الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-91029-3-0
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٩٢

تبعيّة الدلالة

الالتزاميّة للمطابقيّة

١٦١
١٦٢

تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة :

قوله ص ٧٤ س ١٠ اذا كان اللازم المدلول عليه ... الخ :

تقدم في الحلقة السابقة ان لازم الشيء تارة يكون مساويا له واخرى اعم منه.

مثال اللازم المساوي : وجود النهار فانه لازم مساو لطلوع الشمس.

ومثال اللازم الاعم : دخول الشخص في النار فان لازمه الموت وهو لازم اعم من دخول النار ، اذ قد يتحقق الموت بغير دخول النار.

اما اللازم المساوي فلا اشكال في بطلانه عند بطلان المدلول المطابقي ، فاذا اخبر الثقة بطلوع الشمس واتضح بعد ذلك بطلان اخباره وان الشمس ليست طالعة فلا اشكال في بطلان المدلول الالتزامي وعدم الحكم بوجود النهار لاقتضاء المساواة ذلك فان لازم مساواة وجود النهار لطلوع الشمس بطلان هذا عند بطلان ذاك والاّ لم يكن وجود النهار لازما مساويا بل اعم وهذا واضح وقد تقدم في الحلقة السابقة ص ٦٢.

اما اذا كان اللازم اعم فقد وقع الكلام بين الاصوليّين في انه اذا ثبت بطلان المدلول المطابقي فهل يلزم من ذلك بطلان المدلول الالتزامي او لا؟ فالثقة اذا اخبرنا بدخول زيد في النار فلازم ذلك موته ولكن اذا فرض انه ثبت لدينا بطلان المدلول المطابقي وان دخول زيد في النار ليس ثابتا ـ اما لاعتراف المخبر بخطئه او لاخبار ثقة ثان بعدم دخوله النار ـ فهل يثبت بذلك بطلان المدلول الالتزامي

١٦٣

ويحكم بعدم تحقق الموت او لا؟ فان قيل بالاول فمعنى ذلك تبعية الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في مقام الحجّية فان سقطت الثانية عن الحجّية سقطت الاولى ايضا ، وان قيل بالثانية فمعناه عدم التبعيّة في مقام الحجّية.

وقد يقال : ان الصحيح هو التبعيّة فبسقوط المطابقيّة عن الحجّية تسقط الالتزامية ايضا لأنا قرأنا في المنطق ان الالتزامية فرع المطابقيّة (١) ، ومقتضى الفرعية بطلان هذه ببطلان تلك.

ويرده : ان تفرع الالتزامية على المطابقية انما هو في مقام الوجود دون مقام الحجّية ، فالالتزامية لا توجد الا بعد وجود المطابقيّة ، وهذا اجنبي عن المقام فان الدلالة المطابقيّة موجودة لكنها ليست حجّة فالثقة اذا اخبر عن دخول زيد في النار ثبتت الدلالة المطابقيّة وكان كلامه دالا على الدخول في النار الاّ انها ليست حجّة ، وما دامت المطابقيّة ثابتة فالالتزاميّة ثابتة ايضا ، اذن كلتا الدلالتين ثابتة وانما الكلام في ان تلك عند سقوطها عن الحجّية هل يلزم سقوط هذه عن الحجّية ايضا او لا؟

وقد يقال في مقام الجواب بنفي الملازمة في مقام الحجّية ، فسقوط المطابقيّة عن الحجّية لا يلزم منه سقوط الالتزامية عنها فان التبعية في اصل الوجود لا تستلزم التبعيّة في الحجّية فيمكن بعد ثبوت كلتا الدلالتين سقوط المطابقيّة عن الحجّية وبقاء الالتزامية عليها.

وفي مقابل ذلك قد يقال بالتبعيّة في مقام الحجّية ، ويمكن تقريب ذلك بوجهين :

__________________

(١) فان دلالة اللفظ على لازم المعنى فرع دلالته على اصل المعنى ، فدلالة اسم الحجاج على الجرائم فرع دلالته على ذات الحجاج.

١٦٤

١ ـ ما ذكره السيد الخوئي دام ظله من ان المدلول الالتزامي مساو دائما للمطابقي وليس اعم منه فيلزم سقوطه عن الحجّية لما تقدم من ان سقوط الخبر في مدلوله المطابقي يستلزم سقوطه في مدلوله الالتزامي المساوي لكون ذلك لازم فرض المساواة.

