السّجود

الشيخ داود سلمان الربيعي

السّجود

المؤلف:

الشيخ داود سلمان الربيعي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-80-3
الصفحات: ١١٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: F:Book-LibraryENDQUEUESojoudimagesimage001.gif

١

٢

Description: F:Book-LibraryENDQUEUESojoudimagesimage002.gif

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدِّمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف مبعوث للعالمين، نبيّنا محمد المصطفى وآله الطيّبين الطاهرين ، ومن أخلص من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد :

إنّ أساليب علاقة الإنسان بخالقه تعالى تتّسع باتّساع الحياة وطرق التعامل معها في شؤونها المختلفة ، وليست هي موقوفة على أسلوب واحد أو نمط واحد ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) ، فللإنسان في مسيرة حياته بطولها خطوط وصل بينه وبين الله تعالى لا يحول دونها شيء إلاّ إرادة الإنسان نفسه في تقطيعها أو تهميشها ، ذلك الذي سيجر إلى نفسه الشقاء بمحض إرادته. فما زال الإنسان يشقّ طريق حياته من خلال معرفته بالله تعالى وتحري سبل رضاه متمثلاً قوله تعالى : ( وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ ) فهو على سبيل النجاة. إذ هو ماضٍ مع كلمة الله تعالى في خلقه : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ). وتلك هي العبادة في مفهومها الواسع الذي لا تخرج عن إطاره صغيرة أو كبيرة في طريق الكدح الإنساني الطويل. وهكذا تكون حياة الإنسان عامرة بالعبادة ، فهو على صلة بالله تعالى لا تنقطع.

غير أنّ الإنسان أحوج ما يكون إلىٰ انماط من الصلة بالله تعالى تكون فيها الروح هي الحاضرة بالدرجة الأولى ، بعيداً عن معترك الحياة وشؤونها. فالروح تسمو في أجوائها الخاصة بها ، وتتألّق حيث تتراجع مصالح الجسد العاجلة ومشتهياته.

من هنا كانت العبادات الخاصة التي أوجبتها الشريعة السمحة بمثابة الفرص النموذجية لتألق الروح وتساميها وتكاملها ، لاستجماع البصيرة وشحذها بمزيد من الطاقة اللازمة لدفعات الحياة اللاحقة.. ناهيك عما تتفرد به

٥

هذه العبادات الخاصة من أسباب القرب إلى الله تعالى ونيل رضاه ، فالحجّ والصيام هجرتان إلى الله تعالى في لونين مختلفين ، تعيش الروح مع كلِّ منهما نمطا من أنماط التكامل والسمو ، وفي الزكاة والصدقات حركة جهادية تنفلت فيها الروح من أسر ( الأنا ) ومن أسر المادة لتذوق حلاوة الإحساس بالمسؤولية إزاء عباد الله الذين كرّمهم الله تعالى وعظّم حرماتهم. وفي الصلاة انقطاعة لا نظير لها إلى الله تعالى. وقوف وامتثال وخضوع في أشكال شتى وأذكار متعدّدة تنتقل خلالها الروح من روض إلى روض ، ومن فناء إلى فناء ، ومن موعظة إلى أخرى. تستقبل في ذلك كلّه أجمل التعاليم في سياق منتظم ، إنّها مدرسة الروح ومنتجع القيم.

وفي أثناء هذه الرياضة الروحية المثلى يستشعر الإنسان قربه الحقيقي من باريه حين يضع جبهته على التراب ، ساجداً خاضعاً مسبّحاً بحمد ربّه الأعلى الذي سبّح له كلّ شيء.

إنّ المتمثل لحالات السجود يدرك جيّداً أنَّ السجود وحده مدرسة. ولا شكّ فإنّ لكلّ مدرسة نظامها وحدودها وآدابها. ومن ناحية أخرى فلقد ارتبطت بمدرسة السجود معالم أخرى واقترنت بها لأسباب جديرة بتحقّق ذلك الاقتران ، فدخلت في موسوعة السجود مفردات مثل ( التربة الحسينية ) فما هو موقع هذه المفردة من هذه الموسوعة ، وكيف نفهم مفردات أخرى تعترضنا هنا من قبيل ( سجود الملائكة لآدم ) ، و ( سجود يعقوب وبنيه ليوسف ) ونحو هذا ؟

في مدرسة السجود هذه وبين صفحات موسوعتها سينتقل بنا هذا الكتاب مجيباً عن شتى الأسئلة ممّا له بالبحث صلة.

