جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الله عليه وآله ) أن يضاف خصم إلا ومعه خصمه (١).

وفي النبوي (٢) المروي في المسالك « من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ، ولا يرفعن صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر ».

وفي الرياض « وهذه النصوص ـ مع اعتبار أسانيدها جملة وحجية بعضها ـ ظاهرة الدلالة في الوجوب ، كما هو الأظهر الأشهر بين متأخري الطائفة وفاقا للصدوقين ، بل حكي عليه الشهرة المطلقة في المسالك والروضة ، فهي أيضا لقصور النصوص أو ضعفها لو كان جابرة ».

إلا أنه لا يخفى عليك ما فيه من دعوى اعتبار أسانيدها وحجية بعضها ، لأنه مبني على أنه إن كان في السند أحد من أصحاب الإجماع لم تقدح جهالة الراوي بل وفسقه ، والتحقيق خلافه ، كما هو محرر في محله ، بل وفي حكاية الشهرة ، مع أن الموجود في المسالك النسبة إلى الأكثر ، بل الظاهر عدم تحقق ذلك على سبيل الوجوب ، خصوصا في مثل عبارة الصدوقين التابعة للتعبير بما في النصوص غالبا ، وحينئذ فقطع الأصول المعظمة بمثل هذه النصوص المنساق منها إرادة ضرب من الندب والكراهة كما سمعت الفتوى بها في إضافة أحد الخصمين مشكل ، خصوصا مع ظهور خبر سلمة في إرادة بيان الآداب في أحوال القاضي لا خصوص المتخاصمين الذي هو محل البحث ، وصعوبة المساواة الحقيقية سيما مع عدم التساوي منهما في مقتضاها ، ودعوى أن ذلك من العدل الذي أمره الله به ممنوعة إن كان المراد الوجوب حتى في نحو ذلك.

ومن هنا كان المحكي عن الديلمي والفاضل في المختلف وغيرهما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ٢.

(٢) سنن البيهقي ـ ج ١٠ ص ١٣٥.

١٤١

الاستحباب ، وهو الأقوى.

( و ) على كل حال فـ ( ـلا تجب التسوية في الميل بالقلب لتعذره غالبا ) وقد‌ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في القسم بين نسائه (١) : « هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك » يعني الميل بالقلب.

وما في‌ حسن الثمالي (٢) عن الباقر عليه‌السلام « أنه كان في بني إسرائيل قاض يقضي بالحق بينهم ، فلما حضره الموت قال لامرأته : إذا أنا مت فغسليني وكفنيني وضعيني على سريري وغطي وجهي فإنك لا ترين سوءا ، فلما مات فعلت ذلك ثم مكثت بذلك حينا ثم إنها كشفت عن وجهه لتنظر إليه ، فإذا هي بدودة تقرض منخره ففزعت من ذلك ، فلما كان الليل أتاها في منامها ، فقال لها : أفزعك ما رأيت؟ قالت : أجعل فقد فزعت ، قال لها : لئن كنت فزعت ما كان الذي رأيت إلا من أخيك فلان ، أتاني ومعه خصم له ، فلما جلسا إلى قلت : اللهم اجعل الحق له ووجه القضاء على صاحبه ، فلما اختصما كان الحق له ، ورأيت ذلك بينا في القضاء ، فوجهت القضاء له على صاحبه ، فأصابني ما رأيت لموضع هواي كان معه موافقة الحق » محمول على ضرب من الحث على المراتب العالية ، بل الظاهر كون المراد في الأول أيضا عدم إيثار أحدهما على وقوع ذلك منه.

أما إذا اتفق جلوسهما مثلا متفاوتا من غير مدخلية للقاضي فلا يجب عليه أن يوقع التساوي بينهما كما عساه يظهر ممن عرفت ، لصعوبة إقامة‌

__________________

(١) سنن البيهقي ـ ج ٧ ص ٢٩٨.

(٢) الوسائل الباب ـ ٩ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ١.

١٤٢

دليل معتبر عليه ( هذا كله مع التساوي في الإسلام أو الكفر ) (١)

( و ) أما ( لو كان أحدهما مسلما جاز أن يكون الذمي قائما والمسلم قاعدا أو أعلى منزلا ) بلا خلاف ، بل في الرياض أنه كذلك قولا واحدا ، وعن علي عليه‌السلام أنه جلس بجنب شريح في حكومة له مع يهودي في درع (٢) وقال : « لو كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك ولكن قد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا تساووهم في المجلس ».

وهل تجب التسوية فيما عدا ذلك؟ قد يتوهم من ظاهر العبارة ونحوها ذلك ، لكن التحقيق خلافه ، للأصل واختصاص النصوص (٣) الموجبة ـ ولو للتبادر ـ بغير الفرض المعلوم فيه شرف المسلم على غيره ، لما فيه من صفة الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه.

