سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

٤٥

قصّة فدك

كانت « فدك » منطقة خصبة ، كثيرة الخير ، قرب خيبر ، وهي تبعد عن المدينة بما يقرب من (١٤٠) كيلومترا ، وكانت تعتبر بعد حصون خيبر النقطة الهامة التي يعتمد عليها يهود الحجاز (١).

وقد ملأت القيادة الاسلامية ـ بعد أن هزم اليهود في خيبر ووادي القرى وتيماء الفراغ الذي حصل في شمال المدينة ـ بالقوة العسكرية الاسلامية.

ولأجل أن تنهي الوجود السياسي اليهودي في هذه المنطقة التي كانت بمثابة منبع خطر ، وبؤرة شغب ضدّ الاسلام ، بعثت القيادة الاسلامية سفيرا الى سادة فدك وزعمائها ، لمعرفة موقفهم فآثر « يوشع بن نون » الذي كان يرأس سكان تلك المنطقة ، الصلح والسلام على الحرب والقتال ، وتعهّد بأن يسلّم كل سنة نصف محاصيل فدك الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وأن يعيش هو وقومه من الآن تحت راية الحكومة الاسلامية ، ولا يشاغب ولا يتآمر ضدّ المسلمين ، على أن تتعهد الحكومة الاسلامية ـ في مقابل هذا المبلغ ـ بتوفير الأمن في المنطقة.

__________________

(١) راجع كتاب « مراصد الاطلاع » ج ٣ ص ١٠٢٠ ماده فدك.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٥٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٣١ ، فتوح البلدان : ص ٤٢.

٤٢١

حكم الاراضي المفتوحة بلا قتال :

ومن الجدير بالذكر هنا أن الأراضي التي يسيطر عليها المسلمون بالحرب والقتال تعود ملكيتها الى عامة المسلمين ويكون إدارتها بيد القائد الأعلى للامة.

أما الاراضي التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولم يسيطر عليها المسلمون بالقتال فتكون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والامام من بعده خالصة ، فهو يتصرف فيها كما يشاء ويرى ، فله أن يهبها ، وله أن يؤجّرها ، ومن جملة ماله أن يفعل فيها هو أن يهبها لأقربائه فيسدوا بها حاجتهم ، ويديروا بها معيشتهم (١).

وعلى هذا الاساس وهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدكا لابنته الطاهرة فاطمة الزهراء ، وقد أريد من إيهاب هذه الارض لها ـ كما تشهد بذلك القرائن ـ أمران :

١ ـ انّ قيادة الامة كانت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما صرّح النبي بذلك مرارا ، لـ : « علي بن أبي طالب » ، ومثل هذه المسئولية الثقيلة تحتاج ولا شك الى ميزانية كبيرة ، فكان لعليّ عليه‌السلام أن يصرف من أموال فدك وعائداتها اذا صارت تحت تصرفه اكبر قدر ممكن ليحفظ به ذلك المنصب ، ويستطيع القيام بمتطلباته.

وكأنّ جهاز الخلافة ـ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أدرك هذه الحقيقة ، ولهذا عمد منذ الايام الاولى لوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى انتزاع فدك من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ لقد كان من الواجب أن تعيش ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي كان يتمثل مصداقها الكامل في وحيدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة الزهراء ،

__________________

(١) وقد طرحت هذه المسألة في الآية ٦ و ٧ من سورة الحشر وعولجت في الكتب الفقهية في باب الجهاد تحت عنوان « الفيء » « والأنفال ».

٤٢٢

وابنيها الحسن والحسين عليهما‌السلام بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بصورة تليق بمقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وشرفه ، ومكانته السامية.

ولهذا الهدف وهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدكا لابنته فاطمة الزهراء عليها‌السلام.

يقول المفسرون والمحدّثون الشيعة وبعض علماء السنة انه لما نزل قوله تعالى :

« وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ » (١).

دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ابنته فاطمة وفوّض إليها فدكا (٢) ، وقد روى هذا الأمر ابو سعيد الخدري وهو من كبار صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويعترف جميع المفسرين ، سنة وشيعة ، بان هذه الآية نزلت في حق أقرباء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابنته الزهراء اظهر وأقوى مصاديق « ذي القربى » ، حتى انه كان على بن الحسين السجاد في الشام بعد واقعة كربلاء ، وسأله بعض الشاميين عن نسبه ، فتلا عليه‌السلام الآية المذكورة للتعريف بنفسه ، وحيث إن مفاد الآية والمراد بها كان معلوما عند المسلمين كافة قال الشامي متعجبا : وانكم للقرابة الذي أمر الله أن يؤتى حقه (٣).

