جواهر الكلام - ج ٤٠

الشيخ محمّد حسن النّجفي

وفي الدروس يقول : « حكمت أو قضيت أو أنفذت أو أمضيت أو ألزمت ، وقيل : يكفي ادفع إليه ماله أو اخرج إليه من حقه ، أو يأمره بأخذ العين وبيعها ، ولا يكفي أن يقول : ثبت عندي أو أن دعواك ثابتة ، ويجوز نقضه عند عروض قادح بخلاف الأول ».

قلت : لا دليل على اعتبار لفظ خاص فيه ، فيكون المدار على كل ما دل على إنشاء معنى الحكم ، بل لا يبعد الاكتفاء بالفعل الدال على ذلك فضلا عن قول : « ثبت عندي » مريدا به ذلك ، أما مع عدم إرادة إنشاء ذلك بها فليست حكما ، وكذا قوله : « ادفع إليه ماله » ونحوه وبالجملة فالمدار على ما عرفت ، لأنه حكم لغة وعرفا.

بقي شي‌ء : وهو أنه مع تغير رأي المجتهد يجب عليه إعلام مقلديه بذلك ، ويجب عليه محو ما كتبه من فتواه الأولى؟ صريح الأردبيلي ذلك ، لكن في صورة معلومية فساد الأول بدليل قطعي أو بفساد الاجتهاد الأول ، لأنه حينئذ خلاف الحق والصواب ، فيجب رفعه لئلا يقع الناس في غير الحق ، ولا يبقى الباطل معمولا به ومعتقدا لأحد ، بل الظاهر اتحاد الحكم والفتوى بالنسبة إلى ذلك.

إنما الكلام في وجوب الاعلام والمحو مع العدول لدليل ظني على وجه لا يقتضي فساد الاجتهاد الأول ، والظاهر عدمه ، بل ينبغي القطع بعدم وجوب محوه من الكتاب ، كما هو المشاهد من سيرة العلماء في اختلاف فتاواهم في الكتاب الواحد ، بل بدون مسافة معتد بها ، على أن المقلد العامل باستصحاب بقاء مقلده على فتواه معذور ، ولا إثم عليه ، فلا أمر بالمعروف بالنسبة إليه ، بل لا يبعد القول بصحة عمله وإن كان عبادة ، أما لاقتضاء الاستصحاب المستفاد من قاعدة اليقين البدلية عن الواقع إلى أن يعلم إلا ما خرج بالدليل ، وإما لأنها حينئذ من عبادة الجاهل التي‌

١٠١

لم يعلم فسادها باعتبار موافقتها للفتوى الأولى ولم يعلم بطلانها ، فتندرج في المطلقات بناء على أنه أسماء للأعم.

وأولى من ذلك معاملاته من عقود أو إيقاعات ، بل ظاهر القمي في قوانينه صحتها حتى من الجاهل المتنبه للتقليد وقصر فيه إذا كانت موافقة لأحد الأقوال في المسألة معللا ذلك بمعلومية عدم اعتبار إيقاعها بعنوان التقليد ولو للسيرة القطعية ، وبعد وقوعها فالأصل فيها الصحة حتى يعلم الفساد ، والفرض عدمه ، فيندرج العقد المزبور في إطلاق ما دل على صحته ، والإثم بترك التقليد مع تنبهه له لا يقتضي فساد العقد.

بل قد يقال : إن ذلك منه يقتضي صحة العقد من المجتهد أو مقلده إذا أوقعاه على خلاف الاجتهاد أو التقليد وكان موافقا لأحد الآراء في المسألة ، اللهم إلا أن يدعى أن الحكم الوضعي في حقهما بعد اتصافهما بالوصفين المذكورين خلاف ذلك.

إلا أنه كما ترى ، بل سابقه أيضا كذلك ، ضرورة أن إلحاقها بالصحيح لموافقتها لرأي القائل بذلك ليس بأولى من إلحاقها بالفاسد لموافقتها للقائل بذلك ، بل هو من الترجيح بلا مرجح ، وأصالة الصحة تقتضي حمل الفعل ذي الوجهين على الوجه الصحيح منهما لا أن الحق القول بالصحة ، والإطلاقات بعد تقييدها ولو بالاجتهاد لا وجه للاستناد إليها ، بل لعل الأصول تقتضي الفساد ، باعتبار رجوع ذلك إلى الشك في حصول السبب الناقل مثلا.

نعم قد يقال بالصحة إذا كانت موافقة لرأي من يجوز تقليده حال وقوعها والفرض أنه أوقعها الفاعل بعنوان ذلك ولو بتقليد من لا يجوز تقليده وقلنا إن مثله تقليد لمن يجوز تقليده وإن أخطأ في تشخيصه إلا أنه موافق له.

١٠٢

لكنه كما ترى أيضا ، ضرورة عدم ذلك اتباعا وتقليدا ، فالأولى القول بوقوعها مراعاة غير محكوم عليها بصحة ولا فساد إلا إذا لحقها ولو بعد ذلك بتقليد ، فإنه ينكشف بذلك صحتها حال وقوعها ، فيكون التقليد حينئذ طريقا إلى معرفة صحتها حين وقوعها ، بل العبادة أيضا كذلك إذا فرض وقوعها من أول الأمر بعنوان القربة ، ولا يكون ذلك إلا في الجاهل غير المتنبه حال إيقاعها بخلاف المعاملة ، فإنه يجوز وقوعها ولو مع الشك ، لعدم اعتبار النية فيها وعدم اعتبار سبق التقليد.

