الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-91029-3-0
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٩٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

اذا كان قسم من الكتب بحاجة الى تعريف فحلقات السيد الشهيد قدس‌سره غنية عن ذاك ، والقاء نظرة سريعة خصوصا على القسم الثالث منها شاهد صدق على المدعى ، فالى جانب المنهجة الفنيّة التي يتذوق حلاوتها اصحاب الفن والخبرة تعيش عذوبة الالفاظ فلا هي بالفاظ الصحف والمجلات التي تضجر قارئها لا طنابها الممل والفاظها الفارغة من المعاني ولا هي بعبائر الكفاية والغازها بل جاءت امرا بين أمرين تحمل الالفاظ العذبة بقدر ما تشبع به حاجة المعنى.

والى جانب المنهجة وعذوبة الالفاظ لا تعدم وجودها الافكار الجديدة التي هي احدث ما وصل اليه علم الاصول على يد الاعلام الثلاثة « النائيني والعراقي والاصفهاني ».

او ليس من الخسارة والتبذير في الوقت الاستمرار على قراءة افكار القوانين والبدايع والفصول التي اكل الدهر عليها وشرب ولا نفكر في الاطلاع على الاتجاهات الحديثة في علم الاصول التي يشعر الطالب بالطفرة حينما يواجهها في مرحلة الخارج ، فبينما كان يعيش مع افكار الفصول والبدايع والكفاية اذا به فجأة يقفز الى افكار جديدة ـ افكار الاعلام الثلاثة ومن بعدهم فانها الافكار المطروحة على بساط البحث الخارج عادة ـ لم يمر بها سابقا اطلاقا ، بينما حالة التدرج الطبيعي واضحة لمن يقرأ الحلقات فانها مليئة بالافكار الجديدة التي

٣

ستواجهه في المستقبل القريب.

واذا قيل : بان تلك الكتب مباركة تخرج عليها الفطاحل من علمائنا ولا تسمح نفوسنا بهجرها والتعويض عنها بالجديد فلما ذا لا نعود اذن الى دراسة كتاب العدة في الاصول للشيخ الطوسي وامثاله حيث تخرج عليها الفطاحل من علمائنا ، واذا قيل : بان الطالب بحاجة الى ألغاز الآخوند ليرتاض ذهنه بذلك ويتّسع افقه فلماذا اذن تناسي المعاني الاصولية؟ فهل هي في دقتها فقيرة لتحتاج الى الاستعانة بالالفاظ المعقّدة؟!!!

ونحن بهذا لا نريد التهجّم على الكفاية والرسائل فحاشا ذلك ثم حاشا ، فهي يوسف عصرها وانما نتهجّم على المقالة الداعية لبقائها على مرّ العصور.

ويبقى الفائز بعد هذا من منح قدرة السيطرة على دقة المعاني بسلاسة الاسلوب والالفاظ ، اما ان تبقى الالفاظ بحاجة الى تدقيق اوسع من المعاني فهذا ما يجعل الطالب يفكّر في حل تعقيد الالفاظ وينسى هضم المعاني.

ومن راجع الحلقات يجد مائزا بين القسمين الاولين منها والقسم الثالث ، فبينما الاولان يتميّزان بسلاسة الالفاظ الى حدّ قد يشعر المدّرس احيانا بعدم احتفاظ السيّد الشهيد له بشيء يمكنه تقديمه للطالب نجد القسم الاخير يحمل الدقة الفائقة في المعاني والالفاظ الامر الذي يحوج التلاميذ بل الاساتذة الى معين ييسّر لهم بعض ما تعسّر.

وكان غرض هذا الكتاب التصدي لجزء من هذه المهمّة ، ولئن تعذّر عليه حمل اعبائها كاملة فذلك لا يسقط الميسور.

ولعل الطريقة المتبعة في هذا الشرح جاءت الاولى في بابها ، فهو لا يتبع طريقة الشرح المزجي ولا الشرح المقطعي بل يأخذ الموضوع كاملا ويشرحه

٤

بشكل متسلسل متكامل ، واذا بقي في بعض الجمل غموض قام بحلّها آخر البحث.

ولئن لمس القارىء تكرارا في بعض العبائر او ركاكة في الالفاظ فذاك مقصود للشارح لتطلّب لغة العرض العلمي اياه.

