابه.

وكيف كان فلا ينافي ذلك ما ستسمع من عدم وجوب ذلك على المدعي عليه ، بل ربما قيل برجحان اختياره لليمين المخففة ، وما عن بعض العامة من استحبابه للحالف واضح الضعف ، كوضوح ما عن آخر منهم من وجوب التغليظ إذا التمسه المدعي ، نعم قد يقال : إنه لا فائدة في رجحانه للحاكم بعد فرض عدم وجوب التزام الحالف به ، ويدفعه أن ذلك لا ينافي استحبابه له ، على أنه قد يعتبر به ، بل ربما كان له طريق إلى إلزامه ببعض أفراد التغليظ ، كما ستعرفه.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من كتاب الأيمان.

(٣) الوسائل الباب ـ ١ و ٣ ـ من كتاب الأيمان.

(٤) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٨٠.

٢٣٠

وكيف كان ( فالتغليظ بالقول مثل أن يقول : والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية ما لهذا المدعي علي شي‌ء مما ادعاه ).

( ويجوز التغليظ بغير هذه الألفاظ مما يراه الحاكم ) بحسب الأشخاص ، وستسمع ما كتبه أمير المؤمنين عليه‌السلام في يمين الأخرس (١)

وعنه عليه‌السلام (٢) « أحلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بأنه بري‌ء من حول الله وقوته ، فإنه إذا حلف فيها كاذبا عوجل ، وإذا حلف بالله الذي لا إله إلا هو لم يعاجل ، لأنه وحد الله سبحانه وتعالى ».

( وبالمكان كالمسجد والحرم وما شاكله من الأماكن المعظمة ) والحضرات المشرفة وغيرها ، وخصوصا منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعنه (ص) (٣) « من حلف على منبري هذا يمينا كاذبة تبوأ مقعده من النار » وفي آخر (٤) « لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار أو وجبت له النار » وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا (٥) « من حلف على منبري هذا يمينا كاذبة استحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ».

( وبالزمان كيوم الجمعة والعيد ) وشهر رمضان ( وغيرها من الأوقات المكرمة ) المشار إليها بقوله تعالى (٦) :

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٣ ـ من كتاب الأيمان الحديث ٢.

(٣) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٧٦.

(٤) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٧٦.

(٥) مجمع الزوائد : ج ٣ ص ٣٠٧.

(٦) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ١٠٦.

٢٣١

( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) المفسر بما بعد صلاة العصر ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) « ثلاثة لا ينظر الله إليهم ( يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) : رجل تابع إمامه فان أعطاه وفي له به ، وإن لم يعطه خانه ، ورجل حلف بعد العصر يمينا فاجرة ليقطع بها مال امرئ مسلم ... »

( ويغلظ على الكافر بالأماكن التي يعتقد شرفها والأزمان التي يرى حرمتها ) كالبيع والكنائس ، لما تسمعه من خبر الحسين بن علوان (٢) المؤيد بالاعتبار المشتمل على بيوت النار التي ربما احتمل عدم التغليظ فيها لعدم حرمتها عند الله ، بخلاف البيع والكنائس ، ولكن فيه أن العبرة ، ارتداع الحالف بما يعتقده معظما ، نعم ربما قيل : إنهم إنما يعظمون النار لا بيوتها ، إلا أن الظاهر خلافه ، ولعل من ذلك بيوت الأصنام للوثني ، لكن قيل : إنهم لم يعتبروها.

وكذا يغلظ عليه بالأقوال التي يرى حرمتها كالكلمات العشر ، وقد‌ روي (٣) « أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله حلف يهوديا بقوله : والله الذي أنزل التوراة على موسى » وفي آخر (٤) « أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لابن صوريا : أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون وأنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل في التوراة الرجم على من أحصن؟ ـ وفي آخر (٥) أنشدكم بالله الذي نجاكم من آل فرعون وأقطعكم البحر وظلل‌

__________________

(١) سنن البيهقي ج ١٠ ص ١٧٧ مع اختلاف يسير.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

(٣) سنن أبي داود ـ ج ٢ ص ٢٨١ ـ ط عام ١٣٧١.

