الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

الحلقة الثّالثة في أسلوبها الثّاني - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المحبين للطباعة والنشر
المطبعة: قلم
الطبعة: ١
ISBN: 964-91029-3-0
ISBN الدورة:
964-91029-7-3

الصفحات: ٤٩٢

الاصل الاولي عند

الشك في الحجّية

١٤١
١٤٢

تأسيس الاصل عند الشك في الحجّية :

قوله ص ٦٧ س ١ الدليل اذا كان قطعيا ... الخ :

بعد ان انهى قدس‌سره البحث عن القطع شرع في الحديث عن الامارات (١) ليوضح ان اي امارة حجّة وأيّها ليس حجّة ، فهل خبر الثقة حجّة او لا؟ وهل الظواهر حجّة او لا؟ ...

وقبل البحث عن ذلك لا بد من معرفة انه لو استطعنا اقامة الدليل القطعي على حجّية الخبر مثلا او على عدم حجّيته فالامر واضح ، وان لم يتيسر لنا هذا وذاك فهل الاصل يقتضي الحجّية او عدمها؟ اننا نعرف جيدا ان كل شيء مشكوك الطهارة كالثوب ونحوه اذا اخبر الثقة بطهارته حكمنا بذلك ولو اخبر بنجاسته حكمنا بذلك ايضا وعند فقدان الامرين نرجع الى الاصل وهو يقتضي الطهارة ، وفي مقامنا نريد التعرف عما يقتضيه الاصل عند الشك في الحجّية لنرجع اليه عند تعذر اقامة الدليل على احد الامرين فان الاصل عند الشك في الطهارة والنجاسة يقتضى الطهارة ولكن عند الشك في الحجّية ماذا يقتضي؟

وفي هذا المجال ذكر قدس‌سره ان الدليل اذا كان مفيدا للقطع ـ كالخبر المتواتر ـ فهو حجّة جزما لما تقدم من حجّية القطع ، وان لم يكن مفيدا لذلك ـ كخبر الثقة ـ فان قام دليل قطعي على حجّيته حكمنا بها والاّ رجعنا الى الاصل وهو يقتضي عدم الحجّية.

__________________

(١) وتسمى الامارة بالدليل المحرز ، فان خبر الثقة مثلا ناظر الى الواقع ويريد احرازه.

١٤٣

ولتوضيح ذلك نذكر نقطتين :

أ ـ ماذا يقصد من قولنا : الاصل يقتضي عدم الحجّية؟

ب ـ ما الدليل على ان الاصل يقتضي عدم الحجّية؟

وفي بيان النقطة الاولى ذكر قدس‌سره ان المقصود من قولنا الاصل يقتضي عدم الحجّية هو ان الموقف الذي نتخذه لو كنا نقطع بعدم حجّية الخبر مثلا يلزم اتخاذه عند الشك في حجّيته ايضا ، فاحتمال الحجّية يساوي في مقام العمل القطع بعدمها من حيث وحدة الموقف.

وفي مقام توضيح النقطة الثانية ـ وهو بنفسه توضيح اكثر للنقطة الاولى ـ ذكر المثال التالي : لو كان بايدينا خبر يدل على ان الدعاء عند رؤية الهلال واجب ، وكنا نشك في اصل حجّية الخبر فالمواقف التي نأخذ بها عند فرض عدم وجود الخبر المذكور لا تخلو من احد امور اربعة :

١ ـ التمسك بالبراءة العقلية ـ وهي ما تسمى بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ بناء على رأي المشهور او التمسك بالاحتياط العقلي على مختارنا من منجّزية الاحتمال.

٢ ـ التمسك بالبراءة الشرعية اي بمثل حديث « رفع عن امتي ما لا يعلمون » (١).

٣ ـ التمسك بالاستصحاب بتقريب ان الدعاء لم يكن واجبا قبل بزوغ الهلال فاذا بزغ وشك في وجوبه استصحب عدم الوجوب الثابت سابقا.

٤ ـ التمسك باطلاق الدليل الاجتهادي لو كان ، فمثلا لو فرض دلالة آية

__________________

(١) والتمسك بالبراءة الشرعية لا اختلاف فيه بين المشهور والسيد الشهيد وانما اختلافهما فقط في حكم العقل بالبراءة او الاحتياط عند احتمال التكليف.