المسألة ( الثانية ) (٤)

( لا يجوز ) للحاكم ( أن يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه ) بأن يعلمه دعوى صحيحة لم يكن في نفسه الدعوى بها‌

__________________

(١) وفي الشرائع : « وإنما تجب التسوية مع التساوي في الإسلام أو الكفر ».

(٢) راجع المغني لابن قدامة ج ١١ ص ٤٤٤.

(٣) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم.

(٤) هكذا في النسخة الأصلية المسودة والمبيضة هنا وفيما يأتي من قوله ( قده ) : « المسألة الثالثة » و « المسألة الرابعة » وهكذا ، والصحيح كما في الشرائع زيادة كلمة « المسألة » حيث إن البحث في وظائف الحاكم لا في المسائل.

١٤٣

أو الإنكار في دعوى القرض عليه لا دعوى الوفاء المقتضية للإقرار.

( و ) كذا ( لا ) يجوز ( أن يهديه لوجوه الحجاج ) ونحوها مما يستظهر به على خصمه ( لأن ) شرع ( ذلك يفتح باب المنازعة ، وقد نصب لسدها ).

ولا يندرج في التلقين عرفا الاستفسار والتحقيق وإن اتفق تأديته في بعض الأحوال إلى اهتداء الخصم إلى ما يفيده في خصومته ، كما أنه لا يندرج في الفرض تلقينه بعد العلم بكونه على الحق ، إذ هو من المعاونة على البر وإن كان فيه فتح لباب المنازعة ، إذ لا دليل على حرمته مطلقا أو من القاضي في جميع الأحوال ، ودعوى الاستغناء عن التلقين في الفرض بالحكم حينئذ بعلمه يدفعها فرض وجود المانع من ذلك.

ثم إن الظاهر اختصاص الحكم بالمزبور أما غيره فلا دليل على حرمة التلقين عليه بعد فرض عدم العلم بفساد الدعوى ، بل إن لم يكن إجماع في القاضي أمكن المناقشة في تحريمه عليه فضلا عن غيره ، ومجرد فتح باب المنازعة المنصوب لسدها لا يقتضي حرمة ذلك ، خصوصا بعد إمكان اندراجه في تعليم محاورات الشرع ، والله العالم.

المسألة ( الثالثة : )

( إذا سكت الخصمان استحب ) له ( أن يقول لهما : تكلما أو ليتكلم المدعي ) منكما ( ولو أحسن منهما ) أن سكوتهما ( بـ ) ـسبب ( احتشامه أمر من يقول ) لهما ( ذلك ).

( و ) على كل حال ( يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما ، لما يتضمن من إيحاش الآخر ) لكن في المسالك ما حاصله « أن ذلك مناف‌

١٤٤

لما تقدم من وجوب التسوية بينهما في الكلام ، فاما أن يكون ذلك استثناء من السابق أو رجوع عن الحكم ، وظاهر العلامة في التحرير والشيخ في المبسوط التحريم ، لأنهما عبرا بصيغة النهي كالسالف ، وهو حسن ، لاشتراكهما في المقتضي له ، وفي الدروس لم يجعل التسوية في الكلام من الواجب ، وذكر كراهة تخصيص أحدهما بالخطاب هنا ، وهو يدل على كراهته مطلقا ».

قلت : قد عرفت أنه لا دليل على وجوب التسوية بينهما فيه بحيث يشمل الفرض ، بل هذا منه دليل على عدم إرادة ما يشمل ذلك منها ، بل المتجه الاقتصار على المتيقن الذي هو زيادة أحدهما على الآخر به على وجه يقتضي ظهور الميل إليه وإرادة الحكومة له ونحو ذلك مما يجر إلى التهمة ونحوها ، والله العالم.

المسألة ( الرابعة : )

( إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحا لزمه القضاء و ) لكن ( يستحب ترغيبهما في الصلح ) الذي هو خير ، ولا ينافي ذلك فورية القضاء عرفا حتى لو طلب المحكوم له تنجيز الحكم عاجلا ( فإن أبيا ) أو أبي أحدهما ( إلا المناجزة حكم بينهما ) (١) كما هو واضح.

__________________

(١) وفي الشرائع هنا : « وإن أشكل أخر الحكم حتى يتضح ، ولا حد للتأخير إلا الوضوح ».

١٤٥

المسألة ( الخامسة : )

( إذا ورد الخصوم مترتبين بدأ بالأول فالأول ) من غير فرق بين الذكر والأنثى والشريف والوضيع ، لأحقية السابق من غيره في جميع الحقوق المشتركة.

( فان ) لم يعلم أو ( وردوا جميعا قيل : يقرع بينهم ) بالطريق المتعارف فيها من وضع الرقاع في بنادق من طين وغيره ، لأنها لكل أمر مجهول ، ولمعلومية الترجيح بها في أمثال ذلك.

