جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

« ولهذا لم يقدر أحد أن يشهد بثبوته في ذمته ، بل بإقراره ، فليس الحكم إلا للحاكم ، لاجتهاده أن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز والإجماع » وإن كان هو كما ترى ، ضرورة جواز الأخذ بالإقرار لكل أحد فضلا عن المقر له.

فالتحقيق عدم الفرق بين البينة والإقرار في الأخذ بهما من دون حكم الحاكم لكل أحد ولو من باب الأمر بالمعروف ، لعموم ما دل على حجية شهادة العدول في الدعاوي وغيرها ، بل لعل حكومة الحاكم بها لذلك أيضا ، نعم لو لم تثبت عدالتها لم يجز الأخذ بها في الحكم الظاهر » لعدم ثبوت ما هو الحجة شرعا ، وحكم الحاكم بها ليترتب عليه قطع الدعوى بعد ذلك لا يقتضي توقف حجيتها في التناول لغير الحاكم من باب الأمر بالمعروف على حكم الحاكم ، كما هو واضح. وحينئذ لا فرق بين الإقرار والبينة بالنسبة إلى ذلك.

ودعوى الفرق بأنه لا مجال لحكم الحاكم مع الإقرار إذ لا خصومة حينئذ كي يحكم بقطعها بخلاف البينة يدفعها اتفاقهم ظاهرا على صحة حكم الحاكم به في المقام وإن قال في المسالك : « إن فائدته بعد فرض عدم توقف ثبوت الحق عليه إنفاذ حاكم آخر إياه ونحو ذلك بخلاف الحكم المترتب على البينة ، فإنه من تمام السبب في ثبوت الحق ».

ولكن فيه منع واضح بعد ما عرفت من عدم الفرق بينهما بالنسبة إلى إنشاء الحكم من الحاكم بمقتضاهما ليترتب عليه ثمراته ، فهما من هذه الجهة سواء في التوقف على حكم الحاكم ، كما أنهما سواء في جواز التناول لهما ، لا من حيث الحكومة المقتضية لقطع النزاع وللفصل بين المتخاصمين ، بل من باب كون كل منهما حجة شرعية لكل من حصلا عنده ، بل لعل الحكم كذلك في باقي الموازين كالشاهد واليمين والنكول واليمين المردودة ،

١٦١

ولعله إلى ذلك يرجع ما يحكى عن الأستاد الأكبر من توقفهما معا على حكومة الحاكم فيجب أن لا يكون فصل بين المتخاصمين إلا بإنشاء الحكومة منه ، من غير فرق بين البينة والإقرار ويمين المنكر وغيرها ، وإن ثبت الحق بها قبل إنشاء الحكومة ، ولكل ثمرات ، والله العالم.

( و ) كيف كان فـ ( ـهل يحكم ) الحاكم ( به ) أي الإقرار ( عليه ) أي المقر ( من دون مسألة المدعي؟ قيل ) والقائل الشيخ في المحكي من مبسوطة ( لا ) يجوز ( لأنه حق له ، فلا يستوفى إلا بمسألته ) نحو ما سمعته سابقا في سؤال الحاكم المدعى عليه الجواب من دون مسألته ، إلا أن الأقوى خلافه ، بل لعل في نسبة المصنف له إلى القيل هنا اشعارا بتمريضه وإن كان مختاره في الأول التوقف.

وكأنه فرق بينهما بأن الحكم للحاكم كما هو مقتضى إطلاق أدلته بخلاف الدعوى سؤالا وجوابا ، فإنها لغيره.

وفيه منع ، ضرورة اقتضاء إطلاق الأدلة أن الحكومة ومقدماتها بعد حضور المتخاصمين مجلس الخصومة عنده إليه ما لم يرفعا يدا أو المدعي عنها ، ولذا كان الأقوى في المقامين عدم التوقف لذلك ، لا لما عن المختلف من أنه ربما يجهل المدعي أن ذلك حق له فيضيع حقه ، ضرورة اقتضائه تنبيه الحاكم له على ذلك لا الحكم بدون إذنه ، فالأولى الاستدلال بما سمعت ، على أن شاهد الحال في الموضعين متحقق.

وربما استشعر بعضهم من تعليل عدم التوقف بالأخير الاتفاق منهم على اعتبار الاذن ، وإنما الخلاف في الاجتزاء عنها بشاهد الحال وعدمه.

وفيه أنه ليس من الجميع ، بل صريح بعضهم الاستدلال بما يقتضي كون ذلك للحاكم ، على أنه لا بأس بذكره ردا للخصم القائل باعتبار الاذن ومماشاة له ، وإلا فقد عرفت التحقيق.

١٦٢

بل قد يقال بوجوب الحكم على الحاكم بعد حصول مقتضية وإن لم يرض المدعي ، كما لو وجه اليمين على المنكر وحلف على ذلك وأراد الحاكم قطع الدعوى بإنشاء الحكم ولم يأذن المدعي لم يسمع منه ، كما لم يسمع من المنكر في غير الفرض.

ومن ذلك يعلم أن ثمرة الحكومة تارة تكون للمدعي وأخرى للمنكر ، فإطلاق كونها للمدعي في غير محله ، كإطلاق القول بتوقفها على الاذن المنافي منصب القاضي للفصل بين الناس وخصوماتهم التي يرجعون بها إليه ويحكمون فيما بينهم فيها.

