الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-91029-3-0
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٩٢

احد الحكمين ظاهريا او واقعيا كما هو واضح.

اجل اذا كان يقصد من دعوى نفي المحذور في اجتماع الحكمين ما دام احدهما واقعيا والآخر ظاهريا معنى ادق ـ بأن يكون المقصود ان الحكم الواقعي ناشىء عن مصلحة ثابتة في صلاة الجمعة والحكم الظاهري لم ينشأ من مصلحة اخرى مغايرة للاولى كما يأتي توضيحه في الجواب الثالث ـ كان ما ذكر وجيها.

٢ ـ ان صلاة الجمعة اذا كانت محرمة واقعا وادّت الامارة الى اباحتها لزم ترخيص المكلف في اداء الجمعة وبالتالي في ارتكاب المفسدة وهو قبيح ، وان كانت الجمعة واجبة واقعا وادّت الامارة الى عدم وجوبها لزم الترخيص في ترك المصلحة وهو قبيح ايضا ، وتسمى هذه الشبهة بشبة نقض الغرض.

٣ ـ ان صلاة الجمعة اذا كانت واجبة واقعا وفرض ان المكلّف لم يكن عالما بذلك ولم تقم امارة عليه فلا اشكال في عدم صحة عقابه على تركها لقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » بناء على المسلك المشهور. وهذا واضح ، ولكن لو فرض ان المكلّف لم يحصل له العلم بالوجوب وانما قامت لديه الامارة التي جعلها الشارع حجة فهل في مثل هذه الحالة يستحق العقاب لو ترك الجمعة؟

المشهور بين الاعلام هو الاستحقاق ، ولكن المناسب عدم ذلك اذ اقصى ما تفيده الامارة هو الظن بوجوب الجمعة دون العلم كما يستحق العقاب على مخالفته (١). ومع عدم استحقاقه يكون جعل الحجيّة للامارة لغوا ، اذ قبل جعلها حجة لا استحقاق للعقوبة عند المخالفة ، وبعد جعلها حجة كذلك.

وقد تقول : لماذا لا نلتزم بالتخصيص وان المكلّف يقبح عقابه بلا بيان الاّ اذا قامت الامارة؟

__________________

(١) من الواضح ان المقصود من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو خصوص العلم.

٦١

والجواب : ان قاعدة قبح العقاب قاعدة عقلية ، والقاعدة العقلية لا تقبل التخصيص لأنّ العقل لا يحكم بحكم عام الا بعد عموم العلّة ، ومع عموم العلّة كيف يمكن التخصيص.

وتسمى هذه الشبهة الثالثة بشبهة تنجّز الواقع المشكوك.

شبهة التضاد :

وقد سجّل قدس‌سره ثلاثة اجوبة عن الشبهة الاولى وهي :

الجواب الأوّل :

ما ذكره الشيخ النائيني قدس‌سره وقبل بيانه لا بدّ من تقديم مقدمة حاصلها انه وقع تساؤل في المقصود من الحجيّة فماذا يقصد من كلمة حجة في قولنا جعل الشارع خبر الثقة حجة؟ ان في ذلك مسالك ثلاثة :

أ ـ ان خبر الثقة لا يفيد الاّ الظنّ ، والشارع بجعله الحجيّة له يرفعه الى درجة العلم والطريق التامّ بعد ان كان طريقا ناقصا.

وبكلمة اخرى : اذا كان احتمال عدم اصابة الخبر للواقع بدرجة ٣٠% فالشارع بجعله الحجيّة له يلغي هذا الاحتمال ويرفعه الى درجة ١٠٠% ، ويسمى هذا المسلك بمسلك جعل العلمية او الطريقية او تتميم الكشف ، وهو يلوح من كلمات الشيخ الاعظم في رسائله واختاره صريحا الشيخ النائيني والسيّد الخوئي.

ب ـ ان الوجوب الواقعي لصلاة الجمعة مثلا بما انه مجهول لا يكون منجزا ولكن اذا دلّ خبر الثقة عليه وجعله الشارع حجة صار منجّزا ، فحجيّة الامارة اذن عبارة عن جعلها منجّزة للواقع بمعنى استحقاق العقوبة على المخالفة ، واختار

٦٢

هذا المسلك الآخوند في بعض عبائر الكفاية (١).

ج ـ ان الامارة اذا قالت : صلاة الجمعة واجبة مثلا جعل الشارع وجوبا ظاهريا لصلاة الجمعة فكل ما تقوله الامارة يجعل الشارع مماثله ، ويسمى هذا المسلك بمسلك جعل الحكم المماثل.