( وقيل : يكتب أسماء المدعين ، ولا يحتاج ) معهم ( إلى ذكر الخصوم ) لأن الحق لهم ، فان تعدد الخصوم لواحد منهم تخير حينئذ.

( وقيل : يذكرهم أيضا لتنحصر الحكومة معه ) فلو كان له خصمان كتب رقعتين ( وليس معتمدا ، و ) على كل حال ( يجعل ) تلك الأوراق المكتوب علي ( ها ) أسماء المدعين ( تحت ساتر ) مثلا ( ويخرج رقعة رقعة ثم يستدعي صاحبها ).

( وقيل ) بل في المسالك أنه المشهور ( إنما يكتب أسماؤهم مع تعسر القرعة بالكثرة ) والتحقيق أن ذلك قسم من القرعة لأن الغرض تقديم من يتقدم من المدعين من غير ترجيح من قبل الحاكم ولا ميل إلى أحدهم ، وهو يحصل بذلك ، بل لو لا ظهور الاتفاق لأمكن القول بالتخيير للحاكم المأمور على الإطلاق بالحكم بين الناس ، وأن المقام ليس من الحقوق في شي‌ء.

ثم إن المتقدم بالسبق أو القرعة إنما يقدم في دعوى واحدة ، فإن‌

١٤٦

كان له غيرها حضر في مجلس آخر ، سواء كانت مع ذلك المدعى عليه أو غيره.

وكذلك الكلام في الازدحام على المفتي والمدرس في العلوم الواجبة ، أما المندوبة فالخيار إليه ، ولو أسقط السابق حقه سقط ، وظاهر العبارة وغيرها وجوب مراعاة هذه الأحكام ، وقد يناقش فيه للأصل وغيره ، فيتجه التخيير له في ذلك.

المسألة ( السادسة : )

( إذا قطع المدعى عليه دعوى المدعي بدعوى لم يسمع حتى يجيب عن الدعوى ) التي هي أحق من دعواه بالسبق ( وتنتهي الحكومة ، ثم يستأنف هو ) دعواه إن لم يزاحمه أحد ، وإلا ترتب الحكم السابق ، والله العالم.

المسألة ( السابعة : )

( إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى ) لما عرفت ( ولو ابتدرا ) معا ( بالدعوى سمع من الذي على يمين صاحبه ) للإجماع المحكي عن المرتضى والشيخ ، ول‌ قول الصادق عليه‌السلام في صحيح ابن مسلم (١) : « إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قضى أن يقدم صاحب اليمين ». وقوله عليه‌السلام في صحيح ابن سنان (٢) : « إذا تقدمت مع خصم إلى وال أو قاض فكن عن يمينه ».

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل الباب ـ ٥ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

١٤٧

وفي محكي المبسوط نسبته إلى رواية أصحابنا ثم قال : « وقال قوم : يقرع بينهما ، ومنهم من قال : يقدم الحاكم من شاء ، ومنهم من قال : يصرفهما حتى يصطلحا ، ومنهم من كان يستحلف كل واحد منهما لصاحبه ، وبعد ما رويناه القرعة أولى ».

وفي محكي الخلاف بعد ما ذكر رواية أصحابنا والأقوال المزبورة قال : « دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ولو قلنا بالقرعة على ما ذهب إليه أصحاب الشافعي كان قويا ، لأنه مذهبنا في كل أمر مجهول » وفيه أنه لا جهالة بعد النص والإجماع.

( ولو اتفق مسافر وحاضر فهما سواء ما لم يستضر أحدهما فيقدم دفعا للضرر ) وكذا المرأة التي تتضرر بالتأخير عن بيتها. وبالجملة القرعة إنما هي مع عدم تضرر أحدهم وإلا ترجح ، لكن قد يناقش بعدم اقتضاء ذلك سقوط حق الآخر كما في الازدحام على باقي الحقوق المشتركة ، اللهم إلا أن يفرق بين المقام وبينها برجوع الحق فيه إلى اختيار القاضي وترجيحه ، فحيث لا يكون مرجح شرعي يرجع إلى القرعة ، بخلاف ما في المقام الذي فيه قاعدة الضرر والضرار ، والفرض عدم تضرر الآخر ، فتأمل جيدا.

( ويكره للحاكم أن يشفع في إسقاط حق ) بعد ثبوته ( أو إبطال ) دعوى قبله ، وفي المسالك « وعلى هذا فطريق الجمع بين ذلك وبين الترغيب في الصلح المقتضي غالبا لإسقاط بعض الحق إما بجعله متوسطا بين الاسقاط وعدمه ، أو جعله مستثنى كما يقتضيه كلام الأصحاب ، لأن الصلح خير ، أو بعث غيره على ترغيبهما في ذلك والوساطة بينهما في الصلح ، كما صرح به أبو الصلاح ، وهذا أولى ».