١٤٤

على ان الدعاء ـ بنحو مطلق ومن دون تقييد بحالة دون اخرى ـ ليس بواجب فمقتضى اطلاقها نفي وجوبه حتى في حالة رؤية الهلال.

هذه مواقف اربعة نأخذ بها لو لم يكن لدينا خبر دال على الوجوب او كنا نقطع بعدم حجّيته ، ونفس هذه المواقف يجب الاخذ بها عند الشك في الحجّية.

اما الموقف الاول ـ وهو التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ فلأن المقصود من البيان هو العلم اي يقبح العقاب عند عدم العلم بالوجوب الواقعي ، ومن الواضح عند الشك في حجّية الخبر لا علم بوجوب الدعاء واقعا فيلزم التمسك بقاعدة قبح العقاب ، ولو كان مجرد احتمال حجّية الخبر كافيا في تبرير ترك القاعدة المذكورة لكفى مجرد احتمال ثبوت وجوب الدعاء واقعا لترك القاعدة سواء كان هناك خبر يشك في حجّيته ام لا ، وبتعبير آخر يلزم القول بمنجّزية احتمال التكليف وبطلان قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » كما هو المختار خلافا للمشهور.

واما الموقف الثاني ـ وهو التمسك بالبراءة الشرعية ـ فلأن موضوعها هو « ما لا يعلمون » اي عدم العلم بوجوب الدعاء واقعا ، ومن الواضح ان عدم العلم ثابت حتى مع وجود الخبر الذي يشك في حجّيته فيلزم الرجوع الى البراءة ، بل نقول اكثر من هذا ، ان عدم العلم ثابت حتى مع القطع بحجّية الخبر ، فان وجود خبر مقطوع الحجّية لا يصيّرنا عالمين بالوجوب الواقعي.

وقد تقول : اذا كان عدم العلم ثابتا حتى مع وجود خبر مقطوع الحجّية فلماذا يقدم الخبر وتهجر البراءة الشرعية مع ثبوت موضوعها؟

والجواب : ان الخبر يقدم من باب انه حاكم على البراءة الشرعية اي رافع لموضوعها ـ وهو عدم العلم ـ رفعا تعبديا وان لم يرفعه حقيقة.

١٤٥

واما الموقف الثالث : وهو الاستصحاب ـ فلأن موضوعه هو الشك في بقاء الحالة السابقة ، ومن الواضح ان وجود الخبر الذي نشك في حجّيته لا يصيرنا عالمين بارتفاع الحالة السابقة ـ وهي عدم وجوب الدعاء قبل بزوغ الهلال ـ حتى يمتنع جريان الاستصحاب.

واما الموقف الرابع ـ وهو اطلاق الدليل الاجتهادي ـ فلأن الاطلاق حجّة فيلزم التمسك به الاّ مع قيام حجّة اخرى مقيدة له ، والمفروض ان الخبر الذي بايدينا نشك في حجّيته ولا نجزم بها.

وبهذا اتضح انه عند الشك في حجّية الخبر مثلا لا يتغير الموقف العملي.

اقامة الدليل على نفي الحجّية :

انّا فيما سبق لم نقم دليلا على سلب الحجّية عن الخبر عند الشك في حجّيته بل اقصى ما ذكرنا انه لا موجب لتغيّر الموقف العملي لمجرّد الشك في الحجّية ، والآن نحاول اقامة الدليل على سلب الحجّية.

وتقريبه : ان لدينا حكمين ظاهريين :

أ ـ حجّية الخبر الدال على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال.

ب ـ البراءة من وجوب الدعاء عند رؤية الهلال.

وكل واحد من هذين الحكمين ينافي الآخر ، فان البراءة تدل على اهمية المصلحة في نفي الوجوب بينما حجّية الخبر تدل على اهميّة مصلحة الوجوب ، وحيث لا يمكن ان تكون كلتا المصلحتين اهم فاللازم من ذلك ان يكون الدليل الدال على ثبوت احد هذين الحكمين دالا بالالتزام على نفي الحكم الآخر ، وبما ان البراءة قد دل الدليل عليها جزما وهو مثل حديث « رفع عن امتي ما لا يعلمون »

١٤٦

ـ بينما الخبر لم يقم دليل على حجّيته حسب الفرض ـ فهذا الدليل يكون دليلا بالالتزام على نفي حجّية الخبر المشكوكة التي هي الحكم الآخر.

