الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-91029-3-0
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٩٢

الاوامر الارشادية.

قوله ص ١١٨ س ٣ ومهما يكن فالاصل ... الخ :

تنقسم الاوامر الى قسمين : اوامر مولوية واوامر ارشادية. والفرق بينها هو انه تارة يترتب على مخالفة الامر استحقاق العقوبة واخرى لا يترتب ، فان ترتب سمي الامر بالامر المولوي او التكليفي مثل امر صلّ ، صم ... فانه يترتب على مخالفته استحقاق العقوبة ، وان لم يترتب سمي بالامر الارشادي.

وقد ذكر في الكتاب للامر الارشادي ثلاثة امثلة ، الاولان منها شرعيان والثالث عرفي.

المثال الاول : استقبل بذبيحتك القبلة ، وهذا الامر لا يترتب على مخالفته استحقاق العقوبة ، فلو فرض ان المكلف لم يستقبل القبلة عند الذبح فلا يعاقب على ذلك وان صارت الذبيحة محرمة الاكل ، فالامر المذكور يراد به الارشاد الى شرطية الاستقبال في حلية الذبيحة ، وقد يعبر عن الاستقبال بانه واجب شرطي باعتبار انه شرط لازم لحصول الحلية.

المثال الثاني : اغسل ثوبك من البول ، فلو فرض ان انسانا اصاب البول ثوبه ولم يغسله لم يكن آثما ، فالامر المذكور اذن يراد به الارشاد الى نجاسة البول وان الغسل بالماء هو المطهر من النجاسة.

المثال الثالث : قول الطبيب للمريض استعمل الدواء ، وهذا الامر ـ الذي هو امر عرفي ـ لا يترتب على مخالفته عقوبة بل يراد به الارشاد الى نفع الدواء وانه الوسيلة للشفاء.

ثم انه لا بد من الالتفات الى نكتة وهي ان الاوامر الارشادية كالمولوية

٣٨١

مستعملة في المعنى الموضوع له وهو النسبة الارسالية ، فكما ان امر صلّ مستعمل في الارسال او بتعبير ادق في النسبة الارسالية كذلك امر اغسل ثوبك من البول مستعمل في الارسال غير ان الغرض الواقعي هناك يختلف عنه هنا ، فالغرض الواقعي في الاوامر المولوية هو التحريك بينما في الاوامر الارشادية هو الارشاد.

وان شئت قلت : ان المدلول التصوري ـ وهو المعنى الموضوع له ـ واحد في كلتا الجملتين وانما الاختلاف في المدلول التصديقي ـ اي في المقصود الواقعي.

قوله ص ١١٨ س ٣ ومهما يكن :

اي سواء كان يلزم التفكيك في السياق الواحد من ارادة الوجوب في الجملة الثالثة او لا. والمراد من الاصل : مقتضى الظهور.

قوله ص ١١٨ س ٤ طلب المادة وايجابها :

عطف الايجاب على الطلب تفسيري. والمراد من المادة : مثل الصلاة في امر صلّ.

قوله ص ١١٨ س ٩ عن ذلك :

اي عن شرطية الاستقبال.

قوله ص ١١٨ س ٩ باعتبار ان الشرط واجب في المشروط :

الشرط هو مثل الاستقبال ، والمشروط هو مثل حلية الذبيحة.

القسم الثاني.

قوله ص ١١٩ س ٣ ونقصد به الجملة الخبرية ... الخ :

تقدم ان الوسيلة لحصول الطلب تارة تدل عليه بلا عناية واخرى مع العناية ، والحديث سابقا كان عن الوسيلة الاولى ، ومن الآن يقع عن الوسيلة

٣٨٢

الثانية ، اي عما يدل على الطلب مع العناية ، وهو الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب مثل قول الامام عليه‌السلام « اعاد صلاته » حينما يسأله السائل عن المصلي الذي يشك في عدد ركعات صلاة الصبح.