قلت : لعله لا تنافي بين رجحان الصلح قبل الحكم وإن تضمن بعض‌

١٤٨

أفراده إسقاطا وبين الشفاعة في إسقاط الحق بعد ثبوته ، بل الفرق بينهما في غاية الوضوح عرفا ، ولعل المراد الجمع بين الشفاعة في إبطال الدعوى قبل الثبوت وبين رجحان الترغيب على الصلح المقتضى لبطلانها فيتجه حينئذ ما ذكره.

وعلى كل حال فالوجه في الكراهة ما‌ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) سأله أسامة حاجة لبعض من خاصمه إليه ، فقال : « يا أسامة لا تسألني حاجة إذا جلست مجلس القضاء ، فان الحقوق ليس فيها شفاعة ».

( المقصد الثاني )

( في مسائل متعلقة بالدعوى ، وهي خمس : )

( الأولى )

( قال الشيخ ) وأبو الصلاح وبنوا حمزة وزهرة وإدريس في ما حكي عنهم ( لا تسمع الدعوى إذا كانت مجهولة ، مثل أن يدعي فرسا أو ثوبا ) وتبعهم الفاضل في المحكي من تحريره وإقرار تذكرته والشهيد في الدروس ، لانتفاء فائدتها ، وهو حكم الحاكم بها لو أجاب المدعى عليه بنعم.

( و ) فيه أنه مناف للمحكي عنه وغيره من أنه ( يقبل الإقرار المجهول ويلزم تفسيره ) ضرورة أنه مع فرض جواب المدعى عليه بنعم يكون من ذلك ، وحينئذ فالقول بصحة الإقرار بالمجهول‌

__________________

(١) المستدرك الباب ـ ١١ ـ من أبواب آداب القاضي ـ الحديث ٢.

١٤٩

يستلزم صحة الدعوى المجهولة وإن كان متعلقها غير الإقرار بالمجهول.

ودعوى الفرق بينهما ـ بأنه لو كلفنا المقر بالتفصيل ولم يقبل منه إقراره لأدى ذلك في بعض الأحوال إلى الرجوع عن الإقرار الذي اقتضى تعلق حق الغير به‌ بعموم « إقرار العقلاء » (١) بخلاف الدعوى ، فإن إلزامه بالتفصيل لا يقتضي ذلك ، لما فيه من داعي الحاجة إليها وكون الحق له بخلاف المقر فان الحق عليه هي كما ترى.

ومن هنا قال المصنف ( وفي الأول إشكال ) لوضوح ضعف دليله وضعف الفرق المزبور وإن أمكن تقريره بوجه آخر ، وهو أنه بالإقرار يتعلق حق المقر له وإن كان مورده مجهولا ،

لعموم « إقرار العقلاء » (٢) وحينئذ فيلزم بتفسيره الرافع للجهالة ، بخلاف الدعوى التي لا تعلق لها بغير المدعي ولا طريق لإلزامه بتفسيرها ، إذ له رفع اليد عنها ، فالجهالة فيها لا طريق إلى تعرفها إلا بعدم سماعها مجهولة كي يلتجئ إلى تفسيرها حتى تكون مسموعة ، ولكنه أيضا كما ترى لا يرجع إلى شي‌ء معتبر شرعا.

فالتحقيق أن يقال : لا ريب في عدم سماع الدعوى المجهولة من كل وجه التي من أفرادها ما لا يقبل الدعوى به ، لعدم إحراز كونها دعوى حينئذ توجب قضاء بعد فرض كون الجهالة فيها مقتضيا لاحتمال ما لا يقبل الدعوى من أفرادها نحو « لي عنده شي‌ء ».

أما المجهولة التي كليها يوجب غرامة بأي فرد يفرض تشخيصه فلا مانع من قبولها ، وفاقا لأكثر المتأخرين أو جميعهم إلا النادر ، لإطلاق‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار ـ الحديث ٢ والمستدرك الباب ـ ٢ ـ منه ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار ـ الحديث ٢ والمستدرك الباب ـ ٢ ـ منه ـ الحديث ١.

١٥٠

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « البينة على المدعي » والأمر بالحكم بين الناس في الكتاب (٢) والسنة (٣) ولاقتضاء عدم سماعها ضيع الحق ، لأنه ربما يكون المدعي يعلم مجهولا.

كل ذلك مع أنه لا دليل على اعتبار العلم فيها أزيد مما ذكرنا ، فضلا عن اعتبار مقدار ما يصح السلم فيه ونحوه منه ، كما هو ظاهر المحكي عن الشيخ ، وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله :

المسألة ( الثانية : )

( قال ) أي الشيخ ( إذا كان المدعى من الأثمان افتقر إلى ذكر جنسه ووصفه ونقده ، وإن كان عرضا مثليا ضبطه بالصفات ولم يفتقر إلى ذكر قيمته ، وذكر القيمة أحوط ) وأضبط ( وإن لم يكن مثليا ) وقد تلف ( فلا بد من ذكر القيمة ) لأنها الواجبة حينئذ.