واذا وفّق هذا الشرح فيما رامه فهو غاية المقصود ، والاّ فكل صاحبه رجاء في تصدي بعض الاخوان للقيام بالمهمّة بشكلها الكامل فانه العامل المساعد على شق هذا الكتاب الجليل طريقه في الدراسات الحوزوية بشكل سريع والله الموفّق.

باقر الايرواني

١٦ / رمضان المبارك / ١٤١٢ هجرى

٥
٦

تعريف

علم الأصول

٧
٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تعريف علم الاصول والاعتراضات الواردة عليه :

قوله ص ٩ : عرف علم الاصول بانّه ... الخ : (١)

اعتاد الاصوليون قبل دخولهم في صميم البحث عن المسائل الاصوليّة ذكر بعض المقدّمات التي يحتاج الطالب اليها وان كان اكثرها بل جميعها ليس من الاصول في شيء ، وقد جرى السيّد الشهيد قدس‌سره على هذا المنوال مع تغييره لبعض تلك المقدّمات ، فبعضها الذي يذكره علماء الاصول ذكره هو قدس‌سره ايضا نظير تعريف علم الاصول وموضوعه ، وبعضها الآخر اشار له قدس‌سره ولم يشر له غيره كالبحث عن حقيقة الحكم الشرعي وتقسيماته والفارق بين الامارات والاصول وغير ذلك.

ولقد اجاد قدس‌سره بذكره لهذا القسم الاخير الذي لم يعقد له الاصوليّون بحثا مستقلا مع شدة حاجة الطالب اليه.

ويمكننا ان نعدّ ذلك احد حسنات هذا الكتاب الجليل.

والتعريف الذي ذكره قدس‌سره هو التعريف المتداول بين الاصوليّين وقد اوضحه في الحلقة الثانية ص ٧ ، وعلى سبيل الاختصار نقول : اذا اراد الفقيه ان

__________________

(١) لوحظ في ارقام الصفحات والاسطر الطبعة الاولى للحلقات

٩

يعرف ان رّدّ السلام هل هو واجب أو لا؟ امكنه مراجعة الآية الكريمة : ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) وبعد المراجعة يقول : كلمة « فحيّوا باحسن منها » امر ، وظاهر الامر الوجوب : وحيث ان كل ظاهر حجة ، اذن يجب؟؟؟ التحيّة.

من خلال هذا نفهم ان الفقيه استعان بقاعدتين :

أ ـ الامر ظاهر في الوجوب.

ب ـ كل ظهور حجة.

مثل هاتين القاعدتين تعدّان من علم الاصول لانهما من القواعد الواقعة في طريق الاستنباط ، وكل قاعدة وقعت في طريق الاستنباط فهي اصوليّة.

الاعتراضات على التعريف :

وبعد هذا العرض الموجز للتعريف المشهور نذكر الاعتراضات التي وجهت اليه وهي ثلاثة ـ اشار في الحلقة الثالثة الى الثالث منها فقط ـ واذا ضممنا اليها اشكالا آخر اشار اليه في الحلقة الثانية صار المجموع اربعة وهي :

١ ـ ان هذا التعريف لا يختصّ بالمسائل الاصوليّة بل يشمل القواعد الفقهيّة ، وعلى سبيل المثال نذكر القاعدة المعروفة « كل معاملة اذا كان في صحيحها ضمان ففي فاسدها ضمان ايضا » (١) ، ان مثل هذه القاعدة تقع في طريق الاستنباط

__________________

(١) المقصود من هذه القاعدة انك لو اشتريت كتابا لتدرس فيه مثلا وفي الطريق تلف لسبب وآخر فعلى من تكون خسارته؟ فهل خسارته على البائع أو على المشتري؟ الصحيح انها على المشتري. ـ

١٠

حيث نستنبط منها ان البيع الفاسد فيه ضمان باعتبار ان البيع الصحيح فيه ضمان ، ونستنبط منها ايضا ان الاجارة الفاسدة ليس فيها ضمان باعتبار ان الاجارة الصحيحة ليس فيها ضمان وهكذا ، اذن يلزم عدّ مثل هذه القاعدة من علم الاصول والحال انها فقهيّة.