والكلام عن الجملة الخبرية يقع في مرحلتين :

١ ـ ما هي العناية في الجملة الخبرية التي بتوسطها تدل على الطلب؟

٢ ـ هل الطلب الذي تدل عليه الجملة الخبرية هو خصوص الطلب الوجوبي او الاعم من الوجوبي والاستحبابي؟

اما المرحلة الاولى فالسؤال المطروح فيها هو : كيف تدل الجملة الخبرية على الطلب مع ان المقصود منها الاخبار دون الطلب ، وبتعبير آخر : ان الجملة الخبرية ما دامت موضوعة للنسبة الصدورية ـ كنسبة صدور الاعادة من المصلي ـ لا للنسبة الارسالية ، والمفروض ان المقصود منها الاخبار دون الطلب فكيف تدل عليه؟ ومن هنا كانت دلالتها على الطلب بحاجة الى عناية ، والعناية يمكن تصويرها بثلاثة اشكال :

أ ـ ان يفرض ان جملة « اعاد » مستعملة في معناها الموضوع له وهو النسبة الصدورية ، ويفرض انه عليه‌السلام يقصد منها الاخبار دون الطلب ، فكانه عليه‌السلام قال : اخبركم بان الشاك في صلاة الصبح قد صدرت منه الاعادة غير انا نفترض ان المصلي الذي يخبر عليه‌السلام بحصول الاعادة منه انسان يسير على خط الشريعة ويطبق عمله على الموازين الشرعية ، وبعد هذا الافتراض تكون جملة « اعاد » دالة على الطلب ، فان الاعادة اذا لم تكن مطلوبة شرعا فلا يصدق على الفاعل لها انه ممن يطبق عمله على الموازين الشرعية ، وما دمنا قد افترضنا انه يطبق عمله على الموازين الشرعية فمن اللازم كون الاعادة مطلوبة ولو على

٣٨٣

الاقل طلبا استحبابياً.

يبقى السؤال عن القرينة على تقييد الشخص المخبر عنه بالقيد المتقدم.

والجواب : ان القرينة هي انه اذا لم نفترض التقييد المذكور فلازمه ان الامام عليه‌السلام يريد الاخبار عما يفعله الناس وانهم يعيدون صلاتهم عند الشك ويصير ذلك نظير الاخبار عنهم بانهم يأكلون الطعام حين يجوعون ، وواضح ان ذلك لا يليق بمقامه عليه‌السلام فانه ليس قصّاصا.

ب ـ ان يفرض انه عليه‌السلام حينما قال « اعاد صلاته » استعمل الجملة في النسبة الصدورية اي في صدور الاعادة وحصولها من المصلي ، ويفرض ايضا ان غرضه عليه‌السلام هو الاخبار كما كنا نفترض ذلك في العناية الاولى ، بيد انا نفرض الآن ان الامام عليه‌السلام حينما اخبر عن حصول الاعادة كان غرضه الواقعي الاخبار عن علة الاعادة وسببها ، فالانسان قد يخبر عن شيء وغرضه الاخبار عن علته كما هو الحال في باب الكناية ، ففي قولنا « زيد كثير الرماد » ليس الغرض الاخبار عن كثرة الرماد حقيقة بل عن الكرم الذي هو العلة لكثرة الرماد فكانه يراد ان يقال زيد كريم ولكنه قد اخبر عن حصول المعلول مع ان الغرض الواقعي الاخبار عن العلة ، وهنا يقال كذلك اي ان الاعادة مسببة عن الطلب والطلب سبب لها والامام عليه‌السلام اخبر عن الاعادة بداعي الاخبار عن سببها وهو الطلب.

ج ـ ان يفرض انه عليه‌السلام حينما قال : « اعاد صلاته » لم يستعمل الجملة في معناها الموضوع له وهو النسبة الصدورية بل في الارسال والطلب فكأنه قال « اعد ». وبناء على هذه العناية يكون استعمال الجملة مجازا بينما على الاولين يكون حقيقة.

٣٨٤

وبعد اتضاح هذه الاشكال الثلاثة للعناية قد تسأل عن الاقرب منها ، والاقرب هو الشكل الاول لانه لا يتضمن اي عناية ، اذ المفروض استعمال الجملة في معناها الموضوع له وهو الجملة الصدورية والمفروض ايضا ارادة الاخبار منها ، غاية الامر يقيد المخبر عنه بكونه ممن يطبق عمله على الموازين ، وهذا التقييد ليس فيه عناية بعد ما فرضنا ان الامام عليه‌السلام ليس قصّاصا ، فكونه عليه‌السلام ذا منصب بيان الاحكام قرينة بنفسه على التقييد المذكور ، وهذا بخلافه في الشكلين الاخيرين فان العناية واضحة ، ففي الشكل الثاني نحتاج الى افتراض الكناية وهي مخالفة للظاهر وفي الشكل الثالث يحتاج الى افتراض المجازية في الاستعمال.

دلالة الجملة الخبرية على الوجوب

قوله ص ١٢٠ س ٢ الثانية : في دلالتها ... الخ : كان الحديث فيما سبق عن العناية المبذولة لاستفادة الطلب ، والآن وفي المرحلة الثانية يقع الكلام عن مدى امكان استفادة الطلب الوجوبي من الجملة الخبرية وعدمه.