( و ) لا يخفى ما ( في الكل ) من ( الإشكال ) الذي قد عرفت أنه ( ينشأ من مساواة الدعوى بالإقرار ) ومن غير ذلك.

وكذا ما في الدروس قال فيها : « ولا تسمع الدعوى المجهولة كثوب وفرس ، بل يضبط المثلي بصفاته والقيمي بقيمته والأثمان بجنسها ونوعها وقدرها ، وإن كان البيع وشبهه ينصرف إطلاقه إلى نقد البلد ، لأنه إيجاب في الحال ، وهو غير مختلف ، والدعوى إخبار عن الماضي ، وهو مختلف ، أما دعوى الوصية فإنها تسمع مع الجهالة ، وفي صحة‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٥.

(٢) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٥٨ وسورة المائدة : ٥ الآية ٤٢ وسورة ص : ٣٨ الآية ٢٦.

(٣) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب كيفية الحكم.

١٥١

دعوى الإقرار وجهان : من نفعه لو صدقه وعدم إيجابه حقا ، فان قلنا به صح مع الجهالة ، ولا إشكال في سماع الإقرار المجهول حذارا من رجوعه لو ألزم بالتحرير بخلاف الدعوى ».

ولا يخفى عليك ما فيه من غير تلك الجهة ، خصوصا احتمال عدم سماعه دعوى الإقرار بناء على كون المراد منه ـ ولو بقرينة المقام ـ الإقرار بالمجهول مع القول بصحته ، ضرورة أنه حينئذ كدعوى الوصية بالمجهول التي أشار إليها المصنف بقوله ( أما لو كانت الدعوى وصية سمعت وإن كانت مجهولة ، لأن الوصية بالمجهول جائزة ) فإن ذلك بعينه جار في دعوى الإقرار بالمجهول ، ولذا لم نر أحدا احتمل عدم سماع الدعوى به مع القول بصحته.

ولعله لذا يمكن كون المراد التردد في أصل صحة دعوى الإقرار ولو بمعلوم ، كما أومأ إليه الفاضل في القواعد وإن جعل الأول أقرب ، بل لعل قوله : « فان قلنا » كالصريح في ذلك.

ولكن لا يخفى عليك ما في ثاني وجهي التردد ، ضرورة عدم اعتبار ذلك في صدق الإقرار وإن ذكر ذلك في تعريفه إلا أن المراد منه ما يشمل الإقرار بالإقرار ، فإنه إخبار عن الحق بالواسطة.

كما لا يخفى أيضا ما في التعليل في المتن وغيره لقبول الدعوى بالوصية المجهولة ، ضرورة عدم اقتضاء ذلك اختصاصها بالقبول ، فان ملك المجهول بغيرها متحقق أيضا كالميراث والهبة ، بل والصلح ونحوهما ، على أنه يمكن جهالته في الدعوى وإن كان قد انتقل إليه بالبيع المقارن لعلمه حال البيع دون غيره ، اللهم إلا أن يراد به ما عن الشيخ من أنه ليس غير الوصية من الأسباب ما يملك به المجهول في نفس الأمر وإن كان فيه منع ذلك ، ولو سلم فالمسألة في الأعم منه ، وبذلك ظهر لك الحال‌

١٥٢

في المسألة ، ويأتي إنشاء الله زيادة إيضاح لها ، والله العالم.

( و ) كيف كان فـ ( ـلا بد من إيراد الدعوى بصيغة الجزم ) التي يستدل بها على جزم المدعي بما يدعيه كما عن الكافي والغنية والكيدري وظاهر الوسيلة بل في الكفاية نسبته إلى الشهرة ، وحينئذ ( فلو قال أظن أو أتوهم لم تسمع ) لأن من لوازم الدعوى الصحيحة إمكان رد اليمين على المدعي وهو منتف ، وللقضاء بالنكول فيها مع يمين المدعى أو عدمه ، وهو منتف هنا أيضا ، ضرورة عدم جواز تناول المدعي هنا مع عدم جزمه ، ولعدم صدق الدعوى عليه عرفا ، فلا يترتب الحكم من القضاء وغيره عليها.

( و ) لكن قال المصنف ( كان بعض من عاصرناه ) وهو شيخه نجيب الدين محمد بن نما ( يسمعها في التهمة ويحلف المنكر ) ثم قال ( وهو بعيد عن شبه الدعوى ) الذي قد عرفت كونها في العرف الخبر الجازم ، ولكن إليه يرجع ما في الروضة ومحكي تعليق النافع للمحقق من التفصيل بين ما يعسر الاطلاع عليه كالقتل والسرقة وغيره ، فتسمع في الأول دون الثاني ، بل عن الإيضاح والمجمع أنه قوي عدم اشتراط الجزم ، ونفى عنه البأس في غاية المراد ، ومال إليه في المسالك لكن في الرياض أنه ليس قولا لأحد منا ، بل أصحابنا على قولين : اعتبار الجزم والاكتفاء بالتهمة في مقامها.

