سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

التقوى وخير الملل ملة إبراهيم عليه‌السلام وخير السنن سنن محمّد وأشرف الحديث ذكر الله وأحسن القصص هذا القرآن وخير الامور عواقبها وشرّ الامور محدثاتها وأحسن الهدى هدي الأنبياء وأشرف القتل قتل الشهداء ».

إلى آخر الخطبة التي وردت بكاملها في المصادر التاريخية والتي ادرج فيها مجموعة كبرى وهامّة من التعاليم الاسلامية الهامة فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ثم أصدر رسول الله أوامره للجنود بالتوجه الى ثغور الشام من الطريق الذي عيّنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قصة مالك بن قيس :

رجع مالك بن قيس « ابو خيثمة » بعد أن سار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أياما إلى أهله في يوم حار ، فوجد المدينة فارغة ، وعرف بمسير جنود الإسلام ثم دخل في عريش له ، فوجد امرأتين له قد رشّتا الماء في العريش ، وبردّتا له ماء ، وهيأتا له طعاما ، فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه ، وما صنعتا له ، وفكّر في ما فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه من الحال ، وقد انطلقوا إلى جهاد العدوّ في شدّة الحرّ فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشمس والريح والحرّ ، وأبو خيثمة في ظل بارد ، وطعام مهيّأ ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟

ما هذا بالنصف.

ثم قال : لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه المجاهدين فهيئا لي زادا ، ففعلتا ثم قدّم بعيره فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أدركه حين نزل تبوك ، وقد لقي في أثناء الطريق أبا خيثمة « عمير بن وهيب الجمحى » وهو يطلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ١٠١٦ بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢١٠ ـ ٢١٢.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٢٠ وقد ذكر الواقدي هذه القصة باختلاف يسير ونسبها الى عبد الله بن خيثمة.

٥٦١

لقد كان هذا الرجل ممّن لم يوفّق ـ في بداية الامر ـ لمرافقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أنه التحق بركبه المقدس ونال السعادة العظمى بحسن اختياره الذي يستحق الاكبار والتقدير ، ولم يكن مثل اولئك الذين طلبتهم السعادة ولكنهم رفضوها ، وابتعدوا عنها ، وآثروا البقاء في ضلالهم وشقائهم.

فهذا « عبد الله بن ابي » رئيس المنافقين وكبيرهم الذي عزم على أن يشارك مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الغزوة أقام خيمته في معسكر المسلمين ، ولكنه لخبث سريرته ، وعدائه الشديد للاسلام ونبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بدّل رأيه ساعة رحيل الجيش الاسلامي ، وعاد الى المدينة مع أصحابه ليقوم بالشغب ، وحيث إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان على علم بنفاقه ، وخبث سريرته وكان يدرك جيدا أن مشاركة هذا العنصر المنافق وجماعته في ذلك الجهاد لن تعود على المسلمين بفائدة ، لذلك لم يهتم صلى‌الله‌عليه‌وآله بانفصاله عن الجيش الاسلامي ورجوعه الى المدينة.

مصاعب الطريق :

لقد واجه جيش الاسلام في أثناء الطريق متاعب ومشاق كثيرة ، ولهذا سمّي هذا الجيش بجيش « العسرة » ولكن ايمانهم العميق بالله ، وحبّهم الشديد للهدف المقدس سهّل لهم تلك المصاعب ، وهوّن عليهم تلك المشاق ، التي استقبلوها بصدور رحبة.

وعند ما وصل جيش الاسلام إلى أرض ثمود غطّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجهه بثوبه ، واستحثّ راحلته ومرّ على بيوتهم ، وأطلالهم بسرعة وقال لأصحابه :

« لا تدخلوا بيوت الّذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ».

وهو بذلك يحث أصحابه على التدبر في أحوال من مضى من الاقوام

٥٦٢

والشعوب ، والتفكّر في مصائرهم وما آلوا عليه بسبب عتوّهم وعنادهم ، وتمرّدهم على الحق ، فان ضلال الموت التي كانت تخيّم على تلك الربوع ، والأطلال الصامتة خير عبرة للاجيال والاقوام الاخرى.

ثم نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس عن أن يشربوا من مائها شيئا ، وأن لا يتوضئوا به للصلاة ، وأن لا يحاس به حيس ، ولا يطبخ به طعام ، وأن العجين الذي عجن به ، أو الحيس الذي فعل به يعلف الإبل ، وأن الطبيخ الذي طبخ به يلقى ، ولا يأكلوا منه شيئا (١).

ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم ان الناس ارتحلوا من تلك المنطقة حتى إذا مضى من الليل بعضه وصلوا إلى البئر التي كان يشرب منها ناقة صالح النبي عليه‌السلام ، فنزلوا عليها بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

تعليمات احتياطيّة :

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرف بالرياح الشديدة والسامّة والعواصف القوية التي كانت تهبّ في تلك الأرض بين الحين والآخر ، وتبلغ من الشدة والقوة بحيث ربما تحتمل البعير بصاحبه ، وتلقيه في واد آخر.

ولهذا أصدر صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أصحابه تعليمات احتياطية مشدّدة فأمرهم بأن يعقلوا آبالهم ولا يخرج أحد منهم في تلك الليلة وحده ، بل يخرج من خبائه مع صاحبه.

وقد اثبتت التجارب والاحداث فيما بعد أن التعليمات الاحتياطية النبوية المذكورة كانت مفيدة جدا ، لأن شخصين من بني ساعدة من الّذين كانوا في ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تجاهلا هذه التعليمات فخرجا منفردين من

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢١ و ٥٢٢ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٣٤ و ١٣٥.

٥٦٣

خبائهما ليلا ، فاختنق أحدهما لشدة الرياح ، بينما احتملت الريح الرجل الآخر ، وضربت به الجبل ، ولما علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك انزعج بشدّة وقال :

« ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلاّ ومعه صاحبه » (١).

هذا وقد استعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على حرس العسكر « عباد بن بشر » فكان يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم اصبح الناس ولا ماء معهم ، وحصل لهم بسبب العطش ما كاد يقطع رقابهم ، حتى حمل ذلك بعضهم على نحر إبلهم ليشقوا اكراشها ، ويشربوا ماءها ، بينما صبر آخرون ، وانتظروا حصول الماء على ظمأ شديد ، وقلوب ملتهبة عطشا.

ولقد أعان الله تعالى الذي كان قد وعد نبيّه الكريم بالنصر أصحابه المسلمين الأوفياء ، مرة اخرى إذ أرسل سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا ما يحتاجون إليه.

علم رسول الله بالمغيّبات :

لا شك في أن في مقدور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يطلع على الغيب ممّا يخفى على الناس ، ويخبر به كما يصرح القرآن الكريم بذلك ، إلاّ أنّ هذا العلم لا ريب محدود ، ويحتاج إلى تعليم الله سبحانه. يقول تعالى :

« عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » (٢).

من هنا يمكن أن تخفى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض الاحايين ، أبسط الامور ، كأن يفقد مفتاحا ، أو يضيّع مالا ولا يعرف بمكانه ومصيره ، بينما يقدر صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعلم بأخفى الامور الغيبية واشدها غموضا فيثير حيرة

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٣٤ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٢.

(٢) الجن : ٢٦ و ٢٧.

٥٦٤

الناس ودهشتهم وعجبهم.

والسبب في كل ذلك هو ما ذكرناه ، فان مشيئة الله سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشيء من عالم الغيب ويخبر به علم وأخبر ، وإلاّ كان صلى‌الله‌عليه‌وآله كغيره من أفراد البشر العاديين.

وفي ضوء هذا البيان لا بد أن ننظر الى القصة التالية :

لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته ، فخرج أصحابه في طلبها ، فقام أحد المنافقين ، وقال : أليس محمّد يزعم أنه نبي ، ويخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يكشف النقاب ببيانه الرائع :

« إن رجلا قال : هذا محمّد يخبركم أنه نبيّ ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله ما أعلم إلاّ ما علّمني الله ، وقد دلّني الله عليها وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها ».

فذهب بعض الصحابة من فورهم ، وجاءوا بها (١).

إخباره بمغيّب آخر :

لقد تخلّف أبو ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أبطأ به بعيره ، فانتظره المسلمون ريثما يقوم بعيره ، ولكن دون جدوى فترك أبو ذر البعير ، وأخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ماشيا ، ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض منازله ونزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت ، وفجأة لاح من بعيد رجل ، فلما نظر إليه ناظر من المسلمين قال : يا رسول الله هو والله أبو ذر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٥٦.

٥٦٥

« رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده » (١).

وقد كشف المستقبل عن صحة هذه النبوءة ، فقد توفي أبو ذر في صحراء « الربذة » ، وعنده ابنته بعيدا عن الناس في حالة مأساوية (٢).

لقد تحققت نبوءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في معركة تبوك بعد ثلاثة وعشرين عاما ، فقد نفي هذا الصحابي المجاهد الصادق إلى الشام ثم الى الربذة لا لشيء إلاّ لأنّه جهر بالحق ، وطالب بالعدل ، وفقد قواه وطاقاته البدنية شيئا فشيئا حتى غدى طريح الفراش ، في تلك المنطقة الوعرة.