ولو فرض اختلاف المتعاقدين فاختار أحدهما القول بالفساد والآخر الصحة وحدث بينهما نزاع ترافعا إلى حاكم يحكم بينهما بمقتضى رأيه في خصوص المتنازع فيه ، ويكون هو الحجة عليهما فيه ، وينقض تقليد أحدهما فيه ، كما عرفته سابقا ، فتأمل جيدا فإن المسألة من المشكلات التي لم تحرر.

بل الظاهر إجراء حكم الصحة والفساد على توابع عقدهما من كل مجتهد اتفق له النظر فيه بنوع من الأنواع وإن ماتا على عدم التقليد ولم يلحقاه بما يقتضي الصحة في حقهما ، والله العالم.

المسألة ( الرابعة : )

( ليس على الحاكم تتبع حكم من كان قبله ) ولا غيره حملا لفعله على الوجه الصحيح وإن جاز له ذلك للأصل وغيره ( لكن لو زعم المحكوم عليه أن الأول حكم عليه بالجور ) لفساد اجتهاد ونحوه ( لزمه النظر فيه ) أي في حكمه بلا خلاف أجده بين من تعرض له منا ، لأنها دعوى لا دليل على عدم سماعها ، فتبقى مندرجة في إطلاق‌

١٠٣

ما دل على قبول كل دعوى من مدعيها من‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « البينة على المدعي » وغيره.

ولا ينافي ذلك ما تقدم من وجوب النظر في المحبوس وإن لم يدع الظلم والجور عليه ، لما عرفته سابقا من معنى الوجوب مع فرض تمام الحكم من الأول ، نعم لو أريد الحكم عليه كما حكم به الأول توقف الحكم عليه بأداء الحق على ثبوته عنده ، ولا يكفي فيه حكم الحاكم السابق كما عرفته سابقا ، بخلاف المقام المفروض فيه أيضا تمام حكم الحاكم ولم يبق شي‌ء منه ، فليس عليه التعرض له حتى يدعى المحكوم عليه ذلك ، فيلزمه حينئذ النظر مقدمة لقطع الدعوى المسموعة ، كما هو واضح.

( وكذا لو ثبت عنده ما يبطل حكم الأول ) ولو بإقرار منه أو غيره ( أبطله سواء كان من حقوق الله تعالى أو حقوق الناس ) على الأصح كما في التحرير خلافا للفاضل وللمحكي عن الشيخ وبعض العامة من الاقتصار على الأول الذي له النظر فيه بخلاف الثاني المتوقف على مطالبة المستحق ، وقد عرفت ضعفه ، لمعلومية وجوب إنكار المنكر عليه في نفسه باعتبار كونه حكما بباطل وبغير ما أنزل الله تعالى شأنه ، وأن له الولاية العامة.

إنما الكلام في لزوم النظر في الأول الذي قد يشكل ـ كما عن بعض العامة ـ بعدم اقتضاء ذلك وجوبه ، بل أقصاه طلب البينة من المدعي على دعواه ، فان لم يكن فله اليمين ، ولا تلازم بين سماعها ووجوب النظر في حكمه ، إلا أنه كما ترى ، ضرورة وجوب سماع كل دعوى مقبولة عليه ، لاقتضاء منصبه ذلك ، ولإطلاق الأدلة والأمر بالمعروف ، وغير ذلك.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٣ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٥.

١٠٤

كما أنه قد يشكل أيضا سماع ذلك بالنسبة إلى نواب الغيبة من دون بينة بظهور دليل نصبهم في أنه ليس للمحكوم عليه الاعتراض فيما حكموا به ، وأنه بمنزلة إنكار المولى عليه فعل وليه حال ولايته عليه بل أعظم ، ضرورة أن مقتضى جعل الامام عليه‌السلام له حاكما أي وليا في ذلك ، بل ذلك يقتضي سماع المحكوم عليه أخيرا ، لو قال : إنه حكم عليه بالجور وهكذا ، ويلزم منه فساد عظيم.

ولعله لذا كان ظاهر المصنف وغيره اختصاص ذلك بالحاكم المعزول باعتبار ارتفاع ولايته ، فيكون دعوى المحكوم عليه كدعوى المولى عليه على وليه بعد ارتفاع ولايته وإن كان متعلق الدعوى الفعل حال الولاية ، إلا أنه يدعى فساده ، فتأمل جيدا ، فان ذلك لا يصلح فارقا بعد إطلاق الأدلة ما يقتضي سماعها على غير المعصوم ، فالتحقيق سماعها مطلقا وإجراء أحكام الدعاوي عليها كغيرها ، وليس من الرد على الحاكم ، بل هو من بيان خطأ الحاكم الذي هو غير معصوم.

المسألة ( الخامسة : )

( إذا ادعى رجل أن المعزول قضى عليه بشهادة فاسقين وجب إحضاره وإن لم يقم المدعي بينة ) له بذلك ، بل وإن صرح بعدمها بناء على أن له اليمين ، ولاحتمال إقراره ، وأبهة القضاء لا تنافي ذلك ( فان حضر واعترف ألزم ) بالمال إن كان قد أخذه أو استوفى بحكمه.

( وإن قال : لم أحكم إلا بشهادة عدلين قال الشيخ : يكلف البينة ، لأنه اعترف بنقل المال وهو يدعي بما يزيل الضمان عنه ) فعليه البينة حينئذ.