( و ) كيف كان فـ ( ـصورة الحكم ) ما قدمناه سابقا ، ومنه ( أن يقول : ألزمتك أو قضيت عليك أو ادفع إليه ماله ) قاصدا إنشاء الفصل بينهما بذلك ( ولو التمس أن يكتب له بالإقرار ) أو بالحكم به لم يجب عليه ذلك على الأصح حتى لو بذل المقدمات ، كما عرفت البحث فيه سابقا.

ولو أجاب ( لم يكتب حتى يعلم اسمه ونسبه ) على وجه يتشخص به عن غيره بالطرق المفيدة لذلك ( أو يشهد ) عليهما ( شاهدا عدل ) حتى يأمن بذلك من التدليس بجعل الحكومة بالإقرار أو الشهادة به لغير من وقع ، كما اتفق حصوله في زماننا من بعض المزبورة.

( ولو شهد عليه بالحلية ) والصفة المشخصة له عن غيره ( جاز ولم يفتقر ) حينئذ ( إلى معرفة النسب واكتفى بذكر حليته ) واقتصار جملة من الأصحاب على الأول لا يقتضي الخلاف في الثاني ، وما عن ابن إدريس ـ من الاعتراض بانتفاء المستند للتعويل على الحلية وبأنه مصير إلى أن للإنسان أن يعمل بما يجد به خطا مكتوبا من غير ذكر للشهادة وقطع على من شهد عليه ورجوع إلى العمل بكتاب قاض إلى قاض ، وجميع ذلك‌

١٦٣

باطل عندنا ـ واضح الفساد.

ومن هنا قال في المختلف : « والتحقيق أنه لا مشاحة هنا ، لأن القصد تخصيص الغريم وتميزه عن غيره وازالة الاشتباه ، فان حصل ذلك بالتحلية جاز ، واللوازم التي ذكرها ابن إدريس غير لازمة ، لأن الخط جعل مذكرا ومنبها على القضية ، فإذا وقف الإنسان على خطه فان ذكر القضية أقام الشهادة وإلا فلا » وهو جيد.

وكيف كان فان امتنع المحكوم عليه بالأداء عنه أغلظ له بقول : يا ظالم ونحوه ولو التمس الغريم حبسه حبس بلا خلاف ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « لَيّ الواجد يحل عقوبته وعرضه » وفي الموثق (٢) « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر فيقسم ماله بينهم بالحصص ، فان أبى باعه فيقسمه بينهم » وغير ذلك مما قدمناه في الفلس (٣).

( ولو ادعى الإعسار ) الذي مر تحقيقه أيضا ( كشف عن حاله ، فان استبان فقره أنظره ) وفاقا للمشهور ، للأصل ولقوله تعالى (٤) ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) و‌للموثق (٥) وغيره « إن عليا عليه‌السلام كان يحبس في الدين ، فإذا تبين له إفلاس وحاجة خلى سبيله حتى يستفيد مالا » ول‌ خبر السكوني (٦) « إن امرأة استعدت عليا (ع)

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب القرض ـ الحديث ٤ وفيه‌ « لي الواجد بالدين يحل عرضه وعقوبته » ‌(٢) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من كتاب الحجر ـ الحديث ١.

(٣) راجع ج ٢٥ ص ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٤) سورة البقرة : ٢ الآية ٢٨٠.

(٥) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الحجر ـ الحديث ١.

(٦) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الحجر ـ الحديث ٢.

١٦٤

على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان زوجها معسرا فأبى أن يحبسه ، وقال : إن مع العسر يسرا ».

بل في كشف اللثام وخبر زرارة أو صحيحه (١) « كان علي عليه‌السلام لا يحبس في السجن إلا ثلاثة : الغاصب ومن أكل مال اليتيم ومن أوتمن على أمانة فذهب بها ، وإن وجد له شيئا باعه غائبا أو شاهدا » بل عن كشف الرموز أنه المراد برواية الانظار (٢) وإن كان هو كما ترى ، بل لا دلالة فيه على ما سمعته من الشيخ وابن حمزة ، مضافا إلى معلومية بطلان الحصر فيه بالإجماع وغيره ، بل وإلى منافاته ما سمعته من النصوص (٣) من الحبس في الدين ، والجمع بإرادة الحبس الطويل أو حبس العقوبة أو نحو ذلك بعيد وإن كان هو أولى من الطرح ، فالعمدة حينئذ في إثبات المطلوب ما سمعت.

ولكن مع ذلك عن الشيخ في النهاية أنه يدفع إلى غرمائه ليؤجروه ويستعملوه ، لخبر السكوني (٤) « أن عليا عليه‌السلام كان يحبس في الدين ثم ينظر إن كان له مال أعطى الغرماء وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم آجروه وإن شئتم استعملوه ».

وإلى ذلك أشار المصنف بقوله ( وفي تسليمه إلى غرمائه ليستعملوه أو يؤاجروه ) يعني : أو إنظاره ( روايتان أشهرهما ) عملا وأصحهما سندا وأكثرهما عددا وأوفقهما بالأصل والكتاب كما عرفت رواية ( الانظار ) ‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢ وفيه‌ « لا يحبس في الدين » وفي التهذيب ج ٦ ص ٢٩٩ الرقم ٨٣٦‌ « لا يحبس في السجن » ‌

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الحجر.

