جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

عن تناول ذلك ، بل ظاهرهما غيره ، فيبقى هو حينئذ على عموم حجية البينة ، والتعليل قد عرفت أنه فيما قبل الموت ونحوهما ، فتأمل جيدا.

( ولو شهدت ) البينة ( على صبي أو مجنون أو غائب ) بدين ( ففي ضم اليمين إلى البينة تردد ) وخلاف ينشأ من كونهم كالميت في عدم اللسان المحتمل على تقدير وجوده الجواب بما يقتضي البراءة منه ، بل هو مقتضى منصوص العلة في الخبر الأول (١) وهو المحكي عن الأكثر بل المشهور ، ومنهم الشيخ في المبسوط والفاضل والشهيد ، ومن أن معقد النص (٢) والفتوى الميت ، فلا يقاس عليه غيره ، لحرمته عندنا.

لكن لا ريب في أن ( أشبهه أنه لا يمين ) وفاقا للمصنف وجماعة ، وخصوصا في الغائب الذي ورد فيه‌ مرسل جميل بن دراج عن جماعة (٣) عنهما عليهما‌السلام قال : « الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة ، ويباع ماله ، ويقضى عنه دينه وهو غائب ، ويكون الغائب على حجته إذا قدم ، ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا بكفلاء » ونحوه‌ قول الباقر عليه‌السلام في خبر محمد بن مسلم (٤) إلا أن فيه « إذا لم يكن مليا » إذ لا ريب في ظهورهما ولو للإطلاق في عدم اعتبار اليمين معها ، ومعارضتهما بمنصوص العلة على فرض تسليم جريانه في المقام من وجه ، ولا ترجيح ، فيرجع إلى عموم ما دل على حجية البينة بدونه السالم حينئذ عن معارضة منصوص العلة بعد معارضته بالخبرين المزبورين ، بل‌ قوله عليه‌السلام فيهما : « ويكون على حجته » مشعر بالفرق بينه وبين الميت بأن له حالا يقيم به حجته في نقض البينة المزبورة ، وهو ما إذا حضر بخلاف الميت ، بل هو جار أيضا في الصبي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٢٠١

والمجنون حال البلوغ والإفاقة.

بل منه يعلم أن المراد من منصوص العلة في الخبر (١) عدم الدراية التي لا رجاء معها لاحتمال قيام الحجة ، فلا يجري حينئذ فيهما ، والله العالم ولو أقام شاهدا واحدا بدينه على الميت ففي القواعد وغيرها « حلف يمينا واحدة » لا لاختصاص النص والفتوى بالبينة » إذ من المعلوم أن ذلك أضعف منها ، بل للاستغناء باليمين القائم مقام الشاهد عن يمين الاستظهار.

وفيه أنه قد لا يغني عنه ، إذ لا يعتبر فيه التعرض لبقاء الحق ، ومع فرض تقييد إغنائه بالمشتمل على ذلك كما في كشف اللثام قد يقال بأن المعتبر من المقيد ما كان على وفق شهادة الشاهد المفروض كونها على أصل ثبوت الحق ، وما فيها من الزيادة لا دليل على حجيته ، إذ ليست هي يمين شاهد ولا يمين استظهار ، لأن الأصل عدم التداخل ، خصوصا بعد‌ قوله عليه‌السلام في الصحيح (٢) : « مع شاهدين بعد يمين » الظاهر في فعله مستقلا منضما إلى الحجة في حق الحي ، كما هو واضح بأدنى تأمل ، فالأولى بل الأقوى ضم يمين آخر معه. نعم قد يقال بالاستغناء في صورة شهادة الشاهد ببقاء الحق ثم اليمين من المدعي على نحو ذلك ، إذ هو بحكم البينة على بقاء الحق التي قد عرفت قوة الاستغناء بها عنه أيضا إلا مع احتمال التعبد الذي سمعته سابقا.

( و ) كيف كان فلا إشكال ولا خلاف في أنه ( يدفع الحاكم من مال الغائب قدر الحق ) الثابت عليه ، لكن في المتن وغيره ( بعد

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٨ ـ من كتاب الشهادات الحديث ١ وفيه‌ « نعم من بعد اليمين ».

٢٠٢

تكفيل القابض بالمال ) أي إلزامه بكفيل بذلك ، ولعله للخبرين (١) السابقين ، إلا أنك قد عرفت اشتراط عدم الملاءة في الثاني منهما ، بل مقتضى الجمع بينه وبين الآخر تنزيل الأول عليه ، إلا أنه لم أجد قائلا به نعم في المسالك « وإنما اعتبر المصنف الكفيل لأنه لم يوجب عليه اليمين مع البينة ، فجعل الكفيل عوضا عنه ، لاحتمال براءة الغائب من الحق على وجه لا تعلمه البينة ، ومن أوجب عليه اليمين لم يعتبر الكفيل إلا على تقدير تعذرها ، كما لو كان المدعي على الغائب وكيل المستحق ، فإنه لا يجوز إحلافه ، فيستظهر بالكفيل ، ولا شك في أن الكفالة واليمين احتياط واستظهار إلا أن ثبوتهما يحتاج إلى دليل ».