اما لماذا يكون المدلول الالتزامي مساويا وليس بأعم فالوجه فيه ان الثقة اذا اخبر بدخول زيد النار فهو لا يخبر عن موته الحاصل باي سبب كان وانما يخبر عن موته المقيّد بدخول النار ، فالموت وان كان في نفسه اعم من دخول النار الا ان المخبر لا يخبر عن اصل الموت بل عن الموت الخاص الحاصل بسبب النار.

والجواب عن هذا التقريب ان اللازم لا يكون مساويا دائما بل قد يكون مساويا وقد يكون اعم.

مثال اللازم المساوي الاخبار عن دخول النار فان لازم دخول النار ليس هو مطلق الموت بل الموت المقيد بالنار.

ومثال اللازم الاعم الصفرة الثابتة على الورقة فان لازمها عدم السواد ، ولكن اي عدم السواد فهل عدم السواد الكلي هو اللازم او عدم السواد المقيد بالصفرة؟ الصحيح ان اللازم هو عدم السواد الكلي ، اذ مع وجود الصفرة على الورقة يمتنع وجود جميع افراد السواد لا فرد دون فرد ، وهذا معناه ان مطلق عدم السواد هو اللازم للصفرة لا عدم السواد المقيّد بالصفرة (١).

وعليه فالملازمة منصبة على طرفين : الصفرة وعدم السواد الكلي ، والطرف الذي انصبت عليه الملازمة هو عدم السواد الكلي ، اجل بعد ان تنصب الملازمة

__________________

(١) هذا مضافا الى ان عدم السواد امر عدمي والامر العدمي لا يقبل التحصيص ، فانه لا شيء واللاشيء كيف يتحصص وانما الذي يتحصص هو الشيء فتأمل.

١٦٥

على الطرفين يكون عدم السواد مقارنا للصفرة ومقيدا بها الاّ ان هذا التقييد نشأ بعد الملازمة وفي مرحلة متأخرة عنها والاّ ففي مرحلة صب الملازمة تنصب على الصفرة وذات عدم السواد الكلي.

واذا ثبت ان الطرف الذي تنصب عليه الملازمة هو عدم السواد الكلي فالمدلول الالتزامي لوجود الصفرة يكون عاما لان المقصود من المدلول الالتزامي هو طرف الملازمة الذي تنصب عليه لا طرفها ملحوظا بعد انصاب الملازمة عليه.

٢ ـ ان الثقة اذا اخبر عن دخول زيد النار فالنكتة التي لاجلها يصدّق العقلاء بمضمون الخبر هي استبعاد ان المخبر قد اخطأ في رؤيته فمن البعيد ان يشتبه الشخص ويرى دخول النار بدلا عن دخول الدار فيخبر اشتباها بدخول النار ، واذا ثبت اشتباه المخبر في المدلول المطابقي واتضح عدم دخول زيد النار فلا يلزم من عدم الحكم بالمدلول الالتزامي وانه لم يمت اشتباه ثان ، وما دام لا يحصل اشتباه ثان فلا يحكم بصدق المخبر في المدلول الالتزامي لان النكتة في التصديق هي استبعاد الاشتباه والمفروض تحققه ـ الاشتباه ـ.

اجل لو فرض ان شخصين اخبر كل منهما عن دخول زيد النار وفرض تراجع الاول واشتباهه في اخباره فلا ترفع بذلك اليد عن الخبر الثاني لان لازم رفع اليد عنه حصول اشتباه آخر للمخبر الثاني غير الاشتباه الذي حصل للمخبر الاول (١).

وباختصار انه في الخبرين العرضيّين حيث يلزم من رفع اليد عن الخبر الثاني حصول اشتباه آخر فلا يجوز ذلك بخلافه في الخبرين الطوليين اللذين

__________________

(١) ويسمى مثل هذين الخبرين بالخبرين العرضيّين.

١٦٦

احدهما مطابقي والآخر التزامي فانه حيث لا يلزم اشتباه آخر فمن الوجيه رفع اليد عن كلا الخبرين.

ولاجل هذه النكتة بنى السيد الشهيد على سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجيّة عند سقوط المطابقيّة.

