الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-91029-3-0
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٩٢

مبحث المفاهيم

٤٤١
٤٤٢

المفهوم

قوله ص ١٦٠ س ١ لا شك في ان المفهوم مدلول التزامي ... الخ : المفاهيم متعددة فمنها مفهوم الشرط ومنها مفهوم الوصف و .... وقبل التحدث عن كل واحد منها بخصوصه نتحدث عن المفهوم بشكل عام وبقطع النظر عن كونه مفهوم شرط او وصف او غير ذلك ، فالمفهوم بشكل عام ما هو معناه؟ والجواب : ان المفهوم هو كل حكم لازم للمنطوق ، فكل لازم للكلام الذي نطقنا به هو مفهوم. ولكن من الواضح ليس كل لازم للكلام يسمى مفهوما ، فلربما يكون عندنا احيانا حكم لازم للمنطوق ولا يكون مفهوما ، فوجوب المقدمة لازم لوجوب ذيها ولكنه ليس مفهوما ، وحرمة الضد مدلول التزامي للامر بالواجب ولكنه ليس مفهوما ، فالمفهوم اذن هو مدلول التزامي خاص ، ولكن كيف نحدده؟

ذكر الميرزا : ان الحكم اللازم للكلام تارة يكون لزومه واضحا بحيث لا يحتاج اثباته الى اقامة دليل ، واخرى لا يكون كذلك ، والمفهوم هو الاول اي هو الحكم اللازم للكلام بدرجة واضحة لا يحتاج معها الى اقامة دليل. ويسمى في علم المنطق مثل هذا اللازم الذي يكون لزومه واضحا باللازم البين او البين بالمعنى الاخص. اذن المفهوم في نظر الميرزا هو اللازم البين او اللازم البين بالمعنى الاخص وهو الذي لا يحتاج الى اقامة دليل (١).

__________________

(١) قرأنا في المنطق ان تصور الشيء اذا كان مستلزما لتصور شيء سمّي اللزوم باللزوم ـ

٤٤٣

ويرده : ان بعض الادلة التي يستدل بها على المفهوم تثبت ان جملة « اذا جاءك زيد فاكرمه » مثلا تدل على المفهوم وانه اذا لم يجيء فلا تكرمه ولكن لا تدعي ان هذه الدلالة واضحة وبشكل لا تحتاج الى دليل بل هي تثبت اللزوم والدلالة بادلة دقيقة تاتي الاشاره لها ، وهذا مما يكشف عن ان المفهوم لا يلزم فيه ان يكون لزومه للمنطوق واضحا بل المفهوم هو الحكم اللازم وان لم يكن لزومه واضحا.

والصحيح ان يقال : ان المفهوم هو الحكم اللازم للكلام شريطه استفادته من الربط الخاص بين المحمول والموضوع لا من نفس خصوصية الموضوع والمحمول. فمثلا اذا قال المتكلم « اذا جاءك ابن الكريم وجب عليك اكرامه » استفدنا من ذلك ثلاثة احكام التزامية هي :

ا ـ اذا جاءك نفس الكريم فيجب اكرامه. وهذا الحكم يستفاد من خصوصية الموضوع وهي عنوان ابن الكريم ، فلو فرض ان المذكور في الموضوع عنوان اليتيم دون ابن الكريم فهل نستفيد ان ام اليتيم لو جاءت وجب اكرامها؟ كلا لا نستفيد ذلك.

ب ـ يجب تهيئة مقدمات وجوب الاكرام من باب ان مقدمة الواجب واجبة. وهذا الحكم مستفاد من خصوصية المحمول التي هي الوجوب ، فلو

__________________

ـ البيّن بالمعنى الاخص مثل تصور العمى فانه يستلزم تصور البصر ، اذ العمى هو عدم البصر ، فكلما تصورنا العمى فلا بد وان نتصور البصر. اما اذا كان تصور الشيء لا يستلزم تصور شيء ثاني غير ان تصور الشيئن مع النسبة بينهما يوجب الجزم بالنسبة بلا حاجة الى دليل فاللزوم بيّن بالمعنى الاعم كتصور الكل والجزء والنسبة بينهما فانه يوجب الجزم بان الكل اكبر من الجزء بلا حاجة الى اقامة دليل على ذلك. واذا كان اللزوم بحاجة الى اقامة دليل كاثبات الحدوث للعالم فاللزوم غير بيّن.

٤٤٤

فرض ان الحكم كان هو استحباب الاكرام او اباحته لما استفدنا من ذلك وجوب المقدمات.

