سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

لا اكراه في الدين وأما من هرب من المشركين الى المسلمين فلو علم الله منه الصدق لنجاه حتما.

ولقد كانت نظرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورأيه متطابقا كل التطابق مع موازين العقل والمنطق السليم ، وقد تجلت صوابيته وحقانيته مع مضيّ الزمن في ما بعد ، لانه لم يمض زمن طويل إلاّ وقريش ـ وبعد سلسلة من الحوادث المؤسفة ـ طلبت بنفسها إلغاء هذه المادّة كما سيأتي بيانه في ما بعد.

إن هذه المادة تعد ردا قاطعا على تقوّلات وتخرّصات المستشرقين المغرضين الذين يصرّون على القول بانّ الاسلام انتشر بالسيف.

إنهم حيث لا يتحملون رؤية هذا الامتياز العظيم الذي كسبه الاسلام الحنيف ، حيث انتشر في مدة قصيرة جدا في شتى نقاط العالم وبقاعه ، حتى كاد أن يعمّ المعمورة كلّها ، ولهذا اضطروا إلى إعزاء انتشار الاسلام الى عامل استخدام القوة ، وقالوا : ان الاسلام انتشر بالقوة ، ليشوهوا بذلك ملامح الاسلام ، ويخفوا الحقيقة خلف غطاء من الاراجيف ، في حين أن هذا الميثاق الذي عقد في الجزيرة العربية أمام اعين المئات من المسلمين وغير المسلمين يعكس بجلاء روح الاسلام وحقيقة تعاليمه السامية ، ومع هذا يكون من مجانبة الواقع القول بأن الاسلام انتشر بقوة السيف. لا بالدعوة الحرة ، والتبليغ والارشاد.

هذا ولقد تحالفت قبيلة خزاعة ـ مع المسلمين في ضوء المادة الثالثة من الميثاق ، بينما تحالفت قبيلة بني كنانة ـ وكانوا أعداء تقليديّين لخزاعة مع قريش.

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح :

كانت مقدمات الميثاق المذكور ، وبنوده توحي بصورة جليّة وكاملة بأن أكثرها قد فرضت فرضا على المسلمين ، فلو أن رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل بامحاء كلمة « رسول الله » من اسمه ، وبدأ الميثاق بعبارة « باسمك اللهم » على عادة الجاهليين بدل البسملة الكاملة فان غايته من ذلك كانت هي الحفاظ على

٣٤١

الصلح ، واقرار الأمن في الجزيرة العربية.

ولو ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رضي بأن يسلّم المسلمين الهاربين من قبضة المشركين الى جماعة المسلمين ، ويعيدهم الى القيادة الوثنية في مكة فان بعض ذلك كان بسبب تصلّب سهيل ممثل قريش وتعنته ، ولو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان يرضخ لهذا الشرط ( استجابة لرغبة الرأي العام الاسلامي الذي كان مخالفا لمثل هذا الشرط ومعارضا لاعادة المسلمين الهاربين من مكة إلى قريش ، وحفاظا على حقوق اولئك الأشخاص الهاربين ) لتعطّلت عملية السلام ، ولما تحقق الصلح ، ولفاتت المسلمين هذه النعمة الكبرى التي انطوت على آثار عظيمة في المستقبل كما أثبتت الوقائع في ما بعد.

من هنا قاوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كل الضغوط من جهة ، وتحمل عملية فرض هذا الشرط من جهة اخرى ، ليصل الى المقصد الأعلى والهدف الاكبر الذي تتضاءل تجاهه هذه المتاعب.

ولو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يراعي الرأي العام ويلاحظ حقوق هذه الجماعة ، لكان « سهيل » يتسبب ـ بسبب تصلبه الارعن ـ في اشتعال نائرة الحرب.

والقصّة التالية تشهد بما نقول :

حينما انتهت مفاوضات السلام ، وبينما كان الامام علي عليه‌السلام يكتب وثيقة الموادعة والصلح دخل أبو جندل بن سهيل في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يرسف في الحديد.

فتعجب الجميع من حضوره هناك ، اذ كان محبوسا في سجن أبيه سهيل ( المفاوض ) مدة طويلة.

ولم يكن لابي جندل من ذنب إلاّ أنه اختار التوحيد عقيدة ، والاسلام دينا ، ورفض الوثنية والشرك وكان يحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حبا شديدا فحبسه أبوه.

٣٤٢

وكان أبو جندل قد بلغه أمر المفاوضات هذه ، فهرب من محبسه وانفلت الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سالكا إليه طرقا وعرة في الشعاب ، والوديان.