( ويشكل بما ) هو معلوم من ( أن الظاهر استظهار الحكام

١٠٥

في أحكامهم ) لأنهم أمناء على ذلك ( فيكون القول قوله مع يمينه ، لأنه يدعي الظاهر ) بل ربما قيل أو احتمل عدم اليمين ، ولعله على ذلك يبنى عدم جواز إحضاره المقتضي لامتهانه عند القائل به ، ومجرد احتمال الإقرار لا يقتضي وجوبه بعد أن كانت الدعوى لا يمين لمدعيها على المدعى عليه ، لأنه يدعى عليه مالا ، وهذا كله جار في المسألة السابقة بالنسبة إلى إحضار الحاكم مطلقا أو مع ذكر البينة وأن القول قوله مطلقا أو بيمينه أو يكلف البينة.

ولكن الأول أقوى ، فيجب الإحضار مطلقا ، سواء كانت الدعوى بأخذ أو استيفاء بحكمه أو غير ذلك.

وكذا لو ادعى أنه أخذ منه رشوة أو نحو ذلك ، بل أولى بالقبول ، نعم لا يخفى عليك ما ذكرناه من احتمال عدم جريان نحو ذلك في نواب الغيبة الجامعين للشرائط وإن سمعت الدعوى عليهم في غير ما يتعلق بما هم أولياء فيه وإن كان التحقيق خلافه لما سمعت.

ولو بان أن الحاكم ليس من أهل الحكومة نقض جميع أحكامه وإن كانت صوابا إلا ما لا فائدة للنقض فيه ، كرد المغصوب والوديعة ونحوهما.

ولو كان الحكم خطأ عند الأول ولكن حكم به غفلة وصوابا عند الثاني فالأقوى نقضه ، كما لو تنبه الحاكم بنفسه له ، والله العالم.

المسألة ( السادسة : )

( إذا افتقر الحاكم إلى مترجم ) لسماع الشهادة ونحوها ( لم يقبل إلا شاهدان عدلان ) حتى فيما يكتفى فيه بالشاهد والامرأتين ، لأنه بحكم الشهادة على الشهادة لا الشهادة فيه ، ولذا يكتفى بالعدلين في ترجمة‌

١٠٦

شهود الزنا المعتبر فيه أربعة ( ولا يقنع بالواحد عملا بالمتفق عليه ) بعد الشك في أن ذلك من موضوع الشهادة أو الرواية ، ولا أصل ولا إطلاق ينقح أحدهما ، فيجري عليه حينئذ حكم الشهادة من التعدد ، ولو لأنه المتيقن بخلاف غيره.

ودعوى أن الأصل الرواية ـ لأن الشهادة قسم من الخبر ولكن اعتبر الشارع في بعض أفرادها التعدد ، فما لم يثبت فيه يبقى على عموم ما دل على قبول خبر العدل ـ يدفعها وضوح التباين بين الرواية والشهادة في العرف الذي هو المرجع في أمثالهما بعد معلومية عدم الوضع الشرعي فيهما وعدم الاجمال ، واعتبار التعدد في موضوع الشهادة ، لا أنه هو المميز لها عن الرواية ، وكون جنسهما الخبر لا يقتضي أنها قسم منه ، بل هما نوعان متمايزان في العرف الذي يمكن أن يقال إن الترجمة فيه قد تكون من الشهادة وقد تكون من الرواية ، لا أنها مطلقا شهادة أو رواية ، فحيث يراد بها إثبات ما يترتب عليه الحكم كشهادة الشاهد احتيجت إلى التعدد ، ضرورة أنها حينئذ بمنزلة شهادة الفرع التي لا بد فيها من التعدد ، لأنها شهادة حينئذ ، وحيث يراد فيها بيان المراد في غير ذلك كانت رواية ، ويكفي فيها الواحد ، ولعل منه بيان عبارة المجتهد مثلا لمقلديه ، أو بيان المراد من السؤال للمجتهد مثلا ليذكر حكمه ونحو ذلك مما لا يعد شهادة ، بل هو من قسم الرواية ولو بالمعنى.

وبالجملة فالمدار على تميز أفراد الشهادة والرواية المقابلة لها العرف ، فما كان من الأول اعتبر فيه التعدد ، للأدلة الدالة على اعتبار ذلك فيها من قوله تعالى (١) ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) بناء على استفادة ذلك منه ، وغيره ، وما كان من الثاني اكتفى فيه بالواحد ، لإطلاق‌

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٢.

١٠٧

دليل قبول خبر العدل ، ومع الشك فالظاهر لحوق حكم الشهادة عملا بالمتفق عليه لما عرفت.

وآية النبإ (١) بعد أن كان موردها من أفراد الشهادة أو ما يشبهه وجب كون المراد من المفهوم فيها عدم وجوب تبين نبأ العدل في موضوعي الشهادة والرواية ، على معنى كونه مقبولا في الجملة وإن كان قبوله في الشهادة على معنى أنه جزء البينة ، وقبوله في الرواية العمل به من غير حاجة إلى التعدد الذي استفيد من الأدلة اعتباره في الشهادة دون غيرها ، وحينئذ فليس المراد من الآية قبول كل نبأ لعدل على معنى العمل به من غير حاجة إلى تعدد إلا ما خرج بالدليل ، فيكون ذلك أصلا لكل نبأ لم يعلم اعتبار التعدد فيه ، ضرورة عدم دلالة الآية حينئذ على حكم موردها ، بل ولا على حكم الشهادة. وأولى من ذلك دعوى اختصاص الآية بحكم الرواية المقابلة للشهادة بقرينة اعتبار التبين في نبأ الفاسق وعدمه في نبأ العدل ، وذلك من خواصها ، فإن شهادة الفاسق لا تبين فيها.