وكيف كان ففي المسالك تبعا لغاية المراد « أن المعتبر من الجزم ما كان في اللفظ ، بأن يجعل الصيغة جازمة دون أن يقول : أظن أو أتوهم كذا ، سواء انضم إلى جزمه بالصيغة جزمه بالقلب واعتقاده لاستحقاق الحق أم لا ، وهو كذلك ، فان المدعي لا يشترط جزمه في نفس الأمر لأنه إذا كان للمدعي بينة تشهد له بحق وهو لا يعلم به فله أن يدعي به‌

١٥٣

عند الحاكم لتشهد له البينة ، وكذا لو أقر له مقر بحق وهو لا يعلم به فله أن يدعيه عليه وإن لم يعلم سببه في نفس الأمر ما هو ، ووجه ما اختاره المصنف من اشتراط الجزم بالصيغة أن الدعوى يلزمها أن يتعقبها يمين المدعي أو القضاء بالنكول ، وهما غير ممكنين مع عدم العلم بأصل الحق ، وأن المعهود من الدعوى هو القول الجازم ، فلا يطابقها الظن ونحوه » وتبعهما على ذلك في الرياض.

وفيه أن إظهار الجزم بالصيغة مع عدمه في القلب كذب وتدليس ، ضرورة كون ذلك خبرا من الاخبار لا إنشاء كي لا يحتمل الصدق والكذب والدعوى بالبينة والإقرار اللذين هما حجتان شرعيتان بصورة الجزم بعد تسليمه لا يقتضي جوازها أيضا بدون ذلك ، وما ذكره من الوجه في كلام المصنف إنما ينطبق على الجزم القلبي لا الظاهري ، فلا محيص عن إرادة المصنف ما أشرنا إليه أولا من اعتبار الجزم في نفس الأمر في المدعي وإن اكتفى الحاكم في إحراز ذلك بإظهار الجزم بالصيغة الدال على ذلك ، إذ ليس تكليف بأزيد منه وإلا فلو فرض علمه بمخالفة ما أظهره لما في نفسه لم يجز له القضاء به ، بناء على الشرط المزبور ، نعم محل البحث في أصل اعتبار ذلك.

والتحقيق الرجوع إلى العرف في صدق الدعوى المقبولة وعدمها ، ولا ريب في قبولها عرفا في مقام التهمة بجميع أفرادها وربما تؤيده النصوص الدالة على تحليف الأمين مع التهمة المتقدمة في كتاب الإجارة (١) وغيره.

كخبر بكر بن حبيب (٢) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :

__________________

(١) راجع ج ٢٧ ص ٣٤٢ ـ ٣٤٤.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من كتاب الإجارة الحديث ١٦.

١٥٤

أعطيت جبة إلى القصار فذهبت بزعمه ، قال : إن اتهمته فاستحلفه ، وإن لم تتهمه فليس عليه شي‌ء ».

وخبره الآخر (١) عنه عليه‌السلام أيضا « لا يضمن القصار إلا من جنت يداه ، وإن اتهمته أحلفته ».

وخبر أبي بصير (٢) عنه عليه‌السلام أيضا « لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلا أن يكونوا متهمين. فيخوف بالبينة ويستحلف لعله يستخرج منه شيئا ».

إلى غير ذلك من النصوص التي هي وإن كانت في غير ما نحن فيه من الدعوى بالتهمة لكن لا ريب في دلالتها على اقتضاء التهمة الاستحلاف أينما تحققت. بل قد يؤيده أيضا عمومات الأمر بالحكم كتابا وسنة (٣) في جميع أفراد المنازعة والمشاجرة التي لا ريب في أن ذلك من أفرادها نحو قوله تعالى ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) (٤). ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) (٥). ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‌ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) (٦) وغير ذلك ، واحتمال كون الحكومة في الفرض بالقضاء بكون الدعوى غير مسموعة مناف لما دل من النصوص (٧) على أن الضابط في قطع الخصومات البينات والإضافة إلى اسم الله تعالى.

وكذا لا ريب في تحقق الخصومة والمشاجرة مع عدم الجزم فيما يجده الوصي أو الوارث من سندات أو دفتر أو شهادة من لا يوثق بهم‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من كتاب الإجارة ـ الحديث ١٧.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من كتاب الإجارة ـ الحديث ١١.

(٣) الوسائل الباب ـ ١ ـ وغيره من أبواب كيفية الحكم.

(٤) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٤٩.

(٥) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٦٥.

(٦) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٥٩.

(٧) الوسائل الباب ـ ١ و ٢ ـ من أبواب كيفية الحكم.