وللتعرف على ذلك لا بد من مراجعة العنايات السابقة التى استفيد الطلب بتوسطها.

اما العناية بشكلها الاول فهي تقتضي الطلب الوجوبي لان اصل دلالة الجملة الخبرية على الطلب بحاجة الى افتراض تقييد المخبر عنه بكونه ممن يطبق عمله على الموازين الشرعية ، فاذا اردنا ان نستفيد منها مطلق الطلب الشامل للاستحباب فلا بد من افتراض تقييد ثاني في المخبر عنه ، فان من يطبق عمله على الموازين الشرعية لا يلزم صدور الاعادة منه فيما اذا كانت مستحبة الا اذا فرضنا

٣٨٥

انه يطبق عمله على افضل الموازين الشرعية واكملها ، اما من يطبق عمله على الموازين الشرعية بدون التقيد بافضلها فهو يأتي بالواجبات واما المستحبات فقد لا يأتي بها. اذن استفاده الاستحباب بحاجة الى افتراض تقييدين : تقييد المخبر عنه بكونه ممن يطبق عمله على الموازين الشرعية ، وتقييده بكونه يطبق عمله على افضلها ، وهذا بخلاف استفادة الوجوب فانها بحاجة الى التقييد الاول فقط.

واما العناية بشكلها الثاني فهي تقتضي الوجوب ايضا ، لان الذي سوّغ للامام عليه‌السلام ان يخبر عن صدور الاعادة ويقصد بذلك الكناية عن الطلب هو الملازمة بين طلب الاعادة وصدورها ، ومن الواضح ان الملازمة ثابته بين خصوص الطلب الوجوبي والاعادة لا بين مطلق الطلب ـ ولو كان استحبابيا ـ والاعادة ، فان استحباب الاعادة لا يلازم صدورها او يلازمها ولكن بشكل ضعيف ، وهذا بخلاف وجوب الاعادة فانه يلازم صدورها.

واما العناية بشكلها الثالث فهي لا تقتضي كون الطلب وجوبيا ، فان استعمال صيغة « اعاد » في غير النسبة الصدورية مجاز سواء كان ذلك الغير هو الوجوب ام الاستحباب ، ولا مرجح لاحد المجازين على الآخر حتى يتعين فكلاهما اذن محتمل.

قوله ص ١١٩ س ٦ مدلولها التصوري : اي معناها الموضوع له ، فان صيغة « اعاد » موضوعة لافادة صدور الاعادة من المعيد.

قوله ص ١١٩ س ٧ ومدلولها التصديقي : اي المقصود الواقعي منها هو الحكاية والاخبار.

قوله ص ١٢٠ س ٣ المدلولة تصورا : اي المدلولة وضعا.

قوله ص ١٢٠ س ٣ بل امر ملزوم لها : الملزوم هو العلة. اي ان الذى

٣٨٦

يقصد الاخبار عنه هو علة الصدور وهو الطلب فان الطلب هو العلة الموجبة للاعادة.

قوله ص ١٢١ س ٢ المصححة : صفة للملازمة.

قوله ص ١٢١ س ٣ للاخبار عن الملزوم ببيان اللازم : اي الاخبار عن الطلب بواسطة بيان اللازم وهو الصدور.

مادة النهي وصيغته

قوله ص ١٢١ س ١١ وكل ما قلناه في جانب ... الخ : ذكرنا سابقا ان للطلب وسيلتين :

ا ـ ما يدل عليه بالمباشرة وهو مادة الامر وصيغته.

ب ـ ما يدل عليه لا بالمباشرة وهو الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب.

وذكرنا ايضا ان الاوامر على قسمين : مولوية وارشادية. وهذا الحديث كله يأتي في النهي ايضا ، فللنهي وسيلتان :

ا ـ ما يدل عليه بالمباشرة وهو مادة النهي ـ اي كلمة النهي ومشتقاتها ـ وصيغته. مثال المادة : انت منهي او انهاك او اني نهيتك عن الكذب. ومثال الصيغة : لا تكذب او لا تشرب واشباه ذلك.

ب ـ ما يدل عليه لا بالمباشرة وهو الجملة الخبرية المستعملة بداعي النهي ، كما اذا سئل الامام عليه‌السلام عن الشك بين الركعة الثالثة والرابعة فقال : لا يعيد ، فانه جملة خبرية مستعملة بداعي النهي.