وباختصار ان ادلة الاصول العملية تدل بالمطابقة على ثبوت مضمونها في مورد الحجّية المشكوكة وبالالتزام على نفي نفس الحجّية المشكوكة.

وهذا التقريب يتم بناء على رأي السيد الشهيد في الاحكام الظاهرية ، اذ تقدم ص ٣٦ من الحلقة انه يرى تنافي الاحكام الظاهرية بوجوداتها الواقعية ، فكل حكم ظاهري يتنافى والحكم الظاهري الآخر حتى وان لم يعلم بهما فان ثبوت الحكم الظاهري الاول يدل على اهمية هذا الملاك بينما الحكم الظاهري الثاني يدل على اهمية الملاك الآخر ، وحيث لا يمكن اهمية كلا الملاكين كان الحكمان متنافيين بوجودهما الواقعي ، انه بناء على هذا الرأي يكون الدليل على البراءة دالا بالالتزام على نفي حجّية الخبر ، اذ التنافي بينهما ما دام ثابتا وان لم نعلم بحجّية الخبر فالدليل على البراءة دليل على نفي ثبوت الحجّية للخبر واقعا (١).

وهذا بخلافه على رأي السيد الخوئي دام ظله القائل بان تنافي الاحكام الظاهرية يختص بحالة وصولها والعلم بها فانه بناء عليه لا يمكن نفي الحجية المشكوكة ، اذ ما دامت الحجّية غير معلومة فلا يثبت التنافي بينها وبين البراءة ليتمسك بدليل البراءة لنفيها.

__________________

(١) قد يقال : ان التمسك بالبراءة لنفي الحجية المشكوكة هو من قبيل الاصل المثبت فلا يكون حجة ، اذ البراءة اصل عملي وهو لا يكون حجة في لوازمه غير الشرعية.

والجواب : انا لا نتمسك بلازم نفس البراءة الشرعية ، وانما نريد التمسك بلازم الدليل الدال على تشريع البراءة فنقول هكذا : ان حديث « رفع عن امتي ما لا يعلمون » يدل على تشريع البراءة ولازم الاخبار عن تشريع البراءة الاخبار عن نفي الحجّية المشكوكة

١٤٧

توجيه ثالث لاصالة عدم الحجّية :

فيما سبق ذكرنا بيانين لتوجيه اصالة عدم الحجّية :

أ ـ عدم المقتضي لتغير الموقف العملي.

ب ـ دلالة دليل البراءة بالالتزام على نفي الحجّية المشكوكة.

والآن نستعرض بيانا ثالثا لذلك وهو التمسك بالآيات الناهية عن اتباع الظن فانها شاملة لكل ظن من الظنون بما في ذلك خبر الثقة مشكوك الحجّية فكل ظن يشك في حجّيته فهو بمقتضى الآيات المذكورة ليس بحجّة.

وقد اعترض الميرزا على هذا البيان بان الآيات حيث انها تنهى عن الظن فلا بد وان يثبت في المرحلة الاولى ان الخبر ظن حتى نتمسك بالآيات للنهي عنه ، اذ التمسك بعموم الحكم فرع ثبوت موضوعه ، وبعد هذا اضاف قدس‌سره انه بناء على مختارنا في باب الحجّية ـ وهو ان معنى جعلت الخبر حجّة : جعلته علما وطريقا ـ يكون شكنا في حجّية الخبر شكا بالتالي في كون الخبر علما وليس بظن ، ومع احتمال كونه علما فلا يصح التمسك بالآيات لاثبات النهي عنه ويكون التمسك بها تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية نظير اكرم العلماء فانه عند الشك في رجل معيّن انه عالم او لا لا يصح التمسك بعموم اكرم العلماء لاثبات عالميته ووجوب اكرامه ، اذ عموم اكرم يقول : ان من كان عالما يجب اكرامه ولا يشخص ان هذا عالم او لا.