٢ ـ ان هذا التعريف لا يشمل الاصول العمليّة مع انها من امّهات المسائل الاصوليّة ، والوجه في عدم شموله لها ان الادلّة التي يستعين بها الفقيه في مقام

__________________

ـ اذن في البيع الصحيح خسارة الكتاب لو تلف وضمانه ـ لا بدّ من الالتفات الى ان المقصود من الضمان في القاعدة هو الخسارة والتلف من كيسه ـ على المشترى.

ونطرح سؤالا جديدا : لو فرض ان البيع كان فاسدا ـ كما اذا كان قد اجري بالفارسيّه بناء على اشتراط العربيّة في العقد ـ وكان المتبايعان يتخيّلان انه صحيح واتضح لديهما بعد ذلك انه فاسد ، ولكن قبل اتضاح فساده لهما نفرض ان الكتاب تلف فعلى من تكون خسارته؟ انها على المشترى ايضا فهو الذي ينقص من كيسه مقدار قيمة الكتاب ولا يحق له الرجوع على البائع ومطالبته بالثمن لان البيع ما دامت خسارة الكتاب فيه على المشتري لو كان صحيحا فكذلك خسارته عليه لو كان فاسدا ، ومن هنا قيل : كل معاملة اذا كان في صحيحها ضمان ففي فاسدها ضمان ايضا.

واذا فرض الامر بالعكس بان لم يكن في المعاملة الصحيحة ضمان ففي الفاسدة ايضا لا ضمان فمثلا لو استأجرت بيتا وبعد مدة تهدّمت بعض جدرانه من دون تفريط منك فهل تخسر هذا النقصان الطارىء او لا؟ الصحيح لا تخسره.

هذا لو كانت الاجارة صحيحة اما لو كانت فاسدة وفرض تهدّم بعض الجدران قبل اطلاعك على فساد الاجارة فهل تضمن هذا النقصان؟ كلا لا تضمن ، لأن الاجارة لو كان صحيحة فليس فيها ضمان فكذلك لو كانت فاسدة ، ومن هنا قيل : كل ما يضمن بصحيحه ـ الباء بمعنى « في » ـ يضمن بفاسده وكل ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، وقد بحث الشيخ الانصاري قدس‌سره هذه القاعدة مفصّلا في كتاب المكاسب

١١

الاستنباط قسمان : امارات واصول عمليّة.

فاذا شكّ الفقيه ان التدخين حرام او لا فان كانت لديه امارة ـ كخبر الثقة ـ تدل على الحرمة مثلا ثبت عنده حينذاك الحكم الشرعي وهو ان التدخين حرام ، اما اذا لم تتوفّر لديه امارة يثبت من خلالها الحرمة او غيرها من الاحكام وقع في الحيرة حيث لا يمكنه تحديد الحكم الشرعي ، وهذه الحيرة حيرة على مستوى العمل اي هو في مقام العمل لا يدري هل بالتالي يدخّن أو لا ، ولاجل دفع هذه الحيرة نصب الشارع المقدّس الاصول العمليّة لتقول له : يحق لك التدخين او لا.

اذن الاصول العمليّة يأتي دورها بعد العجز عن تحديد الحكم الشرعي فهي لا تحدده بل بلسان حالها كانها تقول اذا كنت عاجزا عن تحديد الحكم الشرعي ولم تعرفه فوظيفتك العمليّة اباحة التدخين مثلا او الاحتياط ، وما دامت لا تحدّد الحكم الشرعي ولا تقع في طريق استنباطه ـ بل الذي يقع في طريق استنباطه هي الامارات فقط ـ فهي ليست من المسائل الاصوليّة في شيء بمقتضى هذا التعريف.

٣ ـ ان التعريف المذكور يشمل بعض المسائل اللغويّة فمثلا حينما نريد استنباط حكم التيمم من قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) نكون بحاجة الى الاستعانة باللغة لمعرفة معنى الصعيد ، فاذا عرفنا انه عبارة عن مطلق وجه الارض وان لم يكن ترابا كان الحكم هو وجوب التيمم بكل ما يصدق عليه عنوان الأرض وان لم يكن ترابا. اذن ظهور كلمة الصعيد في مطلق وجه الأرض الذي نحصل عليه من خلال مراجعة اللغة استعنّا به في مقام الاستنباط فيلزم ان يكون من علم الاصول (١).