(٣) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الحجر.

(٤) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الحجر ـ الحديث ٣.

١٦٥

بل عن الشيخ أنه رجع عن العمل بها إلى ما عليه الأصحاب ، بل كتابه النهاية ليس معدا للفتوى ، بل هو متون أخبار ، وبذلك يظهر شذوذ الرواية المزبورة ، فتطرح أو تحمل على ما إذا كان ذلك بالتراضي لإرادة قطع النزاع من زيادة الكسب لو غرم عليه على النفقة وعدمها أو غير ذلك.

ومنه يعلم ما في المحكي عن ابن حمزة أيضا من أنه « إذا لم يكن ذا حرفة خلي سبيله ، وإن كان ذا حرفة دفعه إلى الغريم ليستعمله ، فما فضل عن قوته وقوت عياله بالمعروف أخذ بحقه » الذي مستنده أيضا الخبر المزبور الذي قد عرفت حاله وإن كان نفى عنه البعد في المختلف قال : « لأنه متمكن من أداء ما وجب عليه ، وهو إيفاء صاحب الدين حقه ، فيجب عليه ، أما الكبرى فظاهرة ، وأما الصغرى فلأن الفرض أنه متمكن من الكسب والتحصيل ، وكما يجب السعي في المئونة كذا يجب في أداء الدين ، قال : ونمنع إعساره ، لأنه متمكن ، ولا فرق بين القدرة على المال والقدرة على تحصيله ، ولهذا منعنا القادر على التكسب بالصنعة والحرفة من أخذ الزكاة باعتبار إلحاقه بالغني القادر على المال ـ قال ـ : والآية ـ يعني آية الإنظار (١) ـ متأولة بالعاجز عن التكسب والتحصيل ، وكذا ما ورد من الأخبار (٢) » فإن ذلك لا يفيد إلا وجوب التكسب عليه ، وهو غير دفعه إليهم وجعلهم أولياء إن شاؤوا استعملوه وإن شاؤوا آجروه ، على أن في أصل وجوب التكسب عليه إشكالا وإن كان هو مقدمة للواجب الذي مقتضى الأصل كونه مطلقا ، إلا أن ذلك يتوقف على إطلاق أمر بالأداء وإلا فالأصل في الواجب أن يكون مشروطا لأصل البراءة وغيره ، وإطلاق الكتاب والسنة إنما‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٨٠.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الحجر.

١٦٦

يقتضي الوجوب باليسار الممنوع صدقه بمجرد القدرة على التكسب الذي مقتضى ما سمعت كونه مشروطا بالنسبة إليه.

هذا وفي المحكي عن المبسوط بعد ذكر الخلاف في الإجبار على التكسب وذكر‌ خبر السكوني (١) قال : « ولا خلاف في أنه لا يجب عليه قبول الهبات والوصايا والاحتشاش والاحتطاب والاصطياد والاغتنام والتلصص في دار الحرب وقتل الأبطال وسلبهم ثيابهم وسلاحهم ، ولا تؤمر الامرأة بالتزويج لتأخذ المهر وتقضي الديون ، ولا يؤمر الرجل بخلع زوجته فيأخذ عوضه ، لأنه لا دليل على شي‌ء من ذلك ، والأصل براءة الذمة ».

ولعله لمعارضة دليل المقدمة بنفي الضرر والحرج في بعض الأفراد المزبورة ، أو لعدم إطلاق في الأداء لو سلم على وجه يفيد وجوب نحو ذلك مما هو غير متعارف في التكسب ، فيبقى حينئذ واجبا مشروطا بالنسبة إلى ذلك ونحوه ، لا أنه مقدمة للواجب المطلق.

اللهم إلا أن يقال : إن ذلك كله في غير صاحب الصنعة كالنجار والحداد والحائك ونحوهم ممن عدوهم في قسم الأغنياء ، ولكن فيه حينئذ أن ذلك خروج عن محل البحث الذي متعلقة المعسر كما هو واضح ، على أن المسلم من عدم جواز دفع الزكاة إليهم مع تشاغلهم بصنائعهم المفروض قيامها بنفقتهم إما وجوب تشاغلهم بها لذلك أو للدين ، فهو ممنوع للأصل وغيره ، لما عرفته سابقا.

( و ) على كل حال فـ ( ـهل يحبس حتى يتبين حاله؟ فيه تفصيل ذكر ) ه‍ المصنف ( في باب الفلس ) (٢) وهو إن وجد البينة قضى بها ، وإن عدمها‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من كتاب الحجر ـ الحديث ٣.

(٢) راجع ج ٢٥ ص ٣٥٢ ـ ٣٦٠.

١٦٧

وكان له مال أو كان أصل الدعوى مالا حبس حتى يثبت إعساره بالبينة المطلعة على باطن أمره ، لأصالة بقاء المال ، فان لم تكن له بينة حلف المدعي على عدم التلف ، كما في كشف اللثام ، وإلا فلا لأصالة عدمه ، فيحلف على الفقر ويخلى سبيله ، فان نكل حلف المدعي على القدرة وحبس.