واجاب السيد الشهيد عن ذلك بان النهي في الآيات المذكورة لو كان نهيا مولويا تكليفيا لصح ما ذكره الميرزا قدس‌سره ، ولكن الصحيح انه نهي ارشادي اي يرشد الى ان الظن ليس بحجّة ، واذا قبلنا هذا نضيف اليه ان معنى الحجّية اذا

١٤٨

كان هو العلمية فعدم الحجّية يكون معناه نفي العلمية ، وعلى هذا يصير معنى الآيات التي تقول ان كل ظن ليس بحجّة : ان كل ظن ليس بعلم ، ومثل هذا العموم يجب التمسك به ولا يجوز رفع اليد عنه الاّ بحجّة اقوى مخصصة له ، ومن الواضح ان مجرد احتمال حجّية الخبر ليس حجّة اقوى.

وان شئت قلت : كما ان دليل اكرم كل عالم يجب التمسك به لاثبات وجوب اكرام زيد العالم عند الشك في وجوب اكرامه كذا في المقام فان الآيات التي تقول كل ظن ليس بحجّة عام يجب التمسك به عند الشك في كون الظن الخبري علما فان الايات تقول بعمومها : الظن الخبري ليس بعلم والشك في حجّية الخبر يقول : يحتمل ان الظن الخبري علم ، ومن الواضح ان عموم العام حجّة في الفرد المشكوك ما دام لم يعلم بخروجه منه ، نعم لو فرض قيام الدليل على ان الظن الخبري حجّة وجزم بذلك كان الدليل المذكور مخصصا لعموم الآيات لكن المفروض عدم الدليل على خروج الظن الخبري من الآيات وكونه علما فيجب التمسك بعموم الآيات.

لا يقال : انا ما دمنا نحتمل ان الظن الخبري حجة فلازمه احتمال كونه علما فلا يجوز التمسك بعموم الآيات لكونه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.

فانه يقال : ان كون الخبر ظنا من الظنون مما لا اشكال فيه وانما الاشكال في انه هل اعتبره الشارع علما او لا فالآيات تقول : ان كل ظن ومنه الخبر لم يعتبره الشارع علما بينما الشك في حجّية الخبر يقول : ان الخبر الذي هو ظن جزما يحتمل اعتباره علما ، وفي مثل ذلك يجب التمسك بالعموم ولا يكفي احتمال خروج فرد منه بالتخصيص. هذا كله بناء على ان النهي في الآيات ارشادي ، واما بناء على كونه مولويا تكليفيا فما افاده الميرزا من كون التمسك بالآيات تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية تام لان الآيات بناء على ذلك تقول : ان كل ظن يحرم العمل به ،

١٤٩

وما دمنا نحتمل ان الخبر حجّة فلازمه عدم الجزم بكونه ظنا.

وقد تسأل عن الدليل على كون النهي ارشاديا لا مولويا تكليفيا ، وجواب ذلك واضح فانه لو كان مولويا كان العمل بالظن محرما كحرمة شرب الخمر فكما يعاقب شارب الخمر في الدنيا بالتعزير وفي الآخرة بالنار يلزم عقاب العامل بالظن ايضا والحال ان ذلك غير محتمل بل اقصى ما يترتب على العمل بالظن عدم إجزائه عن الواقع ومن اخذ به لا تكون اعماله مجزية ، ولئن كانت هناك عقوبة فهي على عدم الاتيان بالواقع لا على نفس العمل بالظن.

قوله ص ٦٧ س ٩ مقابلة :

الصواب : مقابله.

قوله ص ٦٨ ص ١٤ المخصص :

اي المقيد ، وانما عبّر عنه بذلك لان كل واحد من التخصيص والتقييد قد يطلق ويراد به الآخر.

قوله ص ٦٨ س ١٧ عمليا :

الانسب عملا.

قوله ص ٦٩ س ٣ انه :

اي تصورنا المتقدم.

قوله ص ٦٩ س ٣ بينها :

اي بين الاحكام الظاهرية.

قوله ص ٦٩ س ٣ بوجوداتها الواقعية :

اي وان لم تكن واصلة ومعلومة خلافا لمسلك السيد الخوئي.

قوله ص ٦٩ س ٧ بذلك :

١٥٠

اي بدليل البراءة.

قوله ص ٦٩ س ١٣ بني :

الصواب : بنى.

قوله ص ٦٩ س ١٦ غير محرز :

اي ومعه يكون التمسك بالعام تمسكا به في الشبهة المصداقية.