وهناك فارق مهم بين المسلكين الاولين والمسلك الثالث ، فالاخير يتضمن جعل حكم بينما المسلكان الاولان لا يتضمّنان ذلك وانما يتضمّنان جعل العلمية او المنجّزيّة لا اكثر.

وبعد الفراغ من المقدمة المذكورة نعرج على جواب الميرزا.

انه يقول : انّ اشكال اجتماع المثلين او الضدّين ينشأ من تفسير الحجيّة بالاحتمال الثالث ، اذ بناء عليه اذا قامت الامارة على وجوب الجمعة او حرمتها نشأ حكم مماثل لما تقوله ويلزم اجتماعه مع الحكم الواقعي.

هذا ولكن الصحيح تفسيرها بالاحتمال الاول : اي جعلها علما وطريقا من دون ان يثبت على طبقها حكم جديد ليلزم عند اجتماعه مع الحكم الواقعي محذور اجتماع المثلين او الضدّين (٢) ـ هذا جواب النائيني ـ.

وقريب منه جواب الآخوند في الكفاية حيث قال : ان معنى جعل الحجيّة هو جعل المنجزيّة من دون جعل حكم على طبقها حتى يلزم محذور اجتماع المثلين ، اذن جواب النائيني لا يختلف عن جواب الآخوند من حيث الروح سوى ان الأول فسّر الحجيّة بالمسلك الاوّل ، بينما الثاني فسّرها بالمسلك الثاني.

__________________

(١) لكن يظهر من بعضها الآخر المسلك الثالث.

(٢) وقد استفاد الميرزا من مسلك جعل العملية فوائد كثيرة في مسائل اصولية اخرى كما سيتّضح انشاء الله.

٦٣

وقد تسأل : لماذا فسّر النائيني الحجيّة بجعل العلمية دون المنجزيّة كما اختاره الآخوند مع ان تفسيرها بذلك لعله اقرب الى الصواب ، فان المولى حينما يجعل شيئا معيّنا حجّة فلا يقصد من ذلك الا جعله موجبا لاستحقاق العقوبة على تقدير المخالفة؟

والجواب : ان النكتة تكمن في ان الامارة لا تفيد الاّ الظن فكيف يجعلها المولى منجّزة وموجبة لاستحقاق العقوبة والحال ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفض ذلك ، ان الامارة ما دامت لا تفيد العلم فلا يمكن ان يجعلها المولى موجبة لاستحقاق العقوبة ، فلا بد اوّلا من جعل الامارة علما لتصير مخالفتها بعد ذلك موجبة لاستحقاق العقوبة ، فانه مع العلم تصح العقوبة سواء كان العلم علما حقيقيا ام كان ظنا رفع الى درجة العلم.

واورد السيد الشهيد قدس‌سره على هذا الجواب الاول بأن الميرزا يتصوّر ان المشكلة تنشأ من اجتماع حكمين ولذا حاول تفسير الحجيّة بالعلمية لكي لا يلزم ذلك ، بيد ان الصحيح انها لم تنشأ من ذلك ، اذ مجرد اجتماع حكمين لا محذور فيه فان الحكم مجرد اعتبار ، واجتماع الاعتبارين امر معقول حتى في صورة تنافي متعلقهما ، فيمكن ان يعتبر وقت واحد ليلا ونهارا ، وهكذا في مقامنا يمكن اعتبار صلاة الجمعة واجبة ومحرمة في وقت واحد ، وانما المشكلة تنشأ من اجتماع المصلحتين والمفسدتين او المصلحة والمفسدة ، فان الحكم الواقعي بوجوب الجمعة ناشىء عن مصلحة فيها وحجيّة الامارة ناشئة عن مصلحة اخرى فيها ايضا فيلزم اجتماع المصلحتين ، ان المشكلة تكمن هنا لا في اجتماع الحكمين بما هما اعتباران حتى يحاول تغيير الحجيّة من جعل الحكم المماثل الى جعل الطريقية ، ونحن نقول للميرزا ان حجيّة الامارة اذا كانت ناشئة من مصلحة اخرى في صلاة

٦٤

الجمعة فيلزم اجتماع المصلحتين سواء فسرنا الحجيّة بجعل الحكم الظاهري المماثل ام بجعل الطريقية ، وان لم تكن ناشئة من ذلك ـ بان فرض مثلا نشوؤها عن مصلحة في نفس الجعل اي في نفس جعل الحجيّة للامارة لا من مصلحة في صلاة الجمعة ـ فلا مشكلة حتى وان فسرنا الحجية بجعل الحكم المماثل اذ لا يلزم اجتماع مصلحتين في صلاة الجمعة بل تكون احداهما ثابتة فيها والاخرى في جعل الحجيّة للامارة.