وفي محكي التذكرة « فإذا حبسه فلا يغفل عنه بالكلية ، ولو كان غريبا لا يتمكن من إقامة البينة وكل به القاضي من يبحث عن منشأه ومنتقله وتفحص عن أحواله بقدر الطاقة ، فإذا غلب على ظنه إفلاسه شهد به عند القاضي لئلا تتخلد عليه عقوبة السجن » وهذا التفصيل قد نسبه بعضهم إلى الشهرة ، لكن قد يناقش بظهور الموثق (١) السابق وغيره في حبسه في الدين الشامل لنحو مهر الزوجة وغيره إلى أن يتبين إفلاسه وحاجته ، ولعله لأن صفة الإعسار المعلق عليها حكم الانظار لا تثبت بأصالة عدم المال ، كما لا يثبت اليسار بأصالة بقاء المال ، لأنهما صفتان وجوديتان ، وليس هما عين عدم المال ووجوده ، بل لو سلم أنهما من لوازم ذلك فالأصل حجة في الشي‌ء نفسه لا في لوازمه ، كما هو محرر في محله. كل ذا مضافا إلى الخبر المزبور (٢) وغيره.

بل قد يقال بمعلومية انقطاع أصالة عدم المال التي كانت قبل الولادة ، ولم يعلم انقطاعها بما يقتضي اليسار للدين المدعى أو لا ، ولا أصل ينقح ذلك ، لأنه شي‌ء جديد غير عدم المال السابق ، فيحتاج إلى البينة في تحقق شرط الانظار الذي هو الإعسار ، وهو لا يقتضي اشتراط استحقاق الوفاء باليسار كي يكون غير متحقق ، فتأمل جيدا فإنه دقيق.

بل قد يقال بعدم حال سابق للشخص غير مالك فيه حتى يستصحب لاحتمال مقارنة الملك لوجوده بالوصية أو الإرث أو نحوهما ، اللهم إلا‌

__________________

(١) الوسائل ـ ٧ ـ من كتاب الحجر ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ ٧ ـ من كتاب الحجر ـ الحديث ١.

١٦٨

أن يقال : إن الملك لا يكون إلا بسبب ، والأصل عدم حصوله ، فينقح وجوده غير مالك ، فتأمل جيدا.

وتصديق مدعي الفقر في جواز إعطاء الزكاة لدليله الذي قد ذكرناه في بابه لا يقتضي ثبوت الإعسار في الواقع على وجه يسقط به حق الغير المعلق على حصوله في الواقع.

ولو قيل : الأصل في ذلك أن الإعسار شي‌ء لا يعلم إلا من قبله بل هو كصاحب اليد على ما عنده حتى بالنسبة إلى المال الذي ادعى تلفه ففيه أن المتجه حينئذ قبول قوله بيمينه حتى إذا كان له مال أو كان أصل الدعوى مالا ، وقد عرفت أن المشهور خلافه ، وقد مر تمام الكلام في كتاب الفلس (١) فلاحظ.

( وأما ) الجواب بـ ( ـالإنكار فـ ) ـهو ( إذا قال ) مثلا ( لا حق له علي ، فان كان المدعي يعلم أنه موضع المطالبة بالبينة فالحاكم ) العالم بحاله ( بالخيار ، إن شاء قال للمدعي : ألك بينة؟ وإن شاء سكت ) للأصل وغيره.

( أما إذا كان المدعي لا يعلم أنه موضع المطالبة بالبينة ) أو جهل حاله ( وجب أن يقول الحاكم ذلك ) القول ( أو ) ما في ( معناه ) لئلا يضيع الحق ، بل لعل ذلك يجب عليه في الأول إذا قام في المدعي احتمال أنه ليس له إحضار البينة إلا إذا طلبها الحاكم منه وإن كان قد علم أن عليه البينة ، بل قد يقال بوجوبه عليه مطلقا ، لأنه مقدمة للقضاء المأمور به بين المتخاصمين ، وعلمه بالحال لا ينافي ذلك منه.

( فان لم تكن له بينة عرفه الحاكم أن له اليمين ) إن كان غير عالم بذلك أو مجهول الحال أو مطلقا على نحو ما سمعته في البينة.

__________________

(١) راجع ج ٢٥ ص ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

١٦٩

( و ) على كل حال فـ ( ـلا يحلف المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي ) بلا خلاف أجده هنا ، بل في الرياض قولا واحدا ، وفي كشف اللثام اتفاقا ( لأنه حق له فيتوقف استيفاؤه على المطالبة ) إذ هو كما في المسالك ليس هو على نهج الحقين السابقين من طلب الجواب والحكم ، ومن ثم وقع الخلاف فيهما دونه ، والفرق أن الحق فيهما لا يغير الحكم بالنسبة إلى المدعي بل يؤكده ، بخلاف تحليف المنكر ، فإنه يسقط الدعوى التي قد يتعلق غرض المدعي ببقائها إلى وقت آخر ، إما لتذكر البينة أو ليتحرى وقتا صالحا لا يتجرأ المنكر على الحلف فيه ونحو ذلك ، فليس للحاكم أن يستوفيه بغير إذنه.