فلما رأى « سهيل » ابنه أبا جندل وقد هرب من سجنه ، ولجأ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قام إليه فضرب وجهه ، واخذ بتلابيبه ثم قال : يا محمّد لقد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، وهذا يا محمّد أول من أقاضيك عليه أن ترده.

ولا شك أن كلام « سهيل » كان باطلا ، ولا مبرر لطلبه ، لأن الميثاق لم تتم كتابته على الورق ، ولم يوقع عليه الطرفان ، ولم ينته ـ بالتالي ـ من مراحله النهائية والأخيرة بعد ، فكيف يمكن الاستناد إليه ، ولهذا أجابه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا :

« إنا لم نرض ( نقض ) بالكتاب بعد » (١)

فقال سهيل : إذا والله لا اصالحك على شيء أبدا ، حتى ترده إليّ ، ولم يزل يصرّ على كلامه ورفضه هذا حتى أنزعج اثنان ممّن رافقه من شخصيات قريش هما مكرز وحويطب من تصلب سهيل وتشدده.

ثم قاما وأخذا أبا جندل من أبيه وأدخلاه خيمة وقالا : نحن نجيره.

ولقد فعلا ذلك حتى ينهيا ذلك التنازع ، والجدال ، ولكن إصرار سهيل على موقفه ، أبطل تدبيرهما اذ قال : يا محمّد لقد لجّت القضية بيني وبينك قبل ان ياتيك هذا (٢).

فاضطرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن يقوم بآخر سعي في طريق الحفاظ على الهدنة والصلح الذي كان له أثر عظيم في انتشار الاسلام ، ولهذا رضى بردّ أبي جندل إلى والده ، لإعادته الى مكة ، ثم قال لذلك المسلم الاسير تطييبا لخاطره :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٣٤.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢١ لجّت : وجبت وتمت.

٣٤٣

« يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فان الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهد الله ، وإنا لا نغدر بهم ».

وانتهت جلسة المفاوضات ، وتمّ التوقيع على نسختي الميثاق ، وعاد سهيل ورفاقه إلى مكة ، ومعهم « أبو جندل » ابن سهيل في جوار مكرز وحويطب ، ونحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان معه من الهدي (١) في نفس ذلك المكان وحلق فنحر جماعة من المسلمين وحلقوا (٢).

تقييم عاجل لصلح الحديبية :

بعد أن فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من عقد صلح الحديبية بينه وبين رءوس الشرك ، وبعد أن توقف في أرض الحديبية مدة ١٩ يوما عاد هو وأصحابه الى المدينة ، وعاد المشركون إلى مكة.

هذا وقد نشبت مشاجرات ومشادات كلامية حين تنظيم ذلك الميثاق وكتابته ، بين أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنهم من كان يعتبر ذلك الصلح في صالح الاسلام ، وقليل منهم كان يعدّه مضرا بمصلحة الاسلام والمسلمين.

ولقد انقضى الآن أكثر من أربعة عشر قرنا على عقد ذلك الصلح التاريخي العظيم فلندرس معا تلك المعاهدة بموضوعية وتجرد ، ونستعرض طرفا من تلك الاعتراضات والمجادلات لنقف على معطيات تلك العملية ، ونتائجها.

ان الذي نراه هو : ان هذا الصلح كان في صالح الاسلام مائة بالمائة ، وانه هو الذي جعل أمر انتصار الاسلام قطعيّا ،

__________________

(١) أي الابل التي ساقها معه.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٨١ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٥٣ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣١٨. امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٩٤ و ٣٩٥.

٣٤٤

لا شك فيه ، وإليك أدلة هذا الرأي :

١ ـ إن حملات قريش المتتابعة على المسلمين ، والتحريكات الداخلية والخارجية التي أشرنا إليها في حوادث « احد » و « الاحزاب » على نحو الاختصار ، لم تترك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرصة لنشر الاسلام بين القبائل ، وفي المناطق المختلفة خارج شبه الجزيرة العربية.

من هنا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يصرف اكثر اوقاته الثمينة في الدفاع والعمل على إفشال المؤامرات الخطرة التي كان العدوّ الداخلي والخارجيّ يحيكها باستمرار.

ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرغ باله بعد عقد صلح الحديبية مع قريش من ناحية الجنوب ، فتهيّأت الأرضية لانتشار الاسلام في المناطق الاخرى.