ج ـ انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، ومثل هذا الحكم ثابت مهما تغير الشرط والجزاء ، فانه في جميع الحالات نستفيد انه متى ما انتفى الشرط انتفى الجزاء ، اي ان روح هذا الحكم تبقى ثابتة غاية الامر يختلف مصداق الشرط والجزاء من قضية الى اخرى ، فمثل هذا الحكم ليس متفرعا على خصوصية الموضوع ولا على خصوصية المحمول حتى يختلف باختلافهما بل على الربط الخاص بينهما.

وباتضاح هذا نقول : ان المفهوم هو خصوص الحكم الالتزامي الثالث ، فان الاحكام الثلاثة وان كانت جميعا احكاما التزامية الا ان المفهوم منها هو خصوص الحكم الثالث المتفرع على الربط الخاص بين الموضوع والمحمول والذي قد يعبر عنه بالانتفاء عند الانتفاء.

ومن الطبيعي ان المفهوم وان كان هو الانتفاء عند الانتفاء لكن شريطة ان يكون الحكم المنتفي هو طبيعي الحكم لا شخصه : فمثلا لا اشكال في ان قولنا « اذا جاء زيد فاكرمه » يدل على ان وجوب الاكرام المقيد بالمجيء ينتفي بانتفاء المجيء ، ولكن ليس هذا مفهوما لانه انتفاء للحكم الشخصي المقيد بالمجىء والذي هو ثابت بمقتضى قاعدة الاحتراز في القيود لا بمقتضى المفهوم ، فان المفهوم هو انتفاء طبيعى الوجوب ، اي انه اذا لم يجىء فلا يجب اكرامه حتى اذا كان مريضا او فقيرا او ... ، ان انتفاء مثل هذا الحكم غير المقيد بسبب معين يسمى بانتفاء طبيعي الحكم وهو المفهوم. وعلى هذا فالمفهوم يشتمل على خصوصيتين : احداهما : كونه حكما التزاميا متفرعا على الربط الخاص بين الموضوع والمحمول.

٤٤٥

ثانيتهما : كون المنتفي عند الانتفاء طبيعي الحكم وكليّه لا شخصه.

قوله ص ١٦٠ س ٧ هو اللازم البين مطلقا : اي سواء كان بينا بالمعنى الاخص ام بينا بالمعنى الاعم.

قوله ص ١٦٠ س ١١ دون ان يكون مبينا : اي دون ان يكون بينا لا بالمعنى الاخص ولا بالمعنى الاعم.

قوله ص ١٦١ س ٣ بهذا النحو : اي بنحو يزول باستبداله بمحمول آخر.

ضابط المفهوم.

قوله ص ١٦٢ س ٧ ونريد الآن ان نعرف الربط ... الخ : ذكرنا فيما سبق ان المفهوم يستحصل عليه من الربط الخاص ، والآن نريد ان نعرف ماذا يلزم ان بتوفر في ذلك الربط الخاص لكي يستلزم المفهوم؟ ولهذا السؤال اجابتان احداهما للمشهور والاخرى للسيد الشهيد قدس‌سره.

اما المشهور فذكروا ان الجملة الشرطية مثلا لا يثبت لها المفهوم الا اذا كان الشرط علة منحصرة للحكم ، فلو كان لوجوب الاكرام علة اخرى غير المجيء كالمرض والفقر ونحو ذلك فلا يثبت المفهوم اي لا يلزم من انتفاء المجيء انتفاء وجوب الاكرام لجواز قيام العلة الاخرى مقام المجيء. اذن ثبوت المفهوم في نظر المشهور يتوقف على ان يكون ذلك الربط الخاص الذي تدل عليه القضية هو الربط على مستوى العلة المنحصرة. ولكن كيف يمكن اثبات ان الشرط علة منحصرة؟ هناك عدة وسائل لاثبات ذلك اهمها قرينة الحكمة ، بان يقال : ان ظاهر قول المتكلم « اذا جاءك زيد فاكرمه » ان المجيء هو الذي يوجب الاكرام سواء سبقه شيء آخر ام لا ، فان مقتضى هذا الظهور ان مرض زيد مثلا ليس علة

٤٤٦

لوجوب الاكرام والا يلزم في صورة سبق المرض على المجيء ان لا يحصل وجوب الاكرام بسبب المجيء بل بسبب المرض ـ فانه لو كان للمعلول علتان وسبقت احداهما الاخرى حصل وجود المعلول بالعلة السابقة دون اللاحقة ـ والحال انا قلنا ان ظاهر الشرطية باطلاقها الاحوالي ان المجيء هو الذي يوجب الاكرام حتى وان سبقه المرض ، ولازم ذلك عدم كون المرض علة.