وخلاصة القول ان ثمة اتفاقا بين علماء السنة والشيعة في أن هذه الآية قد نزلت في شأن الزهراء وابنيها ، نعم هناك خلاف في ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهب ساعة نزول هذه الآية فدكا لابنته فاطمة ، أم لا ، ولقد اتفق علماء الشيعة على الشق الأول ، وذهبوا إلى ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهب فدكا عند نزول الآية لفاطمة ووافقهم على ذلك جمع من علماء السنة.

وقد أراد المأمون العباسى ( لسبب ما ) اعادة فدك إلى بني الزهراء فكتب

__________________

(١) الاسراء : ٢٦.

(٢) مجمع البيان : ج ٣ ص ٤١١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٦ ص ٢٦٨ ، الدر المنثور : ج ٤ ص ١٧٧.

(٣) الدّر المنثور : ج ٤ ص ١٧٦.

٤٢٣

الى المحدث المعروف « عبد الله بن موسى » وطلب منه أن يرشده في هذا الامر ، فكتب إليه عبد الله بن موسى الحديث المذكور الذي يوضح شأن نزول هذه الآية ، فاعاد المأمون فدكا الى أبناء الزهراء ، وذريتها (١) فكتب الخليفة العباسي إلى واليه على المدينة يومذاك بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهب فدكا لابنته فاطمة الزهراء ، وهذا أمر مسلم ، ولا خلاف فيه بين ابناء الزهراء.

وقد جلس المأمون ذات يوم على كرسي خاص للاستماع إلى مظالم الناس وشكاياتهم ، فكانت أول ما أعطي له ، رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنه يدافع عن الزهراء ، فقرأ المأمون الرسالة وبكى مدة ، ثم قال : من هو المحامي عن الزهراء؟ فقام شيخ كبير ، وقال : أنا هو ذا ، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء الى مجلس حوار ومناظرة بين المأمون وبين ذلك الشيخ ، وأخيرا وجد المأمون نفسه مغلوبا محجوجا فأمر رئيس ديوانه بان يكتب كتاب ردّ فدك إلى ابناء الزهراء ، فكتب ذلك الكتاب ، ووشحه المأمون بتوقيعه ، وفي هذه المناسبة قام دعبل الذي حضر ذلك المجلس وأنشأ شعرا هذا مطلعه :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا (٢)

وليس الشيعة بحاجة ـ في اثبات ان فدكا كان ملكا طلقا وخالصا للزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الدلائل المذكورة ، لأن الصدّيق الاكبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قد صرّح بمالكيته بفدك في إحدى رسائله الى واليه على البصرة عثمان بن حنيف اذ قال :

« بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم الله » (٣).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ٤١١ عند تفسير قوله تعالى : « « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » الاسراء : ٢٧ فتوح البلدان ص ٤٦

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ج ١٦ ص ٢١٧.

(٣) نهج البلاغة : الكتاب ٤٥.

٤٢٤

قصة فدك بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد حرمت ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله العزيزة فاطمة من ملكها الخالص ( فدك ) بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأغراض سياسية خاصة ، وأخرجوا عمالها من تلك الارض ، فعمدت إلى إثبات حقّها واسترداد ملكها من جهاز الخلافة عن طريق القانون.

ففي الدرجة الأولى كانت قرية فدك في يدها ، واليد دليل الملك ، ولكن جهاز الخلافة طلب منها مع ذلك دليلا على كون فدك ملكها ، خلافا لكلّ الموازين القضائية الاسلامية.

إذ لا يطلب من أيّ واحد له يد على شيء ( أي يكون ذلك الشيء تحت تصرفه ) أن يقيم دليلا على ملكيته لذلك الشيء ، ولكن الخلافة لم تعر ليد الزهراء على « فدك » أهمية ، بل طالبتها بان تأتي بشاهد على ملكيته.

ولهذا اضطرت فاطمة الزهراء عليها‌السلام إلى ان تأتي للشهادة على ذلك بشخصيّة ذات مكانة هامة كعليّ عليه‌السلام وامرأة تدعى أمّ أيمن التي شهد لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنها من نساء الجنة (١).

وبعتيق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رباح » حسب رواية البلاذري (٢) ، ولكن جهاز الخلافة لم يعر اهتماما لشهادة هؤلاء الشهود ، وحرم ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ملكها الذي وهبه اياها والدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولقد كانت « الزهراء » و « علي » وابناهما الحسن والحسين عليهم‌السلام مطهرين من كل رجس كما صرح بذلك قوله تعالى :

« إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » (٣).