وفيما كان يمضي الدقائق الاخيرة من حياته الحافلة بالاحداث والتطورات ، وامرأته جالسة عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب وقد عرق جبينه ، وهي تمسح بيدها العرق وتبكي قال لها : ما يبكيك؟

فقالت : أبكي أنه لا يد لي بتغييبك ( أي ليس لي من يعيننى على دفنك ، أوليس عندي ثوب يسعك كفنا )!

فارتسمت على شفتي أبي ذر ابتسامة مرّة وقال : لا تبكي عليّ ، فاني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول : ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين ( ثم قال : ) فكلّ من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، فلم يبق منهم غيري ، وقد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق ، فانك سوف ترين ما أقول لك فاني والله ما كذبت ولا كذبت.

قال هذا وفاضت روحه المباركة (٣).

ولقد صدق أبو ذر ، فقد كانت ثمة قافلة من المسلمين تضم شخصيات

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٥.

(٢) المغازي : ج ٣ ص ١٠٠٠ و ١٠٠١.

(٣) اسد الغابة : ج ١ ص ٣٠٢ ، الطبقات الكبرى : ج ٤ ص ٢٢٣ ، حلية الاولياء : ج ١ ص ٣٠٢.

٥٦٦

كبرى مثل « عبد الله بن مسعود » و « حجر بن عدي » و « مالك الاشتر » تتقدم نحو تلك المنطقة.

رأى « عبد الله » من بعيد مشهدا عجيبا ... مشهد جسد بلا روح على قارعة الطريق ، وعند ذلك الجسد امرأة وصبيّ وهما يبكيان.

فعطف « عبد الله » زمام راحلته نحو ذينك الشخصين وتبعه من معه في القافلة أيضا ، وما أن وقعت عينا عبد الله على ذلك الجسد حتى عرف صاحبه ، فهذا هو رفيقه وأخوه في الاسلام أبو ذر!!

فاغرورقت عيناه بالدموع ، ووقف عند جثمان أبي ذر ، وتذكّر نبوءة رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك وقال : رحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ».

ثم صلى ابن مسعود على أبي ذر ، ثم واراه الثرى ، وبعد أن فرغ من دفنه ، وقف مالك الاشتر عند قبره وقال :

اللهمّ إنّ هذا صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغيّر ولم يبدّل لكنّه رأى غريبا منكرا فغيّره بلسانه وقلبه ، حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيدا غريبا (١).

وقد اشار السبكى في ابيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية :

وعاش أبو ذر كما قلت وحده

ومات وحيدا في بلاد بعيدة

__________________

(١) ذكر المؤرخون قصة وفاة أبي ذر ودفنه بصور مختلفة ، فيستفاد من بعض المصادر التاريخية أن أبا ذر كان على قيد الحياة عند ما قدمت القافلة المذكورة وتحدث مع رجالها ، ولكن بعض المصادر الاخرى تنص على أنه مات قبل قدوم تلك القافلة الى تلك المنطقة كما أنه صرح البعض أن زوجة أبي ذر وابنه حملا جثمانه إلى قارعة الطرق بينما قال آخرون أن زوجته وابنه جلسا على قارعة الطريق ودلاّ القافلة على محل جثمانه الطاهر ، راجع للوقوف على ذلك الطبقات الكبرى : ج ٤ ص ٣٤ ـ ٢٣٢ ، والدرجات الرفيعة : ص ٥٣.

٥٦٧

جيش الإسلام في أرض تبوك :

حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك ، ولكن دون أن يرى أثرا عن جيش الروم ، وكأنّ جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الاسلام ، وبشهامتهم وتضحيتهم النادرة التي شهدوا نموذجا منها عن كثب في معركة « مؤتة » رأوا من الصالح ان ينسحبوا إلى داخل بلادهم ولا يواجهوا المسلمين ، ويثبتوا بذلك عمليّا نبأ اجتماعهم ضدّ المسلمين ، ويتظاهروا بأنه لم تراودهم فكرة الهجوم على المسلمين قط ، وأن هذا النبأ لم يكن إلاّ شائعة لا أكثر ، فيثبتوا من هذا الطريق حيادهم بالنسبة للحوادث والوقائع التي تحدث في الجزيرة العربية (١).

في هذه اللحظة جمع رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله قادة جيشه الكبار ، وتبعا للاصل الاسلامي « وشاورهم في الأمر » تحادث معهم حول التقدّم في أرض العدوّ أو الرجوع إلى المدينة وشاورهم في ذلك.