قوله ص ٢٣ س ٢ وجّهت فيه عدة اعتراضات للحكم الظاهري : المقصود من الحكم الظاهري هو حجيّة الامارة والاصل ، فان نفس الحجيّة هي الحكم الظاهري.

قوله ص ٢٣ ص ٦ فان الحكم الظاهري المجعول على الشاك : المقصود من الحكم الظاهري هنا الحكم الذي تؤدي اليه الامارة.

قوله ص ٢٣ س ١١ اذا لم يعط مضمونا محددا : المقصود من المضمون المحدد هو تفسير الحكم الظاهري بشكل لا تكون له مصلحة مستقلة مغايرة لمصلحة الحكم الواقعي كما يأتي ايضاح ذلك في الجواب الثالث.

قوله ص ٢٤ س ٥ ومصحّحا للعقاب ... الخ : عطف تفسير.

قوله ص ٢٤ س ١١ اشكال التضاد : اي والتماثل ، وحذف اختصارا.

قوله ص ٢٥ ص ٦ بالاعتبار : متعلّق بجعله : اي جعله بسبب الاعتبار علما وكاشفا تاما.

قوله ص ٢٥ س ٨ وذلك لأن المقصود : تعليل لقوله لان الصحيح ان معنى جعل ... الخ ، اي انما فسرنا حجيّة الامارة بجعل العلمية دون المنجزيّة لان ... الخ.

قوله ص ٢٦ س ٤ مهما كانت الصيغة الاعتبارية لجعل الحكم الظاهري : اي

٦٥

ولو كانت هي جعل الحكم المماثل لمضمون الامارة.

قوله ص ٢٦ س ٥ ولو بافتراض ... الخ : اي اما يفرض انّه لم ينشأ من مصلحة مستقلة خاصة به او يفرض نشوؤه من مصلحة خاصة به ولكنها غير قائمة بالمتعلق بل بنفس الجعل كما يختار ذلك ـ قيام المصلحة باصل الجعل ـ السيد الخوئي دام ظله.

قوله ص ٢٦ س ٧ سواء جعل هذا : اي الحكم الظاهري وهو حجيّة الامارة.

الجواب الثاني :

ما ذكره السيّد الخوئي دام ظله من ان صلاة الجمعة إن كانت حراما واقعا مثلا ودلت الامارة على وجوبها فسوف يجتمع حكمان : الحرمة الواقعيّة والوجوب الظاهري ، وهذان الحكمان ليس بينهما تناف بل كمال الألفة ، اذ سبب التنافي لا يخلو من احد امور ثلاثة كلها لا تصلح لذلك :

أ ـ ان ينشأ التنافي من نفس كون احد الحكمين وجوبا والآخر حرمة ، حيث ان الوجوب والحرمة بما هما وجوب وحرمة متنافيان.

ويرده : ان الوجوب ليس الاّ اعتبار الفعل في ذمة المكلّف والحرمة ليست الاّ اعتبار عدم الفعل ، وواضح ان اعتبار الامرين المتنافيين معقول فان الاعتبار سهل المؤونة ، فيمكن ان نعتبر انسانا معينا رجلا وامرأة في وقت واحد ، او نعتبر وقتا واحدا ليلا ونهارا وهكذا.

ب ـ ان يكون التنافي من حيث المبادىء فالوجوب بما انه ناشىء عن مصلحة والحرمة عن مفسدة يحصل التنافي بينهما حيث يلزم اجتماع المصلحة

٦٦

والمفسدة في شيء واحد.

ويرده : ان الحرمة الواقعية وان كانت ناشئة عن مفسدة في صلاة الجمعة الا ان الوجوب الظاهري ليس ناشئا عن مصلحة فيها بل عن مصلحة في نفس الجعل فلا يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد. والنكتة المهمّة في هذا الجواب تتمركز هنا اي في افتراض ان مصلحة الحكم الظاهري قائمة في جعله وانشائه دون متعلقه.

ج ـ ان يكون التنافي ناشئا من اقتضاء كل منهما امتثالا يتنافى وما يقتضيه الآخر ، فالوجوب يقتضي الاندفاع الى فعل الجمعة بينما الحرمة تستدعي الانسحاب عنه ، فيلزم ان يكون المكلّف في آن واحد مدفوعا الى الفعل ومسحوبا عنه وهو غير ممكن.

ويرده : ان لازم الاخذ بالحكم الظاهري كون الحكم الواقعي مجهولا ـ اذ مع معلوميّته لا تصل النوبة الى الحكم الظاهري ـ ومع جهالته فلا يستدعي امتثالا (١) وينحصر الامتثال بالحكم الظاهري.