وباختصار : ان المشهور قال ان ثبوت المفهوم يتوقف على ان يكون الربط ربطا بالعلة المنحصرة (١) ، وقال ايضا ان الوسيلة لاثبات كون الشرط علة منحصرة هو قرينة الحكمة.

واما السيد الشهيد فقد ذكر انه يوجد طريق آخر لتحصيل المفهوم غير طريق المشهور ، وذلك ان نثبت ان الشرطية موضوعة للتوقف دون الاستلزام ، فاذا ثبت ان واضع لغة العرب قد وضع جملة « اذا جاءك زيد فاكرمه » للتوقف ـ اي لأفادة انّ : وجوب الاكرام موقوف على المجيء ـ ثبت المفهوم وانه اذا لم يجيء فلا تكرمه بلا حاجة لاثبات ان المجيء علة منحصرة ، فحتى اذا لم يمكن لقرينة الحكمة اثبات ان المجيء علة منحصرة فبالامكان ثبوت المفهوم عن طريق نكتة التوقف. فمثلا سوف يأتي ان الاخوند ذكر ان قرينة الحكمة لا يمكنها اثبات ان الشرط علة منحصرة للجزاء (٢) ولذلك ذهب الى ان الشرطية لا مفهوم لها ، ولكن مع ذلك نقول له ان قرينة الحكمة وان لم يمكنها اثبات كون الشرط علة منحصرة بيد ان هذا لا يستدعي انكار المفهوم للشرطية لامكان ثبوته من طريق آخر وهو

__________________

(١) مع كون الوجوب المعلق على المجيء طبيعى الحكم لا شخصه ، وهذا واضح ولذا لم نركز عليه.

(٢) بل والسيد الشهيد يرى ذلك ايضا لكنه يثبت المفهوم عن طريق نكتة التوقف.

٤٤٧

اثبات ان الواضع وضع الشرطية للتوقف (١).

اجل اذا فرض ان الواضع لم يضع الشرطية للتوقف بل للاستلزام ـ اي لافادة ان المجيء يستلزم وجوب الاكرام ـ لم يثبت لها المفهوم ، فان استلزام المجيء لوجوب الاكرام لا يقتضي نفي استلزام المرض لوجوبه ، بل من المحتمل ان كليهما يستلزم وجوب الاكرام نظير قولنا النار تستلزم الحرارة فانه لا يقتضي عدم استلزام الشمس للحرارة.

وباختصار : ان المشهور ذكر ان الطريق لاثبات المفهوم طريق واحد لا غير وهو اثبات كون الشرط علة منحصرة ، والسيد الشهيد يقول ان الطريق المذكور صحيح ولكن يوجد طريق ثاني لاثبات المفهوم وهو اثبات ان الشرطية موضوعة لافادة التوقف دون الاستلزام ، فاذا لم يمكن اثباته بالطريق الاول امكن التمسك بالطريق الثاني فيقال : ان المتبادر من الشرطية هو التوقف دون الاستلزام وبذلك يثبت المفهوم.

ثم ان الطريق الاول ـ وهو اثبات ان الشرط علة منحصرة ـ حيث يحتاج الى التمسك بقرينة الحكمة والمفروض ان قرينة الحكمة ناظرة الى تعيين المقصود الجدي المعبر عنه بالمدلول التصديقي اصطلح قدس‌سره على الطريق المذكور بالطريق لاستفادة المفهوم على مستوى المدلول التصديقي.

وحيث ان الطريق الثاني ـ وهو التمسك بنكتة التوقف ـ يحتاج الى اثبات

__________________

(١) من الواضح عدم كون المقصود من التوقف هو التوقف بمفهومه الاسمي الذي هو كلمة « توقف » بل المقصود النسبة التوقفية ، فان كلمة « ان » الشرطية حرف ، والحرف يدل على النسبة.

٤٤٨

وضع الشرطية للتوقف اصطلح عليه بالطريق لاستفادة المفهوم على مستوى المدلول التصوري فان المدلول التصوري هو المدلول الوضعي.

اذن على ضوء تعبيرات السيد الشهيد يمكننا ان نقول هكذا : ان الطريق لاثبات المفهوم تارة يكون على مستوى المدلول التصوري واخرى على مستوى المدلول التصديقي. اما على مستوى المدلول التصوري فبالامكان الحصول على المفهوم فيما اذا ثبت ان نكتة التوقف قد اخذت في المدلول التصوري المعبر عنه بالمدلول الوضعي. واما على مستوى المدلول التصديقي فبالامكان الحصول على المفهوم فيما اذا ثبت بقرينة الحكمة ان خصوصية العلية الانحصارية قد اخذت في المراد الواقعي المعبر

عنه بالمدلول التصديقي (١).