وحكي أن أبا الحسين ابن أبي عمر القاضي أول ما جلس للقضاء ارتفع إليه خصمان وادعى أحدهما على صاحبه دنانير فأنكره ، فقال القاضي للمدعي : ألك بينة؟ قال : لا ، فاستحلف القاضي من غير مسألة المدعي ، فلما فرغ قال له المدعي : ما سألتك أن تستحلفه لي ، فأمر أبو الحسين أن يعطى الدنانير من خزانته ، لأنه أستحيي أن يحلفه ثانيا.

وفيه أن ذلك يقتضي عدم تحليفه مع عدم رضاه لا عدمه مطلقا حتى مع قيام شاهد الحال الذي قد سمعت دعواه في المقامين السابقين ، واحتمال عدمه هنا لاحتمال تعلق غرضه ببقاء الدعوى كما ترى ، بل قد يأتي فيه التعليل الآخر ، وهو أن ذلك من منصب الحاكم المأمور بقطع الخصومة بين المتخاصمين ، فيجب تحصيله مطلقا أو ما لم يلتمس المدعي التأخير ، خصوصا بعد إطلاق‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » فالأولى الاستدلال لذلك بعد الإجماع‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٥ والباب ـ ٢٥ ـ منها الحديث ٣.

١٧٠

المزبور بظاهر النصوص (١) الآتية في اشتراط الرضا الذي لا بد من العلم به ، وشاهد الحال إنما يفيد الظن ، فتأمل.

هذا ( و ) لكن لا يخفى عليك أنه على الأول ( لو تبرع هو أو تبرع الحاكم بإحلافه لم يعتد بتلك اليمين ، وأعادها الحاكم إن التمس المدعي ) بلا خلاف أجده فيه ، كما اعترف به غير واحد ، نعم ذكر الشهيدان وغيرهما من غير خلاف أجده فيه أيضا بل في مجمع البرهان نسبته إلى الأصحاب أنه لا يستقل الغريم باليمين من دون إذن الحاكم وإن كان حقا لغيره ، لأنه وظيفته وإن كان إقامة الدليل عليه ـ إن لم يكن إجماع ـ في غاية الصعوبة ، بل لعل ظاهر الأدلة الآتية خصوصا خبر اليهودي (٢) المشتمل على تحليف الوالي المعلوم كونه ليس من أهل الحكومة خلافه ، وربما يأتي إنشاء الله تتمة.

( ثم المنكر إما أن يحلف أو يرد أو ينكل ، فإذا حلف سقطت الدعوى ) في الدنيا وإن لم تبرأ ذمته من الحق في نفس الأمر قطعا لو كان كاذبا ، فيجب عليه التخلص فيما بينه وبين ربه من حق المدعي ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) : « إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان ، وبعضكم ألحن بحجته من بعض ، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له قطعة من النار » ( و ) منه يعلم أن البينة الكاذبة كذلك.

نعم لا ريب في سقوطها في الظاهر حتى ( لو ظفر المدعي بعد ذلك بمال الغريم لم تحل له المقاصة ) لعدم حق له عليه في الدنيا إلا أن‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ و ١٠ ـ من أبواب كيفية الحكم.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

١٧١

يكذب نفسه كما صرح به في كشف اللثام ، وحينئذ ( ولو عاود المطالبة أثم ولم تسمع دعواه ) مع عدم البينة بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ، بل لو أعادها عند ذلك الحاكم لنسيانه أو عند حاكم آخر ولو لنسيان المنكر واتفق نكوله عن اليمين لم يحل له الأخذ ، بل ظاهرهم ذلك أيضا في العين المملوكة وإن كان استفادة حرمة التصرف فيها مثلا باطنا من النصوص الآتية لا يخلو من صعوبة.

قال الصادق عليه‌السلام في خبر ابن أبي يعفور (١) : « إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر لحقه واستحلفه فحلف لا حق له عليه ، وذهبت اليمين بحق المدعي ، فلا حق له ، قلت : وإن كانت له عليه بينة عادلة؟ قال : نعم وإن أقام بعد ما استحلفه خمسين قسامة ما كان له وكان اليمين قد أبطل كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من حلف لكم بالله فصدقوه ، وإن سألكم بالله فأعطوه ، وذهبت اليمين بحق المدعى ولا دعوى له ».

وفي‌ خبر آخر عن الصادق عليه‌السلام (٢) « في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده ، قال : إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه شيئا وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه ».

وقال عبد الله بن وضاح (٣) : « كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم ، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف ، وقد علمت أنه حلف يمينا فاجرة ، فوقع له بعد ذلك أرباح ودراهم كثيرة فأردت أن أقبض الألف درهم التي كانت لي عنده وأحلف عليها فكتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام فأخبرته بالقصة ، فكتب : لا تأخذ منه‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢ مع الاختلاف في الألفاظ.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

١٧٢

شيئا ، إن كان قد ظلمك فلا تظلمه ، ولولا أنك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك ، ولكنك رضيت بيمينه فقد مضت اليمين بما فيها » إلى غير ذلك من النصوص (١).

ومنها صريحا ( و ) ظاهرا يعلم أنه ( لو أقام ) المدعي ( بينة بما حلف عليه المنكر لم تسمع ) كما هو المشهور ، بل عن خلاف الشيخ والغنية الإجماع عليه ، لأنه لا حق له ، فلا تكون البينة حجة له ( و ) إن كان قد ( قيل ) كما عن المفيد وابن حمزة والقاضي ( يعمل بها ما لم يشترط المنكر سقوط الحق باليمين ).