__________________

(١) قد يشكل بان ظهور كلمة الصعيد ليس مشمولا للتعريف حتى نحتاج الى اخراجه باعتبار ـ

١٢

٤ ـ ما اشار له قدس‌سره في الحلقة الثانية ص ٧ من ان التعريف المذكور يفهم منه ان القاعدة تكون اصوليّة فيما اذا مهّدت اي دوّنت وكتبت لغرض الاستنباط ، فلو لم تدون لم تكن اصوليّة ، مع ان هذا باطل ، اذ الأمر بالعكس تماما فالمسألة لا بدّ وان تكون اصوليّة منذ البداية ثم تدون بعد ذلك في كتاب الاصول لا انها تصير اصولية بعد تدوينها فيه.

وهذا الاشكال الرابع مبني على قرائة الممهدة بفتح الهاء ، لكن لماذا لا نقرأها بكسر الهاء والمعنى حينذاك يصير : ان القواعد الاصوليّة هي التي تهيأ وتساعد على استنباط الحكم الشرعي ، فالمهم اذن هي الاشكالات الثلاثة السابقة.

الجواب عن الاشكال الأوّل :

اما الاشكال الأول فقد اجاب عنه غير واحد من الاصوليّين بان القاعدة لا تكون اصوليّة الا اذا توفّر فيها ركنان :

__________________

ـ انه ليس قاعدة وانما هو مختصّ بمادة الصعيد وليس له شموليّة.

والجواب : انه قاعدة اذ تقول هكذا : كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الأرض ، نظير قولك : صيغة افعل ظاهرة في الوجوب ، فاذا سلمت ان الثانية قاعدة فلا بدّ وأن تسلّم ان الاولى قاعدة ايضا.

وحلّ الاشكال ان يقال : ان القاعدة لا تكون قاعدة الا اذا كان لها شموليّة واستيعاب ، ومن الواضح ان قولنا كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الأرض له شموليّة ايضا لأنه يشمل كلمة الصعيد في اي حكم وردت فيه ، فهي تشمل كلمة الصعيد الواردة في دليل التيمم وتشمل كلمة الصعيد الواردة في دليل جواز السجود على الصعيد لو كان عندنا مثل هذا الدليل وتشمل كلمة الصعيد الواردة في الاحكام الاخرى لو فرضت

١٣

أ ـ ان يستنبط منها حكم شرعي.

ب ـ ان يكون ذلك الحكم حكما كليا.

وكلا هذين الركنين مفقود في القواعد الفقهيّة ، اما الرّكن الأول فلأن مثل قاعدة « كل معاملة يضمن في صحيحها يضمن في فاسدها » هي بنفسها حكم شرعي لا انه يستنبط منها حكم شرعي ، نعم هذه القاعدة قاعدة كلية قد تطبق على هذه المعاملة او تلك ويثبت من خلال التطبيق الضمان في بعض المعاملات وعدمه في بعض آخر ، بيد ان هذا تطبيق وليس استنباطا ، وفرق واضح بين التطبيق والاستنباط ، ففي الاستنباط يكون لدينا شيئان متغايران احدهما يثبت الآخر وينجزه من دون ان يكون مصداقا وفردا له نظير حجيّة خبر الثقة ، فانه اذا كان حجة فقد يستفاد منه حرمة العصير العنبي او وجوب قراءة السورة ومعلوم ان حجية خبر الثقة ليست هي نفس حرمة العصير بل هما حكمان متغايران غاية الامر احدهما يثبت الآخر وينجزه ، هذا في الاستنباط. اما في التطبيق فأحد المطلبين يكون مصداقا وفردا للاخر دون ان يغايره ـ وهذا كما في قاعدة « كل ما يضمن في صحيحه يضمن في فاسده » حيث نقول : ان البيع ما دام في صحيحه ضمان ففي فاسده ضمان ايضا ، فان البيع مصداق من مصاديق تلك القاعدة لا انه شيء مباين لها ـ وبواسطة تطبيقه على افراده نستفيد احكاما جزئية احدها مختص بالبيع والآخر بالاجارة وثالث بمعاملة اخرى.