هل تسقط الدلالة التضمّنيّة عند سقوط المطابقيّة؟

كان الكلام السابق في سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجّية عند سقوط المطابقية والآن نريد التعرّف على الدلالة التضمّنيّة وانها تسقط عن الحجّية عند سقوط المطابقيّة او لا؟

مثال ذلك : لو قال المولى : اكرم العلماء ، وكان عددهم مائة فالمدلول المطابقي هو وجوب اكرام المائة والمدلول التضمّني هو وجوب اكرام العالم الاول ووجوب اكرام العالم الثاني ووجوب اكرام الثالث وهكذا الى تمام المائة ، فكل عالم من افراد المائة توجد في حقّه دلالة تضمّنيّة بوجوب اكرامه. واذا فرض ورود مخصص يقول : لا تكرم الفساق من العلماء ، فهذا معناه سقوط المدلول المطابقي عن الحجّية فاكرام مجموع المائة غير واجب ولكن هل تسقط بذلك الدلالات التضمّنيّة بالنسبة الى العلماء العدول؟ فلو كان عدد العدول تسعين فهل تسقط الدلالات التضمّنيّة التسعون عن الحجّية بعد عدم وجوب اكرام المائة؟

وهذا هو البحث المعروف بين الاصوليّين : هل العام بعد التخصيص حجّة في الباقي او لا؟ والمعروف بينهم حجيّته في الباقي ، ويأتي تحقيق ذلك في الحلقة ص ٢٩٢.

١٦٧

قوله ص ٧٦ س ٦ ومثال الثاني الملازم ... الخ :

عبّر قدس‌سره في المثال الأوّل باللازم والملزوم ، وفي المثال الثاني بالملازم ، ووجه ذلك ان اللازم هو المعلول والملزوم هو العلّة ، وبما ان دخول النار علّة والموت معلول ان يعبّر باللازم بالملزوم ، هذا في المثال الاوّل ، واما في المثال الثاني فالصفرة ضد للسواد وحيث انه بيّن الضدّين لا توجد عليّة ومعلوليّة ـ لما سيأتي في مبحث الضد من ان وجود الصفرة مثلا ليس موقوفا على عدم السواد وانما هما متلازمان ومعلولان لعلّة ثالثة ـ لم يصح التعبير باللازم والملزوم والمناسب التعبير بالمتلازمين.

١٦٨

القطع الطريقي

والموضوعي

١٦٩
١٧٠

وفاء الدليل بدور القطع الطريقي والموضوعي :

قوله ص ٧٧ س ١٣ اذا كان الدليل قطعيّا ... الخ :

تقدّم في الحلقة السابقة ص ٣٨ ان القطع على قسمين طريقي وموضوعي.

ولتوضيح ذلك نذكر المثال التالي : لو قال المولى : الخمر حرام كانت الحرمة في المثال ثابتة لذات الخمر الواقعي ، فاذا كان السائل خمرا واقعا فهو حرام وان لم يقطع المكلّف بكونه خمرا ، غاية الأمر لا تكون الحرمة منجّزة عليه ـ اي لا يستحق العقاب ـ ما دام لا يقطع بها ، ويسمى مثل هذا القطع ـ الذي لم يؤخذ في الموضوع وليس له دور سوى التنجيز ـ بالقطع الطريقي.

اما اذا قال المولى : الخمر المقطوع بخمريّته حرام فالقطع موضوعي لانه اخذ جزء في الموضوع وبدونه لا تكون الحرمة ثابتة واقعا فضلا عن تنجزها.

وبعد هذا نطرح تساؤلين :

١ ـ اذا كانت الحرمة ثابتة لذات الخمر وكان دور القطع دور المنجّز والمعذّر فقط فان قطع المكلّف بكون السائل خمرا فلا اشكال في تنجّزها عليه بمعنى استحقاقه العقوبة على مخالفتها غير انه لو فرض عدم حصول القطع له وانما شهد الثقة بكون السائل خمرا فهل تتنجّز الحرمة بذلك او لا؟ وبعبارة اخرى هل الامارة تقوم مقام القطع الطريقي في وظيفته وهي التنجيز والتعذير او لا؟

٢ ـ اذا كان الحكم ثابتا للشيء المقطوع ـ كما اذا قال المولى ان قطعت بالشيء جازت لك الشهادة به ـ فالقطع موضوعي فان حصل القطع بكون الدار

١٧١

لزيد مثلا جازت الشهادة عند الحاكم اما اذا لم يحصل القطع وانما شهد الثقة بكونها لزيد فهل يجوز الاستناد لاخبار الثقة في اداء الشهادة؟ وبعبارة اخرى هل الامارة تقوم مقام القطع الموضوعي او لا؟