وببطلان الاسباب الثلاثة للتنافي يصبح اجتماع الحكمين الواقعي والظاهري وجيها.

ويرد الجواب الثاني : اولا : ان الحكم الذي لا مصلحة في متعلقه ليس حكما بحسب الحقيقة ، وكيف يكون حكما والمولى لا يهتم بامتثاله ، اذ غرضه يحصل بمجرد صدور الالفاظ وتحريك لسانه باصدار الحكم ، فان هذا هو معنى ثبوت المصلحة في اصل الجعل ، ان حكما من هذا القبيل لا نعرف له مثيلا في الحياة العقلائية ولا يمكن صدوره من العاقل ، ومن نقض بالاوامر الامتحانية كان جوابه

__________________

(١) اذ امتثال الحكم فرع العلم به.

٦٧

ان الغرض في الاوامر الامتحانية لا يحصل بمجرد انشاء الحكم ، بل امتثال الحكم وعدمه ذو دور فعال اذ بذلك يتم التعرف على حال الشخص.

وثانيا : لو فرض ان عاقلا امكن صدور الحكم المذكور منه ـ كما لو فرض ان شخصا قال له آخر : متى ما اصدرت الحكم المذكور وحرّكت لسانك به فلك جائزة ـ فمثله لا يجب امتثاله اذ بعد عدم المصلحة في صدوره وعدم اهتمام المولى بذلك فلا يلزم العقل بامتثاله.

وباختصار : ان لازم قيام المصلحة في جعل الحكم الظاهري محذوران : سلخ حقيقة الحكم عن الحكم الظاهري وعدم وجوب امتثاله ، وذلك مما لا يمكن الالتزام به ، فان الحكم الظاهري حكم حقيقة ولذا احتجنا الى التوفيق بينه وبين الحكم الواقعي كما ويلزم امتثاله عقلا.

ومع كل هذا فالجواب المذكور جيد من ناحية وان كان قابلا للتأمل من اخرى ، فهو جيد حيث لم يفرض نشوء الحكم الظاهري من مصلحة في صلاة الجمعة ، وقابل للتأمل حيث فرض تمركز المصلحة في اصل الجعل ، اذن نحن بحاجة الى تصوير الحكم الظاهري بشكل لا تكون مصلحته متمركزة في صلاة الجمعة كما ولا تكون قائمة بأصل الجعل ، وهذا ما سوف نقوم به في الجواب الثالث.

قوله ص ٢٧ س ٢ ولا متطلبات عملية : عطف تفسير على سابقه.

قوله ص ٢٧ س ١٣ يعني تفريغها ... الخ : هذا اشارة الى الايراد الاول ، وقوله ومن اثره عقلا : اشارة الى الايراد الثاني.

قوله ص ٢٧ س ١٣ ومن اثره عقلا : وهو وجوب الامتثال واستحقاق العقوبة على مخالفته.

٦٨

الجواب الثالث :

وهو الجواب المطروح من قبل السيد الشهيد (١).

وحاصله : انا نعلم ان الشارع المقدّس شرّع شكلين من الاحكام الواقعيّة : المحرمات والمباحات : فحكم على الخمر بالحرمة وعلى الخل بالحليّة. والمكلّف تارة يحصل له العلم بان هذا المسائل خمر فيحكم بحرمته واخرى يحصل له العلم بخليته فيحكم بأباحته ، ولكن ما هو الموقف حالة الشك؟ فاذا واجه المكلّف سائلا يشك في انه خل او خمر فالشارع لا بدّ وان يحدد موقفه اتجاه حالة الشك هذه ، ولاجل ان يتجلى المطلب اكثر افرض نفسك المشرع وافرض انك حكمت بحرمة الخمر وحلية الخل وسألك عبدك عن حكم السائل المشكوك فجوابك لا يخلو من احد شقّين :

أ ـ ان تقول له : ضع السائل المشكوك امامي لا شخّص انه خمر او خل ، او يفرض ان الله سبحانه يلهم العبد بالواقع ، وهذا الطريق ليس عمليا وميسرا فلا بدّ من التفتيش عن طريق آخر.

ب ـ ان تجرى عملية موازنة بين مصلحة الخل ومفسدة الخمر فان رأيت المفسدة اقوى اصدرت قرارا عاما بلزوم الاجتناب عن كل مشكوك تخفّظا منك على التجنّب عن المفسدة التي هي اهم وان لزم من ذلك التضحية بمصلحة الخل فيما لو كان المشكوك خلا واقعا ، وان فرض العكس بان فرض اهميّة مصلحة الخل اصدرت قرارا عاما باباحة كل مشكوك تحفّظا على مصلحة الخل وان لزم من

__________________

(١) والجواب المذكور شكّل خطا له تأثيره في المسائل الاخرى وسوف نرى فيما بعد يذكر قدس‌سره انه بناء على مختارنا في الجواب عن شبهة التضاد يلزم ان تكون النتيجة كذا وبناء على مسلك غيرنا تكون النتيجة شيئا آخر ، ومن هنا كان لهذا الجواب اهميّته الكبرى.