وايضا النهي تارة يكون مولويا واخرى ارشاديا ، فالمولوي هو النهي

٣٨٧

الذي تترتب على مخالفته العقوبة مثل : لا تكذب ، لا تسرق ، و ... ، والارشادي هو النهي الذي لا تترتب على مخالفته العقوبة بل يكون ارشادا الى مطلب من المطالب. وذكر في الكتاب للنهي الارشادي ثلاثة امثلة :

١ ـ ان يكون ارشادا الى ثبوت حكم شرعي مثل : لا تصل في جلد الحيوان الذي لا يحل اكل لحمه كجلد النمر والاسد وغيرهما ، فان مثل هذا النهي لا يعاقب المكلف عليه لو خالفه وصلى في جلد الاسد مثلا بل اقصى ما يترتب عليه فساد الصلاة ، فالنهي المذكور اذن ارشاد الى المانعية اي مانعية مصاحبة اجزاء الحيوان المذكور من صحة الصلاة ، وواضح ان المانعية حكم شرعي وضعي.

٢ ـ ان يكون ارشادا الى عدم ثبوت حكم شرعي كالنهي عن قبول خبر الفاسق ، فانه ارشاد الى عدم حكم الشارع بحجيته وليس مولويا اذ لا يترتب على مخالفته عقوبة.

٣ ـ ان يكون ارشادا الى امر تكويني كنهي الطبيب المريض عن تناول الماء البارد فانه ارشاد الى اشتداد المرض عند تناول ذلك ولا يترتب على مخالفته عقوبه.

والخلاصة انه لا توجد ابحاث جديدة في النهي تختلف عن الابحاث المتقدمة في الامر. اجل هناك فرق واحد ـ ولكنه ليس مهما ـ وهو ان الامر يدل على طلب الفعل بخلاف النهي فانه يدل على الزجر عن الفعل.

الامر يدل على الفور او التراخي؟

قوله ص ١٢٢ س ٧ ثم ان الامر لا يدل على الفور او التراخي ... الخ : هناك بحث تعرض له الاصوليون وهو ان المولى لو قال تصدق على الفقير فهل هذا

٣٨٨

الامر يدل على طلب التصدق فورا بحيث لو تراخى المكلف فلا يحصل الامتثال او يدل على التراخي بحيث لو تصدق فورا فلا يحصل الامتثال او لا يدل لا على هذا ولا على ذاك؟ الصحيح هو الاحتمال الاخير ، فان الامر بالتصدق يدل على طلب طبيعة التصدق لا اكثر ، فمن اتى بالتصدق فورا صدق عليه الاتيان بطبيعة التصدق فيكون ممتثلا ، ومن اتى به متراخيا صدق عليه ذلك ايضا ويكون ممتثلا.

الامر يدل على المرة او التكرار

قوله ص ١٢٢ س ١١ كما ان الامر لا يدل على المرة ولا على التكرار ... الخ :

وهناك بحث آخر وقع بين الاصوليين وهو انه لو قال المولى تصدق على الفقير مثلا فهل يلزم الاتيان بالتصدق مرة واحدة او يجب الاتيان به مرات متعددة او لا يدل لا على هذا ولا على ذاك؟ الصحيح هو الاحتمال الثالث ، فان الامر بالتصدق يدل على طلب طبيعة التصدق لا اكثر ، فمن أتى به مرة واحدة صدق عليه الاتيان بالطبيعة فيكون ممتثلا ومن اتى به مرات متعددة كان كذلك.

اجل نستثني حالة ما اذا تصدق المكلف مرات متعددة مع تخلل الفاصل ، بان تصدق في الساعة الاولى بدرهم وفي الساعة الثانية بدرهم آخر على فقير ثاني وهكذا ، فان الامتثال يحصل بالمرة الاولى فقط اذ بحصولها يصدق الاتيان بالطبيعة فيحصل الامتثال ويسقط الامر ، ومع سقوطه فلا يمكن حصول الامتثال بالتصدق الثاني. ومن هنا قيل : يستحيل الامتثال بعد الامتثال اذ بالامتثال الاول يسقط الامر فلا يمكن الامتثال ثانيا. اجل مع الاتيان بالتصدق مرات متعددة في آن واحد وبلا تخلل فاصل يحصل الامتثال بالمجموع اذ لا معنى لحصوله بواحد دون آخر.

٣٨٩

قوله ص ١٢٢ س ١١ هو مدلول المادة : اي مدلول مادة الامر بالتصدق ، وهو طبيعة التصدق.