(٤) مجمع البيان ذيل الآية ٤١ من سورة المائدة.

(٥) سنن أبي داود ـ ج ٢ ص ٢٨١ ـ ط عام ١٣٧١.

٢٣٢

عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى أتجدون في كتابكم الرجم؟ ـ فقال ابن صوريا : ذكرتني بعظيم لا يسعني أن أكذبك » إلى غير ذلك من أحوال التغليظ التي يراها الحاكم.

( ويستحب ) للحاكم ( التغليظ في الحقوق كلها وإن قلت ) استظهارا ( عدا المال فإنه لا يغلظ فيه بما دون نصاب القطع ) على المشهور ، كما في المسالك ، بل في الرياض نفي الخلاف فيه ، بل في كشف اللثام نسبته إلى قطع الأصحاب ، وأن في الخلاف الإجماع عليه ، وفي المبسوط أنه الذي رواه أصحابنا ، لكن في الأول « ذكروا أنه مروي وما وقفت على مستنده ، وللعامة اختلاف في تحديده بذلك أو بنصاب الزكاة وهو عشرون دينارا أو مأتا درهم ، وليس للجميع مرجع واضح ».

قلت : لعله ـ مضافا إلى ما سمعت ـ المرسل أو الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم (١) عنهما (ع) جميعا « لا يحلف أحد عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أقل مما يجب فيه القطع » بناء على قراءته بالتشديد وإرادة مطلق التغليظ من الحلف عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نعم لم نقف على عموم يقتضي استحبابه كذلك على كل أحد ، وإنما الذي وقفنا عليه التغليظ في واقعة الأخرس (٢) وفي يمين الاستظهار (٣) وخبر الحسين بن علوان (٤) المروي عن قرب الاسناد عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « أن عليا عليه‌السلام كان يستحلف اليهود والنصارى في بيعهم وكنائسهم والمجوس في بيوت نيرانهم ، ويقول :

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ٢.

٢٣٣

شددوا عليهم احتياطا للمسلمين » وما عساه يظهر من فحوى المرسل أو الصحيح المزبور.

( فرعان : )

( الأول : )

( لو امتنع عن الإجابة إلى التغليظ لم يجبر ، ولم يتحقق بامتناعه النكول ) بلا خلاف أجده فيه إلا عند من ستعرف ، للأصل بعد إطلاق ما دل على كون الواجب الحلف بالله من‌ قوله عليه‌السلام (١) : « من حلف بالله فليصدق ، ومن حلف له بالله فليرض ، ومن لم يرض فليس من الله » وغيره.

خلافا للمحكي عن بعض العامة من وجوب الإجابة عليه ، وتحقق النكول بالامتناع لو طلبه الحاكم منه ، ولعل وجهه أنه لا فائدة في استحبابه للحاكم مع فرض عدم وجوبه على المدعى عليه ، مضافا إلى استمرار السيرة على توجيه اليمين مغلظة على المنكر مثلا مع عدم إخباره بعدم وجوبه عليه وإجراء حكم النكول عليه مع احتمال كونه لتغليظه لا لأصله ، إلا أن ذلك كله كما ترى.

وعن آخر منهم تخصيصه بالتغليظ الزماني والمكاني دون القولي الذي هو من جنس المأتي به ، فلم يكن تركه مخالفا للحاكم بخلاف الآخرين ، وفيه أنه يمكن أن يكون الأمر بالعكس ، ضرورة تعدد أفراد اليمين ، فمتى وجه الحاكم أحدها جرى حكم النكول وغيره عليها ، ولذا حكم على الأخرس‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من كتاب الأيمان ـ الحديث ٣.

٢٣٤

بالامتناع من شربها وقد كانت مغلظة ، وقد تقدم الخبر (١) المتضمن ليمين الاستظهار مغلظة وأنه إن لم يحلف كذلك لا حق له ، بخلاف اقتراح الزمان والمكان ، اللهم إلا أن يكون من جهة جواز تأخير المدعي دعواه مثلا إلى الزمان المراد به ، وكذا المكان المزبور لو فرض اتفاق وجود المدعى عليه فيه ، أو استعدى الحاكم فيه وهو غير ما نحن فيه ، كما هو واضح.