ولا اشكال في قيام الامارة مقام كلا القطعين لو دل دليل خاص على ذلك وانما الكلام فيما لو خلينا نحن ودليل حجّية الامارة ـ كمفهوم آية البناء الذي يقول وان لم يجىء الفاسق فلا تتبيّنوا ـ فهل نستفيد منه قيامها مقام القطعين؟

ذكر قدس‌سره : ان الامارة (١) لو افادت القطع كما في الخبر المتواتر فلا اشكال في تنجّز الحكم بها وجواز الاستناد اليها في الشهادة بل ان السؤال عن قيامها مقام القطعين فيه مسامحة واضحة لانها بنفسها قطع وليست ظنا حتى يسأل عن قيامها مقام القطع.

واما اذا كانت مفيدة للظن فهناك بحثان :

أ ـ بحث في قيام الامارة مقام القطع الطريقي في وظيفته وهي التنجيز والتعذير.

ب ـ بحث في قيام الامارة مقام القطع الموضوعي.

البحث الأوّل :

اما فيما يخص البحث الاول فقد يقال ان قيام الامارة مقام القطع الطريقي في التنجيز والتعذير من الامور المسلمة ـ اذ لو لم تكن منجّزة ومعذّرة كالقطع الطريقي فلا معنى لحجّيتها ـ ومعه ما الغرض من البحث المذكور؟

والجواب : انه لا اشكال بين الاصوليّين في كون الامارات منجّزة ومعذّرة

__________________

(١) لعل تعبيرنا بالامارة فيه شيء من المسامحة لاختصاصها بحالة افادة الظن.

١٧٢

والتزامهم في مقام الفتوى والعمل بذلك وانما وقعوا في اشكال فني ونظري من ناحيتين :

الاولى : ان استحقاق العقوبة الذي هو معنى التنجيز هو من خصائص القطع طبقا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فغير القطع لا يصح معه العقاب ، وعليه فكيف تكون الامارة منجّزة وموجبة لاستحقاق العقاب مع انها لا توجب القطع.

ولا يمكن ردّ ذلك بان دليل حجّية الامارة يكون مخصّصا لقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » اذ يجاب عن ذلك بان الاحكام العقلية التي منها القاعدة المذكورة لا تقبل التخصيص.

الثانية : ان المولى كيف ينزل الامارة منزلة القطع مع ان شرط التنزيل وجود اثر شرعي للمنزل عليه ، فمثلا حينما يقول المولى : الطواف بالبيت صلاة يوجد اثر شرعي للصلاة وهو اشتراط الطهارة فيها مثلا وبالتنزيل يراد تعميم هذا الاثر للطواف ، وفي المقام اذا قال المولى الامارة كالقطع لا يوجد اثر شرعي للقطع حتى يسرّى للامارة فان اثر القطع الطريقي ـ وهو المنجّزية والمعذّرية ـ اثر عقلي وليس شرعيا اذ العقل هو الذي يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفة القطع ، ومع كون الاثر عقليا فلا يمكن التنزيل فان المولى انما يمكنه تسرية احكامه الشرعيّة الى المنزّل والاحكام العقلية ليست راجعة له ولا تحت يده حتى يمكنه سحبها للامارة.

اما بالنسبة الى الاشكال من الناحية الاولى فقد أجاب قدس‌سره عنه بجوابين :

١ ـ اننا ننكر قاعدة « قبح العقاب عند عدم العلم » كما تقدم مرارا وانما يرد الاشكال على المشهور القائلين بها.

١٧٣

٢ ـ ان عقلنا لو حكم بقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » فهو لا يحكم بها الاّ في خصوص الاحكام التي لا يعلم باهتمام المولى بها على تقدير ثبوتها واقعا ، اما اذا كان الحكم الذي يشك في ثبوته واقعا مما يهتم به المولى على تقدير ثبوته فلا يحكم عقلنا منذ البداية بقبح العقاب عليه وان كان مشكوكا ، فمثلا لو شك المكلّف في امرأة معيّنة انها اخته او لا فلا يمكنه التزوج بها تطبيقا لقاعدة « قبح العقاب » ، فانها لو كانت اختا في الواقع فالشارع يحرّم العقد عليها ، والحرمة المذكورة على تقدير ثبوتها واقعا مما يهتم بها الشارع اهتماما بالغا.