__________________

(١) الاصابة : ج ٤ ص ٤٣٢.

(٢) فتوح البلدان : ص ٤٤.

(٣) الاحزاب : ٣٣ ، راجع كتاب : آية التطهير في احاديث الفريقين : ج ١ و ٢.

٤٢٥

ولو أن هذه الآية شملت نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكانت فاطمة الزهراء من أوضح مصاديقها قطعا ويقينا ، ولكن الخلافة تجاهلت ـ مع الأسف ـ حتى هذا الدليل ، واعتبر الخليفة ادعاءها ادعاء غير مشروع.

وفي المقابل يرى علماء الشيعة أن الخليفة الاول أذعن في نهاية الأمر لصحة رأى الزهراء وصحة ادّعائها وشرعيّته ، وكتب كتابا يصرّح بأن فدكا ملك خالص للزهراء وأعطاها ذلك الكتاب ، ولكن رفيق الخليفة وصاحبه لما صادف الزهراء في اثناء الطريق وعرف بأنها حصلت على اعتراف صريح من الخليفة بملكيتها لفدك أخذ منها ذلك الكتاب واتى به الى الخليفة الاول وقال معترضا على شهادة علي عليه‌السلام وأم أيمن لها : ان عليا يجرّ إلى نفسه وأم أيمن امرأة.

ثم عمد إلى الكتاب فمحاه وخرقه (١).

هذا ويروي الحلبي في سيرته هذه الحادثة بصورة اخرى اذ يكتب قائلا : ان ابا بكر كتب لفاطمة بفدك ودخل عليه عمر فقال : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها ، فقال : ممّا ذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى ، ثم اخذ عمر الكتاب فشقه (٢).

ما قاله أحد متكلمي الشيعة ، وهو ان أبي الحديد يقول : قلت لمتكلم من متكلمي الاماميّة يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل : وهل كانت فدك إلاّ نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير! فقال لي : ليس الأمر كذلك ، بل كانت جليلة جدا ، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل ، وما قصد ابو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا ألاّ يتقوّى عليّ بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة ، ولهذا اتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي وسائر بني هاشم وبني المطّلب حقّهم في الخمس ، فإنّ الفقير الذي لا مال له تضعف همته ، ويتصاغر عند نفسه ، ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرئاسة (٣).

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد : ج ١٦ ص ٣٧٤.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣٩١.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٦ ص ٢٣٦.

٤٢٦

ويكتب هذا الكاتب في موضع آخر من كتابه أيضا : سألت علي بن الفارقيّ مدرّس المدرسة الغربية ببغداد ، فقلت له : أكانت فاطمة صادقة؟ قال : نعم ، قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم ، ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجأت إليه غدا ، وادّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء ، لانه يكون قد اسجل على نفسه على أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود. وهذا كلام صحيح ، وان كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (١).

لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأول ، وبعد ان قضى علي عليه‌السلام وتسلّم معاوية زمام الامر ، وزع فدكا بين ثلاثة هم : ( مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان ، وابنه يزيد ).

ولما ولي الأمر « مروان » سيطر على فدك بصورة كاملة ، ووهبها لابنه عبد العزيز ، واعطاها عبد العزيز لولده « عمر بن عبد العزيز » (٢).

وحيث انه كان حاكما معتدل السيرة بين خلفاء بني أميّة لهذا فان أول بدعة أزاحها كان هو اعادة فدك إلى بني فاطمة ، ثم انتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من ايدي بني هاشم ، وكانت بأيديهم حتى يوم انقرضت فيه حكومة الامويين.

وقد اضطرب أمر فدك اضطرابا عجيبا ايام الخلافة العباسية ، فلما ولي أبو العباس السفاح ردّها على عبد الله بن الحسن بن الحسن ، ثم قبضها ابو جعفر من بني حسن ، ثم ردّها محمّد المهدي ابنه ، على ولد فاطمة عليها‌السلام ، ثم قبضها موسى الهادي بن المهدي وهارون أخوه ، لاسباب سياسيه خاصة ، حتى وصل الدور إلى المأمون فردها على الفاطميين اصحابها الشرعيين ضمن تشريفات

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد : ج ١٦ ص ٢٨٤.

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ج ١٦ ص ٢٧٨.

٤٢٧

خاصة وبصورة رسمية.

ثم اضطرب امر فدك من بعده أيضا فربما سلبت من أصحابها وربما ردّت إليهم. وهكذا تراوحت بين السلب والرد.