قوله ص ١٦٤ س ١٢ ولو لم يثبت كون الشرط علة ... الخ : اعتبر المشهور وجود ملازمة بين الشرط والجزاء كما واعتبر ان يكون اللزوم بنحو العلية الانحصارية. وقد تقدم في الحلقة السابقة عدم لزوم كون الشرط علة تامة بل يكفي كونه جزء علة منحصرة. وسواء اعتبر المشهور في الشرط كونه علة منحصرة او جزء علة منحصرة يشكل السيد الشهيد على المشهور بان الشرطية اذا كانت موضوعة للتوقف فذلك يكفي في الحصول على المفهوم وان لم يكن الشرط علة او جزء علة منحصرة.

قوله ص ١٦٤ س ١٣ لمجرد صدقه : الصواب لمجرد صدفة.

قوله ص ١٦٤ س ١٥ عن معنى : وذلك المعنى هو ان ظاهر الشرطية كون المجيء هو الذي يقتضي وجوب الاكرام حتى في حالة سبق المرض عليه.

قوله ص ١٦٥ س ١ المحاولة الهادفة : تأتي هذه المحاولة في الوجه الثالث

__________________

(١) يعسر استفادة المقصود من عبائر الكتاب في هذا المبحث. وكلمات الحلقة الثانية اوضح.

٤٤٩

المذكور ص ١٦٨ من الحلقة.

قوله ص ١٦٥ س ٣ ثم الاستنتاج : عطف على قوله « لاثبات كونه ... الخ ». ولعل العبارة الواضحة هكذا : لاثبات كونه مؤثرا على اي حال سواء سبقه شيء آخر ام لا الذي لازمه استنتاج انحصار ... الخ.

قوله ص ١٦٥ س ٧ وقد تقدم سابقا : اي ص ١٤٢ في التنبيه الاول.

مورد الخلاف في ضابط المفهوم

قوله ص ١٦٦ س ١ ثم ان المحقق العراقي ... الخ : تقدم ان المشهور اعتبر لحصول المفهوم ركنين هما :

١ ـ ان يكون الشرط في الشرطية مثلا علة منحصرة للحكم او يفرض على رأي السيد الشهيد وضع الجملة الشرطية للتوقف.

٢ ـ ان يكون الحكم المعلق على المجيء هو مطلق وجوب الاكرام لا شخصه ، والا لكان اللازم من انتفاء الشرط انتفاء شخص الحكم دون الطبيعي ، ومن الواضح ان انتفاء شخص الحكم ليس مفهوما ، اذ المفهوم هو انتفاء الطبيعي دون الشخص.

وبعد هذا نسأل : هل هذان الركنان ثابتان وحصولهما مسلم او هو محل للتأمل؟ اجاب الشيخ العراقي بان النزاع لا بد وان ينصب على الركن الثاني فقط ، واما الاول فالكل متفق على ثبوته وتوفره ، فالكل يقول ان الشرط علة منحصرة للجزاء ، اذ لو لم يكن المجيء علة منحصرة لوجوب الاكرام فمن اللازم ان لا ينتفي شخص الحكم ايضا بانتفاء المجيء ، فانه اذا كانت هناك علة اخرى غير المجيء فكما يلزم عدم انتفاء طبيعي الحكم بانتفاء المجيء كذلك يلزم عدم انتفاء شخص

٤٥٠

الحكم لقيام العلة الثانية مقام العلة الاولى فيلزم بقاء شخص الحكم ، والحال ان الكل متفق على انتفائه بانتفاء الشرط ، وهذا لازمه الاتفاق على ان الشرط علة منحصرة ، فالنزاع لا بد وان ينصب على الركن الثاني فيقال : ان قرينة الحكمة هل يمكن ان تثبت الركن الثاني وان الجزاء هو طبيعي الوجوب او لا؟ هكذا ذكر الشيخ العراقي. وسوف نصطلح فيما بعد على هذا الرأي بمسلك المحقق العراقي.

قوله ص ١٦٦ س ٣ على الربط الخاص : وهو التوقف على رأى السيد الشهيد او العلية الانحصارية على رأي المشهور.

قوله ص ١٦٦ س ٥ او وضعا : الصواب : او وصفا.