قلت : قد عرفت أن دليله عند القائل به التعليل في القوي (٢) والخبران (٣) المزبوران المعمول بهما ، على أن المرسل جميل ، وهو من أصحاب الإجماع ، وقد أرسل عن جماعة ، بل هما يدلان على اعتبار تعدد الكفلاء وإن لم نجد به قائلا ، ولعله لظهور إرادة الجنس منه ، واعتبار اليمين لا ينافي الاستظهار بذلك ، إذ هو على حجته على كل حال.

ومن هنا اعتبره في القواعد مع قوله : « بضم اليمين » وكأنه ظن تمامية الدعوى مع اليمين المقتضية لنفي الاحتمالات ، فلا جهة للتكفيل ، بخلاف حال عدم اليمين ، فإنها لم تتم بعد فيستظهر بالتكفيل ، وفيه أن اليمين على القول باعتبارها لا تسقط صحة الدعوى منه بعد ذلك والتكفيل للاستظهار بها بعد النص عليه في الخبرين ، كما هو واضح.

ثم على فرض اعتبار اليمين لم يجز للحاكم التسليم قبلها في صورة الوكيل ، ضرورة عدم ثبوت الحق بدونها ، فمن الغريب صدور ذلك منه.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٢٠٣

كما أن من الغريب مناقشة الأردبيلي في أصل دفع الحاكم من مال الغائب بعد أن ذكر دليله مرسل جميل بالإرسال ومجهولية جعفر بن محمد ابن إبراهيم وعبد الله بن نهيك أيضا في سنده ، وبأنه غير عام ، وإدخال ضرر على الغائب ، إذ قد يكون له جواب قدح ونحو ذلك ويتعذر ذلك بعد الحكم ، وعلى تقديره فقد يتعذر استيفاء الحق بموت الخصم وفقره أو الكفيل أيضا ، فينبغي الاقتصار على موضع الوفاق ، وهو فيما إذا علم الخصم أنه إذا لم يحضر يحكم عليه وهو غائب ، لأنه يكون أدخل الضرر على نفسه.

إذ هي كما ترى ، ضرورة عدم الاحتياج إلى المرسل في الدفع بعد فرض مشروعية الحكم على الغائب ، ضرورة كونه حينئذ من مقتضياته ، بل لو لا النص والفتوى على التكفيل بالوجه المزبور لكان المتجه عدم وجوبه.

ثم إن الظاهر إرادة الضمان من الكفالة هنا ، لأن به الاستظهار التام ، بل قد يشعر بذلك اعتبار عدم الملاءة في أحد الخبرين (١) والله العالم.

( ولو ذكر المدعي أن له بينة غائبة خيره الحاكم ) فيما له شرعا ( بين الصبر ) لأن المدعي لا يجبر على دعواه ( وبين إحلاف الغريم ) فان ذلك له مع حضور بينته فضلا عن حال الغيبة.

لكن في النافع « ولو قال : البينة غائبة أجل بمقدار إحضارها ، وفي تكفيل المدعى عليه تردد ، ويخرج من الكفالة عند انقضاء الأجل ».

وفيه أنه لا فائدة في هذا التأجيل ، ضرورة أن له الدعوى وإقامتها بعد الأجل ، واحتمال سقوط دعواه حينئذ مطلقا أو بعد إلزامه بإحلاف المنكر لا ينبغي صدوره من متفقة فضلا عن الفقيه وإن كان قد يتوهم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٢٠٤

دلالة مرسل الوصية لشريح (١) عليه المحتمل لإرادة بينة الجرح خاصة ، ولو سلم دلالته على ذلك فلا قائل به ، فلا يبعد إرادة الإمهال الذي لا يترتب عليه ذلك من التأجيل فيه بل وفي الخبر (٢) أو أن مراده الأجل لأجل التكفيل وإن قصرت العبارة عنه ، كما هو ظاهر النهاية ، قال : « وإن قال : لست أتمكن من إحضارها جعل معه مدة من الزمان ليحضر فيه بينته وتكفل بخصمه ، فإن أحضرها نظر فيها وإن لم يحضرها عند انقضاء الأجل خرج خصمه عن حد الكفالة ». فتأمل جيدا.

وأما ما ذكره من التردد في التكفيل فقد جزم هنا بعدمه ، فقال : ( وليس له ملازمته ) على وجه لا تجوز له بدون ذلك فضلا عن حبسه ( ولا مطالبته بكفيل ) وفاقا للمحكي عن أكثر المتأخرين ، بل عامتهم والإسكافي والشيخ في الخلاف والمبسوط والقاضي في أحد قوليه ، للأصل السالم عن معارض بعد عدم ثبوت الحق الذي لا معنى للعقوبة عليه قبله ، على أن الكفيل يلزمه الحق إن لم يحضر المكفول ، وهنا لا معنى له قبل إثباته ، بل لا معنى لكون حضور الدعوى وسماع البينة حقا يكفل عليه ، لأنه بعد الإتيان بالبينة إن كان حاضرا فذاك ، وإلا حكم عليه وهو غائب.