ولقد استغلّت فدك في عهد الامويين والعباسيين في أغراض سياسية بحتة قبل أن تستغلّ في أغراض اقتصادية.

فلقد كان الخلفاء في صدر الاسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية ، مضافا إلى انهم انتزعوها من يد عليّ لغرض سياسي ولكن في العصور المتأخرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء وزادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك ، ولهذا فان عمر بن عبد العزيز لما أعاد فدكا إلى بني فاطمة احتج عليه بنو أميّة واعترضوا قائلين : هجّنت فعل الشيخين ، وإن أبيت إلاّ هذا فامسك الأصل وأقسم الغلّة (١).

فدك في محكمة التاريخ :

إن دراسة وتقييم ملفّ « فدك » تثبت بوضوح أن منع ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حقها المشروع كان عملا سياسيا بحتا ، أي إنه ما كان يستند إلى أي مبرر شرعي مطلقا ، وان المسألة كانت أوضح من أن تخفى على خليفة العصر.

وقد أوضحت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام هذه الحقيقة في خطابها الساخن البليغ اذ قالت :

هذا كتاب الله حكما عدلا وناطقا فصلا يقول : ويرثني ويرث من آل يعقوب (٢) وورث سليمان داود (٣) وبيّن عزّ وجلّ في ما وزّع من الأقساط وشرع من الفرائض والميراث » (٤).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٦ ص ٢٧٨.

(٢) مريم : ٦.

(٣) النمل : ١٦.

(٤) الاحتجاج للطبرسي : ج ١ ص ١٤٥.

٤٢٨

إن البحث حول دلالة الآيتين على وراثة أبناء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه ، والحديث الذي رواه الخليفة وحده يوجب اطالة الكلام ، وفي امكان من يحبّ التوسع ان يراجع كتب التفسير المفصلة.

السيطرة على وادي القرى :

ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يضع نهاية لنشاط القوى المضادة للاسلام في هذه المنطقة ( خيبر ) فقط بل رأى ان يتوجه الى وادي القرى التي كان يشكل مركزا آخر من مراكز اليهود. فحاصر بنفسه حصونهم عدة أيام ، حتى فتحها ، ثم عقد بعد الفتح معاهدة مع أهلها على غرار معاهدة « خيبر ».

وبهذا طهرت أرض الحجاز من فتنة اليهود الاوغاد ، وقد جرّدوا من اسلحتهم ووضعوا تحت حماية المسلمين ومراقبتهم الدقيقة (١).

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٥٠.

٤٢٩

٤٦

عمرة القضاء (١)

كان يحق للمسلمين بعد التوقيع على معاهدة صلح الحديبية أن يدخلوا بعد عام واحد من تاريخ يوم التوقيع مكة ، ثم يغادروها بعد ثلاثة ايام يقيمون فيها شعائر العمرة وكان عليهم بموجب الاتفاق أن لا يحملوا معهم إلاّ سلاح الراكب : السيف في القرب ، ليس غير.

والآن مضى عام واحد على يوم التوقيع على المعاهدة المذكورة ، وآن الاوان ليستفيد المسلمون من هذه المادة في تلك الاتفاقية ، وان يتوجه المسلمون المهاجرون الذين مضى عليهم سبعة أعوام ابتعدوا فيها عن بيوتهم ووطنهم ومسقط رءوسهم ، ورجّحوا الحياة في الغربة ، وتحمل متاعبها على العيش في الوطن للمحافظة على عقيدة التوحيد.

يتوجه مثل هؤلاء مرة اخرى إلى زيارة بيت الله الحرام ولقاء الاحباب والأقرباء وتفقّد المنازل والبيوت التي ولدوا فيها وترعرعوا في رحابها.

__________________

(١) العمرة أعمال خاصة ومناسك معينة يمكن للمرء الاتيان بها طوال اشهر السنة على العكس من أعمال الحج التي يجب أداؤها فقط في شهر ذي الحجة وقد توجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكة في يوم الاثنين السادس من شهر ذي القعدة من السنة الهجرية السابعة. وسميت هذه العمرة عمرة القضاء لانها كانت بدلا عن العمرة التي منع النبيّ والمسلمون عنها في عام الحديبية.

٤٣٠

ولهذا عند ما أعلن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بان يستعد من حرم من العمرة في العام الماضي للعمرة ، دب شوق عجيب في نفوس المسلمين ، واغرورقت دموع الفرح في عيونهم ، فخرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألفا شخص بدل ألف وثلاثمائة وهم عدد الذين خرجوا معه في السنة الماضية.