فكانت نتيجة التشاور هي أنّ على الجيش الاسلامي الذي تحمّل مشاق كثيرة في هذه السفرة ، أن يعود إلى المدينة ، ليستعيد نشاطه ، وقواه ، هذا مضافا إلى أن المسلمين حققوا هدفهم السامي من هذه السفرة وهو تفريق جيش الروم وتبديد اجتماعهم بعد القاء الرعب الشديد في قلوبهم ، وقد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدة مديدة بحيث يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين ، وهذا القدر من النتيجة التي من شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحا من الزمن تكفي للمسلمين فعلا حتى يقضي الله ما يقضي في المستقبل.

__________________

(١) يكتب الواقدي في المغازي : ج ٣ ص ١٠١٤ و ١٠١٥ أقام رسول الله بتبوك عشرين ليلة وهكذا يقول : إن النبي بعد أن صلى الفجر ذات يوم جمع الناس ، فخطب فيهم خطبة بليغة ضمّنها مواعظ وتعاليم عظيمة كثيرة ثم ادرج نص الخطبة.

٥٦٨

ولقد اضاف كبار المشيرين ـ حفاظا على مكانة الرسول القائد ، وإشعارا بان رأيهم هذا قابل للأخذ والرد ـ قائلين : إن كنت امرت بالسير فسر (١).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« لو امرت به ما استشرتكم فيه ».

وهكذا احترم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آراء مشاوريه ورضى بالعودة إلى المدينة (٢).

وحيث كان هناك حكام وولاة يعيشون في المناطق الحدودية السورية والحجازية لهم نفوذ كبير في قبائلهم ومناطقهم ، وكانوا جميعا نصارى ، ولهذا كان من المحتمل بقوة أن يستغل الروم قواهم ضد الاسلام ، ويحملوا بمساعدتهم على الحجاز.

ولهذا كان يتعين أن يعقد معهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله معاهدة عدم اعتداء ، ليأمن جانبهم ويحصل على أمن أوسع ، فأجرى صلى‌الله‌عليه‌وآله اتصالات مباشرة مع اولئك الحكّام والولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك وعقد معهم معاهدات عدم تعرض واعتداء بشروط خاصة كما أرسل مجموعات إلى النقاط النائية عن تبوك ليحقق بذلك مزيدا من الأمن للمسلمين.

لقد اتصل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شخصيا بزعماء « أيلة » و « أذرح » و « الجرباء » ، وتمّ عقد معاهدة عدم تعرّض واعتداء بين الجانبين. و « أيلة » مدينة ساحلية تقع على ساحل البحر الأحمر ، ولا تبعد عن الشام كثيرا ، وكان زعيم تلك المنطقة هو « يوحنا بن رؤبة » ، فهو يوم اتي به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه صليب من ذهب على عادة النصارى ، قدّم لرسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠١٩.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٤٢.

٥٦٩

وآله فرسا أبيضا ، وأعلن عن طاعته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاحترمه النبي واكرمه ، وصالحه ، وكساه بردا يمينا.

وقد قبل « يوحنا » هذا أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها ثلاثمائة دينار سنويا وعلى أن يحسن إلى من يمرّ على أيلة من المسلمين وكتب له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتاب أمان وقّعه الطرفان ، وإليك نص الكتاب المذكور :

« بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا أمنة من الله ومحمّد النبيّ رسول الله ليوحنا بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسياراتهم في البرّ والبحر ، لهم ذمة الله وذمة محمّد رسول الله ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر ، ومن أحدث حدثا ، فانه لا يحول ماله دون نفسه ، وأنه طيّبة لمن أخذه من الناس وانه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من برّ وبحر.

هذا الكتاب يكشف عن قاعدة مهمّة في السياسة الاسلامية وهي أن أيّ شعب أراد أن يسالم المسلمين وفرّ الاسلام له كل أمن وسلام (١).

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صالح بقية الحكام الحدوديين مثل سادة أقوام « أذرح » و « جرباء » التي كانت تتمتع باهمية استراتيجية ، وبذلك ضمن أمن المنطقة الاسلامية من ناحية الشمال.

بعث خالد إلى دومة الجندل :

على طريق تبوك كانت تقع منطقة عامرة خضراء ذات أشجار وزروع ومياه جارية تضم حصنا منيعا ، وتبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخا ، تسمى « دومة الجندل » (٢) وكان يحكمها يومذاك رجل مسيحي يدعى « اكيدر بن

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٦ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٤١ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٦٠.