( وقيل ) قياسا على الإقرار الواضح الفرق بينه وبين البينة ولو للنص الذي تسمعه فيه والإجماع كما عن ابن إدريس وغيره وموضع من المبسوط ( إن نسي بينته ) أو لم يعلم بها ( سمعت وإن أحلف ) وعن المختلف أنه قواه ، بل عن موضع آخر منه (٢) أنها تسمع مطلقا.

( و ) لكن الجميع كما ترى بعد ما عرفت أن ( الأول هو المروي ) المعمول به عند المعظم ، بل الظاهر أنه إجماع.

( وكذا لو أقام بعد الإحلاف شاهدا وبذل معه اليمين و ) لو متعددا ، بل ( هنا أولى ) بعد السماع ، لأنه أضعف من البينة ، هذا كله في البينة.

( أما لو أكذب الحالف نفسه ) بالإقرار ( جاز مطالبته ) بالحق ( وحل مقاصته مما يجده له مع امتناعه من التسليم ) بلا خلاف أجده فيه ، كما اعترف به غير واحد ، بل عن المهذب والصيمري‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤٨ ـ من كتاب الايمان.

(٢) أي من المبسوط.

١٧٣

الإجماع عليه ، لعموم « إقرار العقلاء » (١) المقتضي كون ذلك سببا مثبتا جديدا للاستحقاق غير ما سقط باليمين المرجح على تلك النصوص (٢) ـ بعد فرض تسليم اندراج الفرض فيها ، ضرورة كون التعارض بينهما من وجه ـ بما سمعت من الإجماع المعتضد بنفي الخلاف ، وبخصوص‌ المعتبر (٣) « إني كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه فحلف لي ، ثم إنه جاء بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إياه ، فقال : هذا مالك فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك واجعلني في حل ، فأخذت المال منه وأبيت أن آخذ الربح منه ، وأوقفت المال الذي كنت استودعته حتى أستطلع رأيك ، فما ترى؟ قال : فقال : خذ نصف الربح وأعطه النصف وحلله ، إن هذا رجل تائب ، والله يحب التوابين » وأخصية المورد تندفع بعدم القائل بالفرق ، بل يمكن استفادة التعميم من سياقه سؤالا وجوابا.

وفي المحكي عن‌ فقه الرضا عليه‌السلام (٤) « وإذا أعطيت رجلا مالا فجحدك وحلف عليه ثم أتاك بالمال بعد مدة وربما ربح فيه وندم على ما كان منه فخذ منه رأس مالك ونصف الربح ، ورد عليه نصف الربح ، هذا رجل نائب ».

فما عن بعض من المناقشة في الحكم هنا بعدم نص فيه ولا دليل يخص به أو يقيد النصوص السابقة في غير محله بعد ما عرفت.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار ـ الحديث ٢ والمستدرك ـ الباب ـ ٢ ـ منه الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ٩ و ١٠ من أبواب كيفية الحكم.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤٨ ـ من كتاب الايمان الحديث ٣.

(٤) البحار ـ ج ١٠٤ ص ٢٨٨.

١٧٤

بل الظاهر عدم الفرق في الإقرار المقتضي لذلك بين ثبوته عند الحاكم وعدمه ، فلو أقر وأكذب نفسه بينه وبين المدعي ثم امتنع عن التسليم حل له المقاصة باطنا ، بل هو كذلك أيضا وإن لم يكن بعنوان التوبة ، ولعل ذلك ونحوه من التعبد المحض ، كما أن منه عدم جواز التصرف في العين باطنا بعد اليمين وعدم إكذاب نفسه ولو بلبس ونحوه ، بل لا يجوز له عتق العبد ونحوه مما لا ينافي بقاء المال في يده ، بل لا يصح الإبراء منه له ، كل ذلك لعدم حق له في المال في الدنيا ، كما هو مقتضى‌ قوله عليه‌السلام (١) : « ذهبت اليمين بما فيها » وقوله عليه‌السلام (٢) : « أبطل كل ما ادعاه قبله » بل هو مقتضى ما سمعته سابقا من كشف اللثام وإن كان هو ـ إن لم يكن إجماع أو شهرة معتد بها تجبر دلالة النصوص على ذلك ـ لا يخلو من نظر بالنسبة إلى التصرف الذي لا يكون حقا للمدعي على المنكر ، مثل العتق والإبراء ونحوهما مما هو ليس حقا له عليه وإنما هو تابع لأصل المالية التي لا ريب في بقائها بعد الحلف ، فتأمل جيدا.

ثم إنه قد يتوهم من ظاهر النصوص (٣) سقوط الدعوى بمجرد حصول اليمين من المنكر من غير حاجة إلى إنشاء حكم من الحاكم بذلك ، لكن التحقيق خلافه ، ضرورة كون المراد من هذه النصوص وما شابهها تعليم ما به يحكم الحاكم وإلا فلا بد من القضاء والفصل بعد ذلك ، كما أومأ إليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) : « إنما أقضي بينكم بالبينات‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

(٣) الوسائل الباب ـ ٩ و ١٠ من أبواب كيفية الحكم.