وقد ظهر أثر هذا الهدوء والاستقرار بعد سنتين من عقد تلك المعاهدة ، فقد كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديبية ألف وأربعمائة ولكنه عند ما توجّه إلى مكة لفتحها بعد عامين خرج معه عشرة آلاف ، وكان هذا التفاوت من نتائج صلح الحديبية مباشرة ، لأن بعض الناس كانوا يخشون قريشا فلا يلتحقون بالمسلمين لذلك السبب ، ولكن بعد أن اعترفت قريش بالكيان الاسلاميّ بصورة رسمية ، وأعطيت للقبائل الحرية الكاملة للانضمام إلى المسلمين زال الخوف المذكور عن كثير من القبائل ، فاستطاع المسلمون أن يستغلوا تلك الفرصة ويقوموا بنشاط تبليغي ودعوة واسعة إلى الاسلام.

٢ ـ إن النتيجة الثانية التي حصل عليها المسلمون من هذه المعاهدة هي زوال الستار الحديدي الذي كان قد ضربه المشركون بين الناس وبين الاسلام ، فقد سمح ذلك الصلح بالسفر الى المدينة فكان الناس في سفرهم الى المدينة يحتكون بالمسلمين ويلتقون بهم ، فيتعرفون على تعاليم الاسلام السامية.

ولقد أثار نظم المسلمين ، واخلاصهم ، وطاعة المؤمنين الكاملة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إعجاب المشركين كما أثارت نظافة المسلمين ، في أوقات الصلاة خاصة ، وصفوفهم المتلاحمة أثناء هذه العبادة المباركة ، وخطب رسول الله

٣٤٥

صلى‌الله‌عليه‌وآله الرائعة ، واللذيذة ، وآيات القرآن الكريم البليغة ، والسهلة في نفس الوقت رغبة قوية في نفوس الكفار إلى الاسلام.

هذا مضافا إلى أن المسلمين استطاعوا بعد عقد ذلك الميثاق السفر إلى مكة وشتى نقاط الجزيرة بحجج مختلفة ، والاتصال بذويهم وأقاربهم ، والتحدث معهم في أمر الاسلام وتعاليمه المقدسة المحبّبة ، وقوانينه وآدابه الرائعة ، وما جاء به من حلال وحرام.

وقد تسبّبت كل هذه الامور في أن يلتحق كثير من رءوس الشرك والكفر كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص بالمسلمين ، ويعتنقوا ذلك الدين قبل فتح مكة ، وأن تساعد هذه المعرفة بحقائق الاسلام ، والاطّلاع على مزاياه وفضائله على تسهيل عملية فتح مكة ، وانهيار صرح الوثنية فيها من دون أيّة مقاومة من أهل مكة ، بحيث سيطر المسلمون عليها بسهولة وأقبلت أفواج الناس تدخل في دين الله راغبة كما ستعرف تفاصيل ذلك في حوادث السنة الثامنة.

إن هذا الانتصار العظيم كان نتيجة الاتصالات التي اجراها المسلمون مع ذويهم وأصدقائهم في مكة خلال تردّدهم المتكرر بعد زوال الخوف والحصول على الحرية في الدعوة بفضل صلح الحديبية.

٣ ـ إن الاتصال برءوس الشرك أثناء عقد اتفاقية السّلام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديبية ، ساعد على ازالة كثير من العقد النفسية التي كانوا يعانون منها تجاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن أخلاق النبي الرفيعة ، وحلمه وصبره أمام تعنت قادة المشركين وتصلبهم وعتوهم ، وسعيه الحثيث وحرصه الصادق على تحقيق السلام ، أثبت لهم بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله معدن عظيم من معادن الخلق الانساني الكريم.

فبالرغم من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أصيب على أيدي قريش بخسائر فادحة ، وناله منهم أذى كثير ، إلا أن فؤاده كان طافحا بمشاعر اللطف ، والحب والحنان على الناس.

٣٤٦

لقد رأت قريش بام عينيها كيف أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله خالف في عقد ميثاق الصلح آراء جماعة من أصحابه ، المعارضة لبعض بنود الاتفاقية رغبة منه في تحقيق السلام ، وكيف آثر الحفاظ على حرمة المسجد الحرام على هواه ، ورغبته الشخصية.

إن هذا النوع من السلوك أبطل مفعول جميع الدعايات السيئة التي كانت تروّج ضد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومواقفه وخلقه ، وأفكاره واثبتت للجميع أنه حقا رجل سلام ، وداعية خير للبشرية ، وأنه حتى لو سيطر على مقاليد الجزيرة العربية ، لما عامل أعداءه الاّ بالحسنى واللطف ، لأنه لم يكن مشكوكا فيه بأنه لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخوض حربا ضد قريش في ذلك اليوم لغلبها وهزمها شر هزيمة كما يصرح بذلك القرآن الكريم أيضا اذ يقول :

« وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً » (١).