(٢) يقول الواقدي في المغازي : ج ٣ ص ١٠٢٥ تقع دومة الجندل على عشرة اميال من المدينة.

٥٧٠

عبد الملك ».

وحيث أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخشى هجوما آخر من الروم ، والاستعانة بحاكم دومة المسيحي وبهذا يعرّضون أمن الحجاز للخطر ، لذلك رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن فبعث مجموعة من المقاتلين بقيادة خالد بن الوليد الى المنطقة المذكورة لتطويعها وتطويع حاكمها.

فتوجه خالد مع فرسانه الى دومة الجندل حتى اقتربوا إلى حصنها ، وكمنوا قريبا منه.

وفي تلك الليلة خرج « اكيدر » وأخوه « حسان » من الحصن ومعه نفر من اهل بيته للصيد فلما ابتعدوا عن الحصن حاصرهم خيل خالد وأسروا « اكيدرا » بعد قليل من القتال والمواجهة ، وقتل اخوه « حسان » ولجأ البقية إلى الحصن ، واعتصموا به ، فصالح خالد « اكيدرا » على أن يطلب له ولقومه الأمان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقاء أن يفتح أبواب الحصن في وجوه المسلمين ويلقي أهلها الاسلحة.

فأمر اكيدر الذي كان يثق بصدق المسلمين واحترامهم لوعودهم وعهودهم ، أمر قومه أن يفتحوا أبواب الحصن ويسلّموا للمسلمين ، ويلقوا اسلحتهم ويتركوا القتال ، وكانت الاسلحة تبلغ أربعمائة درع ، وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف ثم توجه خالد باكيدر وقومه وما حصل عليه من الغنائم الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخلبت منظر الديباج المخوّص بالذهب عيون جماعة من طلاب الدنيا. فاخذوا يتلمسونه بأيديهم ويتعجّبون منه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو لا يكثرث بتلك الثياب :

« فو الّذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن من هذا ».

لقد حضر « اكيدر » عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وامتنع عن قبول الاسلام إلاّ أنه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين ، وصالحه النبي صلّى الله

٥٧١

عليه وآله على ذلك وكتب له كتابا ، ثم أهدى له صلى‌الله‌عليه‌وآله هدية واستعمل على حرسه « عباد بن بشر » ليوصله الى دومة الجندل سالما (١).

تقييم إجمالي لغزوة تبوك :

إن النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن لم يلق في هذا السفر الشاق كيدا ولم يواجه العدوّ ، ولم يقاتل إلاّ أنّ هذه السفرة عادت عليه بسلسلة من الفوائد المعنوية والروحية هي :

أولا : صعود مكانة وسمعة الجيش الاسلاميّ ، فقد زاد من عظمته وقوته في قلوب سكان الحجاز ، وحكّام المناطق الحدودية السورية ، وعرف الصديق والعدوّ أن المقدرة العسكريّة الاسلاميّة بلغت من القوة والعظمة بحيث أصبح في مقدورها أن تواجه اكبر القوى العالمية وتقارعها ، وتلقي الرعب والخوف في قلوبها.

إن انتشار هذا الموضوع بين القبائل العربية التي عجنت جبلّتها بروح التمرّد والطغيان أوجب أن تتخلى عن فكرة الطغيان والمعارضة ، والتآمر ضدّ الاسلام ردحا من الزمن ، وأن لا تفكّر في هذه الامور.

ولهذا السبب أخذت وفود القبائل التي لم تخضع للاسلام حتى ذلك اليوم تفد تباعا على رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد رجوعه من تبوك الى المدينة ، وتظهر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طاعتها وخضوعها حتى سمّي ذلك العام بعام الوفود لضخامة عدد تلك الوفود والبعثات التي قدمت المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثانيا : ضمن المسلمون عن طريق عقد المعاهدات المختلفة المتعدّدة مع حكّام المناطق الحدودية الحجازية والسورية أمن هذه المنطقة ، واطمأنوا بسببها إلى أنهم سوف لن يتعاونوا مع جيش الروم ، ولن يدخلوا مع تلك الدولة في مؤامرة ضدّ

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٦٦ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٤٦.

٥٧٢

الاسلام والمسلمين.

ثالثا : مهّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا السفر الشاق الطريق لفتح الشام ، فقد عرف قادة جيشه طرق هذه المنطقة ومشاكلها ، وعلمهم كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى في ذلك العصر ، من هنا كانت الشام وسورية هي أوّل منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

رابعا : تميّز المؤمن عن المنافق في هذه التعبئة العامة وحصلت عملية تصفية وفرز كبيرة وعميقة في جماعة المسلمين.