وبعد هذا نقول : ان المولى اذا حكم بحجّية خبر الثقة فهذا معناه اهتمامه بالاحكام التي يدل عليها ـ فان الحجّية حكم ظاهري والحكم الظاهري يدل على الملاك الاهم ـ ومع اهتمامه بها تكون منجّزة ويستحق العقاب على مخالفتها وان لم يحصل العلم بها عن طريق الامارة ، ولا يلزم من ذلك تخصيص قاعدة « قبح العقاب » فان القاعدة المذكورة كما قلنا تختص منذ البداية بالاحكام المشكوكة التي لا يعلم باهتمام المولى بها على تقدير ثبوتها.

واما الاشكال من الناحية الثانية فهناك محاولتان للتخلّص منه :

الاولى : ان يلتزم بمسلك جعل الحكم المماثل فيقال : ان جعل خبر الثقة حجّة ليس معناه تنزيله منزلة القطع حتى يرد الاشكال السابق بل معناه جعل حكم ظاهري مماثل لما يقوله ، فاذا كان الثقة يقول : صلاة الجمعة واجبة فالشارع يجعل وجوبا ظاهريا لصلاة الجمعة ، واذا كان يقول العصير العنبي المغلي حرام فالشارع يجعل حرمة ظاهرية له وهلم جرّا.

وبناء على المسلك المذكور لا يحتاج الى وجود اثر شرعي فان ذلك مختص بباب التنزيل.

١٧٤

الثانية : ما ذكره الميرزا بناء على مسلك جعل العلمية حيث ذكر ان معنى جعل خبر الثقة حجّة هو اعتباره علما وفردا من افراده كما يعتبر السكاكي الرجل الشجاع فردا من معنى الاسد (١) ومع الاعتبار المذكور يصير الخبر منجّزا كالعلم ـ فان المنجّزية

ثابتة لمطلق العلم الاعم من الحقيقي والاعتباري ـ ولا حاجة الى وجود اثر شرعي فان ذلك يختص بباب التنزيل.

وبعد ان استعرض قدس‌سره المحاولتين المذكورتين تصدى لردهما وحل الاشكال من اساسه ، وحاصل ما ذكره : ان تنجّز التكليف وخروجه من قاعدة « قبح العقاب » يحصل بابراز المولى اهتمامه به فانه بالابراز المذكور يصير الحكم منجّزا ولا تشمله قاعدة « قبح العقاب » اذ تقدم قبل قليل ان القاعدة المذكور لو سلّمت فهي تسلّم في خصوص الاحكام التي لا يعلم باهتمام المولى بها على تقدير ثبوتها واقعا ، ومن الواضح انه بعد دلالة الدليل على حجّية الامارة يكون المولى قد ابرز اهتمامه بالاحكام التي تؤدي اليها ولا تعود قاعدة القبح شاملة لمورد الامارة فيصبح منجّزا وان كان مشكوكا في نفسه ، وبعد ابراز المولى اهتمامه بالحكم لا تعود الصياغة اللفظية مهمة فان الصياغة اللفظية مجرّد تعبير والتعبير لا يؤثر نوعه بعد ان كان مبرزا لاهتمام المولى بالحكم.

وبعبارة اخرى ان اصحاب مسلك التنزيل والحكم المماثل والطريقية صبّوا

__________________

(١) ان للسكاكي رأيا يقول : لا يوجد عندنا في باب الاستعمال مجاز ابدا ، فحينما يقال في حق الشجاع جاء الاسد يوسّع من دائرة الاسد للشجاع ويعتبر فردا من افراده ، وبعد التوسعة المذكورة يكون استعمال الاسد في الشجاع استعمالا حقيقيا فلا يكون في اللفظ اية مجازية ، اجل ان كانت هناك مجازية فهي في امر عقلي حيث يوسّع العقل من دائرة معنى الاسد ويعممها للشجاع ، ومن هنا يعبّر عن النحو المذكور بالمجاز العقلي لان التصرف في امر عقلي في قبال المجاز اللفظي الذي تكون فيه المجازية في اللفظ.

١٧٥

جهودهم في البحث عن كيفية صياغة الحجّية مع ان ذلك ليس بمهم فان المهم ان يتنجّز الحكم من خلال الامارة ويخرج عن قاعدة « قبح العقاب » وذلك انما يحصل بابراز المولى اهتمامه بالحكم المدلول للامارة ، اما طريقة الابراز وانها بالتنزيل او بالحكم المماثل او بالطريقيّة فهي غير مهمّة ولا مقتضى لصرف الوقت في تحقيقها.