والله من وراء القصد ، وهو الهادي إلى سواء السبيل

مركز الرسالة

٦



المقدِّمة

لقد كرم الله تعالى الإنسان وفضّله على كثير ممّن خلق بما أعطاه من العقل ليميّز به الأشياء ، ويختار ما يراه مناسباً ومتوافقاً مع ما أراده الله تعالى له من الوصول إلى الكمال من خلال العبودية لله وحده ، قال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ).

لقد شرّف الله تعالى هذا الإنسان على بقية مخلوقاته بالعبادة ، وجعل الصلاة من أفضل العبادات ، فهي صلة العبد بربّه ، ومعراج المؤمن ، وقربان كلّ تقي ، والحدّ الفاصل بين المسلم والكافر ، والميزان في قبول الأعمال ، وفي الأثر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « إنّ أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة ، فإذا قبلت قبل سائر عمله ، وإذا ردّت عليه ، ردّ عليه سائر عمله ».

والصلاة هي العبادة التي يمتثل بها العبد أمام خالقه واهب الحياة ، وهي التي تطهّر روحه ، وتصدّه عن الفحشاء والمنكر ، وتهديه إلى سواء السبيل ، قال تعالى : ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ).

وأفضل أجزاء الصلاة وأهمها هو السجود لله سبحانه وتعالى ؛ لأنّه يمثّل منتهى مظاهر العبودية والتذلّل والتعظيم لله جلَّ وعلا ، وهو أعظم العبادات ، وما عُبد الله بمثله ، وما من عمل أشقّ على إبليس من أن يرى ابن آدم ساجداً لله تعالى ؛ لأنّه قد أُمر به فعصى وغوى فهلك ، وابن آدم قد أُمر به فأطاع وسجد فنجا.

والسجود ـ في نظر الإسلام ـ هو غاية الخضوع والتواضع البشري أمام الله

٧

عزَّ وجل ـ خالق الكون وربّ العالمين ـ وذروة التحليق والسموّ الإنساني في مسيرة العبودية لله وحده ، لذا يحرم السجود لغير الله سبحانه وتعالىٰ بأيّ شكلٍ كان ، وليس السجود مقتصراُ على الإنسان وحده ، قال تعالى : ( وَللهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ).

إنَّ المسلمين متّفقون بأجمعهم على ضرورة السجود لله سبحانه وتعالى ، ومتّفقون على وجوب سجدتين في كلِّ ركعة من كلِّ صلاة ، ويعتبرون ذلك من ضروريّات الإسلام ؛ لأنَّ السجود من الواجبات الركنية في الصلاة التي لا يجوز تركها بأيّ حالٍ من الأحوال ، وإنّما يختلفون فيما يصح السجود عليه ، ولهم في هذه المسألة آراء متعددة.

ونحن سنتناول هذه الآراء وغيرها ممّا يتعلق بمفهوم السجود ، ونحاول دراستها تفصيلاً ، وفقاً لمنهج البحث العلمي الموضوعي ، مستهدين بآيات القرآن الكريم وبما ثبت من السنّة النبوية الشريفة وسيرة أهل البيت عليهم‌السلام ، وذلك ضمن أربعة فصول :

الأول : في بيان مفهوم السجود وآثاره العبادية.

والثاني: في أنواع السجود.

والثالث : في بيان حرمة السجود لغير الله.

والرابع : في بيان ما يصح السجود عليه وما لا يصحّ ، وتوضيح الأسباب الموجبة للسجود على التربة الحسينية.

آملين منه تعالى التوفيق في الوصول إلى كلمة الفصل ، وبه نستعين.

٨



الفصل الأول

مفهوم السجود وآثاره العبادية

المبحث الأول

معنىٰ السجود وموقعه العبادي

أولاً : تعريف السجود :

١ ـ السجود في اللغة :

الطاعة والخضوع ، يقال : سَجَدَ ، سُجُوداً ، أي : خضع وتطامن (١) ، ومنه قوله تعالىٰ : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ... ) (٢) فهذا لسان حال تلك المخلوقات في الطاعة والخضوع ، وكل شيء ذلّ

__________________

(١) المعجم الوسيط ١ : ٤١٦ ( سجد ) ، مكتب نشر الثقافة الإسلامية ١٤١٢ ه‍ ط ٤. والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير / الفيومي ١ : ٢٦٦ ( سجد ) ، منشورات دار الهجرة ـ قم ١٤١٤ ه‍ ط ٢.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ١٨.