خلافا للمحكي عن الشيخين في المقنعة والنهاية والقاضي في أحد قوليه وابني حمزة وزهرة نافيا للخلاف فيه ظاهرا ، لقاعدة لا ضرر ولا ضرار ، فإنه قد يهرب المدعى عليه ، ولا يتمكن المدعي من تحصيل الحق ، فيجب حينئذ مقدمة ، للزوم مراعاة حق المسلم من الذهاب في نفس الأمر ، وبذلك ينقطع الأصل ، والالتزام بالكفيل أو الحبس وإن كان ضررا إلا‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٢٠٥

أن ذهاب الحق أيضا ضرر ، وعلى الحاكم مراعاة الأقل ضررا ، ولعله التكفيل ، وعدم الفائدة في التكفيل مسلم إن تحقق عدم إمكان إثبات الحق في نفس الأمر ، ولكنه غير متحقق بعد احتمال حضور البينة وثبوت الحق بها ، فيلزم الكفيل إحضاره أو الالتزام بالحق إن ثبت وهرب المدعى عليه ولم يكن له مال يقتص منه ، والحكم على الغائب غير كاف في التخلص عن احتمال ذهاب الحق.

ومن هنا مال في الرياض إلى ذلك وقال : « إن القول به لا يخلو من رجحان إن خيف هرب المنكر وعدم التمكن من استيفاء الحق بعد ثبوته من ماله ، ولو لم يخف من ذلك أمكن ترجيح القول الآخر ، وبهذا التفصيل صرح الفاضل المقداد ، فقال : ولنعم ما قال ، ويقوى أن التكفيل موكول إلى نظر الحاكم ، فان الحكم يختلف باختلاف الغرماء ، فان الغريم قد يكون غير مأمون ، فالمصلحة حينئذ تكفيله ، وإلا لزم تضييع حق المسلم ، وقد لا يكون كذلك بل يكون ذا ثروة وحشمة ومكنة فلا حاجة إلى تكفيله ، لعدم ثبوت الحق والأمن من ضياعه. وربما كان المدعي محتالا يطلب التكفيل وسيلة إلى أخذ ما لا يستحقه ».

لكن لا يخفى عليك أن جميع ذلك لا ينطبق على أصول الإمامية ، ضرورة رجوعه إلى ما يشبه الاستحسان ، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار لا وجه لجريانها في المقام ، إذ الضرر لا يدفع بالضرر ، على أنها لا تقتضي تعجيل الضرر على المسلم باحتمال ضرر الآخر ، ولعل البحث بين الأصحاب في أصل مشروعية التكفيل بمجرد الدعوى ، كما شرح به هنا الفاضل المزبور عبارة النافع ، بل حكى القول عمن عرفت بلفظ جواز التكفيل ومنعه ، لا في الإلزام به قبل ثبوت الحق ، وقد ذكرنا في الكفالة ما يستفاد منه ذلك.

ثم على التكفيل فهل يتعين في ضرب مدته ثلاثة أيام ، كما عن‌

٢٠٦

ابن حمزة أو يناط بنظر الحاكم؟ قولان ، ولكن على كل حال يخرج الكفيل من الكفالة عند انقضاء الأجل المضروب كائنا ما كان بلا خلاف ولا إشكال والله العالم.

وكذا ليس له حبسه أو المطالبة بكفيل لو أقام شاهدا واحدا وإن كان عدلا ، لعدم ثبوت الحق به ، خلافا للمحكي عن المبسوط لقدرته على إثبات حقه باليمين فيحبس إلى أن يشهد آخر أو يحلف المدعي أو يحلفه ، وغاية الحبس ثلاثة أيام ، فإن أثبت الدعوى وإلا أطلق ، وفيه أن العقوبة بالحبس إنما تجوز بالتقصير بالحق الثابت ولا يكفي فيها القدرة على إثباته ، كما هو واضح.

( وأما السكوت فان اعتمده ألزم بالجواب ) لأنه نفسه ليس جوابا ، والفرض تعلق حق الدعوى بجوابه ( فان عاند حبس حتى يبين ) الجواب كما عن الشيخين والديلمي وابني حمزة وسعيد والفاضل وولده وغيرهم ، بل في المسالك نسبته إلى المتأخرين.

( وقيل ) وإن كنا لم نعرف قائله ( يجبر ) بالضرب ونحوه من باب الأمر بالمعروف ( حتى يجيب ).

( وقيل ) والقائل الشيخ في محكي مبسوطة والحلي في محكي سرائره والفاضل في موضع من قواعده والقاضي في محكي مهذبه ( يقول ) له ( الحاكم : إما أجبت وإما جعلتك ناكلا ورددت اليمين على المدعي ، فان أصر رد اليمين على المدعي ) وقضى له ، بل في الأول « أنه الذي يقتضيه مذهبنا والثاني ـ يعني الحبس ـ قوي أيضا » وفي الثاني « أنه الصحيح من مذهبنا وأقوال أصحابنا وما يقتضيه المذهب » وفي الأخير « أنه ظاهر مذهبنا ولا بأس بالعمل بالحبس ».

( و ) لكن ( الأول مروي ) كما عن التحرير أيضا وإن‌

٢٠٧

اعترف جماعة بعدم الظفر بهذه الرواية ، نعم قيل : لعله‌ النبوي المشهور (١) « لي الواجد يحل عقوبته وعرضه » وفي آخر « وحبسه » المعتضد بما قيل من النصوص الكثيرة (٢) الدالة على حبس أمير المؤمنين عليه‌السلام الغريم باللي والمطل من دون ضرب وإهانة ونحوهما.