هذا وقد يقال : إنه يمكن استفادة اعتبار التعدد في كل ما كان له مدخلية في القضاء ولو موضوع المدعى وتزكية الشاهد وجرحه وغير ذلك ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : « إنما أقضي بينكم بالبينات » إلى آخره. وقوله عليه‌السلام (٣) : « استخراج الحقوق » إلى آخره وغير ذلك مما يقتضي أنه لا بد من التعدد في ثبوت كل موضوع للقضاء ، ومنه حينئذ الترجمة لشهادة الشاهد ودعوى المدعي أو نحو ذلك لا الترجمة من حيث كونها ترجمة وإن لم تكن في موضوع يتعلق به القضاء.

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ ـ الآية ٦.

(٢) الوسائل الباب ـ ٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل الباب ـ ٧ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ٤.

١٠٨

وأما اعتبار الحرية في المترجم فقد صرح الفاضل وغيره بعدم اعتبارها فيه. وقد يشكل بأن قاعدة اليقين المزبورة تقتضي اعتبارها ، بل بناء على أنها من الشهادة يتجه اعتبارها أيضا إن كانت الحرية معتبرة فيها ، هذا كله في المترجم.

وأما مسمع القاضي لو كان أصم فالظاهر جريان حكم المترجم عليه ، لما عرفت فان كثيرا مما ذكرنا أو جميعه جار فيه ، بل الأولى فيهما إبرازهما على طرز الشهادة لا على طريق الرواية.

ومن ذلك يظهر لك الحال في تنقيح هذا المبحث وإن أطنب فيه بعضهم في الأصول بعد أن حكى عن الشهيد تعريف الشهادة والاشكال في كثير من الأفراد في أنها منها أو من الرواية ، والله العالم.

المسألة ( السابعة : )

( إذا اتخذ القاضي كاتبا وجب أن يكون بالغا عاقلا مسلما عدلا ) لأنه أحد الأمناء الذين يعتبر فيهم ذلك ، بل لا بد أن يكون أيضا ( بصيرا ليؤمن انخداعه ) في تغيير الكتابة ( وإن كان مع ذلك فقيها كان حسنا ) لكونه حينئذ أكمل ، بل ينبغي أن يكون جيد الكتابة بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك.

لكن قد يقال : إن ثمرة الكتابة تذكر ما كان ، وإلا فهي ليس من الحجة شرعا ، وحينئذ فلا عبرة بشي‌ء من هذه الأوصاف ، ضرورة أنه مع الذكر بها يجري عليها الحكم ، وإلا فلا وإن كان الكاتب بالأوصاف المزبورة ، نعم معها غالبا تحصل الطمأنينة التي يجري عليها الحكم.

وفيه أنها غير منحصرة فيما كان للتذكر فيه مدخلية ، بل قد تكون‌

١٠٩

مراسلة وأمرا ونهيا ونحو ذلك مما يكون فيه زيادة ونقيصة وتغيير وتبديل ، كما يوجد الآن في الكتبة للملوك ، فالمراد حينئذ إذا اتخذ القاضي كاتبا معتمدا عليه في الكتابة التي قد يشتغل عن ملاحظتها يجب أن يكون بهذه الأوصاف ، فإنه أحد الأمناء.

هذا والظاهر أن الكاتب والمترجم ارتزاقهما من بيت المال أيضا ، ومع عدمه يأخذان الأجرة ممن يعملان له ، والله العالم.

المسألة ( الثامنة : )

( الحاكم إن عرف عدالة الشاهدين ) بشاهدين عدلين لم يجرحهما الخصم أو بخلطة منه ( حكم ، وإن عرف فسقهما ) كذلك ( أطرح ) لما سمعته سابقا من الاجتزاء بعلمه في ذلك أو ما يقوم مقامه شرعا.

( وإن جهل الأمرين بحث عنهما ) بنفسه كما‌ يحكى (١) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يفعل ذلك بإرسال شخصين من قبله لا يعلم أحدهما بالآخر يسألان قبيلتهما عن حالهما فان جاءا بمدح وثناء حكم وإن جاءا بشين ستر عليهما ودعا الخصمين إلى الصلح ، وإن لم يكن لهما قبيلة سأل الخصم عنهما ، فان زكاهما حكم وإلا أطرحهما.

ولعل ذلك لأن بناء العدالة التي هي شرط الحكم على البحث عنها ، بل يمكن دعوى استفادة ذلك من إطلاق الأمر (٢) بالحكم بالبينة العادلة ، نحو البحث عن دخول الوقت للصلاة فيه ، والبحث عن الماء للطهارة به ، وغيرهما مما يستفاد وجوبه قبل تحقق وجوب‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ٦ ـ من أبواب كيفية الحكم ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١ ـ من أبواب كيفية الحكم.

١١٠

المكلف به ، أو أن المراد بحيث عنهما بتكليف الخصم بتزكيتهما ، وعلى كل حال فالأمر سهل.

إنما الكلام في الحكم بشهادتهما مع تزكية الخصم لهما وإن قال : إنهما أخطئا في هذه الشهادة من أن المراد بالتزكية الاستظهار في ثبوت حقه ، فيكفي إقراره ، ولما سمعته من المحكي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن اشتراط الحكم بعدالتهما التي لم تثبت بإقرار الخصم ورضاه بالحكم بشهادتهما لا يجدي في صحة الحكم وجريان أحكامه عليه ، كما لا يجدي رضاه بالحكم بشهادة فاسقين ، ولعله أقوى.