٩

فقد سجد (١) ، وهو ساجد. والجمع : سُجّد ، وسُجودٌ (٢).

والسَجّادُ : الكثير السجود (٣) ، ورجل سجّاد : علىٰ وجهه سَجّادة ، أي : ثفنة من أثر السجود (٤).

وقد اشتهر به الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام لكثرة سجوده لله تعالىٰ ولهذا لُقب عليه‌السلام بالسجاد ، وذي الثفنات.

والمسجَدُ : جبهة الرجل حيث يصيبه أثر السجود (٥) ، والجمع مَسَاجِدُ ، والمساجِدُ من بدن الانسان : الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ، وهي : الجبهة واليدان والركبتان والقدمان (٦).

والمَسجِدُ : بيت الصلاة (٧) ، ومكانها المخصص.

والمَسجِدُ الحرام : الكعبة ، والمسجِدُ الأقصىٰ : مسجد بيت المقدس ، قال تعالىٰ : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلىٰ الْمَسْجِدِ

__________________

(١) المصباح المنير ١ : ٢٦٦ ( سجد ).

(٢) المعجم الوسيط ١ : ٤١٦ ( سجد ).

(٣) المعجم الوسيط ١ : ٤١٦ ( سجد ).

(٤) أساس البلاغة / الزمخشري : ٢٨٥ ( سجد ) ، دار الفكر ـ بيروت ١٤٠٩ ه‍ ـ ١٩٨٩ م.

(٥) المختار من صحاح اللغة : ٢٢٩ ( سجد ) ، انتشارات ناصر خسرو ـ طهران ١٣٦٣ ه‍ ش. وأساس البلاغة : ٢٨٥ ( سجد ).

(٦) المعجم الوسيط ١ : ٤١٦ ( سجد ).

(٧) المصباح المنير / الفيومي ١ : ٢٦٦ ( سجد ).

١٠

الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) (١). والجمع : مساجِد.

٢ ـ السجود في الاصطلاح :

هو الانحناء ووضع أعضاء السجود (٢) علىٰ الأرض ، بحيث يساوي موضع جبهته موقفه ، أو يزيد بقدر لبنة لا غير (٣).

وحقيقته : وضع الجبهة وباطن الكفين والركبتين وطرفي الابهامين من القدمين علىٰ الأرض (٤) ، بقصد التعظيم (٥).

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام تسمية مثل هذا السجود بالسجود الجسماني ، وهو أقلّ رتبةً من السجود الآخر المسمىٰ بالنفساني ، قال عليه‌السلام : « السجود الجسماني : هو وضع عتائق الوجوه علىٰ التراب ، واستقبال الأرض بالراحتين والركبتين وأطراف القدمين مع خشوع القلب وإخلاص النية.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ١.

(٢) أعضاء السجود سبعة ، وهي : الجبهة ، والكفان ، والركبتان ، وابهاما الرجلين. تذكرة الفقهاء / العلاّمة الحلي ٣ : ١٨٥ ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ـ قم ١٤١٤ ه‍ ط ١ ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل واختاره الشافعي في أحد قوليه ، كما في المغني لابن قدامة الحنبلي ١ : ٥٩١. والاُم للشافعي ١ : ١١٤.

(٣) جامع المقاصد في شرح القواعد / المحقق الكركي ٢ : ٢٩٨ ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ـ قم ١٤١٤ ه‍ ط ٢.

(٤) المقنعة / الشيخ المفيد : ١٠٥.

(٥) مهذب الاحكام في بيان الحلال والحرام / السيد السبزواري ٦ : ٤١٦ ، مؤسسة المنار ـ ١٤١٢ ه‍ ط ٤.

١١

والسجود النفساني : فراغ القلب من الفانيات ، والاقبال بكنه الهمّة علىٰ الباقيات ، وخلع الكبر والحمية ، وقطع العلائق الدنيوية ، والتحلّي بالاخلاق النبوية » (١).