وفيه أن المنساق منه المالي لا ما يعم استحقاق جواب الدعوى ، سيما نصوص الغريم ، وربما علل أيضا بأن الواجب عليه الجواب ، وهو كما يحتمل الإقرار يحتمل الإنكار ، فيجب عليه الحبس ، وغيره ليس بواجب لأصل البراءة ، وجعله ناكلا أو كالناكل يحتاج إلى دليل.

وظاهر الروضة التخيير بين الحبس والرد ، كما عن ظاهر الشيخ علي بن هلال مع إضافة الضرب أيضا.

ثم إن ظاهر الأصحاب عدم فعل شي‌ء معه على القول الأول غير الحبس ، لكن في الرياض ألزم بالجواب أولا باللطافة والرفق ثم بالإيذاء والشدة متدرجا من الأدنى إلى الأعلى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن أجاب وإلا حبسه حتى يجيب وفاقا لمن عرفت ، ثم قال : « وقيل : يجبر حتى يجيب من غير حبس ، بل يضرب ويبالغ في الإهانة إلى أن يجيب ، ومستنده غير واضح عدا ما استدل له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفيه نظر فإنهما يحصلان أيضا بالأول ، فلا وجه للتخصيص ».

قلت : ومقتضاه أنه على الثاني يضرب حتى يجيب أو يموت ، وليس هو قولا لأحد ، بل ليس من مقتضى ما ذكر دليلا له من الأمر بالمعروف‌

__________________

(١) راجع التعليقة (١) من ص ١٦٤. وسنن البيهقي ج ٦ ص ٥١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب كيفية الحكم والباب ـ ٧ ـ من كتاب الحجر.

٢٠٨

المعلوم عدم مشروعية هذا المقدار له ، فالتحقيق أن الفرق بين الأول والثاني الاقتصار على خصوص الحبس على الأول لما أرسلوه من الرواية بخلاف الثاني ، فإنه مبني على حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من استعمال مراتبه التي تنتهي إلى الحبس أيضا.

وعلى كل حال فليس للأول إلا المرسل المنجبر بما عرفت ، وللثاني إلا باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وللثالث أنه نكول أو أولى منه ، ضرورة أنه لو أجاب بجواب صحيح ثم امتنع من اليمين جعل ناكلا ، فإذا امتنع عن الجواب ، واليمين فأولى أن يكون ناكلا ، لأنه نكل عن الجواب واليمين معا ، ولأن العناد منه أشد وأظهر ، ولأنه لما لم ينكر احتمل الإقرار ، فإذا اعتبرت يمين المدعي مع صريح الإنكار فمع السكوت أولى.

ومن هنا قال المصنف ( والأخير بناء على عدم القضاء بـ ) ـمجرد ( النكول ) وإلا كان المتجه عدم الاحتياج إلى اليمين.

كل ذلك مضافا إلى ما في الاقتصار على الحبس من الإضرار بالمدعي بالتأخير ، وربما أدى إلى ضياع حقه ، بل فيه وفي الجبر إضرار بالمدعى عليه بلا دليل ، وما مر من الدليل عليهما مندفع بأن الرد على المدعي أردع له عن السكوت وأسهل وأفيد للمدعي.

وقد يناقش بعدم صدق اسم النكول عليه ، إذ يحتمل أنه أدى الحق وليس بمنكر يلزمه اليمين ولا مقر يلزمه الحق ، فيسكت عن الإنكار لعدم صحته ، وعن الإقرار مخافة الالتزام ، والفرض عدم شهود عنده ولو لموتهم ، ولا يحسن التورية أو لا يعلم شرعيتها ، وبأن الحكم بالنكول بمجرده أو بعد رد اليمين مخالف للأصل ، فيقتصر فيه على محل اليقين ، وليس هو إلا ما انعقد عليه الإجماع من كونه بعد الإنكار ، وهو مفقود في المقام قطعا ، لما عرفت من إطباق المتأخرين كافة على‌

٢٠٩

اختيار القول الأول ، بل قد عرفت إرسال الرواية فيه ، بل ظاهرهم أنها صريحة فيه ، وهي مع انجبارها بما سمعت معتضدة بالنبوي (١) السابق المعتضد بالنصوص الكثيرة (٢) بل قد يستفاد من‌ قوله عليه‌السلام في خبر عبد الرحمن (٣) المتقدم في الدعوى على الميت : « ولو كان حيا لألزم اليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه » أن كيفية القضاء عليه إلزامه بأحد الثلاثة على جهة التخيير له ، ولما كان طرق الإلزام كثيرة أمكن ترجيح الحبس منها بالمرسل المنجبر بما عرفت ، بل ربما يدعى أنه المتعارف من طرق الإلزام ، خصوصا بعد أن كان ذلك طريقا في الغريم المحقق ، فهنا بطريق أولى.

على أن الدعوى المقابلة بالسكوت لو تقتضي رد اليمين على المدعي لعدم خروجه عن أحد الاحتمالين لاقتضت ذلك في الدعوى على الميت وعلى الممتنع عن مجلس الحضور وعلى الغائب وعلى الصبي والمجنون ونحوهم ممن لم يتحقق منهم جواب ، وهو معلوم العدم ، بل ينحصر طريق ثبوت الدعوى حينئذ بالبينة ، فان لم تكن فلا حق له ، كما أومأ إليه أيضا الخبر المزبور (٤).