قوله ص ٧٠ س ٧ فيكون مفادها في رتبة مفاد حجّية الامارة :

اي لا أنّ احتمال حجّية الخبر يرفع موضوع الآيات ـ كما هو الحال بناء على النهي التكليفي ـ بل ان كليهما ينظر الى موضوع واحد وهو الظن الخبري واحدهما يقول انه علم والآخر يقول انه ليس علما ، فهما اذن في رتبة واحدة ، والآيات يصح التمسك بها لنفي العلمية عن الظن الخبري فان الدليل العام لا ترفع اليد عنه الا بمخصص واحتمال حجّية الظن الخبري لا يصلح مخصصاً.

١٥١
١٥٢

الأصول

والامارات المثبتة

١٥٣
١٥٤

مقدار ما يثبت بدليل الحجّية :

قوله ص ٧٠ س ٩ وكلما كان الطريق ... الخ :

في هذا المبحث يراد التعرّض للأصل المثبت الذي قال المشهور بعدم حجّيته خلافا للامارة المثبتة حيث قيل بحجّيتها.

وقبل توضيح ما افاده السيد الشهيد قدس‌سره نوضح عن طريق المثال المقصود من المصطلحين المذكورين.

لو فرض ان لانسان ولدا صغيرا سافر عنه وانقطعت عنه اخباره وكان قد نذر التصدق على الفقير متى ما نبتت لحيته ، فاذا مضت فترة عشرين سنة مثلا وشك في بقاء حياته وبالتالي في نبات لحيته فهل يوجد طريق لاثبات نبات لحيته وبالتالي اثبات وجود التصدق؟

قد يجاب بالايجاب وان الطريق لذلك هو استصحاب حياته فانه بذلك تثبت الحياة ، وببقائها يثبت نبات اللحية لعدم انفكاك بقاء الحياة الى عشرين سنة عن نبات اللحية ، ان مثل هذا الاستصحاب يعبّر عنه بالاستصحاب او الاصل المثبت اي اريد به اثبات اللوازم غير الشرعية للحياة ، فان نبات اللحية ليس اثرا شرعيا للحياة وانما الاثر الشرعي لها هو استحقاقه الارث لو مات بعض اقاربه.

والمعروف بين الاصوليين عدم حجّيته (١). اي لا يمكن باستصحاب الحياة اثبات

__________________

(١) قد يبدو للطالب التنافي بين عدم حجّية الاصل المثبت وبين كونه مثبتا ، فان المناسب ـ

١٥٥

لوازمها غير الشرعية وانما يثبت به خصوص اللوازم الشرعية.

اما لو اخبر الثقة ببقاء الحياة ثبتت بذلك الحياة ولوازمها غير الشرعية فضلا عن الشرعية ، فان خبر الثقة امارة وهي حجّة في لوازمها غير الشرعية.

وبعد هذا نأتي الى ما افاده السيد الشهيد قدس‌سره ، ذكر اولا ان كل دليل هو حجّة بلا اشكال في مدلوله المطابقي ، فالامارة او الاصل المخبران عن حياة الولد هما حجّتان فيه ، واما بالنسبة الى المدلول الالتزامي فهناك صورتان لا اشكال في حجّية الدليل فيهما :

١ ـ اذا ثبتت حياة الولد بدليل قطعي ـ كالخبر المتواتر ـ فان لوازمها تثبت ايضا بما في ذلك اللوازم غير الشرعية ، اذ القطع بالحياة يستلزم القطع بجميع لوازمها ، والقطع كما تقدم حجّة.

٢ ـ اذا دل الدليل على ثبوت الحجّية لعنوان وفرض صدق ذلك العنوان على المدلول المطابقي والالتزامي معا كما اذا دلّ الدليل على حجّية خبر الثقة وفرض ان عنوان خبر الثقة كما يصدق بالنسبة الى الحياة يصدق على لوازمها كما اختار ذلك الآخوند حيث ذكر ان من اخبر عن قضية معيّنة لها عشرة لوازم فهو مخبر باحد عشر خبرا (١) ويكون جميعها حجّة لصدق عنوان خبر الثقة على كل واحد منها.

__________________

ـ التعبير عنه ـ ما دام ليس حجّة ـ بغير المثبت الاّ انه عبّر بذلك بمعنى انه يراد به اثبات اللوازم غير الشرعية.