المنافقون يخطّطون لاغتيال النبي :

أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مدة بضع عشرة يوما في تبوك (١) وبعد أن بعث خالد إلى « دومة الجندل » توجه بالمسلمين الى المدينة. ولدى العودة تآمر (١٢) منافقا ثمانية منهم من قريش والباقي من أهل المدينة لاغتيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أثناء الطريق وقبل أن يصل إلى المدينة ، وذلك بتنفير ناقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في عقبة بين المدينة والشام ليطرحوه في واد كان هناك. وعند ما وصل الجيش الاسلامي إلى بداية تلك المنطقة ( العقبة ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم ».

فأخذ الناس بطن الوادي ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ طريق العقبة فيما يسوق « حذيفة بن اليمان » ناقة النبي ، ويقودها « عمار بن ياسر » فبينما هم يسيرون إذ التفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خلفه ، فرأى في ضوء

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٧ وذهب ابن سعد في الطبقات انه مكث بتبوك عشرين يوما ( ج ٢ ص ١٦٨ ).

٥٧٣

ليلة مقمرة فرسانا متلثمين لحقوا به من ورائه لينفّروا به ناقته ، وهم يتخافتون ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلا : اضرب وجوه رواحلهم.

فأرعبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بصياحه بهم إرعابا شديدا ، وعرفوا بان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علم بمكرهم ومؤامرتهم ، فاسرعوا تاركين العقبة حتى خالطوا الناس.

يقول حذيفة : فعرفتهم برواحلهم وذكرتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقلت : يا رسول الله ألا تبعث إليهم لتقتلهم؟ فاجابه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في لحن ملؤه الحنان والعاطفة :

« إن الله أمرني أن اعرض عنهم ، واكره أن يقول الناس أنّه دعا اناسا من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم حتى ظهر على عدوّه ثمّ أقبل عليهم فقتلهم ولكن دعهم يا حذيفة فانّ الله لهم بالمرصاد » (١).

وقد أنزل الله سبحانه إثر هذه الحادثة الآية ٦٥ من سورة التوبة التي قال تعالى فيها : « ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب » (٢).

النية تقوم مقام العمل :

ليس ثمة مشهد أعظم جلالا من مشهد جيش فاتح يعود إلى أحضان الوطن ، كما ليس هناك أمر ألذّ وأهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدوّ ، التي تحفظ أمجاده ، وتضمن بقاء كيانه ، وسلامته ، وقد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الاسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخل الجيش الاسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوى المسافة

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠٤٢ ـ ١٠٤٥ ، مجمع البيان : ج ٣ ص ٤٦ بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٤٧ ، الدرجات الرفيعة : ص ٢٩٨ و ٢٩٩ وامتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٧٧.

(٢) راجع مجمع البيان : ج ٣ ص ٤٦.

٥٧٤

بين « تبوك » و « المدينة » ، وكانت تغمر جنود الاسلام فرحة كبيرة ، وتظهر على كلماتهم وأعمالهم أمارات الاعتزاز لما أحرزوه من غلبة على العدوّ ، ومن أداء لحق الجندية ، وكان السبب واضحا لأنّهم أرعبوا دولة قويّة سبق لها أن هزمت الامبراطورية الايرانية ، فهم أخافوا الروم التي انسحبت من تبوك قبل وصول المسلمين إليها ، وهم طوّعوا حكّام وزعماء المدن والمناطق الحدودية السورية والحجازية ، وأخضعوهم للدولة الاسلامية.

لا شكّ أنّ الغلبة على العدوّ فخر عظيم أصاب هذا الجيش ، وكان طبيعيا أن يفتخر أفراد هذا الجيش ويتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر ، ولكن حيث أن مثل هذا النمط من التفكير وهذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجد غرورا لدى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا فيها لعذر وقلوبهم مع جنود الاسلام ، ويشاركونهم بافئدتهم في أفراحهم ، وأتراحهم لهذا التفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم على مشارف المدينة وقد توقّفوا خارج المدينة بعض الوقت :

« إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلاّ كانوا معكم ».

قالوا يا رسول الله : وهم بالمدينة؟

قال : « نعم ، حبسهم العذر » (١).

أجل أنهم كانوا يتشوّقون إلى الجهاد هذا الواجب الاسلامي الكبير ، ولكن العذر منعهم من الاشتراك فيه.

إن النبي الاكرم بهذه العبارة المقتضبة اشار ـ في الحقيقة ـ إلى واحد من البرامج الاسلامية التربوية ، وذكّر بأن النية الطيبة والفكر الصالح يقوم مقام العمل الصالح الطيب ، وأن الذين يحرمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الامكانيات يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٦٣ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢١٩.