قوله ص ١٢٢ س ١٥ يثبت اطلاقها البدلي : اي يقتضي لزوم الاتيان بالتصدق اما مرة واحدة او مرات متعددة لا انه يقتضي كليهما ولا احدهما بالخصوص.

٣٩٠

الاحتراز في القيود

ومقدمات الحكمة

٣٩١
٣٩٢

الاطلاق واسم الجنس

قوله ص ١٢٤ س ١ الاطلاق يقابل التقييد ... الخ : من الابحاث التي تعرض لها الاصوليون مبحث الاطلاق ومقدمات الحكمة. والمراد من الاطلاق واضح ، فانا اذا تصورنا مفهوم الانسان من دون ضم ضميمة اليه سمي المفهوم المذكور بالمطلق. واذا تصورناه مع الضميمة ـ كمفهوم الانسان العالم ـ سمي بالمقيد. وهذا مطلب واضح.

وقد وقع الحديث بين الاصوليين في السبب لاستفادة الاطلاق ، فكلمة انسان في قولنا « اكرم انسانا » نستفيد منها الاطلاق ولكن ما هي نكتة ذلك؟ وقد وجد في هذا المجال اتجاهان :

١ ـ الاتجاه السائد قبل سلطان العلماء ـ الذي هو احد اكابر علمائنا ـ القائل بان مثل كلمة انسان ، سكر ، ماء ، رقبة وغير ذلك من الاسماء التى تدل على اجناس وطبائع معينة هي موضوعة للماهية بقيد الاطلاق ، فكلمة انسان مثلا موضوعة لماهية الانسان المقيدة بالاطلاق. وبناء على هذا يكون الاطلاق مدلولا وضعيا اي مستفادا من الوضع حيث اخذ جزء فى المعنى الموضوع له.

٢ ـ الاتجاه السائد من زمان سلطان العلماء والى يومنا هذا القائل بان مثل كلمة « انسان » لم توضع لماهية الانسان بقيد الاطلاق بل لذات الماهية من دون قيد الاطلاق ، وانما هو مستفاد من مقدمات الحكمة.

وقد اعتاد الاصوليون ذكر مقدمة لتوضيح الاتجاه الثاني وتبيان الفرق بينه

٣٩٣

وبين الاتجاه الاول. وتبعا لهم نذكر تلك المقدمة وبعدها نأخذ بالاستدلال على الاتجاه الثاني.

ونمنهج تلك المقدمة ضمن نقاط اربع ليسهل استيعابها.

١ ـ انا لو نظرنا الى الانسان وقيد العلم امكننا ان نحصل في عالم الخارج على حصتين احداهما الانسان العالم والاخرى غير العالم ولا توجد حصة ثالثة ، فان ماهية الانسان بقطع النظر عن العلم وعدمه ليست حصة ثالثة ذات وجود خارجي مقابل الحصتين السابقتين. هذا في عالم الخارج.

واما اذا نظرنا الى عالم الذهن فيمكن الحصول على حصص ثلاث :

ا ـ لحاظ ماهية الانسان مع لحاظ العلم. وتسمى بالماهية بشرط شيء او بالمقيد.

ب ـ لحاظ ماهية الانسان مع لحاظ عدم العلم. وتسمى بالماهية بشرط لا.

ج ـ لحاظ ماهية الانسان من دون لحاظ العلم ولا لحاظ عدم العلم.

وتسمى بالماهية لا بشرط او بالمطلق (١).

٢ ـ لو نظرنا الى الحصص الثلاث الذهنية لوجدنا انه يوجد في الحصة الاولى لحاظ العلم وفي الثانية لحاظ عدم العلم وفي الثالثة عدم لحاظ العلم وعدم العلم ، فالحصة الاولى والثانية تقترن بوجود اللحاظ ـ اي لحاظ العلم ولحاظ عدم العلم ـ واما الحصة الثالثة فتمتاز بعدم اللحاظ. اذن الحصص الثلاث الذهنية تمتاز بخصوصيات ذهنية وهي وجود اللحاظ كما في الحصة الاولى والثانية او عدم وجود اللحاظ كما في الحصة الثالثة. وواضح ان اللحاظ امر ذهني وخصوصية

__________________

(١) وهذه النقطه تبتدا بقوله : « وحاصلها مع اخذ ماهية الانسان وصفه العلم كمثال ... » الى قوله ص ١٢٥ س ١٦ : في وعاء الذهن.