(١) خلافا للميرزا والسيد الخوئي حيث اختارا عدم صدق عنوان الخبر على المداليل الالتزامية فمن اخبر عن حياة الولد لا يصدق انه اخبر عن اكله ونومه ومشيه في الاسواق ونمو لحيته وو ... لأن شرط صدق الخبر قصد المخبر الاخبار عن مضمون الخبر ، ومن يخبر عن شيء قد لا يكون قاصدا بل غافلا عن المداليل الالتزامية.

١٥٦

وباختصار : لا اشكال في ثبوت اللوازم بما في ذلك غير الشرعية بدون اختلاف بين الفقهاء في الصورتين المذكورتين ، وانما الاشكال في صورة ثالثة وهي ما لو فرض عدم افادة الدليل للقطع وعدم صدق العنوان الذي ثبتت له الحجّية على المدلول الالتزامي كما لو دل الدليل على حجيّة الظهور وحدثنا الثقة بحديث له ظهور في معنى معيّن وكان لذلك الظهور لازم خاص فان الظهور لا يفيد القطع كما ولا يصدق على المدلول الالتزامي انه ظهور ، وفي مثل ذلك وقع الخلاف في ان تلك اللوازم بعد عدم صدق عنوان الظهور عليها هل تثبت او لا؟ والمشهور بين الاصوليين هو التفصيل بين الاصول العملية فلا تكون حجّة في لوازمها غير الشرعية وبين الامارات حيث تكون حجّة في ذلك.

واذا طالبنا المشهور بدليلهم على هذه التفرقة اجابنا الميرزا بان المجعول في الامارة حيث انه العلمية فاللازم من ذلك حصول العلم باللوازم ، فان العلم بالشيء يستلزم العلم بلوازمه ، فاذا اخبر الثقة بحياة الولد وفرض ان معنى الحجّية هو العلمية صار الشخص المخبر عالما بالحياة وبالتالي عالما بلوازمها كنبات اللحية وهذا بخلاف ما اذا ثبتت الحياة بالاستصحاب فان المجعول فيه ليس هو العلمية حتى تطبق قاعدة من علم بشيء علم بلوازمه وانما المجعول فيه هو التعبّد بالوظيفة العملية اي انه في مقام العمل لا بدّ من التعامل مع الولد معاملة الحي ، وواضح انّه في باب التعبد يقتصر على مقدار التعبد ولا يتعدى الى الزائد عنه ، فمثلا لو قلنا للشخص الشجاع انا نعتبرك اسدا فلا يحق له الهجوم علينا وافتراسنا بحجّة انا اعتبرناه اسدا والاسد من لوازمه الافتراس ، لا يحق له ذلك لانا وان اعتبرناه اسدا الاّ ان هذا الاعتبار هو من زاوية خاصة وهي الشجاعة ولا يلزم من اعتبار الشخص اسدا من زاوية اعتباره اسدا بلحاظ باقي الزوايا ، فان

١٥٧

التكليف بين الآثار في باب الاعتبار امر وجيه ، وهكذا في المقام فانه لا بد من الاقتصار فيه على مقدار التعبد فاذا كان المستفاد من حديث « لا تنقض اليقين بالشك » التعبد ببقاء الحياة بلحاظ الآثار الشرعية (١) فلا يلزم من ذلك التعبّد ببقائها بلحاظ الآثار غير الشرعية.

ايراد السيّد الخوئي :

واورد السيّد الخوئي دام ظله على الميرزا بانا نسلم كون المجعول في الامارات هو العلمية الاّ انا لا نسلّم بقاعدة ان من علم بشيء فقد علم بلوازمه فانها تتم في العلم الحقيقي الوجداني دون العلم التعبدي الاعتباري ، فمن علم بحياة الولد علما وجدانيا فقد علم بانه يأكل ويشرب وينام ، اما من علم علما اعتباريا بالحياة فلا يلزم علمه اعتبارا باللوازم ، فالثقة اذا اخبر بحياة الولد اعتبر المولى الشخص المخبر عالما بالحياة من دون ان يحصل له العلم حقيقة ، ومن الواضح ان اعتبار الشخص عالما بالحياة لا يستلزم اعتباره عالما بلوازمها نظير اعتبار الشخص الشجاع اسدا من حيث الشجاعة فانه لا يستلزم اعتباره اسدا من حيث الافتراس ، ومن هنا اختار دام ظله ان دليل حجّية الامارة لا يقتضي حجّيتها في لوازمها غير الشرعية كما هو الحال في الاصل.