٣ ـ السجود في القرآن الكريم :

هذا وقد ورد في القرآن الكريم ما يشير إلىٰ ضربين من السجود وهما :

١ ـ سجود اختيار : وهو خاص بالانسان وبه يستحق الثواب نحو قوله تعالى : ( فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا ) (٢) أي تذللوا له ، وهو المراد بالتعريف الاصطلاحي المتقدم (٣).

٢ ـ سجود تسخير : وهو للإنسان والحيوان والنبات والجماد وعلىٰ ذلك قوله تعالىٰ : ( وَللهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) (٤) وقوله تعالىٰ : ( وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) (٥).

ولم يُرد الباري عزَّ وجل أنّ المذكور في هذه الآية الشريفة يسجد سجود البشر في صلاته ، وإنّما أراد تعالىٰ أنّ تلك الأشياء غير ممتنعة من

__________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم / عبدالواحد الآمدي ١ : ١٢٢ / ٢٢٣٤ و ٢٢٣٥ ، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ١٤٠٧ ه‍ ، ١٩٨٧م ط ١. ومستدرك وسائل الشيعة / الميرزا حسين النوري ٤ : ٤٨٦ / ٥٢٣٢ باب ٢٣ من أبواب السجود ، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث ـ ١٤٠٧ ه‍ ط ١.

(٢) سورة النجم : ٥٣ / ٦٢.

(٣) معجم مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الاصفهاني : ٢٢٩ مادة ( سجد ).

(٤) سورة الرعد : ١٣ / ١٥.

(٥) سورة الرحمن : ٥٥ / ٦.

١٢

فعله تعالىٰ فهي كالمطيع له سبحانه ، وهذا ما عبّر عنه بالساجد (١).

وقد ورد في القرآن الكريم ما يؤيد كلا النوعين بآيات كثيرة ، ومن الآيات ما اشتمل علىٰ كلا النوعين من السجود ( التسخير والاختيار ) ، كقوله تعالىٰ : ( وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) (٢).

ثانيا : العبادة في السجود :

لا شكّ أنّ السجود في ذاته عبادة إذ إنّه يمثل غاية الخضوع ، بل هو أبلغ صور التذلل لله سبحانه وتعالىٰ ؛ لأنّه يربط بين الصورة الحسية والدلالة المعنوية للعبادة في ذلة العبد ، وعظمة الرب ، وافتقار العبد لخالقه. ولا يكون الانسان عبداً لله تعالىٰ إلاّ بهذا التذلل وبهذه العبودية. ومن هنا يظهر سرّ اختصاص السجود بالقرب من الله تعالىٰ (٣) ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أقرب ما يكون العبد إلىٰ الله وهو ساجد » (٤).

__________________

(١) المسائل السروية / الشيخ المفيد : ٤٩ ، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد رقم ٤٦ ـ ١٤١٣ ه‍ ط ١.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٤٩.

(٣) فقه السجود / علي بن عمر بادحدح : ٢٠ ـ ٢١ بتصرف ، دار الاندلس ـ جدة ١٤١٥ ه‍.

(٤) جامع أحاديث الشيعة ٥ : ٤٦٣ / ٨٠٣٩ ـ ٨٣١١. وصحيح مسلم بشرح النووي / ٤ : ٢٦٧ / ٤٨٢ باب ٤٢ ما يقال في الركوع والسجود ، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي ، دار الكتب العلمية ـ بيروت ١٤١٥ ه‍ ط ١. وسنن أبي داود ١ : ٢٣١ / ٨٧٥ باب الدعاء في الركوع والسجود ، دار الفكر ـ بيروت. وفيض

١٣

ثالثا : موقع وأهمية السجود بين أجزاء الصلاة :

إنّ من المناسب أن نقف قليلاً موقف المقارنة بين أجزاء الصلاة ، لنرىٰ موقع السجود بينها وما يمتاز به من خصائص ، وذلك علىٰ النحو الآتي :

١ ـ القيام في الصلاة :

ويراد به المثول بين يدي مالك الملك ، إعلاناً للطاعة والولاء وامتثال الأمر ، ولا يخفىٰ أنّ الاستعداد والمثول قياماً بين يدي الملك هو من دلائل الطاعة وعلاماتها. ومن هنا يقتضي أن تكون هيئة المثول وحقيقته متناسبة مع عظمة الملك الذي نقف بين يديه.