(٤) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

١٧٥

والأيمان » بل لو أخذ بظاهر هذه النصوص وشبهها لم يحتج إلى إنشاء الحكومة من الحاكم مطلقا ، ضرورة ظهورها في سقوط دعوى المدعى وثبوت الحق بالبينة ونحوها ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا حلف المنكر ( وإن رد اليمين على المدعي لزمه الحلف ) إن أراد تحصيل حقه بلا خلاف أجده فيه ، بل للإجماع بقسميه عليه ، وهو الحجة بعد النصوص المستفيضة أو المتواترة.

ك‌ خبر البصري (١) « قلت للشيخ ـ يعني موسى بن جعفر عليه‌السلام ـ : أخبرني عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلا يكون له بينة بما له ، قال : فيمين المدعى عليه ، فان حلف فلا حق له ، وإن لم يحلف فعليه وإن رد اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حق له ـ إلى أن قال ـ : ولو كان المدعى عليه حيا لألزم اليمين أو الحق أو رد اليمين عليه ».

وصحيح ابن مسلم (٢) عن أحدهما عليهما‌السلام « في الرجل يدعي ولا بينة له ، قال : يستحلفه ، فان رد اليمين على صاحب الحق فلم يحلف فلا حق له ».

وصحيح عبيد بن زرارة (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يدعي عليه الحق ولا بينة للمدعي ، قال : يستحلف أو يرد اليمين على صاحب الحق ، فان لم يفعل فلا حق له ».

ومرسل موسى المضمر (٤) قال : « استخراج الحقوق بأربعة وجوه : بشهادة رجلين عدلين ، فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ،

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٤ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٤ مرسل يونس المضمر.

١٧٦

فان لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدعي ، فان لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه ، فان لم يحلف ورد اليمين على المدعي فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقه ، فان أبى أن يحلف فلا شي‌ء له ».

ومرسل أبان (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الرجل يدعى عليه الحق وليس لصاحب الحق بينة ، قال : يستحلف المدعى عليه ، فان أبى أن يحلف وقال : أنا أرد اليمين عليك فان ذلك واجب على صاحب الحق أن يحلف ويأخذ ماله ».

وصحيح هشام (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « ترد اليمين على المدعي ».

وخبر أبى العباس (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « إذا أقام الرجل البينة على حقه فليس عليه يمين ، فان لم يقم البينة فرد الذي ادعي عليه اليمين فأبى أن يحلف فلا حق له » إلى غير ذلك.

نعم استثنى الأصحاب من ذلك مواضع : كدعوى التهمة أو الدعوى مطلقا بالظن بناء على سماعها ، ودعوى الوصي لليتيم مالا على آخر ، بل مطلق الولي له ، وكدعوى الوصي مثلا على الوارث أن الميت أوصى للفقراء بخمس أو زكاة أو حج ونحو ذلك مما لا مستحق له بخصوصه فأنكر الوارث ، وغير ذلك مما يتعذر فيه اليمين ، لعدم كون الدعوى جزمية ، أو لأن المال للغير الذي لا يثبت بيمين آخر ، ففي الأول يتخير المنكر بين الحلف والنكول دون الرد الذي قد تعذر من المدعي ، لعدم الجزم ، وكذا الأخيران ، نعم لو كان المدعي وكيلا وقد رد المنكر اليمين وقفت الدعوى حينئذ على حضور الموكل وحلفه أو نكوله.

هذا ولكن قد يناقش بظهور الأدلة في إطلاق تخيير المنكر بين‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٥.

(٢) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل الباب ـ ٨ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

١٧٧

الثلاثة ، وتعذر حلف المدعي في هذه الصور لا ينافي بقاء التخيير المقتضي سقوط حق الدعوى عنه بعدم حلفه ولو لمانع ، فان وجود المانع فيه لا يرفع تخيير المنكر ، ضرورة سقوط أحد أفراد التخيير بالتعذر إنما هو بالنسبة إلى من له التخيير لا شخص آخر ، والفرض أن التخيير للمنكر ولا تعذر عليه ، وإنما هو بالنسبة إلى المدعي ، فيسقط حقه لو اتفق عدم جواز اليمين له لمانع : نذر ونحوه.

هذا بعد تسليم عدم جواز اليمين للولي الجازم بالمدعى عليه ، وإلا اتجه الرد حينئذ عليه كالمدعي لنفسه تمسكا بإطلاق الأدلة الشاملة له اللهم إلا أن يكون إجماع مثلا على ذلك ، وحينئذ تبقى المناقشة الأولى ، وهي اقتضاء تعذر اليمين بعد ردها عليه من المنكر سقوط الدعوى بالنسبة إليه ، لصدق أنه لم يحلف ، نعم لا تسقط بالنسبة إلى الطفل بعد بلوغه ورشده.

وقد تدفع أصل المناقشة بدعوى ظهور النصوص في أن التخيير المزبور للمنكر بين الثلاثة إنما هو في المدعي لنفسه جازما ، أما في مثل الفرض فلا دليل على أن له الرد فيه ، وحينئذ يتعين عليه الحلف أو النكول المقتضي لأداء الحق ، بل عرفت في الدعوى الظنية احتمال حبسه وإلزامه بالحلف أو الإقرار ، لعدم جواز تناول المدعي المال بنكوله بعد فرض كونه ظانا في أحد الوجهين مؤيدا ذلك بظهور المفروغية من الاستثناء المزبور عند الأصحاب.