ودعوى اقتضاء إطلاق أدلة الأمر بالحكم بين الناس (٥) وجوب إيجاده في الفرض ، وقد عرفت استفادة ميزانه من النصوص الكثيرة الدالة على أنه البنيات والأيمان (٦) وهو الدليل على القضاء بنكول المنكر عن‌

__________________

(١) راجع التعليقة (١) من ص ١٦٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب كيفية الحكم والباب ـ ٧ ـ من كتاب الحجر.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٤) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب كيفية الحكم.

(٦) الوسائل ١ و ٢ من أبواب كيفية الحكم.

٢١٠

الرد واليمين الشامل لموضوع الفرض يدفعها منع وجوب إيجاده على كل حال ، مضافا إلى عدم انحصار الحكم في ذلك ، بل هو ما ذكرناه من الإلزام المزبور ، والحكم برد اليمين في الناكل إنما كان بعد الإجماع المركب على حصول ميزان القضاء ، ولكنه النكول أو اليمين قلنا : إن الأقوى الثاني بخلاف المقام ، فان المشهور عدم الحكم بالمعنى المزبور كما عرفت ، بل هو الحبس المطابق لما اقتضاه خبر عبد الرحمن (١) الظاهر في عدم تحقق النكول لتعذر الجواب ، بل لا بد فيه من تحقق الإنكار وعدم العمل بما يوجبه ، ولذا سقطت الدعوى عن الميت التي يفرض فيها ما ذكره من أنه إما مقر أو منكر إلى آخر ما سمعت ، وهو معلوم العدم فيه وفي نظائره ، والله العالم.

هذا إذا كان السكوت عنادا ( و ) أما ( لو كان به آفة من طرش أو خرس توصل إلى معرفة جوابه بالإشارة المفيدة لليقين ) بكونه مقرا أو منكرا إذا لم نقل بإلحاق إشارة الأخرس باللفظ الذي يكتفى بالظن بالمراد منه.

( ولو استغلقت إشارته بحيث يحتاج إلى المترجم لم يكف الواحد وافتقر في الشهادة بـ ) ـالمراد من ( إشارته إلى مترجمين عدلين ) بناء على أن ذلك من مقام الشهادة ، وقد عرفت التأمل سابقا في نظيره ، بل قد يحتمل في أصل الترجمة للفظ أنها من قرائن الظن بالمراد به ، فلا يعتبر العدالة حينئذ فضلا عن التعدد ، فتأمل والأمر سهل.

ثم إن ظاهر حصر الأصحاب حال المدعى عليه في الثلاثة عدم حال آخر رابع مخالف لها في الحكم وحينئذ فإذا كان جوابه لا أدري ولا أعلم ونحو ذلك فهو منكر ، ضرورة عدم كونه إقرارا ، كضرورة عدم كونه سكوتا ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

٢١١

فليس إلا الإنكار ، وانسياق القطع بالعدم منه لا ينافي كونه فردا آخر له مرجعه عدم استحقاق ما يدعيه عليه وإن لم يعلمه في نفس الأمر ، ضرورة اقتضاء تعلق الدعوى به استحقاق المدعى به عليه ، فإذا نفى العلم بسببه كان نافيا للاستحقاق المزبور الذي هو روح الدعوى عليه. وبذلك يكون منكرا لا يتوجه عليه إلا اليمين ، لموافقته للأصل وغيره ، ولا ينافي ذلك ما تسمعه من الأصحاب من غير خلاف فيه يعرف بينهم من اعتبار الحلف على البت في فعله نفيا وإثباتا المنزل على الصورة الغالبة من الإنكار ، بخلاف ما إذا كان إنكاره بالصورة الثانية ، فإنه يحلف على عدم العلم نحو يمين الوارث.

ولكن في مجمع البرهان انه « لو قال المنكر : إني ما أحلف على عدمه فاني ما أعلم بل أحلف على عدم علمي بثبوت حقك في ذمتي لا يكفي ، بل يؤخذ بالحق بمجرد ذلك حينئذ إن قيل بالقضاء بالنكول ، وبعد رد اليمين على المدعي إن لم نقل به ، ويحتمل قويا هنا عدم القضاء بالنكول وإن قيل به في غيره ، بل يجب الرد حينئذ ».

نعم قال بعد ذلك : « ويحتمل الاكتفاء في الإسقاط بيمينه على عدم علمه بذلك ، للأصل وعدم ثبوت ما تقدم والتأمل فيه ، فتأمل ـ ثم قال ـ : إن الأصل عدم ثبوت الحق في ذمته ، وطريق ثبوته الشهود ، والفرض عدمهم ، ولم يثبت دليل على أن إنكار المدعى عليه ودعوى عدم علمه بالحق وعدم حلفه على البت يوجب ثبوت الحق في ذمته أو موجب لرد اليمين على المدعي ، ويؤيده عموم‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « البينة » إلى آخره ، فإنه يدل بظاهره على عدم اليمين على المدعي ، وأن يمين المنكر أعم من أن تكون على نفي المدعى أو على‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم.

٢١٢

نفي العلم به ، إذ هو لا ينكر إلا علمه ، وأيضا البينة ما تشهد بثبوت الحق على الجزم والقطع الآن ، بل أقصى ما تشهد بالثبوت مع عدم العلم بالمزيل ، فينبغي أن تكون اليمين كذلك ».