٦٩

ذلك الوقوع في المفسدة فيما لو كان المشكوك خمرا واقعا.

وذاك القانون بحرمة كل مشكوك الذي هو عبارة اخرى عن جعل اصالة الاحتياط او ذاك القانون باباحة كل مشكوك الذي هو عبارة اخرى عن جعل اصل البراءة هو ما يصطلح عليه بالحكم الظاهري ، فاذا سئلنا عن حقيقة الحكم الظاهري كان الجواب انه الحكم الثابت حالة الشك الناشىء بسبب تقديم الملاك الاهم.

ولو فتّشنا عن ملاك الحكم الظاهري باباحة المشكوك او حرمته وجدنا ان ملاكه نفس ملاك الحكم الواقعي بمعنى ان مفسدة الخمر التي هي الملاك لتشريع الحرمة الواقعية هي بنفسها الموجب لتشريع الحكم الظاهري بحرمة كل مشكوك ، فهي على هذا سبب لنشوء حكمين ، فانها سبب للحكم الواقعي بحرمة الخمر وسبب للحكم الظاهري بحرمة كل مشكوك.

ومن هنا اتضح توجيه المقالة السابقة وهي ان ملاك الحكم الظاهري لا يغاير ملاك الحكم الواقعي بل هو هو.

وبهذا البيان يندفع الاشكال الاول لابن قبة حيث كان يقول : ان تشريع حجيّة الامارة والاصل يلزم منه اجتماع حكمين : الواقعي والظاهري ، ووجه الاندفاع : ان الاجتماع المذكور لا محذور فيه ، فان الحكمين بما هما اعتباران لا تنافي بينهما لسهولة مؤونة الاعتبار ، وان لا حظنا مبادىء الحكمين فلا اجتماع لها ، حيث ان الحكم الظاهري ليس له مبادىء مستقلّة ليلزم اجتماع المبدأين المتماثلين او المتضادين ، كما ولا يلزم صيرورة الشيء الواحد محبوبا ومبغوضا ، فان الخل الواقعي محبوب واقعا ولا يلزم بجعل الحرمة على السائل المشكوك صيرورته ـ الخل الواقعي ـ مبغوضا ، فان الحكم المذكور لم ينشأ عن مبغوضية الخل بل هو

٧٠

وليد الملاك الاهم وهو مفسدة الخمر.

وينبغي الالتفات الى ان الحكم الواقعي باباحة الخل تارة ينشأ من وجود مصلحة في شرب الخل ـ كمصلحة التسهيل ـ تقتضي تشريع الاباحة ، وتسمى مثل هذه الاباحة بالاباحة الاقتضائية ، واخرى ينشأ من عدم وجود مفسدة في تناول الخل وعدمه ، ومثل هذه الاباحة تسمى بالاباحة غير الاقتضائية.

وحديثنا السابق كنا نفترض فيه الاباحة اباحة اقتضائية ، ففي حالة تردد الشيء بين كونه مباحا اباحة اقتضائية وبين كونه محرما (١) يقدّم الملاك الاهم ويشرّع الحكم الظاهري على طبقه ، اما اذا كانت الاباحة غير اقتضائية (٢) فالقانون الذي يشرّعه المولى لا بد وان يكون هو الحكم بحرمة كل مشكوك ، اذ الاباحة غير الاقتضائية ليس لها ملاك حتى ينشأ المولى الحكم الظاهري على طبقها بل لا بدّ من تشريع حرمة المشكوك لانحصار الملاك بذلك.

وباختصار ان الاباحة اذا لم تكن اقتضائية تعيّن كون الحكم الظاهري هو حرمة المشكوك ، واذا كانت اقتضائية ففيه احتمالان : حرمة كل مشكوك فيما لو كانت المفسدة هي الاهم ، واباحة كل مشكوك فيما لو كانت الاباحة هي الاهم.

هذا حصيلة ما افاده قدس‌سره ، وهو يصور لنا فيه حقيقة الحكم الظاهري وانه حكم وليد الملاك الاهم ويصور لنا ان مبادىء الحكم الظاهري هي عين مبادىء الحكم الواقعي الامر الذي يضفي على الحكم الواقعي والظاهري كمال الالفة ، والى كل هذا نلمس في الجواب المذكور تطابقه والذوق العقلائي ، فكثيرا

__________________

(١) من الطبيعي الحرمة لا تكون الاّ اقتضائية ناشئة عن المفسدة ، وهكذا الوجوب لا يكون الاّ اقتضائيّا ناشئا عن المصلحة.