٣٩٤

ذهنية. هذا في الحصص الذهنية ، واما الحصتان الخارجيتان فلو نظرنا اليهما لرأينا انهما تمتازان بوجود صفة خارجية ـ وهي وجود صفة العلم ـ او بعدم وجودها.

فالحصة الخارجية الاولى تمتاز بوجود صفة العلم بينما الثانية تمتاز بعدم وجود صفة العلم. وباختصار الحصص الخارجية تمتاز بخصوصية خارجية بخلاف الحصص الذهنية فانها تمتاز بخصوصية ذهنية.

ثم ان الخصوصيات الذهنية التي بها يحصل الامتياز بين الحصص الذهنية تسمى بالقيود الثانوية بينما الخصوصيات الخارجية التي بها يحصل امتياز الحصتين الخارجيتين تسمى بالقيود الاوليه.

وعلى هذا الاساس يمكننا ان نقول : ان عدد القيود الثانوية ثلاثة :

ا ـ القيد الثانوي رقم (١) وهو عبارة عن لحاظ وجود العلم الذي به تتقوم الحصة الذهنية الاولى.

ب ـ القيد الثانوي رقم (٢) ، وهو عبارة عن لحاظ عدم العلم الذي به تتقوم الحصة الذهنية الثانية.

ج ـ القيد الثانوي رقم (٣) وهو عبارة عن عدم اللحاظين السابقين الذي به تتقوم الحصة الذهنية الثالثة. هذا بالنسبة الى القيود الثانوية.

واما القيود الاولية فهي :

ا ـ القيد الاولي رقم (١) وهو عبارة عن وجود صفة العلم خارجا الذي به تتقوم الحصة الخارجية الاولى.

ب ـ القيد الاولي رقم (٢) وهو عبارة عن عدم وجود صفة العلم خارجا الذي به تتقوم الحصة الخارجية الثانية (١).

__________________

(١) وتبتدا هذه النقطة من قوله « واذا دققنا النظر ... » الى قوله ص ١٢٦ س ٩ : بالقيود ـ

٣٩٥

٣ ـ لو تأملنا في القيد الثانوي رقم (١) لرأينا انه يحكي في الخارج عن قيد اولي ، حيث يحكي عن القيد الاولى رقم (١) ، فان لحاظ صفة العلم في الذهن يطابقه في الخارج وجود صفة العلم ، ومن اجل هذا كانت الحصة الذهنية الاولى ـ المتقومة بالقيد الثانوى رقم (١) ـ عين الحصة الخارجية الاولى المتقومة بالقيد الاولي رقم (١).

ولو تأملنا في القيد الثانوي رقم (٢) لرأينا انه يحكي في الخارج عن القيد الاولي رقم (٢) ، فان لحاظ عدم صفة العلم في الذهن يطابقه في الخارج عدم وجود صفة العلم ، ومن اجل هذا كانت الحصة الذهنية الثانية المتقومة بالقيد الثانوي رقم (٢) عين الحصة الخارجية الثانية المتقومة بالقيد الاولي رقم (٢).

ولو تأملنا في القيد الثانوي رقم (٣) فهل نراه يحكى عن شيء في عالم الخارج؟ كلا ، فان الموجود في الخارج اما الانسان العالم الذي يحكي عنه القيد الثانوي رقم (١) او الانسان غير العالم الذي يحكي عنه القيد الثانوي رقم (٢) ولا توجد حصة ثالثة لكي يمكن ان يحكى عنها القيد الثانوي رقم (٣).

وان شئت قلت : ان القيد الثانوي رقم (٣) هو عدم اللحاظين ، وواضح ان عدم اللحاظ امر عدمي ، والامر العدمي لا يمكن ان يحكي عن شيء وجودي. اجل ان القيد الثانوي رقم (٣) يمكن ان يكون حاكيا عن شيء ولكنه ليس شيئا خارجيا ذا وجود مستقل مغاير لوجود الحصتين الاوليتين ، انه يحكي عن طبيعة الانسان التي لم تقيد بالعلم ولا عدم العلم ، وهذه الطبيعة المهملة كما تعلم لا وجود لها في الخارج مغايرا لوجود الحصتين الاوليتين وانما هي جامع ومقسم لهما ، والمقسم لا وجود له مستقلا عن اقسامه. ومن اجل عدم الوجود المستقل للطبيعة

__________________

ـ الاوليه.