لكن في كشف اللثام الموافقة على ذلك ، فلم يجوز الجبر في التغليظ القولي. قال : « أما بالزمان والمكان فيجبر عليهما ، فان اليمين حق للمدعي لا يحلف إلا إذا حلفه ، والمستحلف إنما هو الحاكم ، فأينما يحلفه وجب عليه الحلف ».

قال في المبسوط : « ولا يجلب إلى مكة أو المدينة ليستحلف ، بل يستحلفه الحاكم في الموضع الشريف في مكانه ، فان امتنع بجند أو بعز استحضره الامام ليستحلفه في المكان الأشرف ، اللهم إلا أن يكون بالقرب من موضعه ـ وقيل : بلد الامام ـ قاض يقدر عليه فيستحضره ذلك القاضي ، ويستحلفه في المكان الشريف ».

قلت : ولكن لا يخفى عليك أن هذا ونحوه ليس جبرا على التغليظ المفروض عدم وجوبه عليه من حيث كونه كذلك ، إلا أن الأمر سهل بعد وضوح المراد.

ولو ادعى العبد ـ وقيمته أقل من نصاب القطع ـ العتق فأنكر مولاه لم يغلظ ، ولو رد فحلف العبد غلظ عليه ، لأن العتق ليس بمال ، ولا المقصود منه المال.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب كيفية الحكم الحديث ١.

٢٣٥

الفرع ( الثاني : )

( لو حلف ) أن ( لا يجيب إلى التغليظ فالتمسه خصمه لم تنحل يمينه ) لأنه مرجوح من طرفه وإن استحب للحاكم ، ضرورة عدم التلازم بينهما ، فينعقد حينئذ على تركه ، ولا دليل على جواز حله منه أو من الحاكم ، وحق المستحلف متأخر عن لزوم اليمين ، وما ورد (١) من أن طرو أولوية المحلوف على تركه تبيح الحل لا تجدي ، إذ لا أولوية للحالف وإن التمسه الخصم أي طلبه منه.

هذا ولكن في الدروس « ولو حلف على عدمه ففي انعقاد يمينه نظر ، من اشتمالها على ترك المستحب ، ومن توهم اختصاص الاستحباب بالحاكم ».

وفيه أنه لا خلاف أجده في اختصاص الاستحباب به ، بل في الرياض نسبته إلى ظاهر النص والفتوى بخلاف من عليه الحلف ، فإن الأرجح له ترك التغليظ ، بل الأرجح له ترك الحلف بالله ، كما في‌ الخبر (٢) قال : « حدثني أبو جعفر عليه‌السلام أن أباه كانت عنده امرأة من الخوارج ـ إلى أن قال ـ : قضى لأبي أنه طلقها فادعت عليه صداقها فجاءت به إلى أمير المدينة تدعيه ، فقال أمير المدينة : يا علي إما أن تحلف وإما أن تعطيها ، فقال : يا بني أعطها أربعمائة دينار ، فقلت له : يا أبت جعلت فداك ألست محقا؟ قال : بلى ولكني أجللت الله أن أحلف يمين صبر ».

وخصوصا إذا كان المدعى به ثلاثين درهما ، للخبر (٣) أيضا « إذا ادعى عليك مال ولم يكن له عليك بينة فأراد أن يحلفك فان بلغ مقدار‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٨ ـ من كتاب الأيمان.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من كتاب الأيمان الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الأيمان الحديث ١.

٢٣٦

ثلاثين درهما فأعطه ولا تحلف ، وإن كان أكثر من ذلك فاحلف ولا تعطه ».

ومن هنا قال في كشف اللثام معرضا بما سمعته من الدروس : « واحتمال عدم انعقاد اليمين باستحباب التغليظ في غاية الضعف ».

نعم لا تنعقد يمينه مع فرض وجوب الإجابة إليه فيما ذكرناه من الصورة السابقة وهي ما لو أخر المدعي دعواه إلى الزمان أو المكان الشريفين فطلبه وطلبه الحاكم ، وفي كشف اللثام هنا « أما التغليظ القولي فقد عرفت أنه لا يجبر عليه بلا يمين فمعها أولى ، وأما الزماني والمكاني فالظاهر أنه ليس للحالف ولا الحاكم التأخر لهما إذا طالب المدعي ، إذ ربما يضيع الحق » ولعله يريد ما ذكرنا وإلا فقد عرفت فيما مضى خروجه عن مفروض المسألة فتأمل.