(٢) هذه الصورة هي التي تعرض لها قدس‌سره في كلامه اولا.

٧١

ما نتداوله في حياتنا الاعتيادية ، وعلى سبيل المثال قد ترغب احيانا في دخول بعض الاصدقاء عليك وتكره دخول بعضهم الآخر ، فاذا دقّ الباب وشككت في الطارق ولم تعلم انه الصديق الاول حتى تفتح له الباب ، او الثاني حتى تبقيها مغلقة ، في مثل هذه الحالة تأخذ بالموازنة بين المصلحة في دخول الاول والمفسدة في دخول الثاني ، فاذا رأيت ان الاولى اهم فتحت الباب او اصدرت امرا بفتحه حالة الشك لكل طارق ، واذا كانت الثانية اعظم اصدرت امرا على العكس. ان الامر الصادر المذكور حكم ظاهري مجعول حالة الشك ولم يتولّد من مصلحة مغايرة للمصلحة الواقعية ، وكم وكم امثلة من هذا القبيل نعاصرها في حياتنا العادية تقوم على اساس الفكرة المذكورة.

قوله ص ٢٨ س ١٢ فاذا اختلطت المباحات بالمحرمات : ذكر هذا من باب المثال والاّ فالفكرة نفسها تجري حالة اختلاط المباحات بالواجبات او اختلاط الواجبات بالمحرمات.

قوله ص ٢٨ س ١٤ فلا المباح بعدم تمييز المكلّف ... الخ : يؤكد قدس‌سره على هذا المطلب اكثر من مرة للاشارة الى ان المباح الواقعي لا يلزم فيه اجتماع المحبوبية والمبغوضية ، وهكذا الحرام الواقعي لا يلزم فيه ذلك ، وباختصار لا يلزم اجتماع المبادىء المتضادة.

قوله ص ٢٩ س ١٠ وفي مقابل ذلك ان كانت الاباحة ... الخ : هذا يرتبط بقوله : « وواضح ان اهتمامه بالاجتناب عن المحرمات الواقعية يدعوه ... » اي ان الاهتمام بملاك الحرمة يقتضي الحكم بلزوم ترك كل مشكوك ولكن هل يوجد احتمال بديل باباحة كل مشكوك؟ ان الاباحة اذا كانت غير اقتضائية فلا بديل وان كانت اقتضائية كان الاحتمال البديل ثابتا وذلك ما يتعرض له في صدر

٧٢

صفحة ٣٠ س ١.

الجواب عن الشبهة الثانية لابن قبة :

قوله ص ٣١ س ٣ وبهذا اتضح الجواب ... الخ : ومن خلال ما سبق بتجلى الجواب عن الشبهة الثانية لابن قبة ـ وهي شبهة نقض الغرض القائلة بان تشريع الحكم الظاهري يستلزم فوات مصلحة الواقع في بعض الحالات ـ فان فوات مصلحة الواقع لا محذور فيه ما دام ذلك للحفاظ على الملاك الاهم.

الجواب عن الشبهة الثالثة :

والشبهة الثالثة المصطلح عليها بشبهة تنجّز الواقع المشكوك ـ وهي ان تشريع حجيّة الامارة والاصل لغو وبلا فائدة فان وجوب الجمعة مثلا اذا كان مجهولا قبل دلالة الامارة عليه فبعد دلالتها عليه لا يصح العقاب على ترك امتثاله لانه عقاب بلا بيان اذ بالامارة لا يصبح الواقع معلوما بل مظنونا ـ تتم على مسلك المشهور القائل بقاعدة قبح العقاب بلان بيان كما هو واضح ولا تتم على مسلك السيد الشهيد الذي يرى ان التكليف المحتمل منجّز ايضا وان لم يكن معلوما.

هذا وقد استفاد الميرزا من مسلكه السابق ـ وهو تفسير جعل الحجيّة بجعل العلمية ـ في الرد على هذه الشبهة فانه بقيام الامارة على الواقع المجهول يصبح معلوما ويكون العقاب على مخالفته عقابا مع البيان.

ويرده :

أ ـ ان الجواب المذكور لو تم ـ وسيأتي عدم تماميته ـ فهو انما يتم في

٧٣

موردين : الامارات والاصول المحرزة ، ولا يتم في الاصول غير المحرزة (١).

اما انه يتم في الامارات فلان المجعول فيها هو العلمية ، وبعد حصول العلم يكون ثبوت العقاب والتنجّز وجيها.