فكمال القيام بين يدي الله تعالىٰ أن يكون علىٰ طمأنينة وسكون وهيبة وحياء ، فلا يجعل رأسه مرفوعاً وكأنه يقف أمام ضده ونظيره ، ولا يبالغ في طأطأته فيخرج بالحياء عن صورته ، بل يجعل نظره إلىٰ محلّ سجوده ، مقيماً صلبه ونحره ، مرسلاً يديه علىٰ فخذيه بوقار ، فلا يعبث بهما ، ولو استحضر العبد أثناء قيامه قول الله تعالىٰ : ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (١) لما فارق هذه الهيئة.

ويزيد في جلال القيام وهيبته ما وجب فيه من تلاوة بعض سور القرآن الكريم ، وبهذا يكون القيام مشهداً من مشاهد الطاعة والولاء والاجلال والتعظيم.

__________________

القدير شرح الجامع الصغير / المناوي ٢ : ٨٧ / ١٣٤٨ ، دار الكتب العلمية ـ بيروت ١٤١٥ ه‍ ، ١٩٩٤ ، ط ١.

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٨ ـ ٢١٩.

١٤

فهذا الإمام السجاد عليه‌السلام وهو يستحضر هذا المشهد فيلفت انتباه الناس من حوله تغيّر لونه حال وضوئه وكان إذا قام إلىٰ الصلاة اخذته رعدة فقيل له : مالك ؟ فقال عليه‌السلام : « أتدرون بين يدي من أقوم ومن أُناجي ؟ » (١) إنّه الحضور بين يدي مالك الملك.

٢ ـ الركوع في الصلاة :

وهو صورة أُخرىٰ من صور الامتثال والخضوع ، ولا شك أنه يحمل من معاني الخضوع فوق ما يحمله القيام ، ولكلٍّ معناه وأبعاده ومغزاه.

ومع صورة التعظيم الظاهرة في انحناءة الركوع ، يأتي الذكر الذي يصحبها متوّجاً معنىٰ التعظيم ومركّزاً مغزاه في قلب الراكع : « سبحان ربي العظيم وبحمده ».

هذه المرتبة من التعظيم أفردها الإسلام لله تعالىٰ وحده ، فنهىٰ أن ينحني أحد أمام أحد احتراماً وتعظيماً ، ولذلك تميّز الركوع بمرتبة أخص من الامتثال قياماً في الولاء والخضوع والتعظيم ، فالقيام يقع كثيراً في يوميات الانسان ، كالامتثال قياماً بين يدي الوالدين ، أو بين يدي المعلم ، أو الرئيس أو الملك ، ولكن يحرّم الركوع لهؤلاء ولغيرهم ؛ لأنّه من

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق / ابن منظور ١٧ : ٢٣٦ / ١٣٤ ترجمة علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، دار الفكر ـ دمشق ١٤٠٩ ه‍ ط ١. وسير أعلام النبلاء / الذهبي ٤ : ٣٩٢ / ١٥٧ ترجمة علي بن الحسين عليهم‌السلام ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت ١٤١٢ ه‍ ط ٨.

١٥

خصائص الخضوع لله تعالىٰ.

ولهذا فقد اختصّ الله تعالىٰ هذه الاُمّة بالسلام ، وهي تحية أهل الجنّة ، وحرّم عليهم ما كان شائعاً من مظاهر التحية كالسجود والانحناء والتكفير وغيرها من المظاهر التي لا تجوز إلاّ لله تعالىٰ (١).

ولقد ورد في سرِّ مد العنق في الركوع عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « تأويله آمنتُ بالله ولو ضُرِبَت عنقي » (٢).

وجاء عن الإمام الباقر عليه‌السلام في الركوع من الذكر ما يستشعر به المرء حقيقة ما يؤديه من امتثال وطاعة وخشوع ، يقول فيه : « إذا أردت أن تركع فقل وأنت منتصب : الله أكبر ، ثم اركع وقل : اللهمّ لك ركعت ، ولك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكّلت ، وأنت ربّي ، خشع لك قلبي وسمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعصبي وعظامي وما أقلّته قدماي ، غير مستنكفٍ ولا مستكبرٍ ولا مستحسرٍ ، سبحان ربي العظيم وبحمده » (٣).