( وكذا لو عرف إسلامهما ) بل إيمانهما أيضا ( وجهل عدالتهما توقف ) عن الحكم ( حتى ) يبحث عن ذلك فـ ( ـيتحقق ) له ( ما يبني عليه من تعديل ( عدالة خ ل ) أو جرح ) لأن الإسلام والايمان ليسا عدالة ولا طريقا شرعا للحكم بها على وجه يتحقق ما شرط بها من طلاق أو حكم أو ائتمام أو غير ذلك كما عرفت الكلام فيه بما لا مزيد عليه في بحث الجماعة (١).

( وقال ) الشيخ ( في الخلاف ) كما عن الإسكافي والمفيد : ( يحكم ) إما لأن الإسلام أو الإيمان مع عدم ظهور الفسق عدالة ، أو لأنه يحكم بها بمجردهما أو لأن الحاصل من مجموع قوله تعالى (٢) : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ ) وقوله تعالى (٣) ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) وقوله تعالى (٤) ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) قبول‌

__________________

(١) راجع ج ١٣ ص ٢٨٠ ـ ٢٩٠.

(٢) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٨٢.

(٤) سورة الحجرات : ٤٩ ـ الآية ٦.

١١١

الشاهدين إذا كانا مسلمين ، وأنهما لا يردان إلا إذا كانا فاسقين ( و ) لا يحمل إطلاق الثانية على الأولى لعدم حجية مفهوم الوصف ، أو لأن ( به رواية ) أو روايات (١) ولكن قد عرفت في البحث المزبور أن الرواية به وإن تعددت ( شاذة ) موافقة للعامة معارضة لما هو أقوى منها من وجوه أو مأولة ، بل قد ذكرنا ظهورها ـ بعد حمل المطلق فيها على المقيد ـ في خلافه ، أو للإجماع المحكي في الخلاف المتبين خلافه حتى من حاكيه في المحكي من خلافه ومبسوطة.

كما أنه لا يخفى عليك ما في الكلام المزبور ، ضرورة معلومية زيادة وصف العدالة على الإسلام ، بل والايمان ، وظهور الآية الأولى في الحكم الوضعي الذي هو اعتبار العدالة في القبول ، وحينئذ فحمل المطلق عليه لا يحتاج إلى مفهوم الوصف كما قرر في محله ، وحينئذ فعدم وجوب التبين في شهادة غير الفاسق لا يقتضي تحقق العدالة في مجهول الحال التي هي شرط القبول إجماعا بقسميه ونصوصا يقيد بهما إطلاق مفهوم الآية لو قلنا بشموله لمحل النزاع.

وبالجملة فقد استقصينا الكلام في جميع أطراف المسألة في ذلك المبحث ، وبينا ضعف القول المزبور ، بل لم نتحقق القائل به لظهور من وقفنا على كلام من يحكى عنه في أصالة العدالة في المسلم الذي لم يظهر منه فسق ، لا أن الإسلام عدالة ، مع معلومية فساد الأصل المزبور وإن اشتهر في كلام الأصحاب أن الأصل في المسلم أن لا يخل بواجب ولا يفعل محرما ، إلا أن ذلك لا يقتضي تحقق وصف العدالة به ، بل المراد منه حكم تعبدي في نفسه لا فيما يترتب على ذلك لو كان واقعا كما حققناه في غير المقام.

__________________

(١) تقدمت الروايات في ج ١٣ ص ٢٨١ ـ ٢٨٣.

١١٢

كضعف القول بأنها ملكة نفسانية في جميع الكبائر ـ التي منها الإصرار على الصغائر ـ وفيما لا ينافي المروة ، وأن التحقيق الذي تجتمع عليه الروايات (١) وعليه عمل العلماء في جميع الأعصار والأمصار حسن الظاهر بمعنى الخلطة المطلعة على أن ما يظهر منه حسن من دون معرفة باطنه ، فلاحظ وتأمل.

( و ) كيف كان فـ ( ـلو حكم ) الحاكم ( بالظاهر ) من العدالة على وجه يجوز الحكم به سواء كان بخلطة مطلعة أو بينة ( ثم تبين فسوقهما وقت الحكم ) المتصل زمانه بزمان إقامة شهادتهما ( نقض حكمه ) كما لو تبين فسوقهما قبل الإقامة ، لتبين عدم شرط صحة الحكم في الواقع وإن جاز الاقدام بذلك الظاهر.

اللهم إلا أن يدعى أن الشرط علمي نحو العدالة في إمام الجماعة ، لإطلاق ما دل (٢) على نفوذ الحكم وعدم جواز رده إذا كان على نحو قضائهم عليهم‌السلام وعلى حسب الموازين التي نصبوها لذلك ، ولا دليل على اشتراط أزيد من ذلك حتى قوله تعالى (٣) ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ ) المراد منه ذوي عدل عندكم ، لا أقل من الشك فيبقى ما دل على نفوذ الحكم بحاله.

لكن اتفاق كلمة الأصحاب ظاهرا على النقض مع أصالة الواقعية في الشرائط ، ولو كانت مستفادة من نحو ( وَأَشْهِدُوا ) الآية (٤) يرفع ذلك كله ، مضافا إلى إمكان الفرق بين ما هنا وبين الجماعة بأن المدار هناك‌

__________________

(١) تقدمت هذه الروايات في ج ١٣ ص ٢٩١.

(٢) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ١.

(٣) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٢.

(٤) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٨٢.