ومع ذلك أبدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تسامحا كبيرا ، وأعلن عن عطفه ، وحنانه للمجتمع العربيّ ، وبذلك أبطل كل الدعايات التي كانت تروّج ضدّه ، وضدّ دعوته العظيمة المباركة.

من هنا نهتدي إلى مغزى ما قاله الامام الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام عن أهمية هذا الصلح حيث قال :

« وما كان قضية أعظم بركة منها » (٢).

إن الحوادث اللاحقة أثبتت أن اعتراض عدد ضئيل من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب على هذا الصلح كان باطلا ولا مبرر له.

وقد أدرج أرباب السير والتاريخ جميع هذه الاعتراضات ، كما تنقل ردّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليها ، ويمكن للوقوف عليها مراجعة السيرة النبوية

__________________

(١) الفتح : ٢٢.

(٢) الكافي : ج ٨ ص ٣٢٦.

٣٤٧

لابن هشام ، وامتاع الاسماع وغيرهما ان قيمة هذه المعاهدة تتجلى من ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يصل الى المدينة حتى نزلت سورة الفتح التي وعدت المسلمين وبشّرتهم بالانتصار ويمكن اعتبار هذا العمل مقدمة لفتح مكة كما يقول تعالى : « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً » (١).

قريش تصرّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة :

لم يمض زمان طويل حتى أجبرت الحوادث المرّة قريشا على أن تبعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من يطلب منه إلغاء المادة الثانية من معاهدة صلح الحديبية ، وهي المادة التي أغضبت بعض صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأثارت سخطهم ، وقبل بها رسول الله تحت إصرار من « سهيل » ممثل قريش في مفاوضات الحديبية.

تلك المادة التي تقول : على الحكومة الاسلامية أن تعيد كل مسلم هارب من مكة إلى حكومة مكة ، ولكن لا يجب على قريش أن تعيد كل هارب من المسلمين إلى مكة ، إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد أثارت هذه المادة ـ المجحفة في الظاهر ـ سخط البعض واعتراضهم ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لابي جندل في وقته :

« إنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ».

ثم إن مسلما آخر يدعى « أبو بصير » كان قد حبسه المشركون ردحا طويلا من الزمن استطاع أن يفرّ من محبسه ويصل الى المدينة ، وقد وصلها سعيا على قدميه ، فكتب شخصيتان من شخصيات قريش هما : « أزهر » و « الأخنس » كتابا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يطلبان منه إعادة أبي بصير إلى قريش

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢٦٣ نقلا عنن اعلام الورى ، وزاد المعاد في هدى خير العباد : ج ٢ ص ١٢٦.

٣٤٨

ويذكّر انه بالمعاهدة وأرسلاه مع رجل من بني عامر يرافقه غلامه ، فدفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « أبا بصير » إلى الرجلين عملا بالمعاهدة قائلا :

« يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ( أي من العهد ) ولا تصلح لنا في ديننا الغدر وإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا » (١).

فقال أبو بصير : يا رسول الله تردّني إلى المشركين؟!

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثانية :

« انطلق يا أبا بصير ، فان الله سيجعل لك مخرجا ».

ثم دفعه إلى العامريّ وصاحبه فخرج معهما باتجاه مكة.

فلما كانوا بذي الحليفة ( وهي قرية تبعد عن المدينة بستة أميال يحج منها بعض أهل المدينة ) صلّى أبو بصير ركعتين صلاة المسافر ثم مال إلى أصل جدار فاتّكأ عليه ، ووضع زاده الذي كان يحمله وجعل يتغدّى وقال لصاحبيه في لهجة الصدّيق : ادنوا فكلا؟ فأكلا معه ثم آنسهم ثم قال للعامري : ناولني سيفك انظر إليه إن شئت أصارم هو أم لا؟ فناوله العامري سيفه وكان أقرب إلى السيف من أبي بصير ، فجرّد أبو بصير السيف وقتل به العامريّ في اللحظة ، فهرب الغلام يعدو نحو المدينة خوفا ، وسبق أبا بصير الى المدينة ، وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما جرى لسيّده العامريّ ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في أصحابه والغلام عنده يقصّ عليه ما جرى إذ طلع أبو بصير ، فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد وقال : وفت ذمّتك ، وأدّى الله عنك ، وقد أسلمتني بيد العدوّ ، وقد امتنعت بديني من أن افتن.