٤٥١

مفهوم الشرط

قوله ص ١٦٧ س ٥ ذهب المشهور الى دلالة الجملة ... الخ : ذكرنا في بداية البحث عن المفاهيم ان السيد الشهيد يتحدث اولا عن المفهوم بشكل عام ثم يأخذ بعد ذلك بالتحدث عن كل واحد من المفاهيم بخصوصه. والآن وبعد الفراغ عن المفهوم بشكل عام يقع الحديث عن اول المفاهيم وهو مفهوم الشرط.

ذكر المشهور انه لا بد لاجل اثبات المفهوم للشرط من اثبات كون الشرط علة منحصرة لوجوب الاكرام مثلا. ولكن المشكلة كيف يمكن اثبات ان الشرط علة منحصرة؟ والجواب : ان هناك طرقا ثلاثة هي :

١ ـ التمسك بالوضع.

٢ ـ التمسك بالانصراف.

٣ ـ التمسك بقرينة الحكمة والاطلاق. وقد ذكر المشهور لهذا الطريق الثالث عدة بيانات.

الطريق الاول.

والطريق الاول هو التمسك بالوضع بان يقال : ان جملة « اذا جاءك زيد فاكرمه » موضوعة للانحصار ، والكاشف عن ذلك هو التبادر ، فان المتبادر كون المجيء علة منحصرة لوجوب الاكرام ، والتبادر علامة الوضع. والاحساس بهذا التبادر امر وجداني ، ولكن الذي يقف امامه هو ان الشرطية لو كانت

٤٥٢

موضوعة للانحصار لزم ان يكون استعمالها في مورد عدم الانحصار مجازا ، والحال انا لا نشعر بذلك ابدا ، فانه لو قيل « اذا جاءك زيد فاكرمه » لا نشعر بالمجازية حتى ولو كانت هناك علة اخرى غير المجيء كالمرض والفقر ونحوها. وعلى هذا يقع التصادم بين هذين الوجدانين : وجدان تبادر الانحصار ووجدان عدم المجازية في حالات عدم الانحصار ، والآخوند قدس‌سره رحج الوجدان الثاني وطرح الاول ولذا انكر ثبوت المفهوم للشرطية. ونحن اذا اردنا اثبات المفهوم للشرطية فلا بد وان نوفق بين الوجدانين ونرفع التنافي بينهما. وستأتي طريقة التوفيق ص ١٧٣ من الحلقه.

الطريق الثاني.

والطريق الاخر لاثبات المفهوم هو التمسك بالانصراف بان يقال : ان ثبوت المفهوم للشرطية بحاجة الى اثبات امرين هما :

ا ـ اثبات ان الشرطية تدل على وجود ملازمة بين الشرط والجزاء

ب ـ اثبات ان الملازمة التي تدل عليها الشرطية هي ملازمة على نحو العلية الانحصارية وليست مطلق الملازمة.

اما الامر الاول ـ اي اصل الملازمة ـ فيمكن اثباته عن طريق الوضع بان نقول : ان الشرطية موضوعة لحالة الملازمة ، والكاشف عن ذلك هو التبادر ، فان المتبادر من كل شرطية هو وجود ملازمة بين الشرط والجزاء بحيث لا ينفك احدهما عن الآخر.

واما الامر الثاني ـ اي كون اللزوم بنحو العلية الانحصارية ـ فيمكن اثباته عن طريق الانصراف ، بان يقال : ان الملازمة بين العلة والمعلول حالة كون العلة

٤٥٣

منحصرة اقوى واكمل من الملازمة بين العلة والمعلول حالة وجود علة ثانية بديلة. وهده الاكملية توجب الانصراف الى الفرد الاكمل وهو الملازمة على نحو العلية الانحصارية.

وقد نوقش البيان المذكور بمناقشتين :

ا ـ انكم قلتم : بان الانصراف يحصل بسبب الاكملية ، ونحن نقول : لا نسلم كون الاكملية من اسباب الانصراف ، فان الانصراف يحصل بسبب كثرة استعمال اللفظ في بعض الافراد ولا يحصل بسبب الاكملية ، والا يلزم فيما لو قال المتكلم « اعتق رقبة » اعتاق خصوص الرقبة العالمة الفاضلة المجاهدة التقية التي هي اكمل افراد الرقبة ، والحال عدم احتمال ذلك.