١٥٥

أو غير ذلك.

وبالجملة فالمدار على ما يتعارف من الخصومة بسببه ، سواء كان بجزم أو ظن أو احتمال ، أما ما لا يتعارف الخصومة به كاحتمال شغل ذمة زيد مثلا أو جنايته بما يوجب مالا أو نحو ذلك مما لا يجرى التخاصم به عرفا فلا سماع للدعوى فيه.

وبذلك بان لك ما أطنب فيه في الرياض من دعوى تبادر الجزم من الدعوى الذي لو سلم في لفظها لم يسلم في المنازعة والمشاجرة ونحوهما ومن اقتضائها التسلط على الغير بالإلزام بالإقرار أو الإنكار والتعزير ، وهو ضرر منفي المعارض بنحوه بالنسبة إلى الخصم ، ومن اقتضائها يمين المدعي أو القضاء بالنكول ، وهما غير ممكنين ، لامتناع الحلف على الظن وامتناع ثمرة النكول ، إذ لا يستحل الغريم أن يأخذ بمجرد إنكار المدعى عليه ونكوله عن اليمين ، لاحتمال كونه للتعظيم أو غيره الواضح منعه بتكثر الدعاوي التي لا رد فيها كالدعوى من الوصي والتهمة للأمين وغيرهما ، فهو حينئذ لازم لغير الفرض ونحوه ، وكذا القضاء بالنكول إن لم نقل بجواز الأخذ له به ، لأنه بمنزلة الإقرار ، أو لأنه يكون عوض استحقاق اليمين أو لظهور نصوص (١) التهمة في ذلك ، بل لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه النظر أيضا في بقية كلامه ، فلاحظ وتأمل.

كما أنه لا يخفى عليك الحال فيما لو حلف المنكر أو قضينا بالنكول أما لو قلنا بأنه لم يقض إلا برد اليمين لم يرد هنا ، لعدم إمكانه ، بل توقف الدعوى.

قيل : ومنه يعلم ما في استدلال الشهيد لأصل القول بأن فيه حسما‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٢٩ ـ من كتاب الإجارة.

١٥٦

لمادة النزاع ، إذ لا حسم حينئذ على هذا التقدير ، وإنما تنحسم على القول بالقضاء به ، وهو لا يقول به ، فلا يوافق دليله مختاره إلا أن يلتزم بحبس المنكر إلى أن يقر أو يحلف ، كما ذكره الصيمري ، ولكن لم يذكره هو ولا من عداه ، بل ظاهرهم إيقاف الدعوى كما صرح به بعضهم ، مع أن حسم مادة النزاع غير منحصر في سماع الدعوى ، لإمكان ردها كسائر ما ترد فيه الدعاوي إجماعا ، كما مضى. وفيه ما عرفت من أن الأصل في حسم المشاجرة البينة أو اليمين ، ولا بعد في الالتزام بأحدهما في المقام وفي جميع نظائره ، والله العالم.

المسألة ( الثالثة : )

(إذا تمت الدعوى ) من المدعي ( هل يطالب ) الحاكم ( المدعى عليه بالجواب أو يتوقف ذلك على التماس المدعي؟ فيه تردد ) بل قولان للشيخ في المحكي من مبسوطة ( والوجه ) عند المصنف ، بل قيل : إنه الأشهر بل عن المبسوط عندنا مشعرا بالإجماع عليه ( أنه يتوقف ، لأنه حق له ، فيقف على المطالبة ).

ولكن الأوجه خلافه وفاقا للمحكي عن جماعة ، للأصل ولكونه حقا للحاكم المنصوب لقطع الخصومات إلا أن يسقط المدعي حقه ، وفي المسالك « ولقيام شاهد الحال على إرادته ذلك ، إذ من المعلوم عادة أن الإنسان لا يحضر خصمه مجلس الحكم إلا لإرادة فصل الدعوى بينه وبين خصمه المتوقف على سماع جوابه » ولكن فيه أن ذلك رجوع إلى القول بالتوقف على التماسه المدلول عليه بشاهد الحال.

١٥٧

المسألة ( الرابعة : )

( لو ادعى أحد الرعية على القاضي ) سمعت كما تسمع على غيره لإطلاق الأدلة السالم عن معارضة منافاة ذلك لرئاسة القضاء بعد حضور أمير المؤمنين عليه‌السلام مع يهودي مجلس القضاء (١) وحضور عمر مع أبي عند زيد بن ثابت (٢) والمنصور مع جمال ( فان كان هناك إمام رافعه إليه وإن لم يكن وكان في غير ولايته رافعه إلى قاضي تلك الولاية ) لاندراجه حينئذ في المولى عليه من الحاضرين في تلك الولاية.