١١٣

على الصلاة خلف من تثق بعدالته نصا (١) وفتوى ، وظهور الفسق فيما بعد لا ينافي الوثوق بخلاف المقام المعتبر فيه كونه عدلا. نعم لو كان الفسق طارئا بعد الحكم أو غير معلوم الحال لم ينتقض ، بل لعله كذلك لو كان بعد الإقامة قبل الحكم ، كما ستسمع تحقيقه إنشاء الله في كتاب الشهادات.

وعلى كل حال فالظاهر أن المراد نقض الحاكم حكمه فيما لو اتفق له تبين فسقهما ، لا أن المراد جواز تجديد الدعوى للمحكوم عليه حكما ثابتا لو عثر بعد الحكم على من يجرحهما ، ضرورة منافاة ذلك لكونه حكما وفصلا ، بل ولقولهم فيما يأتي من الأنظار ثلاثة أيام لو ادعى وجود الجارح ، بل ولغير ذلك ، وهل البينة تبين فسق؟ ظاهر بعض العبارات ذلك ووجهه واضح.

ولو ادعى المحكوم عليه إمكان حصول العلم للحاكم بفسقهما بإقامة شياع يقتضي ذلك أو نحوه ففي وجوب سماع الحاكم ذلك منه وجه ، ولكن الأقوى خلافه للأصل وغيره ، فتأمل جيدا فإن المسألة غير محررة.

( ولا يجوز التعويل في الشهادة ) بالعدالة بناء على أنها الملكة ( على حسن الظاهر ) الذي لم يعلم حصولها منه ، بل لا بد من الصحبة المتأكدة التي يطلع بها على حسن الباطن ، مثل الشهادة على الإعسار ونحوه مما جرت العادة فيه على اختلاف الباطن والظاهر ، فان المال قد يخفيه صاحبه كالفسق ، فلا بد في الشهادة عليهما من العلم بموافقة الباطن للظاهر.

ولكن قد يناقش بأن حسن الظاهر طريق شرعي للحكم بحصولها عملا بالنصوص (٢) التي استدل بها القائلون بأنها حسن الظاهر ، أو لأن الملكات طنما تعرف بآثارها كالشجاعة والكرم ونحوهما والعدالة بناء على أنها‌

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ٢ من كتاب الصلاة.

(٢) راجع الروايات المتقدمة في ج ١٣ ص ٢٩١.

١١٤

ملكة منها ، والنصوص المتضمنة حسن الظاهر من ذلك.

بل قد يقال : إن البحث في أنها حسن الظاهر أو ملكة بحث علمي مرجعه إلى أن العدالة شرعا هي ملكة يصدر عنها حسن الظاهر أو أنها عبارة عنه ، وإلا فالجميع متفقون على تحققها بذلك بناء على كون مراد القائلين بحسن الظاهر هو أن جميع ما يظهر منه حسن بعد الخلطة والصحبة المتأكدة في سره وعلانيته ، لا أن المراد به حسن ظاهر بعض أفعاله وأحواله التي لا يستفاد منها الحسن في جميع ما يظهر منه ، فان كثيرا من المدلين كذلك ، بل غالب الناس التستر في الفسق عن عامة الناس أو خواصهم ، كما عساه يومئ إليه الخبر (١) المروي عن تفسير العسكري عن علي بن الحسين عليهما‌السلام واحتجاج الطبرسي عن الرضا عليه‌السلام الذي قد ذكرناه في بحث الجماعة من الكتاب (٢) بل وخبر ابن أبي يعفور (٣) المتقدم فيه أيضا.

وحينئذ يتحد القولان ويكون البحث علميا ، ويؤيده استبعاد طرح القائلين بالملكة جميع هذه النصوص على كثرتها ، فلا مناص حينئذ عن حملها على ذلك وإن كان الانصاف ظهورها في عدم التعمق في حصول حسن الظاهر الذي له أفراد متعددة ، ولا ريب في عدم اعتبار أعلاها بمقتضى أكثر النصوص المزبورة ، فلاحظ وتأمل.

( وينبغي أن يكون السؤال عن التزكية سرا فإنه أبعد من ) تطرق ( التهمة ) للمزكي بأنه زكي حياء أو وفاء أو رجاء أو خوفا كما هو المشاهد في جملة من الناس.

__________________

(١) الوسائل الباب ـ ١١ ـ من أبواب صلاة الجماعة ـ الحديث ١٤ من كتاب الصلاة.

(٢) راجع ج ١٣ ص ٣٠٠.

(٣) الوسائل الباب ـ ٤١ ـ من كتاب الشهادات ـ الحديث ١.

١١٥

( وتثبت ) العدالة بالشهادة بها ( مطلقة و ) لكن ( تفتقر إلى المعرفة الباطنة المتقادمة ) المفيدة للعلم أو الظن بحصول الملكة ، وأن ما يصدر من ذلك من آثارها أو بحسن الظاهر ، بمعنى أنه لا يظهر منه سرا وعلانية إلا الحسن.

( ولا يثبت الجرح إلا مفسرا ) كما عن المشهور فيه وفي الأول ، لعدم العسر بذكره ، ولأنه ربما لا يكون جرحا عند الحاكم المشهود عنده ، بخلاف تفصيل العدالة المحتاج إلى ذكر جميع الكبائر وغيره مما يتعذر أو يتعسر إحصاؤه.