٣٩٦

المهملة كانت ثابتة في جميع افراد الانسان ، فهي موجودة ضمن الانسان المطلق ـ اي غير المقيد بصفة العلم والجهل ـ وضمن الانسان المقيد بالعلم او بالجهل ، كما انه يمكننا ان نقول انها جامعة بين المحكيين بالقيد الثانوي رقم (١) ورقم (٢) فان المحكي بهما هو الانسان العالم والانسان غير العالم ، ومن الواضح ان طبيعة الانسان ثابتة في كلا هذين الانسانين ، فهي جامعة وشاملة لهما.

ثم انه حينما قلنا ان المحكي بالقيد الثانوي رقم (٣) امر جامع بين المحكي بالقيد الثانوي رقم (١) ورقم (٢) فمقصودنا ان نفس المحكي امر جامع بقطع النظر عن نفس القيد الثانوي رقم (٣) ، اذ القيد المذكور عبارة عن عدم اللحاظين ، وعدم اللحاظين ليس امرا جامعا للقيد الثانوي رقم (١) ورقم (٢) اي للحاظ وجود العلم ولحاظ عدم وجود العلم ، فان عدم اللحاظين امر مباين للحاظ العلم ولحاظ عدمه. اذن نفس اللحاظات الذهنية هي امور متنافية وليس بعضها جامعا للبعض الآخر وانما الجامع هو المحكي (١).

٤ ـ لو رجعنا الى الحصص الذهنية الثلاث لرأينا اشتراكها في شيء واحد وهو لحاظ الماهية فانه في جميعها يوجد لحاظ ماهية الانسان ، غاية الامر في الاولى يوجد شيء اضافي ـ غير لحاظ ماهية الانسان ـ هو الفصل للحصة الاولى وهو لحاظ وجود العلم ، وفي الثانية يوجد شيء اضافي ايضا هو الفصل للحصة الثانية وهو لحاظ عدم العلم. وفي الحصة الثالثة يوجد ذلك ايضا وهو عدم اللحاظين. اذن لحاظ الماهية هو الامر المشترك والجامع بين الحصص الذهنية الثلاث. وهذا الجامع يصطلح عليه باللابشرط المقسمي. وانما سمي باللابشرط

__________________

(١) تبتدا هذه النقطة من قوله : « ونلاحظ ان القيد الثانوي ... » الى قوله في نهاية ص ١٢٧ : في القسم المقابل له.

٣٩٧

المقسمي لانه مقسم وجامع للحصص الثلاث الذهنية خلافا للابشرط القسمي ـ لحاظ ماهية الانسان من دون لحاظ العلم وعدمه معها ـ الذي هو الحصة الذهنية الثالثة فانه قسم من لحاظ الماهية الذي هو اللابشرط المقسمي (١).

عودة لصلب الموضوع.

وباتضاح المقدمة السابقة بنقاطها الاربع نعود لاسماء الاجناس ـ انسان ، قلم ، دفتر ، كتاب ، سكر ، و ... ـ لنرى انها لأي شيء موضوعة (٢)؟ والاحتمالات في ذلك ثلاثة :

ا ـ ان تكون كلمة « انسان » مثلا موضوعة للماهية على نحو اللابشرط المقسمي ، اي موضوعة للحاظ ماهية الانسان. وهذا الاحتمال باطل ، فان لحاظ الماهية امر جامع بين الحصص الذهنية الثلاث ، وواضح ان الالفاظ ليست موضوعة للامر الذهني وانما هي موضوعة لحصص الانسان الخارجية او للجامع بينها.

ب ـ ان تكون كلمة « انسان » مثلا موضوعة للماهية بشرط شيء او للماهية بشرط لا ، اي لماهية الانسان المقيدة بالعلم او بعدم العلم. وهذا باطل ايضا لمخالفته الوجدان فانا لا نفهم من كلمة انسان التقيد بالعلم او بعدمه ، بل طبيعة الانسان لا اكثر.

ج ـ ان تكون كلمة « انسان » مثلا موضوعة لماهية الانسان بنحو

__________________

(١) تبتدا هذه النقطة من قوله : « ثم اذا تجاوزنا ... » وتنتهي بقوله : اذا اتضحت هذه ...

(٢) التقييد باسماء الاجناس باعتبار ان مثل اسماء الاعلام ليست موضوعه للطبيعه حتى يقال هي موضوعه للطبيعة مع قيد الاطلاق او لذات الطبيعة.