ثم إن أبا بصير بعد أن قال هذا الكلام خرج من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وغادر المدينة ، ونزل ناحية على ساحل البحر ، على طريق قافلة قريش

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٦٢٥.

٣٤٩

إلى الشام ، تسمى « العيص ».

وعرف المسلمون الذين حبسوا بمكة بهذا التطوّر ، ففرّ منهم سبعون رجلا ، وانضمّوا إلى أبي بصير وكانوا ممن نالهم على يد قريش أشدّ العذاب والعنت ، فلا حياة ولا حرية لهم.

من هنا قرّروا أن يتعرضوا لقافلة قريش التجارية ويغيروا عليها ، أو يقتلوا كل من وقعت يدهم عليه من قريش.

وقد لعبت هذه الجماعة دورها بصورة رائعة جدا بحيث أقلقت بال قريش ، وسلبت منها الرقاد إلى درجة أنهم كتبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يطلبون منه إلغاء هذه المادة ( أي المادة الثانية ). بموافقة الطرفين وقد أعلنوا موافقتهم على إلغائها ، واعادة أبي بصير وجماعته إلى المدينة والكف عن التعرض لتجارة قريش.

فوافق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على إلغاء تلك المادة ، وطلب من المسلمين في منطقة « العيص » القدوم الى المدينة.

وبهذا توفّرت فرصة طيبة لجميع المسلمين ، كما عرفت قريش أنها لا تستطيع سجن المؤمن ، وحبسه في القيد ، وان تقييده وحبسه أخطر بكثير من إطلاق سراحه ، لأنه سيفرّ ذات يوم وهو يحمل روح الانتقام على سجّانه.

النساء المسلمات لا يسلّمن إلى قريش :

بعد أن تم الاتفاق والتوقيع على معاهدة صلح الحديبية هاجرت « أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط » في تلك المدة ، فخرج أخواها « عمارة » و « الوليد » ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يسألانه أن يردّ اختهما عليهما بالعهد الذي بينه وبين قريش في الحديبية ، فلم يفعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال لهما :

« إن الله نقض العهد في النساء » (١).

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٦٣١ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٢٣.

٣٥٠

وقد نزل قوله تعالى يوضح حكم هذا الامر :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا » (١).

كانت هذه قصّة « الحديبية » ، وقد استطاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ظلّ الهدوء والأمن اللذين تحققا بسبب معاهدة الحديبية أن يراسل قادة العالم وزعماءه ، وأن يبلّغ نبأ دعوته إلى مسامع شعوبهم ، وستقف على مفصل هذا القسم من تاريخ الاسلام المشرق في الفصل القادم.

__________________

(١) الممتحنة : ١٠.

٣٥١

حوادث السنة السابعة من الهجرة

٤٣

النبيّ يعلن عن رسالته العالمية

لقد أراحت معاهدة الحديبية بال رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله من ناحية الجنوب ( أي مكة ) ، وقد آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولبّى دعوته في ظل الهدوء والأمن والاستقرار الحاصل بسبب هذا الصلح جماعة من زعماء العرب. ورجالها البارزين.

واغتنم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الفرصة ففتح على ملوك العالم وزعماء القبائل ، ورجال الدين المسيحي يومذاك باب المراسلة ، فكاتبهم ووجّه إليهم رسائل كثيرة عبر رسله وسفرائه ، وقد عرض فيها عليهم رسالته ودعوته التي كانت يومذاك لا تخرج عن صورة العقيدة البسيطة وكان في مقدورها أن تضم تحت لواء التوحيد ، وفي اطار التعاليم الاخلاقية والانسانية كل البشرية.

وقد كانت هذه هي الخطوة الاولى التي خطاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ١٩ عاما من الصراع مع قريش العاتية.

ولو أن الاعداء الداخليين لم يشغلوه بالصراعات والحروب لاستطاع رسول الاسلام ان يقوم بتوجيه دعوته الى شعوب العالم آنذاك قبل هذا الوقت ، ولكن الحملات الظالمة والمضايقات الشديدة التي قام بها العرب الوثنيون الجهلة طوال ما يقرب من عقدين من عمر الرسالة أجبرت رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله على أن يصرف قسما عظيما من أوقاته الغالية في ترتيب شئون الدفاع عن حياض الاسلام وكيان المسلمين.