البحث الثاني :

واما بالنسبة الى البحث الثاني ـ وهو في امكان قيام خبر الثقة مقام القطع الموضوعي ـ فتحقيق الحال فيه ان القطع المأخوذ في موضوع الحكم له شكلان :

أ ـ ان يؤخذ في الموضوع بما هو طريق ومنجّز للواقع لا بما هو صفة نفسانية يعبر عنها بحالة ١٠٠%. ومثال ذلك قولك : ان قطعت بكون زيد مريضا فزره ، فان القطع في المثال المذكور وان اخذ في الموضوع الا انه اخذ بما هو طريق لاحراز المرض ، ويعبر عنه في الحالة المذكورة بالقطع الموضوعي الطريقي.

ب ـ ان يؤخذ في الموضوع بما هو صفة نفسانية يعبر عنها بحالة ١٠٠%.

ومثال ذلك قول الشارع مثلا : ان قطعت بكون الحق لزيد فاشهد له فان القطع المأخوذ في موضوع جواز الشهادة اخذ بما هو صفة نفسانية اي ان كنت قاطعا في نفسك ١٠٠% بكون الحق لزيد فاشهد له ، ويسمى القطع في الحالة المذكورة بالقطع الموضوعي الصفتي.

اما في الشكل الاول فلا اشكال في قيام خبر الثقة مقام القطع فان المفروض ان القطع بالمرض اخذ بما هو طريق لاحراز المرض ومنجّز للواقع ، ومن الواضح ان دليل حجّية الامارة بجعله الحجّية لها يصيرها منجّزة للواقع وتصير بذلك فرداً

١٧٦

حقيقا للموضوع ، فان الموضوع حسب الفرض هو كل منجّز للواقع والامارة فرد منه ، ويمكننا ان نعبر عن دليل حجّية الامارة بانه وارد على دليل الحكم الذي اخذ فيه القطع بما هو منجّز ، والمراد من كونه واردا انه يحقق فردا حقيقيا من المنجّز ـ اي من الموضوع ـ في مقابل الدليل الحاكم الذي يحقق فردا منه تعبدا.

واما في الشكل الثاني فلا يقوم خبر الثقة مقام القطع ولا يجوز الاستناد اليه في مقام الشهادة اذ بدليل الحجّية وان صار طريقا ومنجّزا للواقع الا ان المفروض عدم اخذ القطع في الموضوع بما هو طريق للواقع حتى يقوم خبر الثقة مقامه وانما اخذ بما هو صفة نفسية يعبر عنها بحالة ١٠٠% ومن الواضح ان خبر الثقة بعد حجّيته لا يصير مفيدا للقطع ١٠٠%.

محاولة الميرزا :

هذا ولكن حاول الميرزا ان يستفيد من دليل حجّية خبر الثقة قيام خبر الثقة مقام هذا الشكل من القطع ايضا مستفيدا من مسلكه ـ جعل العلمية ـ فان الخبر اذا كان حجة فمعنى ذلك ان الشارع جعله كأنه قطع ١٠٠% ومعه يلزم ترتيب جميع آثار القطع الموضوعي الصفتي عليه كجواز الاستناد اليه في اداء الشهادة (١).

ويمكن الايراد على الميرزا بما يتضح بعد الالتفات الى ثلاث نقاط :

أ ـ ان حكومة احد الدليلين على الآخر تعني نظر الدليل الحاكم الى الدليل

__________________

(١) ويصطلح على دليل حجّية خبر الثقة بناء على مسلك جعل العلمية بالدليل الحاكم اي انه يحقق فردا تعبّديا لموضوع الحكم المرتب على القطع الصفتي في مقابل الدليل الوارد الذي يحقق فردا حقيقيا من الموضوع.

١٧٧

المحكوم لتوسعة او تضييق موضوعه من قبيل دليل اكرم عالم ودليل الفاسق ليس بعالم فان الدليل الثاني ناظر الى العالم الذي هو موضوع الدليل الاول لتضييقه واخراج العالم الفاسق من عنوان العالم ، واذا قيل في الدليل الثاني المتقي عالم كان ناظرا الى الاول للتوسعة من موضوعه.

ب ـ ان الدليل المهم على حجّية خبر الثقة هو السيرة العقلائية دون الآيات والروايات حيث انها قابلة للمناقشة.