ثم إنه قد ذكر غير واحد منهم أن اليمين المردودة إذا وقعت من المدعي فهل هي بمنزلة البينة أو بمنزلة الإقرار؟ وقالوا فيه قولان : بل عن فخر المحققين أن الأول قواه الأكثر وإن استبعده في الدروس ، ولعل وجهه أن الذي يطلب من المدعي البينة ، واليمين المردودة قامت‌

١٧٨

مقامها في الإثبات ، كما أن وجه الثاني إشعار رد المنكر على المدعي وامتناعه عن اليمين باعترافه بالحق ، على أن ثبوته بها قد جاء من قبل رده ، فهو في الحقيقة منه ، فكان كإقراره.

وقد فرعوا على ذلك فروعا كثيرة متفرقة في أبواب الفقه : ( منها ) أن المدعى عليه إذا أقام بينة على أداء المال أو على الإبراء عنه بعد حلف المدعي فان قلنا يمينه كبينته سمعت بينة المدعى عليه ، وإن جعلناها كإقرار المدعى عليه لم تسمع ، لأنه مكذب لبينته. و ( منها ) احتياج الثبوت بها إلى حكم الحاكم على الأول بخلاف الثاني ، بناء على ما ذكروه من عدم الاحتياج فيه إلى حكم الحاكم.

وفيه ـ بعد وضوح الضعف لما سمعته من دليلها ـ أن ذلك فرع ما يقتضي انحصار حق المدعي بأحدهما لا غير ، وهو ممنوع ، ومن هنا اتجه جعلها قسما مستقلا برأسه ، ويرجع حينئذ حكم ما ثبت بها بالنسبة إلى ذلك ونحوه إلى الأصول والقواعد وغيرهما من الأدلة التي لا ريب في اقتضاء كونه بحكم البينة تارة وبحكم الإقرار أخرى ، وخروجه عنها ثالثة ، كما جزم بذلك بعض متأخري المتأخرين.

وحينئذ فالحكم في الفرع الأول السماع ، لعموم قبول البينة بعد ما عرفت من اختصاص الأحكام المزبورة بيمين المنكر لا مطلقا ، لكن استظهر الأردبيلي العدم ، لظهور إقدامهما على ذلك ، ولظهور الأدلة في السقوط بها كاليمين من المنكر ، وهو لا يخلو من وجه.

وفي الثاني عدم التوقف بناء على أن التوقف عليه مخالف للأصل وإن كان لا يخلو من نظر ، لأن الأصل عدم ثبوت الحق ، اللهم إلا أن يستند إلى إطلاق الأدلة المزبورة ، وهو مع أنه غير الأصل المزبور في معرض بيان سبب حكومة الحاكم نحو ما سمعته في يمين المنكر ، لا أن‌

١٧٩

المراد ثبوت الحق بمجرد وقوعه وإن لم ينشأ الحاكم الحكم ، وإلا كان ذلك مقتضى أدلة البينة أيضا وغيرها ، وهو معلوم الفساد.

( و ) كيف كان فلا ريب في ظهور الأدلة المزبورة ( في ظ ) ما أطلقه المصنف وغيره من أنه ( لو نكل سقطت دعواه ) بل الظاهر الإجماع عليه ـ في ذلك المجلس ، بل عن الإيضاح اتفاق الناس على ذلك.

وإنما الكلام في سماعها منه في مجلس آخر وظاهر المصنف وغيره ، بل هو صريح جماعة سقوطها مطلقا ، بل عن الكفاية لا أعرف فيه خلافا ، بل عن ظاهر الغنية الإجماع عليه ، بل عن المصنف دعوى الإجماع عليه صريحا ، بل لعله ظاهر الفاضل في موضع من القواعد أيضا.

هذا ولكن مع ذلك كله قال في المسالك وبعض من تأخر عنها : « إنه يسأله القاضي إذا امتنع عن سبب امتناعه ، فان لم يعلل بشي‌ء أو قال لا أريد أن أحلف فهذا نكول يسقط حقه عن اليمين ، وليس له مطالبة الخصم بعد ذلك ولا استئناف الدعوى في مجلس آخر ، كما لو حلف المدعى عليه ، لظاهر النصوص السابقة خصوصا الصحيحين (١) مضافا إلى أنه لو لا ذلك لرفع خصمه كل يوم إلى القاضي والخصم يرد اليمين عليه وهو لا يحلف ، وهو مناف لمنصب القضاء الذي هو الفصل بين المتخاصمين ، وإن ذكر المدعي لامتناعه سببا فقال : أريد أن آتي بالبينة أو أسأل الفقهاء أو أنظر في الحساب ونحو ذلك ترك ولم يبطل حقه من اليمين ، وهل يقدر إمهاله؟ فيه وجهان : أحدهما أنه لا يقدر ، لأن اليمين حقه ، وله تأخيره إلى أن يشاء كالبينة بخلاف المدعى عليه ، فإنه لا يمهل إن استمهل ، لأن الحق فيه لغيره ».

وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أن ظاهر النصوص السابقة يقتضي‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١ و ٢.

١٨٠