وكان بين الخارجين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع كبير من شخصيات المهاجرين والأنصار البارزة الذين كانوا يلازمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طول سيره ملازمة الظل لصاحب الظل.

وساق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه العمرة ستين بدنة وقد قلّدها (١) ، وأحرم من مسجد المدينة واتبعه الآخرون ، وخرج ألفان وهم يلبّون مرتدين أثواب الاحرام يقصدون مكة.

ولقد كان هذا الموكب العظيم من الجلال والمغزى المعنوي بحيث لفت نظر الكثير من المشركين إلى حقيقة الاسلام ومعنويته الرائعة.

ولو قلنا : ان هذا السفر كان ـ في حقيقته ـ سفرا تبليغيا ، وان المشتركين فيه كانوا ـ في حقيقة الامر ـ طلائع التبليغ والدعوة لما قلنا جزافا ، فان آثار هذا السفر المعنوى ظهرت للتو فقد انبهر بمنظر سلوكهم وعبادتهم ونظامهم الد أعداء الاسلام أمثال « خالد بن الوليد » بطل معركة أحد وعمرو بن العاص داهية العرب فرغبوا في الاسلام ، وأسلموا بعد قليل.

وحيث ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن آمنا من غدر قريش فقد كان يحتمل أن يباغتوه ويباغتوا أصحابه في أرض مكة ، ويسفكوا دماء جماعة

__________________

(١) البدنة الناقة تنحر بمكة والجمع بدن وتقليد البدنة أن يجعل في عنقها نعلا فيعلم أنها هدي.

٤٣١

منهم وهم لا يحملون معهم إلاّ سلاح الراكب اذ لم يكن مسموحا للمسلمين ـ حسب المعاهدة ـ أن يأخذوا معهم سلاحا غير ذلك.

من هنا عمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تحسبا لأي طارئ إلى تكليف مائتي رجل من المسلمين بالتسلح الكامل ، وأمرّ عليهم « محمّد بن مسلمة » وحملهم على مائة فرس سريع ، وأمرهم بالتوجه صوب مكة أمام القافلة الكبرى ، والاستقرار في منطقة « مرّا لظهران » قرب الحرم ، ينتظرون ورود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه.

فعرف عيون قريش الذين كانوا يراقبون تحركات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقضية الفرسان المسلّحين المائتين ، واستقرارهم في وادي « مرّ الظهران » ، وأخبروا سادة قريش بالأمر.

فبعثت قريش « مكرز بن حفص » الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكلموه في هذا الإجراء فاتى مكرز الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمه اعتراض قريش وانه تعهّد ـ قبل ذلك ـ أن لا يدخل مكة إلاّ بسلاح المسافر.

فأجابه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

« لا ندخلها إلاّ كذلك ولكن يكون هؤلاء قريبين منا ».

وقد أفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكرزا بهذه العبارة بأن قريش لو استغلّت عدم حمل النبي واصحابه للسلاح الثقيل فباغتتهم أدركتهم هذه القوة الاحتياطية المسلحة القوية المستقرة على مقربة من الحرم ، ومدّوهم بالسلاح والعتاد.

فعاد « مكرز » واخبر قريشا بما سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فادركت قريش حنكة رسول الاسلام وبعد نظره ، وحسن تقديره للامور ،

٤٣٢

ففتحت أبواب مكة في وجه المسلمين ، وخرج رءوس المشركين وأهلوهم ومن تبعهم الى رءوس الجبال ، وخلّوا مكة ، وقالوا : لا ننظر إلى محمّد ولا إلى اصحابه ، ولكنهم كانوا يراقبون المشهد من بعيد!! (١)

النبي يدخل مكة :

دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على راحلته القصواء وأصحابه متوشحو السيوف محدقون به يلبّون وهم ألفان ، فدوّى صوتهم الموحّد بالتلبية في أرجاء مكة ، وكانت نغمة هذه التلبية الكبرى من الجلال والجمال بحيث بهرت كل سكان مكة ، وسحرت قلوبهم وعطفها نحو المسلمين ، وفي نفس الوقت أرعب اتّحاد المسلمين ، ونظامهم ، والتفافهم حول النبي قلوب المشركين ، ولم يقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تلبيته حتى استلم الركن.

فلما انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى البيت وهو على راحلته وابن رواحة آخذ بزمامها وقد صف له المسلمون حين دنا من الركن حتى انتهى إليه ، استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه على راحلته انشد عبد الله بن رواحة يقول :

خلّوا بني الكفّار عن سبيله

إني شهدت أنه رسوله

حقا وكل الخير في سبيله

نحن قتلناكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله (٢)

وطاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبيت المعظم على راحلته ، وهنا أمر

__________________

(١) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٣٧ و ٣٣٨.