ب ـ لو سلّم ان الاكملية سبب للانصراف فلا نسلم ان الملازمة حالة انحصار العلة اكمل من الملازمة حالة عدم الانحصار ، فلو كانت بين ايدينا نار تسخن الماء فالنار مستلزمة لسخونة الماء ولكن هل هذه الملازمة بين النار والسخونة تضعف فيما لو فرض وجود نار ثانية تصلح للقيام مقام النار الاولى؟ كلا انها لا تضعف كما ولا تقوى ولا تصير اكمل فيما لو فرض عدم وجود نار اخرى بديلة ، بل الملازمة هي هي دون ان تقوى او تضعف بافتراض وجود او عدم وجود نار اخرى.

الطريق الثالث.

وثالث الطرق لاثبات المفهوم هو التمسك بالاطلاق. وللطريق المذكور بيانات ثلاثة :

٤٥٤

البيان الاول :

ان ثبوت المفهوم للشرطية بحاجة الى اثبات امور ثلاثة هي :

١ ـ دلالة الشرطية على اصل اللزوم بين الشرط والجزاء.

٢ ـ دلالة الشرطية على ان الشرط علة تامة وليس جزء علة. وبكلمة ثانية لا بد وان يثبت ان اللزوم لزوم بين العلة التامة ومعلولها.

٣ ـ دلالة الشرطية على ان العلة التامة ـ المتمثلة بالشرط ـ علة منحصرة وليس لها بديل ، اذ ربما يكون للعلة التامة بديل يقوم مقامها ، والمفهوم كما يتوقف على كون الشرط علة تامة ـ اي لا جزء علة ـ كذلك يتوقف على ان تكون تلك العلة التامة منحصرة ، وليست ذات بديل.

هذه امور ثلاثة لا بد من اثباتها حتى يثبت المفهوم. ولكن كيف نثبت الامور المذكورة؟ يمكن اثبات الامر الاول عن طريق الوضع ، فيقال : ان الشرطية موضوعة لحالة الملازمة بين الشرط والجزاء بقرينة التبادر كما اشرنا الى ذلك في الطريق الثاني.

واما الامر الثاني ـ وهو كون الشرط علة تامة لا جزء علة ـ فيمكن اثباته عن طريق التفريع بان يقال : ان الشرطية تدل على تفرع وجوب الاكرام على المجيء حيث اتي بالفاء في الجزاء وقيل « ان جاءك فاكرمه » والفاء الداخلة على الجزاء تدل على تفرع وجوب الاكرام على المجيء. وبعد دلالة الشرطية على التفرع نضم الى ذلك مقدمة اخرى هي انه اذا ثبت التفريع في عالم الكلام يثبت بذلك التفرع في عالم المراد والواقع اي يثبت ان وجوب الاكرام متفرع واقعا على المجيء وذلك من جهة ان الاصل مطابقة الكلام للمراد. واذا ثبت ببركة اصالة التطابق التفرع الواقعي نقول حينذاك : انه لا معنى لثبوت التفرع بين شيئين الاكون

٤٥٥

احدهما علة تامة والاخر معلولا ، فوجوب الاكرام مادام متفرعا واقعا على المجيء يثبت ان المجيء علة تامة لوجوب الاكرام.

واما الامر الثالث ـ وهو كون الشرط علة منحصرة لا بديل لها ـ فيمكن اثباته بواسطة التمسك بالاطلاق الاحوالي فيقال : بعد ان اثبتنا كون المجيء علة تامة نقول ان مقتضى الاطلاق كون المجيء علة تامة في جميع الحالات التي منها حالة اجتماع المجيء مع شيء آخر كالمرض ، واذا كان المجيء علة تامة حتى في حالة المرض يثبت بذلك ان المرض ليس علة بديلة للمجيء والا لزم في حالة اجتماعه مع المجيء تحول المجيء الى علة ناقصة ـ اي صيرورته جزء علة ـ لان العلتين التامتين اذا اجتمعتا تحولت كل واحدة منهما الى جزء علة ، فالمرض لو كان علة بديلة للمجيء لزم تحول المجيء الى جزء علة حالة اجتماعه مع المرض والحال ان مقتضى الاطلاق الاحوالي كون المجيء علة تامة حالة اجتماعه مع المرض ايضا. وعليه يثبت ببركة الاطلاق الاحوالي كون المجيء علة منحصرة لا بديل لها. هذا كله في البيان الاول.

مناقشة البيان الاول.