واما انه يتم في الاصول المحرزة كالاستصحاب فلانه فيها ينزل الاحتمال منزلة اليقين فاحتمال بقاء الحالة السابقة ينزل منزلة اليقين ببقائها ويصير المستصحب عالما بالبقاء ، وبعد علمه يكون استحقاقه للعقاب على المخالفة مناسبا.

واما انه لا يتم في الاصول غير المحرزة كاصالة الاحتياط فلانه لم ينزل الاحتمال فيها منزلة اليقين حتى يكون المكلّف عالما ومستحقا للعقاب على المخالفة (٢).

ب ـ ان المحاولة المذكورة في نفسها غير تامة كما سيأتي ذلك من السيد الشهيد ص ٨١ ـ ٨٢ من الحلقة.

__________________

(١) سيأتي في البحث التالي تقسيم الاصل الى المحرز وغير المحرز.

(٢) ظاهر عبارة الكتاب ان جواب الميرزا يتم في الاصل المحرز كالاستصحاب مثلا مع انه يمكن ان يقال انه لا يتم في مطلق الاصول العملية ، حيث ان الاصول لم تجعل فيها العلمية الا كانت من الامارات ، ومع عدم جعل العلمية لا يصير الواقع معلوما حتى تصح العقوبة على مخالفته.

لا يقال : ان الاصل المحرز ينزل فيه الاحتمال منزلة اليقين ، وبذك يصبح مفيدا للعلم.

فانه يقال : ان الاحتمال في الاصل المحرز ينزل منزلة اليقين في جانبه العملي دون الاحرازي والا لم يحصل الفرق بين الامارة والاصل المحرز.

٧٤

الفارق بين

الامارات والاصول

٧٥
٧٦

الامارات والاصول :

هناك تساؤل لم يطرح في الكتب الاصوليّة بعنوان مستقل وهو : ما الفارق الاساسي بين الامارات والاصول؟ فانا نعلم ان الامارات والاصول نوعان من الحكم الظاهري ـ اذ الحكم الظاهري تارة في الامارات واخرى في الاصول ، والثابت في الامارات له خاصية النظر الى الواقع ويحاول احرازه فخبر الثقة اذا قال : صلاة الجمعة واجبة ينظر الى الواقع لاحرازه بينما الحكم الظاهرى في الاصول ليس له نظر الى الواقع لاحرازه ، ومن هنا كان اللازم في الامارة وجود شيء له حيثية النظر الى الواقع والكشف عنه ولو بدرجة ضعيفه حتى يتمم الشارع كشفه ويجعله تاما ، فخبر الثقة اذا كانت له كاشفية في نفسه بدرجة ٧٠% مثلا فالشارع يجعله كاشفا بدرجة ١٠٠% بينما في الاصول حيث لا يراد احراز الواقع فلا يلزم وجود ما له نظر وكشف عنه ـ ولكن بماذا تختلف حقيقة الحكم الظاهري في احدهما عنها في الآخر؟ وقد سجل قدس‌سره جوابين عن ذلك (١).

__________________

(١) وقد ذكر قدس‌سره البحث المذكور مرة ثانية في بداية الجزء الثاني ص ١١ وذكر له جوابين آخرين فمجموع الاجوبة على هذا اربعة.

وقد تعرض الشيخ الاعظم في الرسائل لهذا المبحث ص ٤٠٨ س ١٦ من الطبعة الحجريّة ، وحاصل ما ذكره ان الشيء اذا كان له كاشفية والشارع جعله حجة لاجل كاشفيته فهو امارة ، وان لم تكن له كاشفية او كانت ولم يجعله حجة لاجلها فهو اصل.

٧٧

تفرقة الميرزا :

والجواب الاول للميرزا يقول : ان المولى اذا جعل الشيء علما فهو امارة وان لم يجعله علما بل مقررا للوظيفة العملية فهو اصل عملي ، فالفارق يكمن في المجعول فانه في الامارة هو العلمية بينما في الاصول هو الوظيفة العملية.

وقام الميرزا بعد ذلك بتقسيم الاصل الى ثلاثة اقسام :

أ ـ الاصل التنزيلي.

ب ـ الاصل المحرز.

ج ـ الاصل العملي البحت.

والفارق الذي ذكره بين الثلاثة : ان الاصل اذا جعل الوظيفة العملية بلسان تنزيل المشكوك منزلة الواقع فهو اصل تنزيلي كاصالة الطهارة والحلية فان الاولى تقول : « كل شيء لك طاهر حتى تعلم انه قذر » ويستفيد منها الميرزا ان ما يشك في طهارته فهو بمثابة الطاهر الواقعي ، وهكذا الحال في اصالة الحلية.