وفي الكفاية « مقتضى ظاهر كلامهم أنه إذا ادعى عليه بمال في ذمته ولم يكن المدعى عليه عالما بثبوته ولا نفيه لم يكف حلف المنكر بنفي العلم ، وأنه لا يجوز له حينئذ الحلف بنفي الاستحقاق ، لعدم علمه بذلك ، بل لا بد له من رد اليمين ، وإن لم يرد يقضى عليه بالنكول وبعد رد اليمين على المدعي إن لم نقل به » وإن قال متصلا بما سمعت : « لكن في إثبات ذلك إشكال ، إذ لا يبعد الاكتفاء حينئذ بالحلف على نفي العلم ولا دليل على نفيه ، إذ الظاهر أنه لا يجب عليه إيفاء ما يدعيه إلا مع العلم ، ويمكن على هذا أن يكون عدم العلم بثبوت الحق كافيا في الحلف على عدم الاستحقاق ، لأن وجوب إيفاء حقه إنما يكون بعد العلم به ، لكن ظاهر عباراتهم خلاف ذلك ، وبعض المتأخرين احتمل قويا عدم القضاء بالنكول في الصورة المذكورة وإن قيل به في غيره ، بل يجب الرد حينئذ ، واحتمل الاكتفاء في الإسقاط بيمينه على عدم علمه بذلك » وهو موافق لما ذكرناه وقلنا إنه غير مناف لظاهر كلماتهم ، فان مرادهم من الجزم والبت في الصورة الأولى من الإنكار.

ومن التأمل فيما ذكرنا يظهر لك اندفاع المناقشة بعدم الدليل على الاكتفاء في الفرض بالحلف على نفي العلم ، والأصل عدم انقطاع الدعوى المسموعة بمثل هذا اليمين ، سيما إذا كانت مسقطة للبينة لو أقيمت بعدها نحو يمين الإنكار ، فيقتصر فيما خالفه على المتيقن من النص والفتوى ، وليس إلا اليمين على البت لا مطلقا ، وليس في النصوص والفتاوى الدالة على سقوطها بها ما يدل على السقوط هنا ، لما عرفت من أن المتبادر من‌

٢١٣

اليمين على الشي‌ء اليمين على البت خاصة ، ومقتضى ذلك عدم الاكتفاء باليمين على نفي العلم ، فينحصر قطع الدعوى وسقوطها في رد اليمين على المدعي ، إن حلف أخذ ، وإن نكل سقطت الدعوى ، وعدم وجوب إيفاء ما يدعيه عليه إلا مع العلم مسلم فيما بينه وبين الله تعالى ، ولكن لا ينفع في إثبات كفاية الحلف على نفي العلم في مقام الدعوى وإسقاطها ، وإن هو إلا عين النزاع. ومنه يظهر الوجه في منع كفاية عدم العلم في الحلف على نفي الاستحقاق المطلق المتبادر منه نفي الاستحقاق ولو في نفس الأمر ، ولا يمكنه الحلف عليه لإمكانه ، وعدم علمه به إنما يوجه له الحلف على عدم تكليفه في الظاهر بايفائه ، لا الحلف على عدم استحقاقه في الواقع ، وبينهما فرق واضح ، إذ هي كما ترى ، ضرورة أن الجزم المذكور في كلامهم لا يراد منه إلا الجزم في الصورة الأولى من الإنكار ، بمعنى أنه بعد تصريحه بالنفي الظاهر في العلم بالعدم في نفس الأمر لا يجزؤه إلا اليمين على ذلك ، لا ما إذا كان إنكاره من أول الأمر بنفي العلم.فإنه يكون نحو إنكار الوارث ، كما أن الوارث لو فرض إنكاره بالعدم في نفس الأمر كان يمينه كذلك ، ولا يجزؤه نفي العلم ، ولكن لما كان الغالب فيه الأول قالوا : إن يمينه على نفي العلم ، والغالب في غيره الإنكار بالنفي واقعا قالوا : إن يمينه على البت.

كل ذلك مضافا إلى معارضة أصل عدم سقوط الدعوى بمثل اليمين المزبورة بأصالة عدم ثبوت الحق بمثل هذه اليمين المردودة من الحاكم على المدعي ، وإنما المسلم منها يمين الإنكار التي امتنع عن إيقاعها مع تصريحه بالعلم بالنفي ، وعن ردها لا في مثل الفرض المذكور ، وترجيح الأول بموافقته لظاهر كلماتهم في اعتبار الجزم في الحلف ـ والفرض عدم إمكانه ، فينحصر طريق قطع الدعوى برد اليمين من المدعى عليه أو الحاكم مع‌

٢١٤

أنه لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه ـ ليس بأولى من القول بترجيح الثاني بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « البينة » إلى آخره الظاهر في انحصار ثبوت المدعى بالبينة ، فتوقف الدعوى حينئذ عليها ، نحو الدعوى على ميت أو غائب أو نحوهما ، بل ينبغي القطع بذلك بناء على أن الجواب بذلك ليس إنكارا ، فتكون حينئذ مجرد دعوى لا منكر لها ، ومعلوم انحصار ثبوتها حينئذ في البينة.