٣٥٢

إن الرسائل التي وجّهها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الامراء والسلاطين ، وإلى رؤساء القبائل ، والشخصيات الدينية والسياسية البارزة داخل الجزيرة العربية وخارجها لدعوتهم إلى الاسلام تكشف عن طريقته في الدعوة والتبليغ ، والارشاد والهداية.

وبين أيدينا الآن نصوص ١٨٥ (١) رسالة وكتاب من مكاتيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسائله التي دعا فيها من أرسلها إليهم ، إلى الإسلام ، أو كتبه التي تشكّل معاهداته ومواثيقه صلى‌الله‌عليه‌وآله التي أعطاها أو عقدها مع الاطراف المختلفة وقد جمعها ، وضبطها أرباب السير وكتّاب التاريخ وهي تكشف برمتها عن أن اسلوب الاسلام في الدعوة والتبليغ يعتمد على المنطق والبرهان ، لا على السيف والقهر وعلى الاقناع لا الاكراه.

فيوم اطمأن بال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمن جانب قريش وحلفائها ، وجّه نداءه الالهي إلى مسامع البشرية في العالم وذلك عن طريق ارسال الرسائل ، أو بعث المبلغين والدعاة إلى شتى أنحاء العالم.

إن نصوص هذه الرسائل ، والاشارات الموجودة في خلالها ، ونصائحه التي كان يوجّهها صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس ، والتسامح الذي كان يبديه من نفسه خلال عقد الاتفاقيات وإبرام المعاهدات مع الاجانب ، تشكّل برمتها شواهد قاطعة ، ودامغة ضدّ نظرية المستشرقين الذين أرادوا مسخ وجه الاسلام

__________________

(١) لقد اجتهد علماء الاسلام في جمع واحصاء رسائل النبي الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتبه قدر المستطاع ، وإن أكمل المصادر الحاضرة من حيث الاستقصاء وسعة التتبع كتابان يتسمان بأهمية كبرى في هذا المجال وهما :

أ ـ الوثائق السياسية تأليف البرفيسور محمّد حميد الله حيدرآبادي ، الاستاذ بجامعة باريس.

ب ـ مكاتيب الرسول تأليف العلاّمة المحقق المحترم الشيخ علي الاحمدى.

والكتاب الأخير يمتاز بتحقيقات وتحليلات أدبية ، وتاريخيه وسياسية إسلامية في غاية الأهمية.

٣٥٣

المشرق ، بكيل الاتهامات الباطلة له ، والزعم بأن تقدّم الاسلام وانتشاره كان بفعل القهر ، وبقوة السيف ، وتحت عامل الفرض والاجبار واننا لنأمل أن نوفّق ذات يوم لدراسة وتقييم تلك الرسائل والكتب واستجلاء هذه النقاط المذكورة واستخراج خطوط السياسة النبوية ومعالم الدعوة المحمدية. من ثنايا تلكم الرسائل والكتب التاريخية الخالدة لنستطيع من خلال هذا العمل بيان اسلوب الاسلام في نشر دينه في شتى نقاط العالم.

الرسالة المحمّدية كانت عالمية : (١)

ينظر بعض الجهلة إلى مسألة عالمية الرسالة المحمّدية بنظر الشك والترديد ، وهم يتبعون في مثل هذه النظرة الجاهلة ما يروّجه بعض الكتاب العملاء ، وفي مقدمة هؤلاء المغرضين مستشرق معاد للإسلام هو « السير ويليم موير » الذي يقول : إن موضوع عالمية الرسالة المحمّدية قد ظهر وتبلور في ما بعد ، وأن محمّد اقتصر في دعوته من بدء رسالته إلى لحظة وفاته على العرب ، ولم يكن « محمّد » يعرف أي مكان غير الجزيرة العربية.

ولقد اتّبع هذا المستشرق نهج أسلافه الإنجليز ، وحاول التعتيم على الحقيقة في مقابلة الآيات الكثيرة التي تشهد ـ بجلاء ـ بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يدعو البشر عامة إلى التوحيد والاعتقاد برسالته وقال : انّ محمّدا كان يقتصر في دعوته على العرب خاصة.

ونحن هنا ندرج بعض الآيات التي تشهد بأن رسالة الاسلام ، وأن الدعوة المحمّدية كانت منذ بداية ظهورها دعوة عالمية ، ويمكن مراجعة كتب التفسير والعقائد للوقوف على المزيد من التوضيح في هذا المجال.

__________________

(١) هاهنا مسألتان يجب التمييز بينهما :

أ ـ عالميّة الرسالة المحمّدية.