ومن خلال هذا يتضح اختلال الركن الثاني ايضا حيث ان المستحصل عليه من خلال تطبيق القاعدة الفقهية احكام جزئية في موارد خاصة لا احكام كلية والحال ان المقصود من الحكم الشرعي في التعريف هو الحكم الشرعي الكلي ـ وبكلمة اخرى الجعل الكلي ـ لا الحكم الجزئي.

١٤

الجواب عن الاشكال الثاني :

واما الاشكال الثاني فقد ذكر له قدس‌سره اجابتين :

أ ـ ما اثبته صاحب الكفاية في الجواب عن هذا الاشكال حيث اضاف الى هذا التعريف جملة جديدة وهي : « او التي ينتهى اليها في مقام العمل » وبذلك يصبح التعريف هكذا : علم الاصول هو العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي او التي ينتهى اليها في مقام العمل ، فعلم الاصول ليس خصوص القواعد التي يستنبط منها الحكم الشرعي بل هو اما القواعد المذكورة الواقعة في طريق الاستنباط او القواعد التي ينتهى اليها في مقام العمل التي هي عبارة اخرى عن الاصول العملية حيث ان الفقيه بعد فقدان الامارات ينتهي اليها في مقام العمل لتحديد وظيفته العملية عند جهله بالحكم الشرعي.

ب ـ ما هو مذكور في كلمات السيّد الخوئي دام ظله واستصوبه السيد الشهيد قدس‌سره في تقريرات درسه ، وهو تفسير الاستنباط بتفسير جديد فسابقا كان يفسّر بتحصيل الحكم واستخراجه من الادلة الشرعية ، وبناء على هذا يكون الاشكال تاما حيث ان الادلة التي يستحصل منها الحكم هي خصوص الامارات دون الاصول ، والآن يفسر الاستنباط بالتنجيز والتعذير ، فكل قاعدة تنجز الحكم الشرعي او تكون عذرا عند مخالفته فهي اصولية ، وواضح كما ان الامارات تنجّز وتعذر كذلك الاصول العملية ، فالتدخين اذا كنا لا نعرف انه حرام واقعا او لا فمتى ما دلت امارة ـ كخبر الثقة مثلا ـ على انه حرام واقعا كانت منجزة للحرمة ، واذا دلت على اباحته كانت عذرا في مخالفة الحرمة على تقدير

١٥

ثبوتها واقعا (١).

هذا في الامارة ، وهكذا في الاصل فانه منجّز ومعذر ايضا ، فالاصل الذي نتمسّك به اذا كان اصل البراءة افادنا العذر من مخالفة الحرمة لو كانت ثابتة واقعا ، واذا كان اصل الاحتياط فهو منجز للحرمة لو كانت ثابتة واقعا.

الجواب على الاشكال الثالث :

واما الاشكال الثالث فقد ذكر له قدس‌سره اجابتين :

١ ـ ما ذكره الشيخ النائيني قدس‌سره من ان القاعدة لا تكون اصوليّة الا اذا توفر فيها ركنان :

أ ـ ان تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي.

ب ـ ان تقع كبرى في الدليل ، فمثلا نقول : كلمة « الصعيد » ظاهرة في مطلق وجه الارض وكل ظهور حجة ، اذن يجب التيمم بمطلق وجه الأرض.

مثل هذا الدليل يسمى بقياس الاستنباط حيث بواسطته يستنبط الحكم الشرعي للتيمم. وفي هذا الدليل نرى ان الصغرى هي « كلمة الصعيد ظاهرة في مطلق وجه الأرض » وهي ليست اصوليّة لانها وقعت صغرى في الدليل بخلاف قاعدة « كل ظهور حجّة » فانها حيث وقعت كبرى في الدليل كانت قاعدة اصوليّة.

__________________

(١) مصطلح التنجيز يستعمل عند ما تدل الامارة او الاصل على حكم الزامي وهو الوجوب او الحرمة فيتنجّز كل واحد منهما على تقدير ثبوته واقعا ، بينما مصطلح التعذير يستعمل عند ما يدلان على الاباحة حيث يكونان عذرا من مخالفة الحرمة او الوجوب لو كانا ثابتين واقعاً.

١٦

هذا ما ذكره قدس‌سره في مقام الجواب على الاشكال المذكور.