ويرد عليه ثلاث مناقشات :

الاولى : انكم قلتم انه يمكن بواسطة الاطلاق الاحوالي اثبات كون الشرط علة منحصرة ، ونحن نقول انه توجد حالتان لا يمكن للاطلاق الاحوالي نفي احتمال العلة البديلة فيهما وهما :

ا ـ اذا كانت العلة الاخرى التي نحتمل قيامها مقام المجيء مما لا يمكن اجتماعها مع المجيء مثل انكسار الرجل ، فلو كنا نحتمل ان انكسار رجل زيد علة

٤٥٦

ثانية لوجوب اكرامه غير مجيئه ففي مثل ذلك لا يمكن نفي مثل هذه العلة البديلة بالاطلاق الاحوالي اذ لا يمكن ان نقول : ان مقتضى الاطلاق الاحوالي كون المجيء علة تامة حتى في حالة اجتماعه مع انكسار الرجل ، انه باطل ، اذ انكسار الرجل لا يمكن اجتماعه مع المجيء حتى ينفى احتمال عليته بالاطلاق.

ب ـ اذا كانت العلة الاخرى مما يمكن اجتماعها مع المجيء ولكن كنا نحتمل انها لا تكون علة بديلة الا في حالة عدم حصول المجيء بحيث لو كان المجيء حاصلا فلا تكون علة وانما تكون علة عند عدمه ـ كما لو فرضنا ان المرض علة اخرى ولكنه لا يكون علة الا في حالة عدم المجيء ـ فمثل هذه العلة البديلة لا يمكن نفيها بالاطلاق الاحوالى ، فان قولنا مقتضى الاطلاق الاحوالى ان المجيء علة تامة في جميع الحالات بما فيها حالة الاجتماع مع المرض وان كان صحيحا الا انه ينفي علة المرض حالة اجتماعه مع المجيء ولا ينفي عليته حالة عدم اجتماعه مع المجيء فان الاطلاق الاحوالي ناظر الى حالة الاجتماع وينفي احتمال العلة الاخرى حالة الاجتماع ولا ينظر الى حالة انفراد المرض وحده لينفي احتمال عليته فيها.

الثانية : نسلم ان التفرع الاثباتى يدل على التفرع الثبوتى بيد انا ننكر اختصاص التفرع الثبوتي بخصوص العلة ومعلولها ، بل من الممكن ان يكون عندنا شيئان احداهما متفرع على الاخر واقعا ومع ذلك لا يكون احدهما علة والآخر معلولا كما هو الحال بين الكل والجزء ، فان الكل متفرع واقعا على الجزء ، اذ بدون حصول الجزء لا يمكن حصول الكل ـ ولذا يصح ان نأتي في مقام التعبير عن الكل والجزء بفاء التفريع ونقول : ان حصل الناطق فقد حصل الانسان او ان حصل الخل فيمكن حصول السكنجبين ـ ولكن مع ذلك ليس احدهما علة للآخر.

٤٥٧

ومثال آخر على ذلك : المتقدم والمتأخر زمانا فان المتأخر زمانا متفرع واقعا على المتقدم زمانا ولذا يصح التعبير بفاء التفريع فيقال ان حصل السبت فقد حصل الاحد مع عدم كون احدهما بالنسبة للآخر من باب العلة والمعلول.

وباختصار : ان التفريع الاثباتي وان دل على التفريع الثبوتي ولكن التفريع الثبوتي لا ينحصر بباب العلية والمعلولية بل له مصاديق اخرى مثل الكل والجزء والمتقدم والمتأخر زمانا ، ومعه فلا يمكن ان يستنتج من مجرد تفرع الجزاء على الشرط ان الشرط علة واقعا للجزاء وان كنا في خصوص مثال « ان جاءك زيد فاكرمه » لا نحتمل غير العلية والمعلولية.

الثالثة : لو تنزلنا وسلمنا ان التفرع الواقعي ينحصر بباب العلية والمعلولية وليس له مصاديق اخرى مثل الكل والجزء والمتقدم والمتأخر زمانا ولكن نقول ان التفرع الواقعي لا ينحصر بحالة كون الشرط علة تامة بل من الممكن ان يكون الشرط جزء علة اذ كما ان المعلول متفرع واقعا على علته التامة كذلك هو متفرع واقعا على علته الناقصة.

اجل هناك طريق آخر يمكن بواسطته اثبات ان الشرط علة تامة « لا جزء علة » ـ غير طريق تفرع الجزاء على الشرط ـ وهو التمسك بالاطلاق الاحوالي بأن يقال : ان مقتضى تفرع الجزاء على الشرط انه كلما حصل المجيء حصل وجوب الاكرام حتى في حالة عدم انضمام شيء آخر ـ كالمرض مثلا ـ الى المجيء ، ان هذا الاطلاق الاحوالي يدل على ان المجيء علة تامة. هذا هو الطريق لاثبات ان الشرط علة تامه لا جزء علة. ولكن هذا الطريق قد يتأمل فيه من ناحية انه وان اثبت كون الشرط علة تامة وليس جزء علة الا انه ينفي الجزئية باحد معنيين لا بكلا المعنيين ، فان كون المجيء جزء العلة فيه احتمالان :

٤٥٨

ا ـ ان يكون جزء العلة بمعنى انه وحده ومنفردا لا يمكن ان يؤثر في وجوب الاكرام بل لا بد وان ينضم اليه شيء آخر كالمرض. وبناء على هذا الاحتمال يكون المجيء قاصرا في ذاته عن التأثير وحده في وجوب الاكرام.