هذا ولكن الانصاف عدم خلو المسألة بعد من إشكال ، ضرورة إمكان منع الكراهة في اليمين بالله بعد وجوبها عليه للمدعي ، وخصوصا في نحو دعوى قصاص الأطراف ، بل وكذا المغلظة منها بعد أمر الحاكم بها كذلك للاستظهار المأمور به استحبابا الذي يحصل بوقوعه من الحالف أو عدمه ، بل لا يخفى استبعاد رجحان التغليظ للحاكم على وجه يأمر به من عليه اليمين مع استحباب عدمه من الحالف وإن كان مخالفا للحاكم الذي لا ينبغي أن يأمره بما هو مكروه في حقه ، كما هو مقتضى القول المزبور ، والله العالم.

( و ) كيف كان فالمشهور أن ( حلف الأخرس بالإشارة ) المفهمة كغيره من إنشائه عقدا أو إيقاعا وإقرارا ، بل قد عرفت الاجتزاء بها في تكبيره وتلبيته وغير ذلك مما تقدم البحث فيه في العبادات وغيرها (١) بل قد تقدم هناك تحرير موضوعه.

__________________

(١) راجع ج ٩ ص ٣١٥ ـ ٣١٩ وج ٣٢ ص ٦٠ ـ ٦١.

٢٣٧

( و ) ذكر المصنف هنا أنه ( قيل ) : حلفه بخصوص ( وضع يده على اسم الله في المصحف أو يكتب اسمه سبحانه ويوضع يده عليه ) إن لم يوجد المصحف.

( وقيل : يكتب ) صورة ( اليمين في لوح ) مثلا ( ويغسل ويؤمر بشربه بعد إعلامه ، فان شربه كان حالفا ، وإن امتنع ألزم الحق استنادا إلى حكم علي عليه‌السلام في واقعة الأخرس ) المشهورة المروية في‌ صحيح محمد بن مسلم (١) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الأخرس كيف يحلف إذا ادعي عليه دين فأنكر؟ فقال : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام أتي بأخرس فادعي عليه فأنكر ولم يكن للمدعي بينة ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بلغت للأمة جميع ما تحتاج إليه ، ثم قال : ائتوني بمصحف فأتي به ، فقال للأخرس : ما هذا فرفع رأسه إلى السماء وأشار إلى أنه كتاب الله تعالى ، ثم قال : ائتوني بوليه ، فأتي له بأخ فأقعده إلى جنبه ، ثم قال : يا قنبر علي بدواة وصحيفة ، فأتاه بهما ، ثم قال لأخ الأخرس : قل لأخيك : هذا بينك وبينه أنه علي ، فتقدم إليه بذلك ، ثم كتب أمير المؤمنين عليه‌السلام والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المهلك المدرك الذي يعلم السر والعلانية أن فلان بن فلان المدعي ليس له قبل فلان بن فلان أعني الأخرس حق ولا طلبة بوجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب ، ثم غسله وأمر الأخرس أن يشربه ، فامتنع فألزمه الدين ».

لكن لم أعرف القولين لأحد من أصحابنا وإن نسب الأول إلى النهاية ، ولكن الموجود فيها « وإذا أراد الحاكم أن يحلف الأخرس حلفه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٢٣٨

بالإشارة والإيماء إلى أسماء الله تعالى وبوضع يده على اسم الله في المصحف ، ويعرف يمينه على الإنكار كما يعرف إقراره وإنكاره ، وإن لم يحضر المصحف وكتب اسم الله ووضعت يده عليه جاز ، وينبغي أن يحضر معه من له عادة بفهم أغراضه وإيمائه وإشارته ، وقد روي أنه يكتب » إلى آخره ، وهو كالصريح في عدم اختصاص ذلك وأن المدار على الإشارة التي أحد أفرادها ذلك.