(٢) زاد المعاد : ج ٢ ص ١٥٢.

٤٣٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله ابن رواحة ان يردّد هذا الدعاء بلحن ونغم خاص ؛ وان يتبعه المسلمون :

« لا إله إلاّ الله وحده وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده واعز جنده ، وهزم الاحزاب وحده ».

كانت مكة بجميع مشاعرها في ذلك اليوم تحت تصرف المسلمين ، المسجد ، الكعبة ، الصفا ، المروة ، وغيرها. وقد كانت هذه الشعارات التوحيدية الساخنة في مكان كان طوال سنين مديدة مركزا للوثنية ، والشرك توجّه ضربات روحية قوية إلى نفسيّة سادة المشركين ، وأتباعهم ، ممّا كان يوحي بغلبة « محمّد » صلى‌الله‌عليه‌وآله على كل أرجاء الجزيرة العربية حتما ويقينا.

ولما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نسكه دخل البيت فلم يزل فيه حتى حان الظهر ، فصعد بلال الذي طالما عذّب في هذا البلد بسبب اسلامه فوق ظهر الكعبة بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واذّن لصلاة الظهر.

ولقد كان لهذا المنظر مردود عجيب في نفوس المشركين فبلال واقف في نقطة طالما عدّت فيها الشهادة بالتوحيد وبرسالة محمّد ، ذنبا لا يغتفر ، وجريمة لا ينجو صاحبها من العذاب ، يردد ويردد معه المسلمون ما يردّد من فصول الأذان فصلا فصلا في خشوع وروحانية بالغة.

لقد أزعج أذان بلال المشركين واعداء التوحيد ، حتى قال « صفوان بن أميّة » : الحمد لله الذين أذهب أبي قبل أن يرى هذا ، وقال خالد بن اسيد : الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم ، ولم يسمع هذا العبد الحبشيّ يقول ما يقول.

واما « سهيل بن عمرو » فانه لما سمع تكبير بلال غطّى وجهه بمنديل.

إنهم لم ينزعجوا من صوت « بلال » بل أحرجتهم مضامين فصول الأذان التي كانت ضدّ ما يحملونه من المعتقدات الباطلة الموروثة ، وجعلتهم يعانون بسبب

٤٣٤

ذلك من عذاب روحي شديد.

ثم ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أراد السعي بين الصفا والمروة سمع بأن قريشا تحدثت بينها أن محمّدا وأصحابه في عسرة وجهد وشدة ، وان الذين هاجروا معه الى المدينة مرضى ، وأنهم صفّوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه ، فهرول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هرولة في المكان المعلّم الآن في المسعى ، وتبعه المسلمين وقد قال لهم قبل ذلك.

« رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة » (١).

وذلك ليبطل ما اشاعته قريش حول المسلمين المهاجرين من الضعف والهزال بسبب ظروف المهجر. وهذا إن دل على شيء فانما يدل على امرين :

أولا : جواز القيام بالأعمال السياسية في موسم الحج.

ثانيا : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان حذرا جدا فكان يبطل كل خطط العدو أولا بأول.

يقول صاحب زاد المعاد : أمر النبي بذلك ليرى المشركون جلدهم وقوتهم ، وكان يكايدهم ( أي يبطل كيدهم ) بكل ما استطاع (٢).

ثم ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن فرغ من السعي نحر البدن ، ثم قصّر من شعره ، ثم خرج من إحرامه ، وتبعه المسلمون في كلّ ما فعل.

ثم أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله مائتين من أصحابه بعد أن طافوا بالبيت وانتهوا من مناسك العمرة ان يذهبوا إلى أصحابه بمرّ الظهران فيقيموا على السلاح فيأتي الآخرون فيقضوا مناسكهم ، ففعلوا.

انتهت أعمال العمرة ونسكها ، وذهب المهاجرون إلى منازلهم التي هجروها قبل سبعة أعوام ، ليجدّدوا اللقاء بذويهم وأقربائهم بعد طول فراق ، واستضافوا

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٣٠٩ وراجع نظيره في زاد المعاد : ج ٢ ص ١٥٢.

(٢) زاد المعاد : ج ٢ ص ١٥٢. ولنا مقال مفصل في هذا المجال تحت عنوان الحج عبادة وسياسة نشر في مجلة الشهيد فراجع.