وكما أنّ الركوع تخشّع لله تعالىٰ ، كذلك رفع الرأس منه تواضع له تعالىٰ ، وانتصاب للامتثال بين يديه.

__________________

(١) راجع مجمع البيان / الطبرسي ٥ : ٤٠٥ ، دار المعرفة ـ بيروت ١٤٠٦ ه‍.

(٢) من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق ١ : ٢٠٤ / ٩٢٨ باب ٤٥ ، دار الاضواء ـ بيروت ١٤٠٥ ه‍ ط ٦. وجامع أحاديث الشيعة / تحت اشراف آية الله السيد البروجردي ٥ : ٤٣٠ / ٨٢١٣ باب ٢ كيفية الركوع ـ قم ١٤١٦ ه‍.

(٣) جامع أحاديث الشيعة ٥ : ٤٣٣ / ٨٢٢٩ باب ٢ كيفية الركوع.

١٦

ومن حيث الحكم : فالركوع : موضع تعظيم الله تعالىٰ ، وتبطل الصلاة بعدم إتيانه أو بتكراره ، ولو سهواً.

٣ ـ السجود في الصلاة :

وهو موضع الدعاء وطلب الحاجات ، ويعدّ غاية في الخضوع والتذلل والاستكانة.

إنّ العبد في حالة السجود يكون في تمام الذلة والخضوع لله سبحانه وتعالىٰ ، وإذا عرف العبد نفسه بالذلة والافتقار عرف ربه هو العلي الكبير المتكبر الجبار (١).

روي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « السجود منتهىٰ العبادة من بني آدم » (٢).

وعنه عليه‌السلام : « ما خسر والله قطُّ من أتىٰ بحقيقة السجود ولو كان في عمره مرة واحدة ، وما أفلح من خلا بربه في مثل ذلك الحال تشبيهاً بمخادع نفسه ، غافلاً لاهياً عما أعدّ الله تعالىٰ للساجدين من البشر العاجل ، وراحة الآجل ، ولا بَعُدَ عن الله أبدا من أحسن تقرّبه في السجود ، ولا قَرُبَ إليه أبداً من أساء أدبه وضيّع حرمته بتعليق قلبه بسواه في حال السجود.. (٣) ».

__________________

(١) فيض القدير للمناوي ٢ : ٦٨ / ١٣٤٨.

(٢) الدعوات / قطب الدين الراوندي : ٧. ومستدرك الوسائل ٤ : ٤٧٢ / ٥١٩٣ باب ١٨. وجامع أحاديث الشيعة ٥ : ٤٦٦ / ٨٣٢١.

(٣) مصباح الشريعة : ٩١ باب ٤١ في السجود ، منشورات مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ١٤٠٣ ه‍ ط ٢.

١٧

والمراد في هذه الصورة المتحركة التي يرسمها هذا الحديث الشريف هو ضرورة حضور القلب في جميع أحوال الصلاة من أفعالها وأقوالها ، وجدير بالتأمل أن ذلك يقتضي أن يكون الحضور حال السجود آكد ؛ لأنّ حضور القلب في القيام ـ مثلاً ـ يقتضي الالتفات إلىٰ مقام العبودية والربوبية ، وفي الركوع يقتضي الالتفات إلىٰ عظمة الرب وذلة العبد ، وإلىٰ أنّ الحول والقوة منفيّة عنه.

والحضور المناسب للسجود هو بالفناء عن الكلِّ والحضور عند الرب تعالىٰ (١).

ولأهمية السجود جعله الله تعالىٰ واحداً من العلامات التي تميز عباده المخلصين ، قال تعالىٰ : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) (٢).

تسمية المصلّىٰ مسجداً :

ومما يؤكد اهتمام الإسلام المتزايد بالسجود هو تسمية المصلىٰ ـ وهو موضع اقامة الصلاة ـ مسجداً ، إذ أصبح له عنواناً خاصاً متميزاً ، عناية بأهم أجزاء الصلاة ، باعتبار أن السجود هو موضع القرب كما تبين وبه يتجلى التواضع والخضوع والتذلل لله جلَّ وعلا ، لذا فقد أولىٰ الباري تعالىٰ عناية خاصة بالمساجد فنسبها له سبحانه وحده كما قال : ( أَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا ) (٣).