ج ـ انه لا يوجد في الحياة العقلائية احكام مترتبة على القطع بما هو صفة نفسية تتمثل في حالة ١٠٠% واذا كان موجودا فهو في غاية الندرة ، وانما المتداول بينهم ترتيب الاحكام على القطع بما هو طريق نظير ان قطعت بمرض اخيك المؤمن فزره ، وان قطعت بعداوة شخص فقاطعه ونظائر ذلك ، فان القطع فيها وان اخذ جزءا من الموضوع الا انه لوحظ بما هو طريق لاحراز المرض والعداوة ولا خصوصية لحالة ١٠٠%.

وباتضاح هذه النقاط يتّضح عدم امكان حكومة دليل حجّية خبر الثقة على دليل احكام القطع الموضوعي الصفتي ، فان الدليل المهم على حجّية الخبر هو السيرة العقلائية ، وهي لا يمكن ان تكون حاكمة لان الحكومة تتوقف على النظر وحيث ان الحياة العقلائية لا يتداول فيها احكام مترتبة على القطع الموضوعي الصفتي فلا معنى لان يقال : ان السيرة العقلائية الجازية على حجّية خبر الثقة ناظرة الى تنزيل خبر الثقة منزلة القطع الموضوعي الصفتي بعد افتراض عدم تداول القطع الموضوعي الصفتي بينهم.

ان قلت : ان القطع الموضوعي الصفتي وان لم يكن متداولا عند العقلاء ولكنّه متداول في الاحكام الشرعية فلماذا لا تكون السيرة العقلائية ناظرة الى

١٧٨

تنزيل خبر الثقة منزلة القطع الموضوعي الصفتي المتداول عند الشارع.

قلت : لا معنى لان ينظر العقلاء الى احكام الشارع ويضيقوا من موضوعها او يوسعوا ، فان كل حاكم ليس له الحق الا في النظر لاحكام نفسه وتوسيع موضوعها وتضييقه دون احكام غيره فانها خارجة عن حوزته.

قوله ص ٧٧ س ١٤ بدور القطع الطريقي والموضوعي :

تقدم ايضاح المصطلحين المذكورين في ص ٣٨ من الحلقة الثانية.

قوله ص ٧٨ س ٢ مع الاتفاق عمليا ... الخ :

اي لا اشكال بينهم في القول بقيام الامارة مقام القطع الطريقي في المنجّزية والمعذّرية والالتزام بذلك في مقام العمل الاّ ان هناك اشكالا نظريا يقول كيف تقوم الامارة مقام القطع الطريقي في وظيفته وهي التنجيز والتعذير والحال ان ذلك مخالف عند المشهور لقاعدة « قبح العقاب ».

قوله ص ٧٨ س ١٢ من اول الامر :

التقييد بقوله من اول الامر للاشارة الى ان هذه الدعوى لا يلزم منها تخصيص قاعدة « قبح العقاب ».

قوله ص ٨٠ س ٣ بل في اعتبار الظن علما :

لعل الفارق بين الاعتبار والتنزيل انه في التنزيل يكون الملحوظ ابتداء تسرية الاثر للمنزل فاذا لم يكن شرعيا فلا يمكن تسريته واما في الاعتبار فليس الملحوظ ابتداء هو الاثر بل توسعة العلم الى الظن.

قوله ص ٨٠ س ٤ على طريقة المجاز العقلي :

اي على طريقة الحقيقة الادعائية التي يقول بها السكاكي ، وقد تقّدمت الاشارة اليها في الحلقة الثانية ص ٨٨ تحت عنوان تحويل المجاز الى حقيقة.

١٧٩

قوله ص ٨٠ س ٥ الجامع :

اي الاعم من القطع الوجداني والاعتباري.

قوله ص ٨٠ س ١١ كما تقدم :

اي ص ٧٨ في الجواب الثاني على الاشكال الأول.

قوله ص ٨١ س ٧ ويعتبر دليل الحجّية في هذه الحالة واردا :

الفرق بين الورود والحكومة ان التوسعة والتضييق في الدليل الوارد حقيقية وفي الدليل الحاكم تعبّدية.

قوله ص ٨٢ س ٨ اذا كان دليل الحجّية للامارة هو السيرة العقلائية :

واما اذا كان دليل الحجّية هو الآيات او الروايات فما افاده الميرزا تام.

١٨٠