__________________

(١) الوجه في ثبوت الاثار الشرعية لزوم محذور اللغوية على تقدير عدم ثبوتها فلا يمكن ان يعبدنا الشارع باستصحاب حياة الولد والحكم بها بدون ان يعبدنا باستحقاقه الارث وبقاء زوجته على زوجيتها وو ... اذ ما الفائدة في الحكم بالحياة بدون الحكم بآثارها الشرعية؟

١٥٨

رأي السيّد الشهيد :

والسيد الشهيد وافق المشهور في تفصيلهم بين الامارة والاصل ، فالامارة حجّة في لوازمها غير الشرعيّة دون الاصل ، ولكن الوجه في ذلك ليس هو ما افاده الميرزا فانه مبني على رأيه في كون المجعول في الامارة هو العلمية والرأي المذكور مرفوض فان الفارق المذكور فارق على مستوى الصياغة والالفاظ فتعبير الدليل اذا كان بمثل قوله الخبر علم وكاشف كان امارة وان عبّر بالوظيفة العملية كان اصلا ، والصحيح ان الفارق جوهري واعمق من الالفاظ ، ولئن كان هناك فارق لفظي فهو نابع من الفارق الجوهري.

وحاصل الفارق : ان الحكم الظاهري يرجع في روحه الى الحكم الناشىء عن الملاك الاهم ، فالمولى شرّع الاباحة للماء والحرمة للخمر فاذا عرف المكلّف ان السائل ماء كان حكمه واضحا وهو الاباحة واذا عرف انه خمر كان حكمه واضحا ايضا وهو الحرمة ، اما اذا تردد ولم يعلم انه ماء او خمر فعلى المولى تشريع حكم له. ولكن ماذا يشرّع له؟ لا بد له من الموازنة بين مصلحة الاباحة ومفسدة الحرمة فان كانت الاولى اهم في نظره شرّع الاباحة لكل سائل مشكوك وقال : « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام » وان كانت الثانية هي الاهم شرّع الاحتياط. اذن الاباحة والاحتياط حكمان ظاهريان ناشئان من الملاك الاهم.

وبعد معرفة حقيقة الحكم الظاهري لا بد من معرفة الفارق بين الامارة والاصل. ان الامارة والاصل يشتركان في كونهما حكمين ظاهريين ناشئين من الملاك الاهم بيد ان اهمية الملاك في الامارة ناشئة من قوة الكشف وفي الاصل ناشئة من قوة المحتمل في نفسه.

مثال الامارة : خبر الثقة فان المولى اعتبره حجّة بما انه يكشف عن

١٥٩

المضمون بدرجة ٧٠% (١) بقطع النظر عن نوعية المنكشف.

ومثال الاصل : الحكم بالاباحة عند الشك في حرمة شيء فانه لم ينشأ من قوة في الكشف لعدم وجود كاشف عن الاباحة بل حتى لو فرضنا ان احتمال الاباحة كان ضعيفا بدرجة ٣٠% مثلا فمع ذلك يلزم الحكم بالاباحة ، وما ذلك الا لأن الاباحة في نفسها اقوى من الحرمة عند احتمالهما معا.

وبعد ان كانت حجّية الامارة ناشئة من قوة الكشف فمن المناسب حجّيتها في لوازمها غير الشرعية ، فان الثقة اذا اخبر عن حياة الولد فكاشفيّته عن الحياة لو كانت بدرجة ٧٠% فلا بد ان يكون كاشفا عن اكله ونومه وبقية اللوازم بنفس الدرجة فان كاشفية الخبر عن المدلول الالتزامي تتساوى وجدانا مع كاشفيته عن مدلوله المطابقي ، واذا كانت الكاشفية بدرجة ٧٠% موجبة لحجّية الخبر في مدلوله المطابقي فمن المناسب ان تكون موجبة لحجّيته في مدلوله الالتزامي ايضا.

قوله ص ٧١ س ١٢ مثبتاته :

مصطلح المثبتات يراد به خصوص اللوازم غير الشرعيّة.

__________________

(١) من الواضح ان هذه الكاشفية كاشفية تكوينيّة حقيقية وليست اعتبارية ناشئة من جعل المولى اياها.

١٦٠