إلا أن المعروف بل لم أجد خلافا بين من تعرض لهذا الفرع عدم إيقاف الدعوى على البينة ، فيقتضي إدراجهم له تحت المنكر ، فيتعين عليه اليمين أو ردها ، وربما يرشد إلى ذلك قولهم : « يحلف الوارث على نفي العلم بالدعوى على الميت » وليس هو إلا من المنكر أيضا وإن كان جوابه لا أعلم ، ومن هنا كان له رد اليمين على المدعي ، فيثبت به الحق بلا خلاف ولا إشكال.

وما في الرياض من « أن اكتفاءهم بذلك ثمة إنما هو من حيث عدم كون المنكر طرفا لأصل الدعوى على الغير ، بل هو الطرف الآخر لها ، وإنما المنكر طرف دعوى أخرى معه ، وهي كونه عالما بالمدعى وثبوته على الغير في الدعوى الأولى ، فحلفه على نفي العلم حقيقة حلف على نفي ما ادعى عليه على القطع في هذه الدعوى ، فظهر أن حلف المنكر على القطع أبدا حتى بالنسبة إلى فعل الغير مطلقا ، لأن ما يحلف عليه ليس هو إلا ما ينكره حقا كان أو غيره. وبذلك صرح الفاضل في التحرير ـ ثم قال ـ : ويتحصل من هذا أن متعلق الحلف ليس إلا ما تتعلق به الدعوى ، وهو المتبادر من النصوص ، والحلف على نفي العلم فيما نحن فيه ليس حلفا على ما تعلق به دعوى المدعي ، لأن دعواه ثبوت‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم.

٢١٥

الحق في ذمته لا علمه به ، ولا تلازم بينهما ، لإمكان أن يدعى الحق عليه ولا يدعي عليه العلم ، فحينئذ يمينه على نفي العلم لاغية لا ربط لها بما يدعيه بالكلية ، فكيف يمكن أن تكون بها ساقطة ، نعم لو ادعى عليه العلم بالحق حال الدعوى أيضا اتجه الاكتفاء بالحلف على نفي العلم ، وسقوط أصل الدعوى بها حينئذ ، لتركبها كما ذكروه في الحلف على نفي العلم بفعل الغير ، ولكن الظاهر أن مثله في المقامين لا يسقط اعتبار البينة لو أقيمت بعد الدعوى عملا بعموم ما دل على اعتبارها مع سلامتها عن المعارض فيهما ، لاختصاص ما دل على سقوط البينة باليمين بحكم التبادر وغيره باليمين على نفي الحق لا نفي العلم ، وبالجملة الظاهر فيما نحن فيه حيث لا يدعي عليه العلم عدم الاكتفاء بالحلف على نفي العلم ، بل لا بد من رد اليمين على المدعي ، ولا محيص في قطع الدعوى من دونه ».

لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما ذكرنا من أن المتجه مع القول بعدم كون ذلك جوابا عن الدعوى انحصار الإثبات بالبينة ، إذ لا محل لرد اليمين مع عدم المنكر كي يتجه الثبوت بها ، ولكن قد عرفت إمكان دعوى القطع بعدم ذلك ، فليس حينئذ إلا لاندراجه في المنكر الذي عليه اليمين وله الرد ، بل يمكن دعوى القطع به من حصرهم أحوال المنكر في الثلاثة قديما وحديثا.

على أن المستفيض في النصوص (١) أن البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه. ولا ريب في كونه مدعى عليه عرفا إن لم يكن منكرا فيه ، بل التأمل في جميع النصوص يقتضي أن للإنكار طريقين : أحدهما نفي الدعوى في نفس الأمر ، والآخر نفي ما يترتب عليها من وجوب الأداء ونحوه ، وذلك بنفي العلم بسببها الموافق لأصالة عدم حصوله الذي هو‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم.

٢١٦

ميزان المنكر.

وبذلك يكون الوارث منكرا في الدعوى على الميت ، ويكتفى منه بالحلف على نفي العلم ، لتعلقه بفعل الغير الذي هو في الغالب غير معلوم للآخر ، كما أن الغالب العلم بفعل نفسه وإن كان قد يعلم نفي فعل الغير ، ولا يعلم نفي فعل نفسه في حال النوم أو السكر أو الصبا أو غيرها من الأحوال ، وستعرف فيما يأتي أن استحقاق اليمين على الوارث بمجرد الدعوى على الميت وإن لم يدع عليه العلم ، ولكن يكفي في حلفه نفي العلم ، لتعلقه بفعل الغير ، إلا إذا كان إنكاره لأصل وقوع الفعل من الميت فيحلف على نفيه كذلك وإن كان هو خلاف ما صرح به المصنف وغيره ممن تأخر عنه.

وأما فعل نفسه فان كان جوابه نفيه في الواقع اعتبر في يمينه كونها على عدمه في نفس الأمر وإن كان على عدم العلم به كفى إيقاعها على ذلك في إسقاط ما يترتب على الدعوى.

والمراد باعتبار الجزم في اليمين في صورة كون الإنكار جزما لا مطلقا حتى في الوارث ، واستثناء الأصحاب له مبنى على الغلبة المزبورة ، كاعتبارهم الجزم في نفي فعل نفسه.

وبذلك كله ظهر لك أن الجواب بعدم العلم إنكار ، فيتوجه عليه اليمين وله رده ، نعم قد يقال بعدم اقتضائها سقوط البينة لو أقيمت بعد ذلك بناء على ظهور ما دل على الإسقاط في اليمين الذي يكون متعلقها النفي في نفس الأمر ، لا أقل من الشك ، فيبقى عموم ما دل على قبولها بحاله.