٥٧٥

ثواب العمل الصالح اذا نووا ذلك ، واشتاقوا إليه قلبيا.

إذا كان الاسلام يهتمّ باصلاح الظاهر ، فانه يهتمّ أكثر باصلاح القلب والفكر ، باصلاح الباطن والسريرة ، لأن اصلاح العقيدة وطريقة التفكير هو منبع جميع الاصلاحات ، وأعمالنا كلها وليدة أفكارنا ونوايانا.

إذا خفّف النبي الاكرم بقوله هذا من غلواء المجاهدين وغرورهم ، وحفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوان إلاّ أنه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلفين من دون عذر ويلقّنهم درسا لن ينسوه ، وللنموذج ننقل هنا قصة ثلاثة من المتخلّفين.

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ :

يوم اعلن في المدينة عن التعبئة العامة تخلّف ثلاثة من المسلمين في المدينة هم : « هلال بن أميّة » ، و « كعب بن مالك » و « مرارة بن الربيع » فقد حضر هؤلاء عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لدى خروجه إلى تبوك واعتذروا إليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد ، فاعتذر أحدهم ، بأن الوقت هو وقت إدراك الثمر ، وأنهم سيلتحقون بجيش الاسلام إذا فرغوا من الحصاد والقطاف.

إن هؤلاء وامثالهم ممن يريدون الدين والدينار ، وتهمّهم مصالحهم المادية الشخصية والاستقلال السياسي معا يعانون من نظرة ضيقة وقصيرة تعادل اللذائذ الماديّة العابرة بالحياة الانسانية الشريفة ، التي تتحقق تحت لواء الاستقلال الفكريّ والسياسيّ والثقافي ، بل ربما رجّحوا الاولى على الثانية.

ولهذا كان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعد العودة ـ أن يؤدب مثل هذه العناصر حتى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.

إنهم لم يتخلّفوا عن هذا الجهاد فحسب ، بل لم يعملوا بالعهد الذي أعطوه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا ، فإنهم انشغلوا بالتجارة ، وجمع المال حتى فوجئوا بعودة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المظفّرة إلى المدينة فبادروا عند

٥٧٦

ذلك لملاقاة ما بدر منهم من تخلّف إلى الحضور عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للتسليم عليه وتقديم التهاني إليه كما فعل الآخرون.

إلاّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعرض بوجهه عنهم ولم يكترث بهم ، وعند ما تحدث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح والابتهاج كان أوّل ما قاله هو :

« لا تكلمنّ أحدا من هؤلاء الثلاثة ».

ومع أن عدد المتخلفين كان يقارب التسعين شخصا ، إلا أن اكثرهم حيث كانوا من المنافقين ، ولم يكن يتوقع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدوّ لهذا تركّز ثقل هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهم سبق منه أن اشترك في غزوة بدر مثل « مرارة » و « هلال » ، وكانت لهم شخصية ومكانة بين المسلمين!!

ولقد تركت سياسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحكيمة التي كانت جزء لا ينفك من دينه أثرا عجيبا ، فقد تعطّلت التجارة والأخذ والعطاء مع المتخلفين ، وكسدت بضائعهم ، ولم يشترها أحد ، وقطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم وعلاقتهم مع المخلفين المذكورين اتّباعا لأوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتركوا حتى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلفين فعلتها ، وضغطت عليهم نفسيا بشدة حتى ضاقت عليهم الأرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم.

« حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ » (١).

ولكن هؤلاء الثلاثة المقرون بفراسة كاملة أدركوا أن العيش في البيئة الاسلامية لا يمكن إلا بالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين ، وأنه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الاكثرية القاطعة ، وبخاصة اذا كانت الأقلية تتألف من

__________________

(١) التوبة : ١١٨ ، وتذكر التفاسير كيفية توبتهم وإنابتهم على وجه التفصيل فليراجعها من يريده.

٥٧٧

جماعة مشاغبة ومغرضة.

هذه المحاسبات من جانب ، والانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعت بهؤلاء المخلفين إلى العودة إلى حظيرة الايمان الواقعي ، وأن يظهروا ندمهم على فعلهم القبيح بالتوبة الى الله ، والانابة إليه ، وقبل الله تعالى توبتهم ، وأخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من فوره إلى الاعلان عن عفوه ورفع المقاطعة عنهم (١).