ويمكن مناقشة ذلك بانا نجد في موارد متعددة وقوع بعض القواعد الاصوليّة صغرى للدليل لا كبرى ، ومعه فلا معنى لمقالة الميرزا ان كل قاعدة وقعت صغرى في الدليل فهي ليست اصوليّة ، وللتدليل على صدق ما نقول نذكر ثلاثة امثلة :

أ ـ في باب التيمم نقول مثلا هكذا : صيغة « تيمّموا » التي هي مصداق لصيغة « افعل » ظاهرة في الوجوب ، وكل ظهور حجّة. في هذا المثال نلاحظ ان الصغرى هي « صيغة افعل ظاهرة في الوجوب » وهي مسألة اصوليّة.

ب ـ في كلمة العقود نقول مثلا هكذا : كلمة « العقود » الواردة في قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) التي هي جمع محلى بالالف واللام ظاهرة في العموم وكل ظهور حجّة. في هذا المثال نرى ان الصغرى هي قاعدة اصوليّة ايضا حيث ان من جملة القواعد الاصوليّة ان الجمع المحلى بالالف واللام ظاهر في العموم.

ج ـ من جملة المسائل الاصولية مسألة ان الأمر والنهي هل يمكن اجتماعهما في مورد واحد أو لا؟ فاذا دخل انسان دارا مغصوبة وحان وقت الصلاة كان امر ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) يأمره بالصلاة ، بينما نهي لا تغصب ينهاه عن الغصب ، فاذا قلنا باستحالة هذا الاجتماع في نظر العقل كانت بين « صلّ » و « لا تغصب » معارضة وتكاذب لامتناع اجتماعهما ، ومعه فاللازم تطبيق قواعد الدليلين المتعارضين التي هي تقديم الاقوى سندا او الموافق للكتاب او المخالف للعامّة وهكذا ، فاذا قدمنا دليل « صلّ » كان الشخص المصلي في الدار المغصوبة ممتثلا بلا عصيان ، ولو قدّمنا « لا تغصب » كان عاصيا بلا امتثال. اما اذا قلنا بجواز الاجتماع بتقريب ان الأمر متعلق بعنوان الصلاة والنهي بعنوان الغصب وعند تعدد

١٧

العنوان لا استحالة في توجيه التكليفين الى المكلّف ، اذا قلنا بهذا لم يتحقق تعارض بينهما بل صح ان نقول ان مقتضى اطلاق « صلّ » ان الصلاة مطلوبة ولو في الدار المغصوبة ، ومقتضى اطلاق « لا تغصب » حرمة الغصب ولو كان متمثلا بالصلاة فيكون المكلّف عاصيا وممتثلا في آن واحد.

وبهذا نعرف ان مسألة اجتماع الأمر والنهي مع انها من امهات المسائل الاصوليّة لم تقع كبرى في الدليل بل صغرى ، حيث نقول هكذا : يمتنع اجتماع « صلّ » و « لا تغصب » وكلما امتنع اجتماعهما تحقق بينهما تعارض ، فـ « صلّ » و « لا تغصب » بينهما تعارض ولا بد من تقديم احدهما ، او نقول يجوز اجتماع « صلّ » و « لا تغصب » ، واذا جاز اجتماعهما لم يكن بينهما تعارض بل امكن صدقهما والتمسّك باطلاق كل منهما. ومن خلال هذا يتجلى ان القول بامتناع الاجتماع يحقق التعارض بين الدليلين بينما القول بالجواز يرفع التعارض ويجعلنا قادرين على التمسّك باطلاق كل من الدليلين.

٢ ـ ما ذكره السيّد الخوئي دام ظله من ان القاعدة لا تكون اصوليّة الا اذا توفر فيها ركنان :

أ ـ ان تقع في طريق الاستنباط.

ب ـ ان لا تحتاج حين استنباط الحكم منها الى ضم قاعدة اخرى او تحتاج ولكن لا تكون تلك القاعدة التي نضمها اصولية ، في مثل هاتين الحالتين تكون القاعدة اصوليّة ، اما اذا احتاجت عند استنباط الحكم منها الى ضم قاعدة اخرى وكانت تلك القاعدة الاخرى اصوليّة فلا تكون اصوليّه ، ثم قال : وبناء على هذا لا يكون ظهور كلمة « الصعيد » في مطلق وجه الارض من المسائل الاصولية لأنّا حين استنباط حكم التيمم لا يكفينا ظهور كلمة « الصعيد » وحده في تحصيل

١٨

الحكم بوجوب التيمم بمطلق وجه الأرض بل نحتاج الى قاعدة اخرى وهي ان صيغة « افعل » ـ التي تنطبق على صيغة « تيمموا » ـ ظاهرة في الوجوب ، وهذه القاعدة الاخرى اصولية.