ب ـ ان يكون المجيء صالحا في ذاته للتأثير وحده في وجوب الاكرام وليس فى ذاته قصور ولكنه بسبب اجتماعه مع علة اخرى يتحول ويصير جزء العلة ، فصيرورة المجيء جزء علة ليس بسبب قصوره الذاتي وانما هو بسبب عارضي وهو الاجتماع مع علة اخرى ، فان كل علة تامة حينما تجتمع مع علة تامة اخرى تتحول كل واحدة منهما الى جزء علة.

وباتضاح هذين الاحتمالين نقول : ان الاطلاق الاحوالي السابق الذي اردنا به اثبات كون المجيء علة تامة « لا جزء علة » هو مما ينفي الجزئية باحتمالها الاول حيث يقول ـ اي الاطلاق الاحوالي ـ انه كلما حصل المجيء حصل وجوب الاكرام وان لم ينضم اليه المرض ، وهذا لازمه ان المجيء يمكنه لوحده ايجاد وجوب الاكرام بلا حاجة الى انضمام شيء آخر اليه وليس فيه اي قصور ذاتي ، ولكنه لا ينفي الجزئية باحتمالها الثاني اي لا يقول انه في حالة اجتماع المرض مع المجيء لا يتحول المجيء الى جزء علة بل لعله يتحول ويصير جزء العلة حالة اجتماعه مع المرض ، اذ الاطلاق الاحوالي يقول ان المجيء وحده وبلا حاجة الى انضمام المرض يمكنه ايجاد وجوب الاكرام وليس فيه قصور ذاتي ولا يقول انه لا توجد علة تامة اخرى بحيث عند اجتماعها مع المجيء يتحول المجيء الى جزء علة ، ان الجزئية بهذا المعنى مما لا ينفيها الاطلاق الاحوالي المذكور.

البيان الثاني.

والبيان الآخر للتمسك بالاطلاق ان يقال ان اثبات المفهوم بحاجة الى

٤٥٩

اثبات امرين.

أ ـ اثبات ان الشرطية تدل على اللزوم العلي ، اي ان الجزاء لازم للشرط ومعلول له.

ب ـ اثبات ان الشرط علة منحصرة.

ولاثبات الامر الاول نكتفي بما سبق ، بان نفترض ان اللزوم العلي ثابت بسبب الوضع او تفرع الجزاء على الشرط ، فبأحد هذين الطريقين نثبت ان الشرط علة للجزاء. والمهم الذي نريد التركيز عليه هو اثبات الامر الثاني اي الانحصار. ولاثباته نقول : انه لو كان لوجوب الاكرام علة اخرى كالمرض مثلا فاما ان يكون كل من المجيء بعنوانه الخاص والمرض بعنوانه الخاص مؤثرا في وجوب الاكرام او يكون كل منهما مؤثرا لا بعنوانه الخاص بل بجامعه ، بان يكون الجامع بينهما ـ وهو عنوان احدهما ـ مؤثرا ، فالمجيء بما انه مصداق لعنوان احدهما وهكذا المرض بما انه مصداق لعنوان احدهما يؤثر في وجوب الاكرام بلا مدخلية لعنوانهما الخاص. وكلا الاحتمالين باطل. اما الاول : فلأنّ لازمه ايجاد الشيئين لشيء واحد ، وهو باطل لعدم صدور الواحد من المتعدد. واما الثاني : فلانه وان كان ممكنا الا انه خلاف الظاهر فان ظاهر قول المتكلم « اذا جاءك زيد فاكرمه » ان المجيء بعنوان كونه مجيئا مؤثر في وجوب الاكرام لا بما انه مصداق لعنوان احدهما ، اذ لم يقل المتكلم اذا حصل احدهما ـ اي المجيء والمرض ـ يجب الاكرام.

والنتيجة من كل هذا عدم وجود علة اخرى لوجوب الاكرام والا يلزم احد هذين المحذورين الباطلين.

ويرده : ان بالامكان اختيار كون كل من المجيء والمرض علة بعنوانه

٤٦٠