قصة مسجد الضّرار :

كانت « المدينة » و « نجران » تعتبران بالنسبة إلى أهل الكتاب منطقتين واسعتين ومركزيتين في شبه الجزيرة العربية ، فقد كانوا يتمركزون في هاتين المنطقتين اكثر من أي مكان آخر ، ولهذا اعتنق فريق من عرب الأوس والخزرج الدين المسيحي واليهودي.

ويبدو أن « ابا عامر » والد « حنظله غسيل الملائكة » المستشهد في غزوة احد ، كان قد رغب في الدين المسيحي في العهد الجاهلي ، فانسلك في صفوف الرهبان ، فلمّا ظهر نجم الاسلام من افق المدينة بعد هجرة النبي إليها ، واحتوى الدين الجديد الأديان الاخرى انزعج « أبو عامر » من هذه الظاهرة بشدة ، فشرع بصدق في التعاون مع منافقي الأوس والخزرج. وقد عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بخططهم التخريبية ، وأراد اعتقاله ، فخرج « أبو عامر » من المدينة الى مكة ، ومن مكّة الى الطائف ، وهرب من الطائف بعد سقوطها إلى الشام ، واخذ يقود من هناك شبكة تجسّسيّة لحزب المنافقين.

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٦٥ ، بحار الأنوار : ج ١٠ ص ١١٩ وهذا النوع من المحاربة التي سلكها النبي مع المخلفين علّم المسلمين درسا كبيرا ومفيدا في مقابل الاقليات الصغيرة ، وهو لا يحتاج إلاّ إلى الاخلاص والاتحاد والعزم هذا ويذكر الواقدي في المغازي : ( ج ٣ ص ١٠٤٩ ـ ١٠٥٦ ) قصة هؤلاء المخلفين بصورة اكثر تفصيلا ممّا ذكرناه هذا.

٥٧٨

وقد كتب الى المنافقين في المدينة في إحدى رسائلهم ان استعدّوا وابنوا مسجدا في قباء في مقابل مسجد المسلمين وصلّوا فيه في أوقات الصلاة ليمكنكم ـ تحت غطاء أداء الفرائض ـ التحدث حول الامور المتعلقة بالاسلام والمسلمين ، وكيفية تنفيذ المؤامرات الحزبية ضدهم.

لقد كان « ابو عامر » على غرار أعداء الاسلام في العصر الحاضر يرى أن أفضل وسيلة لهدم واستئصال الدين في بلد يسوده الدين هو الاستفادة من نفس سلاح الدين ، ومن المعلوم أنه يمكن توجيه الضربة إلى الدين باسم الدين أكثر من أيّ عامل أو وسيلة اخرى.

لقد كان « ابو عامر » يعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يسمح لحزب المنافقين بإقامة مركز لهم مطلقا إلاّ إذا كان لذلك صبغة دينية ، وكان تحت عنوان مسجد.

عند ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتجهّز إلى « تبوك » أتاه جماعة من المنافقين وطلبوا منه ان يسمح لهم ببناء مسجد في محلتهم بقباء بحجة أن ذوي العلة والحاجة لا يمكنهم أن يقطعوا المسافة بين قباء ومسجد النبي للصلاة معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الليلة المطيرة والليلة الشاتية ، فأوكل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر النظر في طلبهم الى ما بعد العودة من تبوك (١).

غير أن حزب النفاق بادروا الى اختيار نقطة من الأرض في قباء ، واسرعوا في اقامة مركز لهم تحت غطاء المسجد ولما عاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه أن يصلي فيه ركعتين ليسبغوا بذلك الشرعيّة على مركزهم ، وفي هذا الاثناء نزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بحقيقة هذا الأمر ، وسمّاه في آيات نزل بها على النبي بمسجد الضرار ، ووصفه بأنه مركز بني لايجاد الفرقة بين المسلمين ، والتآمر عليهم إذ يقول تعالى :

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠٤٦.

٥٧٩

« وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ » (١).

فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فورا بإحراق ذلك المسجد وتسويته بالأرض فحرّق وهدّم وسوّي بالأرض وتحوّل مكانه إلى مزبلة فيما بعد (٢).

إن تحريق وهدم مسجد الضرار كانت ضربة قاضية لحزب النّفاق فمنذئذ تلاشت وشائج وروابط ذلك الحزب الخبيث ، وهلك حاميهم الوحيد عبد الله بن أبي بعد شهرين من غزوة تبوك.

ولقد كانت غزوة تبوك آخر الغزوات الاسلامية التي شارك فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يشارك صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدها في أي قتال.

__________________

(١) التوبة : ١٠٧ و ١٠٨.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٣٠ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢٥٣.

٥٨٠