٤٣٥

جماعة من الأنصار في بيوتهم وفاء لجميلهم وتقديرا لخدماتهم حين قدموا عليهم المدينة بعد الهجرة ، فأسكنوهم واكرموهم في منازلهم وخدموهم سنينا عديدة.

النبي يغادر مكة :

تركت أحوال المسلمين وأوضاع الاسلام وجلال الموكب النبوي وعظمته أثرا بليغا وعجيبا في نفوس سكان مكة المشركين ، فقد تعرفوا على نفسية المسلمين النبيلة الطيبة في هذه الزيارة اكثر من أي وقت مضى وكاد ذلك أن « يفعل » فعلته ، ويحدث انقلابا روحيا في تلك البيئة.

ولما رأى زعماء المشركين أن توقف النبي وأصحابه في مكة سيؤثر في عقائد أهل مكة ويضعف تمسكهم بوثنيتهم ، ويوجد علاقات المحبة بينهم وبين المسلمين ، لهذا بعثوا أحدهم وهو حويطب الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعد انقضاء المدّة المقرّرة للاقامة في مكة في المعاهدة ـ ليطلب منه مغادرة مكة قائلا : انه قد انقضى اجلك فاخرج عنا.

فانزعج بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من مقالة مبعوث قريش هذا ، ولكن النبي لم يكن بالذي يخالف ما تعهّد به ، ولهذا أمر بأن ينادى في المسلمين بالرحيل فترك هو والمسلمون مكة فورا.

ولقد تأثرت « ميمونة » اخت أمّ الفضل زوجة العباس ، بما شهدت من مشاعر المسلمين وروحانيتهم فأرسلت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق عمّها العباس أنها ترغب في الزواج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوافق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وتزوجها ، وبهذا قوّى علاقاته مع قريش.

ان رغبة فتاة في الزواج بمن يكبرها بسنين عديدة لدليل واضح على مدى التأثير الروحي والمعنوي الذي تركه النبي والمسلمون في النفوس حتى أن النبي

__________________

(١) حياة محمد : ص ٤٠١.

٤٣٦

صلى‌الله‌عليه‌وآله لما طلب من مبعوث قريش بأن يمهلوه بعض الوقت ليعرس بين أظهرهم ، ويصنع لهم طعاما يحضروه ، أبوا امهاله خوفا من تعاظم تأثيره في النفوس ، وقالوا له : لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا (١).

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخرج المسلمون من مكة في منتصف النهار ولم يبق بمكة إلى وقت الظهر ، وخلّف ابا رافع ليحمل إليه زوجته « ميمونة » حين يمسي ، فأقام أبو رافع حتى أمسى ، فخرج بميمونة ومن معها فلقوا عناء من سفهاء المشركين ، ولاموا « ميمونة » على فعلها ، ولكن كلامهم لم يؤثر قط في نفسها ، فقد رغبت في الزواج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بدافع الرغبة في خلقه وسموّ أخلاقه.

وهكذا تحققت رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الصادقة التي رآها قبل سنة واحدة بأنه دخل البيت ، وحلق راسه ، ونزلت بعد هذه الوقائع الآية ٢٧ من سورة الفتح تتحدث عن تحقق هذا الوعد حيث أخبرت ضمنا عن فتح قريب ، ـ هو فتح مكة ـ الذي تحقق في السنة الثامنة من الهجرة اذ يقول سبحانه :

« لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً » (٢).

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٧٢ ، تاريخ الخميس : ج ٢ ص ٦٢ ـ ٦٥.

(٢) الفتح : ٢٧.

٤٣٧

احداث السنة الثامنة من الهجرة

٤٧

معركة مؤتة

انقضت السنة الهجرية السابعة ، واستطاع المسلمون بفضل معاهدة صلح الحديبية ان يزوروا معا بيت الله المعظم ويعتمروا في أمان ، ويردّدوا في مركز حكومة الوثنيين شعارات قوية لصالح عقيدتهم التوحيدية إلى درجة انهم استطاعوا ان يستميلوا نحو الاسلام قلوب جماعة من سراة قريش وزعماء المشركين امثال « خالد بن الوليد » ، « وعمرو بن العاص » (١) و « عثمان بن طلحة » ، فلم يلبثوا أن جاءوا طائعين راغبين الى المدينة ، واعتنقوا الاسلام وقطعوا علاقاتهم بحكومة مكة الوثنية المشركة التي لم يبق منها إلاّ جسم من دون روح ، وهيكل من دون حياة (٢).

وذكر بعض المؤرخين اسلام خالد او ابن العاص في السنة الخامسة من الهجرة.