( وإن كان في ولايته ) وكان له خليفة ( رافعه إلى خليفته ) بل في المسالك « لا يجب إجابة المدعي إلى الذهاب معه إلى غيره مع وجوده ، لأن العدالة تمنع من التهمة ، وإن فرضت لم يلتفت إليها ».

قلت : قد يشكل ذلك بأن الأمر في من يرافع إليه إلى المدعي ، فمع فرض عدم الضرر يجب اتباعه إذا طلب غيره ، بل قد يقال : إن ولاية الخليفة فرع ولايته التي لا يندرج فيها الحكم بالدعاوي المتعلقة به وإن كان قد يدفع بعد فرض الاذن له في الاستخلاف بتناول ولاية الخليفة حينئذ للحكم في الدعاوي المتعلقة بالقاضي ، ضرورة ارتفاع المانع الذي هو الخصومة المانعة من القضاء كالشهادة ومعلومية خروج الحاكم بين المتخاصمين عنهما ، وليس الخليفة وكيلا كي لا يزداد على موكله.

وعلى كل حال فلو لم يكن له خليفة ولو لعدم الاذن له في ذلك رافعه‌

__________________

(١) راجع التعليقة (٢) من ص ١٤٣.

(٢) سنن البيهقي ـ ج ١٠ ص ١٣٦.

١٥٨

إلى حاكم آخر في غير ولايته ، ولا يشكل بعدم الولاية له على غير أهل ولايته ، لمعلومية كون المراد بأهل ولايته من حل فيها ولو من غيرها كالمسافرين ونحوهم ، كما هو واضح.

المسألة ( الخامسة : )

( يستحب للخصمين أن يجلسا بين يدي الحاكم ) لأنه الموافق للأدب ، وليتمكن من التساوي بينهما في النظر وغيره ، ولما سمعته من كلام علي عليه‌السلام في حضوره مع اليهودي عند شريح (١) ( ولو قاما بين يديه كان جائزا ) وليس في ذلك تكبر مناف ، والله العالم.

( المقصد الثالث )

( في جواب المدعى عليه ) أي ما يصدر منه حال الدعوى عليه ( وهو إما إقرار أو إنكار أو سكوت ) فإنه جواب بالمعنى المزبور ، على أن حكمه كما ستعرف مع الإصرار عليه جعله كالناكل في رد اليمين على المدعي والحكم به ، فهو حينئذ كالإنكار ، ولعله لذا أطلق عليه اسم الجواب.

وعلى كل حال فتفصيل الحال في ذلك‌ ( أما الإقرار فـ ) ـلا ريب في أنه ( يلزمه ) أي المقر ما أقر به ( إذا كان جائز التصرف ) والإقرار جامعا لشرائط الصحة المتقدمة في بابه.

__________________

(١) راجع التعليقة (٢) من ص ١٤٣.

١٥٩

بل في المسالك وغيرها « لزمه ذلك ، سواء حكم به الحاكم أم لا ، بخلاف البينة التي لا يثبت الحق بمجرد إقامتها ، بل لا بد معه من حكم الحاكم ، والفرق أن البينة منوطة باجتهاد الحاكم في قبولها وردها ، وهو غير معلوم بخلاف الإقرار » وزاد في الرياض أنه « تظهر ثمرة الفرق المزبور بجواز مقاصة المدعي حقه إذا كان عينا وادعاها مع عدم علمه بها بالإقرار دون البينة إذا لم يحكم الحاكم ».

ومرجع ذلك إلى اشتراط حجية البينة بحكم الحاكم بها وإن علم كونها مقبولة عنده بخلاف الإقرار ، وحينئذ فهي حجة له يحكم بها ولغيره إذا حكم بها ، كما صرح بذلك في المسالك فيما يأتي.

ولكن قد يناقش بعموم أو إطلاق ما دل على قبولها من غير فرق بين الحاكم وغيره ، وإنما الحاكم يحكم بمقتضاها ، فيترتب على حكمه ثمراته من عدم سماع الدعوى بعده ونحوه ، لا أن أصل تناول المدعى بعد قيامها والعلم بقبولها عند الحاكم وثبوت الحق بها عنده وإن لم ينشئ الحكم به متوقف على حكمه ، خصوصا لو فرض عدم علم المدعي إلا بها ، وحينئذ فالفرق بينها وبين الإقرار من هذه الجهة لا وجه له.

كدعوى الفرق بينهما بأن قبول البينة وردها يرجع إلى الاجتهاد بخلاف الإقرار » ضرورة إمكان فرض المقام في البينة المعلوم قبولها عند الحاكم ولكن بعد لم ينشئ الحكم بمقتضاها ، والاجتهاد في قبول البينة كالاجتهاد في قبول الإقرار ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».

ولذا استشكل الأردبيلي في الأخذ بالإقرار بدون حكم الحاكم. قال :

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من كتاب الإقرار ـ الحديث ٣ والمستدرك الباب ـ ٢ ـ منه الحديث ١.

١٦٠