٣٩٨

اللابشرط القسمي ، اي لماهية الانسان بقطع النظر عن العلم والجهل. وهذا هو الصحيح وقد اتفقت عليه كلمة الاعلام بدون مخالف. اجل بعد هذا الاتفاق اختلفوا في ان كلمة « انسان » مثلا الموضوعة للطبيعة هل هي موضوعة لطبيعة الانسان مع التقيد بلحاظ اللابشرط او للطبيعة بقطع النظر عن ذلك؟ فان قلنا بالاول فمعناه ان الالفاظ موضوعة للمعاني مع قيد الاطلاق ـ اذ اللابشرط عبارة اخرى عن الاطلاق ـ وبذلك يكون الاطلاق مدلولا وضعيا وجزء من المعنى الموضوع له ، وان قلنا بالثاني فمعناه ان الاطلاق ليس مدلولا وضعيا فنحتاج في اثباته الى اجراء مقدمات الحكمة وبذلك يكون مدلولا حكميا (١).

وتقدم ان الاعلام قبل سلطان العلماء كانوا يقولون بالاول بينما هو ومن بعده والى يومنا هذا يقولون بالثاني ، والصحيح هو الاتجاه الثاني لوجهين :

١ ـ ان الوجدان اللغوي والعرفي قاض بذلك ، فاذا رجعنا الى اللغة لم نجد لغويا يفسر الانسان بطبيعة الانسان المقيدة بالاطلاق بل بالطبيعة فقط. وهكذا لو رجعنا الى العرف.

هذا مضافا الى ان كلمة « انسان » مثلا لو كانت موضوعة للطبيعة مع قيد الاطلاق لزم كون استعمالها في حالات التقييد ـ مثل رأيت انسانا عالما ـ مجازا لانه استعمال في غير المعنى الموضوع له مع انا لا نشعر بالوجدان بذلك.

٢ ـ ان قيد اللابشرط امر ذهني ـ لانه نحو من انحاء لحاظ الماهية في الذهن ، اذ تقدم ان انحاء لحاظ الماهية في الذهن ثلاثة احدها لحاظها على نحو اللابشرط ـ فلو كان قيدا في المعنى الموضوع له يلزم صيرورة معاني الالفاظ ذهنية ، اذ المقيد بالامر الذهني ذهني ، ويترتب على ذلك عدم امكان حصول الامتثال لو قال

__________________

(١) بكسر الحاء وسكون الكاف نسبة الى الحكمة.

٣٩٩

المولى جئني بانسان لان الانسان الذهني لا يمكن المجيء به في الخارج.

وبهذا نستنتج ان معنى كلمة « انسان » هو طبيعة الانسان المعرّاة من اي قيد حتى قيد اللابشرط. وتسمى مثل هذه الطبيعة بالماهية المهملة او بالماهية « ليسدة » فالماهية المهملة او لسدة هي التي وضعت لها الالفاظ ، ومعه نكون بحاجة في استفادة الاطلاق من كلمة « انسان » مثلا الى قرينة تدل عليه ، وتسمى تلك القرينة بمقدمات الحكمة. وهي قرينة عامة يتمسك بها لاثبات الاطلاق في كل مورد لم تقم فيه قرينة خاصة على التقييد. وسوف يأتي في صفحة (١٣٤) من الحلقة التعرض الى هذه القرينة العامة المسماة بقرينة الحكمة (١).

قوله ص ١٢٤ س ٩ واعتبار الماهية في الذهن : عطف تفسير لقوله « انحاء لحاظ المعنى ».

قوله ص ١٢٤ س ٩ لكي تحدد : الصواب لكي يحدّد. وقوله على اساس ذلك : اي على اساس تلك المقدمة.

قوله ص ١٢٤ س ١١ كمثال : وضع الفارزة قبل قوله « كمثال » من خطأ

__________________

(١) لرب قائل يقول : ان النتيجة التي انتهى اليها هذا البحث تتنافى مع ما تقدم سابقا ، فان ما انتهي اليه الآن ان اسماء الاجناس موضوعة للطبيعة المهملة بينما تقدم صفحة (١٥) س (٤) من الحلقة عدم وجود حصة ثالثة في الخارج غير الانسان العالم والانسان غير العالم ، واذا لم يكن للحصة الثالثة وجود في الخارج فالوضع لها غير ممكن.

والجواب : ان كلمة « انسان » موضوعة للطبيعة المهملة ، وهي وان لم تكن حصة ثالثة في الخارج في مقابل الحصتين الاوليتين لكنها موجودة في الخارج بوجود غير مستقل ، فانها الجامع والمقسم للانسان العالم وغير العالم ، والجامع موجود في الخارج لكن ضمن افراده لا مستقلا ، والسيد الشهيد قدس‌سره نفى فيما سبق الوجود المستقل لمفهوم الانسان الجامع لا اصل الوجود.

٤٠٠