وقد تقول بناء على هذا الضابط الذي ذكره دام ظله يلزم خروج كثير من المسائل الاصوليّة من علم الاصول ، مثل ان صيغة « افعل » ظاهرة في الوجوب ، وصيغة « لا تفعل » ظاهرة في الحرمة ، والجملة الشرطية ظاهرة في المفهوم ، والجمع المحلى بالالف واللام ظاهر في العموم وهكذا ، لان جميع هذه المسائل تحتاج عند استنباط الحكم منها الى ضم قاعدة اصوليّة اخرى اليها ، وهي قاعدة حجيّة الظهور.

واجاب دام ظله عن ذلك بأنا وان كنا نحتاج في هذه المسائل الى ضم قاعدة حجيّة الظهور الا ان هذه القاعدة ليست اصوليّة فانها من الامور البديهيّة الواضحة التي لا خلاف فيها ويعرفها الصغير والكبير والعالم والجاهل والرجل والمرأة ، فالكل يعرف ان كل كلام يؤخذ بظاهره اذا كان ظاهرا في معنى معين ، والتفاهم بيننا مبني على الاخذ بالظواهر ، فالطفل الصغير اذا سمع من امه كلاما ظاهرا في معنى معين اخذ به بلا توقف وتردد.

مناقشة السيد الخوئي دام ظله

والاجابة المذكورة للسيّد الخوئي دام ظله اشكل عليها السيد الشهيد قدس‌سره باشكالين :

١ ـ انه دام ظله ادعى ان شرط القاعدة الاصولية عدم احتياجها الى ضم قاعدة اصوليّة اخرى ، ونحن نسأل عن المقصود من عدم الاحتياج فهل يراد به

١٩

عدم الاحتياج دائما وفي جميع الموارد او عدم الاحتياج ولو في مورد واحد؟ فان كان المقصود هو الأوّل لزم منه خروج كثير من المسائل الاصوليّة عن علم الاصول مثل مسألة ان صيغة « افعل » ظاهرة في الوجوب وصيغة « لا تفعل » ظاهرة في الحرمة والجملة الشرطيّة ظاهرة في المفهوم وهكذا فيما لو فرض ان صيغة « افعل » او « لا تفعل » او الجملة الشرطيّة وردت في روايات ظنيّة الصدور يرويها الثقات ، فان تحصيل الحكم من مثل الروايات المذكورة بحاجة الى ضم قاعدة أخرى اصولية وهي ان خبر الثقة حجّة ، اذ من دون ضم هذه القاعدة لا يمكن الاخذ بالرواية واستنباط الحكم منها.

وان كان المقصود هو الثاني ـ اي ان المراد من عدم الاحتياج هو عدم الاحتياج ولو في مورد واحد ـ فاللازم من ذلك دخول مسألة ظهور الصعيد في علم الاصول فيما اذا وردت كلمة « الصعيد » في رواية قطعيّة من حيث السند والدلالة وبقيّة الجهات بحيث لا يكون تحصيل الحكم منها بحاجة لشيء سوى معرفة معنى كلمة « الصعيد » بنحو لو عرفنا ان معناها مطلق وجه الأرض مثلا كان الحكم بوجوب التيمم بذلك ـ اي بمطلق وجه الأرض ـ ثابتا بلا حاجة الى شيء آخر.

٢ ـ انه دام ظله ذكر ان مسألة حجيّة الظهور ليست اصوليّة لانها واضحة لدى الجميع ولا خلاف فيها.

ويرد عليه : ان وضوح المسألة وعدم الخلاف فيها لا يصير سببا لعدم كونها اصولية ، فان صيرورة المسألة اصوليّة ليس مسببا عن وقوع الخلاف والغموض فيها حتى اذا زالا ـ الخلاف والغموض ـ زالت اصوليتها بل الأمر بالعكس تماما فان الخلاف والغموض وعدمهما ينصّبان على المسألة الاصولية لا ان الاصولية

٢٠