بل لعل التأمل الصادق يقضي بغرابة اشتباه الحال على أمثال هؤلاء الأفاضل خصوصا السيد في الرياض الذي قد جزم بما سمعت.

٢١٧

بل عن جامع المقاصد في باب الوكالة فيما لو ادعى أنه وكيل فلان الغائب في تزويجه فلانه فعقد عليها ثم إن الغائب مات وادعت ذلك على الورثة وقالوا : لا ندري أنها تحلف وترث.

بل قيل : إنهم قالوا في باب الطلاق : إن الزوج لو ادعى أن الطلاق متأخر عن وضع الحمل فهي الآن في عدة وقالت الزوجة : لا أدري أن له الرجعة ، ولا تقبل دعواها وبالعكس ، إلا أنا لم نتحقق ذلك ، بل ربما كان غير ما نحن فيه ، وعلى فرضه فالاشتباه غير عزيز.

كل هذا مع أنه قد يقال بجواز الحلف على مقتضى الأمارات الشرعية كما أومأ إليه‌ الصادق عليه‌السلام في خبر حفص بن غياث (١) « قال له رجل : إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز أن أشهد أنه له؟ قال : نعم ، قال الرجل : أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعله لغيره ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام أفيحل الشراء منه ، قال : نعم ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام فلعله لغيره ، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك؟ وتقول بعد الملك : هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق » مع أن ما ورد في التأكيد من اعتبار العلم في الشهادة وأنك لا تشهد إلا على مثل الشمس (٢) أشد مما ورد في اليمين.

اللهم إلا أن يفرق بين ما هو مقتضى اليد ونحوها من الأمارات الشرعية وبين ما هو مقتضى نحو أصل البراءة والعدم ونحوهما مما هو كالمعلوم من الشرع عدم جواز الحلف على مقتضاهما ، خصوصا بعد‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٠ ـ من كتاب الشهادات.

٢١٨

استفاضة النصوص (١) بعدم جواز الحلف إلا على العلم.

وعلى كل حال فلا ريب في أن التأمل الصادق في النصوص والفتاوى يقتضي كون الحكم في أصل المسألة ما عرفت من الاكتفاء بيمين نفي العلم أو انحصار الحق بالبينة ، وخصوصا في نحو ما لو ادعى رجل على مال في يد رجل أنه سرق منه وبيع عليه ، فقال من في يده المال : إني لا أعلم بذلك ولكن اشتريته من يد رجل مسلم ، إذ هو كالمقطوع بأن القضاء بينهما بأن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه بمجرد القول المزبور ، وإن اعترف المدعي بعدم علم المدعى عليه بحقيقة الحال ، وأنه لا يكون القضاء في ذلك برد اليمين على المدعي أو انحصار ثبوت حقه بالبينة على وجه بحيث لو أراد رد اليمين عليه لم يثبت به حق ، لعدم كونه منكرا يتوجه عليه اليمين حتى يصح له رده عليه.

نعم قد يفرق بين هذا وبين الفرض باعتبار الاستناد هنا إلى مقتضى اليد التي جعلها الشارع سببا للحكم بالملك على وجه تجوز الشهادة به والحلف عليه وإن قال مع ذلك : ما أدري بصدق المدعي أو كذبه ، بخلاف دعوى الدين التي لا مستند لقوله لا أدري إلا الأصل الذي لا يجوز الحلف على مقتضاه بعنوان البت ، لعدم سببيته من الشارع فيه على نحو اليد ، فتأمل ، والله العالم.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٢ ـ من كتاب الأيمان.

٢١٩

( مسائل تتعلق بالحكم على الغائب )

الذي لا إشكال ولا خلاف بيننا في مشروعية الحكم عليه في الجملة بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى خبري جميل (١) ومحمد بن مسلم (٢) المتقدمين سابقا ، بل قيل : والنبوي (٣) المستفيض أنه قال لهند زوجة أبي سفيان بعد أن ادعت أنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » وكان أبو سفيان غائبا والمروي عن أبى موسى الأشعري (٤) « كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا حضر عنده خصمان فتواعد الموعد فوافى أحدهما ولم يف الآخر قضى للذي وفي على الذي لم يف » أي مع البينة ، وصحيح زرارة (٥) عن أبي جعفر عليه‌السلام الذي يقول فيه في الغاصب وأكل مال اليتيم والأمين : « وإن وجد له شيئا باعه غائبا كان أو شاهدا ».

وحينئذ فما في‌ خبر أبي البختري (٦) المروي عن قرب الاسناد عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام « لا يقضى على غائب » محمول على إرادة عدم الجزم بالقضاء عليه على وجه لا تسمع حجته إذا قدم أو غير ذلك.

نعم هل يشترط في الحكم عليه دعوى جحوده كما في القواعد التوقف فيه ، قال : « فان شرطناه لم تسمع دعواه لو اعترف بأنه معترف ، ولو‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٣) سنن البيهقي ـ ج ١٠ ص ١٤١.

(٤) كنز العمال ج ٥ ص ٥٠٧ ـ الطبع الحديث.

(٥) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

(٦) الوسائل الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٤.

٢٢٠