وربما أشكل ذلك بأن الاختلاف في أسباب الفسق يقتضي الاختلاف في أسباب العدالة ، فإن الاختلاف مثلا في عدد الكبائر كما يوجب في بعضها ترتب الفسق على فعله يوجب في بعض آخر عدم قدحه في العدالة بدون الإصرار عليه ، فيزكيه المزكي مع علمه بفعل ما لا يقدح عنده فيها ، وهو قادح عند الحاكم ، ومن ثم قيل بوجوب التفسير فيهما كما عن ابن الجنيد.

ولعل الأقوى الاكتفاء بالإطلاق فيهما كما عن بعضهم ، بل لعله يرجع إليه ما حكاه المصنف عن الخلاف بقوله ( وفي الخلاف ) كما في نسخة ، وفي قول في أخرى وهي الأصح ( يثبت مطلقا ) أي في الجرح بناء على موافقته المشهور في العدالة ، لكن لا لأن كلا من المعدل والجارح لا بد أن يكون في نظر الحاكم عالما بسببهما وإلا لم يصلح لهما ، ومع العلم لا معنى للسؤال ، إذ هذا مع كونه ممنوعا قد قيل لا يتم إلا مع علم الحاكم بموافقة مذهب المزكي لمذهبه في أسباب الجرح والتعديل ، بأن يكون مقلدا له أو موافقا له ولأنهما إنما يجزمان إذا علما بما عند الحاكم من أسباب العدالة والفسق أو بالعدالة أو الفسق عند الكل ، لوضوح منعه أيضا ، بل لما هو المعلوم من طريقة الشرع من حمل عبارة الشاهد‌

١١٦

على الواقع وإن اختلف الاجتهاد في تشخيصه.

ومن هنا لا يجب سؤاله عن سبب التملك مع الشهادة به وكذا التطهير والتنجيس وغيرها وإن كانت هي أيضا مختلفة في الاجتهاد ، بل يحمل قول الشاهد على الواقع كما يحمل فعله على الصحيح في نفس الأمر لا في حق الفاعل خاصة ، وما العدالة والفسق إلا من هذا القبيل ، اللهم إلا أن يقال : إن الاختلاف فيهما في معناهما ، بخلاف الملك والتطهير والتنجيس ونحوها ، فإنه اختلاف في أسبابها ، لكنه كما ترى.

ومن ذلك يعلم ضعف القول بالتفصيل فيهما فضلا عن العكس بمعنى وجوب التفصيل في العدالة ، وعن القول بأن المزكي والجارح إن كانا عالمين بأسبابهما كفى إطلاقهما وإلا وجب ذكر السبب فيهما ، والتحقيق ما عرفت.

نعم لا بد في التزكية من إبرازها بعنوان الشهادة ولو بدلالة قرائن الأحوال ، ولا يجب لفظ « أشهد » وإن أوهمته عبارة الفاضل في القواعد ، إلا أن الظاهر إرادته ما ذكرنا في مقابل ذكرها بعنوان الاخبار لا الشهادة.

كما أنه لا بد فيها من تشخيص المزكي على وجه يرتفع الاشتراك المقتضي للإجمال ، بل في القواعد لا بد فيها أيضا من ضم « مقبول الشهادة » إلى قوله : « عدل » إذ رب عدل لا تقبل شهادته ، لغلبة الغفلة عليه ، بل عن المختصر الأحمدي « لا بد أن يقول : عدل مقبول الشهادة علي ولي ، لأن الوصف بالعدالة والصدق وقبول الشهادة إنما يقتضي ثبوت الصفة في الجملة ، فربما تثبت في شي‌ء دون شي‌ء » وعن التحرير « يجب على المزكي أن يقول : أشهد أنه عدل مقبول الشهادة أو هو عدل لي وعلي ، بمعنى الاكتفاء بأحدهما ، لأنه لا تتعلق الصلتان بالعدل إلا بتضمين معنى الشهادة ، فيتحد حينئذ مؤداهما ويكفي أحدهما » ونسبه في المسالك إلى أكثر المتأخرين.

وفيه أن العدالة وصف خاص متحد في جميع ما اعتبرت فيه ،

١١٧

فلا تبعيض حينئذ فيها ، وعلى تقديره فقوله : « علي ولي » لا يقتضي العدالة المطلقة ، كقول القائل : « فلان صادق علي ولي » الذي لا يقتضي صدقه في كل شي‌ء ، على أن الوصف بمقبول الشهادة يغني عن ذكر العدالة ، لأنه أخص. ومن هنا قال في المسالك : « الأقوى الاجتزاء به وإن كان إضافة العدالة معه آكد ».

وربما علل بعضهم إضافة « لي وعلي » بأن الغرض منه أن يبين أنه ليس بولد بناء على أن شهادة الولد على والده غير مقبولة ، وضعفه في المسالك بأنه « قد اعتبره من علم أنه ليس ولده ، ومع تسليم عدم قبول شهادة الولد على والده لا يدل قوله : « عدل علي ولي » على أنه ليس بولد ، لأن العدل عدل على أبيه وله ، إلا أنه لا تقبل شهادته عليه بمعنى أنه خارج (١) وبتقدير أن يراد به نفي النبوة ، فالمعتبر أن لا يكون هناك ذلك الوصف ، أما أن يتعرض إلى نفيه لفظا فلا ، كما أن الشاهد على غيره ينبغي أن لا يكون كذلك ، ولا يجب أن يقول لست بابن ، وبتقدير أن يكون الغرض بيان أنه ليس بابن ، فهذا الغرض يحصل بقوله : علي ».