ولكن هذا غير صحيح قطعا لأن « خالدا » كان يقود في الحديبية مائتين من فرسان قريش ، ونحن نعلم أن اسلام هذين الرجلين تمّ في وقت واحد.

كان ثمت أمن نسبيّ يسود اكثر مناطق الحجاز في أوائل السنة الثامنة ، وكان نداء الاسلام قد وصل إلى اكثر النقاط ولم يبق من نفوذ اليهود شيء ، ولم

__________________

(١) لقد ذكر الواقدي في مغازيه : ج ٢ ص ٧٤٣ و ٧٤٥ علة اسلام عمرو بصورة اخرى.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد : ج ٤ ص ٢٥٢ ـ ٢٦١.

٤٣٨

تعد قريش تهدّد المسلمين من ناحية الجنوب ، ولهذا فكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أن يركز دعوته على سكان المناطق الحدودية للشام ، ويستميل الى الاسلام قلوب اولئك الاقوام التي كانت في تلك الايام تعاني من ظلم السلطات الروميّة.

ولهذا الغرض وجّه « حارث بن عمير الازدي » مع كتاب إلى « الحارث بن أبي شمر الغساني » ملك « بصرى » الذي كان حاكم الشامات المطلق يومذاك ، وكان يحكم من جانب قيصر.

فلما نزل مبعوث النبي « مؤتة » عرف به شرحبيل وكان حاكم المناطق الحدودية ، فقبض عليه ، وحقق معه ، فاعترف له بانه يحمل كتابا من جانب رسول الاسلام إلى حاكم الشامات المطلق ( الحارث الغساني ) ، فأمر بان يوثق وقدمه وضرب عنقه صبرا مخالفا بذلك كل الأعراف العالمية القاضية باحترام السفراء وحصانتهم.

فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك وغضب لمقتل رسوله بشدّة وندب الناس فأخبرهم بمقتل سفيره ومن قتله ، ودعا المقاتلين المسلمين الى الخروج للاقتصاص من قاتل « الحارث ».

حادثة أفجع من السابقة :

واتفق أن وقعت في نفس الايام حادثة اخرى افجع من الأولى ، أكّدت عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على تأديب سكان المناطق الحدودية الشامية الذين سلبوا دعاة الاسلام حرية العمل والدعوة ، وقتلوا دون رحمة ، وعذرا سفير النبي ، وجماعة الدعوة والتبليغ وإليك مفصل الحادثة الثانية :

بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في شهر ربيع الاول سنة ثمان من الهجرة على رأس خمسة عشر رجلا إلى منطقة « ذات أطلاح » من ارض الشام ، خلف وادي القرى لدعوة الناس الى الاسلام ، فخرجوا حتى انتهوا إلى تلك

٤٣٩

المنطقة فدعوا أهلها إلى الاسلام فلم يستجيبوا لهم ، ورشقوهم بالنبل فلما رأى أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك قاتلوهم اشدّ القتال ، حتى قتلوا مؤثرين عز الشهادة على ذل الأسر ، وافلت منهم رجل جريح من القتلى ، فلما جنّ الليل تحامل حتى اتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاخبره الخبر فشق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فتسبّب العدوان على دعاة الاسلام وقتلهم في ان يصدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرا بالخروج إلى الجهاد في شهر جمادى ، ووجّه جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لتأديب المتمردين ، ومزاحمي دعاة الاسلام.

فتجمع ثلاثة آلاف بعد الاذان بالجهاد في معسكر خارج المدينة يدعى « الجرف » فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه الى ذلك المعسكر ، وخطب في المقاتلين خطابا ، هذا نصه :

« اغزوا بسم الله ادعوهم الى الاسلام فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم والاّ فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشام ، وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين الناس ، فلا تعرضوا لهم ، وستجدون آخرين للشيطان في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف ، ولا تقتلنّ امرأة ولا صغيرا مرضعا ولا كبيرا فانيا ، لا تغرقنّ نخلا ولا تقطعنّ شجرا ، ولا تهدموا بيتا » (١).

ثم قال : جعفر بن أبي طالب أمير الناس ، فان قتل فزيد بن حارثة ، فان اصيب زيد فعبد الله بن رواحة فإن اصيب عبد الله بن رواحة فليرتضى المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم.

ثم امر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المقاتلين بالتحرك نحو الهدف ، وخرج فشيّعهم مع جماعة من اصحابه حتى « ثنية الوداع » وهناك ودّعهم وكان المسلمون المشيعون يقولون : دفع الله عنكم وردكم سالمين غانمين ، صالحين.

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٧٥٧ و ٧٥٨.

٤٤٠