__________________

(١) أسرار الصلاة / الميرزا جواد الملكي التبريزي : ٢٦٨ ، دار الكتاب الإسلامي ـ قم.

(٢) سورة الفتح : ٤٨ / ٢٩.

(٣) سورة الجن : ٧٢ / ١٨.

١٨

ولقد شاءت ارادته تعالىٰ أن يجعل المسجد مبدأ إسراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعراجه إلىٰ السماء ليريه من آياته العظمىٰ ويثبت له معجزة في ذلك قال تعالىٰ : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا.. ) (١).

٤ ـ هيئة السجود وحالته وذكره :

إنّ للسجود هيئةً وحالةً وذكراً ، تنطوي علىٰ جملة أسرارٍ تتجلىٰ للإنسان المؤمن من خلال صلاته بمقدار درجة الاقبال وحضور القلب ووعي تامّ لما يقوم به من حركات وما يتلفّظه من كلمات.

أ ـ فهيئته : إراءة حالة التواضع وترك الاستكبار والعجب من خلال وضع الجبهة علىٰ الأرض وإرغام الأنف ـ وهو من المستحبات الأكيدة ـ إظهارا لكمال التخضّع والتذكّر والتواضع.

ب ـ وأما الحالة : فهي وضع أعضاء السجود السبعة علىٰ الأرض ، وبما أنّ تلك الأعضاء تعدّ مظهراً لعقل الإنسان وقدرته وحركته ، فيكون إرغامها علىٰ التذلل والخضوع والمسكنة عبر السجود لله عزَّ وجلّ مظهراً من مظاهر التسليم التام له سبحانه ، وهذا يعني شعور العبد بالندم والتوبة وطلب المغفرة والابتعاد عن الخطيئة بشتىٰ أشكالها ، ومع حصول تلك المعاني في نفس الساجد ، فلاشكّ أنه سيشعر بحالة من الاُنس ورهبة حقيقية تمنعه من العدول إلىٰ ارتكاب المعصية من جديد.

ج‍ ـ وأما الذكر : وهو ( سبحان ربي الأعلىٰ وبحمده ) فإنّه متقوّم بالتسبيح

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ١.

١٩

ـ وهو التنزيه عن التوصيف ـ والتحميد ، وذكره تعالىٰ بأنّه العلي الأعلىٰ ، والعلي من الأسماء الذاتية لله تعالىٰ (١).

وفي الحديث الشريف عن الإمام الرضا عليه‌السلام : « .. فأول ما اختار لنفسه : العلي العظيم ؛ لأنّه أعلى الأشياء كلّها ، فمعناه : الله واسمه العلي العظيم ، هو أول أسمائه ، علا علىٰ كلِّ شيء » (٢).

د ـ ومن أسرار حركات السجود : ـ من الهوي إلىٰ الأرض ، ثم استقرار الجبهة عليها ، ثم رفع الرأس ، ثم العودة إليها ، ثم الرفع منها ثانية ـ استحضار دورة حياة الانسان كلّها منذ نشأته الاُولىٰ من مادة الأرض ، وتكونه إنساناً يدبّ عليها ، ثمّ عودته فيها بعد موته ، ثم خروجه منها يوم البعث والنشور.

وقد جمع أمير المؤمنين عليه‌السلام أطراف هذا المشهد في جوابه العجيب عن سؤال سائل سأله ، قائلاً : يا بن عم خير خلق الله ، ما معنىٰ السجدة الاُولىٰ ؟ فقال عليه‌السلام : « تأويله اللهم إنّك منها خلقتنا ـ يعني من الأرض ـ ورفع رأسك : ومنها أخرجتنا ، والسجدة الثانية : وإليها تُعيدنا ، ورفع رأسك من الثانية : ومنها تخرجنا تارة اُخرىٰ.. » (٣).

__________________

(١) الآداب المعنوية للصلاة / الإمام الخميني : ٥٣٦ ـ ٥٣٧ ، نشر طلاس ـ دمشق ١٩٨٤ م ط ١.

(٢) اُصول الكافي / الكليني ١ : ١١٣ / ٢ باب حدوث الاسماء ، كتاب التوحيد ، دار الأضواء ـ بيروت ١٤٠٥ ه‍.

(٣) علل الشرائع / الشيخ الصدوق ٢ : ٣٣٦ / ٤ باب ٣٢ ، منشورات مكتبة

٢٠