قلت : قد يقوى في النظر عدم اعتبار أزيد من الشهادة بأنه عدل ، لإطلاق ما دل على وجوب الحكم بشهادتهما وأنها سبب في ذلك ومقتض له على نحو باقي الأسباب الشرعية التي يترتب عليها مقتضاها ما لم يتحقق المانع الذي يكفي في نفيه أصل العدم أو ظاهر الدليل المزبور ونحو ذلك ، وحينئذ فلا يحتاج الحكم بشهادتهما إلى شهادة كونهما مقبولي الشهادة ، بمعنى أنهما مجردان من موانع القبول كالولدية والخصومة وجر النفع والمغفلية ونحو ذلك ، ضرورة كونها أجمع جارية مجرى الموانع ، فإذا ادعى الخصم أحدها طولب بإثباته نحو دعوى الجرح ، ومع العجز عنه حكم الحاكم بشهادة‌

__________________

(١) وفي المسالك « لا تقبل شهادته عليه بأمر خارج ».

١١٨

العدلين التي قد عرفت ظهور قوله تعالى (١) ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ ) وغيره في كونه سببا لذلك ، بل ظاهر الأدلة جريانها مجرى الأسباب والمقتضيات وجريان تلك مجرى الموانع كما أومأنا إليه ، لا أنها من العام والخاص حتى يأتي الإشكال في الفرد المشكوك منها.

كل ذلك مضافا إلى عدم وضوح دلالة قول المزكى : « علي ولي » في نفي كون الشاهد ولدا للمدعى عليه ، كعدم وضوح اعتبار ما يعتبر في قبول الشاهد في المزكي من عدم الولدية للمدعى عليه ، بناء على عدم قبول شهادته على أبيه وعدم العداوة بينه وبينه أيضا ، باعتبار عدم عموم في دليل المنع لمثل ذلك ، بل لعل المنساق منه الشهادة بالحق نفسه لا التزكية ، نعم لعله كذلك بالنسبة إلى جر النفع ، كما إذا كان شريكا للمدعي في المال المدعى به ، فإنه لا تقبل تزكيته للشاهد كالمدعي نفسه.

وما في القواعد ـ من أنه يعتبر في المزكي صفات الشاهد ـ يراد به نحو العدالة والتعدد ونحو ذلك ، لا ما يشمل الفرض ، فما عساه يوهمه بعض العبارات من اعتبار نحو ذلك على الوجه الذي ذكرناه لا يخلو من نظر أو منع ، نحو ما قيل من احتمال وجوب تعيين الخصمين حين الاستزكاء.

بل في المسالك « يشترط في المزكي أن يعرف نسب الشاهد والمتداعيين ، لجواز أن يكون بينه وبين المدعي شركة ، أو بينه وبين المدعى عليه عداوة » إذ ذلك كله كما ترى ، وكذا غير ذلك مما هو مذكور في كلماتهم ، فلاحظ وتأمل.

( و ) كيف كان فـ ( ـلا يحتاج الجرح إلى تقادم المعرفة ) بخلاف العدالة ( و ) لو قلنا بأنها حسن الظاهر ، ضرورة أنه ( يكفي العلم بموجب الجرح ) من زنا أو لواط أو نحو ذلك مما يحصل بالمعاينة‌

__________________

(١) سورة الطلاق : ٦٥ ـ الآية ٦.

١١٩

ونحوها من غير تقادم معرفة ، كما هو واضح.

( ولو اختلف الشهود بالجرح والتعديل قدم الجرح ، لأن ) الشهادة بـ ( ـه ) غالبا تكون ( شهادة بما يخفى عن الآخرين ) المعدلين الذين مبنى شهادتهما غالبا بعد الخلطة والممارسة على أصل عدم وقوع المعصية منه وظن ذلك بسبب حصول الملكة عنده ولو ملكة حسن الظاهر ، وهما معا غير معارضين لشهادة العدلين بوقوع ذلك منه.

وحينئذ فمع الإطلاق بالعدالة والفسق يقوى الظن ببينة الجرح ، لمكان الغلبة المزبورة فضلا عن صورة التصريح فيهما على وجه يمكن صدقهما معا ، بأن قال المعدل : « خالطته ومارسته فوجدته ذا ملكة ، ولا أعلم صدور كبيرة منه بعد ذلك » وقال الجارح : « قد وقعت منه يوم كذا مثلا » فان بينة الجرح لا معارض لها حينئذ ، بل لو كانت بينة العدالة كذلك أيضا بأن قالت : « نعم وقعت منه المعصية يوم كذا ، ولكن تاب وندم ، ومارسته وخالطته بعد ذلك فوجدته ذا ملكة بعدها ، ولم يصدر منه ما ينافيها » قدمت هي ، لعدم المعارض. وبالجملة كل بينة منهما شهدت بما خفي عن الآخرين كانت هي المقدمة ، لعدم المعارض لها.

إنما الكلام في صورة الإطلاق ، كأن قالت إحداهما : « هو عدل » والأخرى : « هو فاسق » وفي صورة التصريح بالتضاد ، بأن شهد المعدل بأنه كان في ذلك الوقت الذي شهد الجارح بفعل المعصية فيه في غير ذلك المكان الذي عينه للمعصية أو مشتغلا بفعل يضاده الجارح إما طاعة أو مباحا أو نائما ونحو ذلك وهي التي أشار إليها المصنف بقوله ( ولو تعارضت البينتان في الجرح والتعديل قال في الخلاف : وقف الحاكم ) لعدم المرجح ( ولو قيل : يعمل على الجرح كان حسنا ) لاعتضاد بينته بأصالة عدم حصول سبب الحكم ، فيبقى المنكر مثلا حينئذ على حجته‌

١٢٠