والثاني إلى ابن حمزة ، لكن الموجود في وسيلته « والأخرس يتوصل الحاكم إلى معرفة إقراره وإنكاره وإلى تعريفه حكم الحادثة بالإشارة ، وأحضر مجلس الحكم من يفهم أغراضه وأمكنه إفهامه ، وإذا أراد تحليفه إذا توجه عليه وضع يده على المصحف وعرفه حكمها وحلفه بالإيماء إلى أسماء الله تعالى ، وإن كتب اليمين على لوح ثم غسلها وجمع الماء في شي‌ء وأمره بشربه جاز ، فان شرب فقد حلف ، وإن أبى ألزمه الحق ».

وهي أيضا صريحة في عدم تعيين ذلك. ومن هنا حكي عن المقداد نفي البعد عنه ، قال : « فإن الإشارة لا تنافيه ، بل هذا أحد جزئياتها ».

لكن لا يخفى عليك أن ظاهر العبارة يقتضي اعتبار الخصوصية المزبورة ، واحتمال كون المراد منها الجواز بعيد ، إلا أنه عليه يكون المشهور عدم جوازه بذلك ، لكونه ليس من أفراد الإشارة ، وتحمل الصحيحة حينئذ على قضية في واقعة كما في التحرير أو على كون ذلك بطريق التغليظ أو على أخرس لم يكن له إشارة مفهمة ، كما عن السرائر وإن كان ينافيه رفع رأسه إلى السماء أو غير ذلك مما لا يقتضي الخروج عن قاعدة الأخرس الذي إشارته نطقه المعتضدة بعمل الأكثر هنا ، بل عامة من تأخر حتى الفاضل المقداد الذي قد عرفت بناء جواز ذلك على زعمه أنه أحد أفراد الإشارة ، ولكن مع ذلك كله فالأحوط الجمع بينهما مع رضا الأخرس وإلا فالإشارة.

٢٣٩

( ولا يستحلف الحاكم أحدا إلا في مجلس قضائه ) بلا خلاف أجده فيه ، كما اعترف به في الرياض ، بل فيه ظاهرهم الإجماع ، كما يستفاد من كثير ، منهم المقدس الأردبيلي والخراساني ، ولعله لأصالة عدم انقطاع الدعوى بغيره بعد الشك أو الظن بعدم تناول الإطلاق الوارد في تعليم ميزان القضاء للحكام لغير الفرض ولو للاتفاق المزبور ، بل يمكن دعوى انسياق ذلك منه خصوصا‌ النصوص المستفيضة (١) المشتملة على الشكوى من نبي من الأنبياء إلى الله تعالى من القضاء بما لم تر العين ولم تسمع الاذن ، فقال : « اقض بينهم بالبينات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به » الظاهرة في مباشرة ذلك بنفسه ، فلا تصح الاستنابة فيه حينئذ.

نعم ذكر غير واحد من الأصحاب ـ بل نفي بعضهم الخلاف فيه أيضا ـ أن ذلك كذلك ( إلا مع العذر كالمرض المانع ) من الحضور ( وشبهه ، فحينئذ يستنيب الحاكم من يحلفه في منزله ، وكذا المرأة التي لا عادة لها بالبروز إلى مجمع الرجال أو الممنوعة بأحد الأعذار ) كحيض ونحوه مما يمنع دخول المسجد لو جلس فيه القاضي أو المانع لها من أصل الخروج. وبالجملة متى كان المانع عذرا شرعيا ولو العسر والحرج المانعان من التكليف جازت الاستنابة وإن تمكن الحاكم من الوصول بلا نقص ومشقة عليه.

لكن الإنصاف صعوبة استنباط ذلك من الأدلة بعد فرض عدم سوقها لبيان ذلك أو فرض كون المنساق منها الأول ، فلا إطلاق حينئذ يوثق به ، فليس حينئذ إلا الأصل المقتضي لما عرفت ، ولعله لذا حكي عن بعضهم وجوب مضي الحاكم مع فرض عدم النقص عليه ، إلا أنه كما ترى مناف للأصل المعتضد بالمعلوم من الشرع خلافه.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب كيفية الحكم.

٢٤٠