واذا جعل الاصل الوظيفة العملية بلسان تنزيل الاحتمال منزلة اليقين فهو اصل محرز كما في الاستصحاب ، حيث قد يستفاد من حديث « لا تنقض اليقين بالشك » ان كل من احتمل بقاء الشيء حالة الشك فهو كالمتيقن ببقائه ، فاحتمال البقاء اذن منزّل منزلة اليقين بالبقاء او انّ نفس الاستصحاب منزّل منزلة اليقين.

واذا فرض ان الاصل جعل الوظيفة العملية من دون تنزيل للمشكوك منزلة الواقع ولا تنزيل الاحتمال منزلة اليقين فهو اصل عملي بحت اي لا تنزيلي ولا محرز (١).

__________________

(١) قد يقال ما الفائدة في هذا التقسيم الثلاثي الميرزائي؟ فهل تترتب ثمرة خاصة بالاصل ـ

٧٨

سؤال وجواب :

ان الاصل المحرز فرض فيه تنزيل احتمال البقاء منزلة اليقين وقد تقول بناء على هذا اي فرق اذن بين الامارة والاصل المحرز ، ففي الامارة جعلت العلمية وفي الاصل المحرز جعلت العلمية ايضا؟

وقد اجاب الميرزا عن ذلك بان كل قطع له خصوصيتان :

أ ـ كونه كاشفا عن الواقع ومحرزا له.

ب ـ اقتضاؤه السير في مقام العمل على طبقه ، فمن قطع بوجود سبع في مكان معين فكأنه يرى بعينه وجود السبع في ذلك المكان ، وهذه هي الخصوصية الاولى ، وبسبب ذاك يأخذ بالفرار من ذلك المكان ، وهذه هي الخصوصية الثانية ، فللقطع اذن خصوصيتان (١) : الكاشفية والجري العملي.

وباتضاح هذا يقال : ان الامارة والاصل المحرز وان اشتركا في جعل العلمية الاّ ان الامارة جعلت علما من حيث الخصوصية الاولى فهي تكشف عن الواقع وتحرزه تعبدا بيما الاصل المحرز جعل علما من حيث الخصوصية الثانية فيلزم الجري العملي على وفقه ، ولم يجعل علما من حيث الاحراز.

وعبارة الكتاب لمّحت الى ذلك حينما قالت : « في جانبه العملي لا الاحرازي ».

__________________

ـ المحرز لا تترتب على الآخرين؟ ان الفائدة تتجلى في استنباط بعض الاحكام كما يأتي الاشارة الى ذلك في الجزء الثاني من الحلقة ص ١٦ ـ ١٧.

(١) الخصوصيات التي ذكرها الميرزا للقطع اربع ، وانما اقتصرنا على اثنتين منها لعدم الحاجة في المقام لسواهما

٧٩

مناقشة الميرزا.

ان تفرقة الميرزا بين الامارات والاصول تبتني على ملاحظة الفاظ الدليل وكيفية الصياغة فان كان التعبير بلسان جعل العملية كان المورد امارة وان كان بلسان جعل الوظيفة العملية فهو الاصل ، وواضح ان الفارق اعمق من ذاك ، انه اعمق من العبائر والالفاظ ، انه فارق جوهري ، فجوهر الامارة غير جوهر الاصل ، ولأن كان هناك فارق بينهما على مستوى الانشاء والصياغة فهو نابع من الفارق الجوهري بينهما بالشكل الذي سنوضحه.

الفارق بنظر السيد الشهيد.

والفارق الجوهري الذي يبرزه قدس‌سره يبتني على فهم حقيقة الحكم الظاهري ، فقد مرّ انه حكم شرّع على طبق الملاك الاهم حين الاشتباه ، واهمية الملاك التي ينشأ على طبقها الحكم الظاهري لها اشكال ثلاثة :

أ ـ ان تكون ناشئة بسبب قوة الاحتمال والكشف بقطع النظر عن المحتمل ، والحكم الظاهري في هذا الشكل هو الامارة ، ومثاله : خبر الثقة ، فان الثقة اذا اخبرنا بشيء فالنكتة في الاخذ به هي الكاشفية الثابتة فيه فهو يكشف بدرجة ٧٠% مثلا عما يخبر عنه ، ولاجل ذلك ناخذ به مهما كانت القضية المخبر عنها.

ب ـ ان تكون ناشئة بسبب قوة المحتمل بقطع النظر عن درجة الاحتمال ، والحكم الظاهري في هذا الشكل هو الاصل العملي البحت ، ومثاله : اصل الحل فمن شك في شيء انه حلال او حرام فالشارع حكم عليه بالحلية سواء كانت

٨٠