٣٥٤

آيات تدل على عالمية الرسالة المحمّدية :

١ ـ « وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً » (١).

٢ ـ « وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ » (٢).

٣ ـ « لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا » (٣).

٤ ـ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ » (٤).

والآن نسأل هذا الكاتب الإنجليزي : كيف تقول ـ مع هذه الدعوة العالمية ـ أن موضوع عالمية الرسالة الاسلامية قد ظهر وتبلور في ما بعد.

فهل مع وجود هذه الآيات ونظائرها ومع وجود سفراء رسول الله ومبعوثيه الى المناطق النائية ، والبلاد البعيدة ، وإلى نصوص الرسائل التي بقيت مسجلة في صفحات التاريخ عن رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وخاصة ما بقي منها محفوظا بعينه الى الآن في المتاحف العالمية الكبرى يبقى مجال لأن يشك أحد في عالمية رسالته.

والعجيب أن الكاتب المذكور يكتب بكل وقاحة قائلا : ان محمّدا لم يكن

__________________

ب ـ خاتمية الرسالة المحمّدية.

وفي الاولى تعالج مسألة عالميّة رسالة النبيّ محمّد ، وعدم عالميتها وانه صلى‌الله‌عليه‌وآله هل كان مبعوثا لخصوص سكان الجزيرة العربية أم لعموم البشر ، وللنّاس كافة ، في حين أن المحور في المسألة الثانية هو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله هل هو آخر نبي أو لا على انه يمكن ان يقول البعض ان دينه كان عالميا إلاّ أن نبوته لم تكن خاتمة النبوات بل سيأتي بعده نبي آخر وشريعة اخرى.

من هنا لا بد من البحث ـ في النبوة الخاصة ـ حول كلتي المسألتين بصورة مستقلة ، وقد بحثنا المسألتين في الجزء الثالث من مفاهيم القرآن بصورة موسعة.

(١) سبأ : ٢٨.

(٢) القلم : ٥٢.

(٣) يس : ٧٠.

(٤) التوبة : ٣٣.

٣٥٥

يعرف غير الحجاز ، في حين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سافر يوم كان في ربيعه السادس عشر مع عمه أبي طالب الى الشام كما سافر الى الشام في تجارة خديجة في سنّ الخامسة والعشرين ، مع قافلة قريش التجارية.

حقا ان من العجيب العجاب أننا كلّما قرأنا في التاريخ أن شابا يونانيا ( هو الاسكندر المقدوني ) كان يريد أن يسيطر على العالم ، أو نسمع أن ناپليون بونابرت كان يفكر في أن يكون امبراطور العالم الوحيد لم يبعثنا كل ذلك على الاستغراب والدهشة ولكن كلما يسمع فريق من المستشرقين بأن قائد المسلمين الأعلى وجّه دعوة الاسلام ـ وبأمر الله ـ الى زعماء عصره العالميّين الذين كان بينهم وبين قومه علاقات تجارية عريقة انكروا ذلك وبوقاحة ، واعتبروه أمرا محالا.

رسل الاسلام الى المناطق النائية :

طرح رسول الاسلام قضية دعوة الملوك والامراء الى الاسلام على شورى كبيرة من أصحابه كغيرها من المسائل المهمة فقال :

« أيها الناس ان الله قد بعثني رحمة وكافّة فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم ».

فقال أصحابه : وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟ قال :

« دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه ، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم واما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل ».

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اختار ستة أشخاص من خيرة أصحابه وكتب معهم كتبا إلى الملوك تضمنت دعوته العالمية ، وبعثهم إلى مختلف نقاط الأرض.

وهكذا توجّه سفراء الهداية ورسل الدعوة المحمّدية في يوم واحد إلى إيران ، والروم ، والحبشة ، ومصر واليمامة ، والبحرين ، والحيرة ، ( الاردن ) وسوف نقرأ معا

٣٥٦

مفصل ما احتوته رسائله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وعند ما فرغ من كتابة الرسائل المذكورة قال بعض ذوي الاطلاع والعلم بأحوال بلاطات الملوك آنذاك قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا رسول الله : إن الملوك لا يقرءون كتابا إلاّ مختوما ، فاتخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ خاتما من فضة ، فصّه منه ، نقشه ثلاثة أسطر : محمّد رسول الله ، في الاعلى لفظة الجلالة وتليه كلمة رسول ثم يليه اسمه الشريف ، وختم به الكتب.

ولم يكتف بهذا بل ختم تلك الرسائل بالشمع أو الطين إمعانا في السرية ، والحفاظ عليها من التزوير (٢).

أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية :

كانت الامبراطوريتان ( الرومية والفارسية ) تقتسمان آنذاك قيادة العالم ، وكانت الحروب قائمة بين ذينك المعسكرين على قدم وساق ، ومنذ زمن بعيد.

فلقد بدأ الصراع على النفوذ بين إيران والروم منذ عهد الهخامنشيين ، واستمرّ حتى عصر الساسانيين ملوك ايران.

فكان الشرق تحت النفوذ الايراني ، كما كانت العراق واليمن وشيء من آسيا الصغرى تعدّ من توابع الامبراطورية الإيرانية ومستعمراتها.

وأمّا الامبراطورية الرومية فقد كانت منقسمة يومذاك إلى معسكرين شرقي وغربي لأن « تئودوز الكبير » امبراطور الروم قسم بلاده في سنة (٣٩٥) ميلادية بين ولديه ، ومن هنا ظهرت الروم الشرقية والروم الغربية.

وقد انقرضت الروم الغربية على أيدي متوحشي وبرابرة شمال اوربا ، ولكن

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٠٦ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ص ٢٦٤ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٤١ ـ ٢٤٢ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٣٨٢.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٤٠ و ٢٤١.

٣٥٧

الروم الشرقية التي كان مركزها يومذاك « القسطنطنية » وكانت تسيطر على الشام ومصر ، فكانت تسيطر أبان ظهور الاسلام على قدر كبير من مقاليد السياسة العالمية إلى أن فتحت القسطنطنية عام (١٤٥٣) على يد السلطان محمّد الثاني « محمّد الفاتح » ، وبذلك غربت شمس دولة الروم الشرقية ، واضمحلّت نهائيا.

وقد كانت أرض الحجاز محاصرة بين هذين القطبين ومحاطة بهاتين القوتين العظيمتين ، ولكن حيث أن أراضي الحجاز لم تكن أراض خصبة ، وكان أهلها في الأغلب من الرحّل المتفرقين في البراري والقفار ، لذلك لم تبد كلتا الامبراطوريتين رغبتهما في الاستيلاء على تلك الأراضى ، فقد كانت النخوة والظلم ، والحروب التي اتسمت بها طبيعة وحياة تينك الدولتين تمنعهما من الاطلاع على أي تغيير اجتماعي أو تحول سياسي يقع في هذه المنطقة من العالم.

فهم لم يكونوا يتصوّرون قط أن يتمكن شعب ـ كان بعيدا عن روح الحضارة والمدنية ـ من وضع نهاية لإمبراطوريّتهم ، بفضل ما أوتوا من ايمان ، وإنارة النقاط التي كانت ترزح في ظلام جور السلطات الرومية وظلمها بنور الإسلام المشرق ، ولو كانوا يعرفون شيئا عن هذه النهضة المشرقة وهذا الانفجار المعنوي العظيم في بدء حدوثه لقضوا عليه في أوّل الأمر ، ولم يتركوه يمتد إلى ملكهم ، ويقلب كل شيء رأسا على عقب.

رسول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أرض الروم :

كان قيصر الرّوم قد عاهد الله إذا غلب الفرس أن يسير الى بيت المقدس من عاصمته : « القسطنطنية » مشيا على القدم للزيارة ، شكرا لله ، وقد وفى بنذره هذا بعد انتصاره على إيران ، وسار مشيا على القدم إلى بيت المقدس.

فكلّف « دحية الكلبي » بإيصال كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى قيصر ، وكان دحية قد سافر مرارا الى الشام ، وكان عارفا بمناطقها وعاداتها معرفة كاملة ، وكان إلى ذلك جميل الصورة حسن السيرة ، ولهذا كان جديرا بتحمل هذه

٣٥٨

المسئولية الخطيرة لائقا لها.

وقد توجّه إلى « القسطنطنية » رأسا بعد أن كلّفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بايصال كتابه إلى قيصر ، ولكنه ما أن وصل إلى بصرى ( من مدن الشام ) إلاّ وبلغه أن قيصرا قد فارقها قاصدا بيت المقدس ولهذا بادر الى الاتصال بحاكم بصرى (١) : « الحارث بن أبي شمر » واخبره بالمهمة الخطيرة التي جاء من اجلها.

يقول مؤلف الطبقات الكبرى : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دحية بن خليفة الكلبي الى قيصر يدعوه إلى الاسلام ، وكتب معه كتابا ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر ، ( ولعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعرف بمغادرة قيصر لعاصمة ملكه أو لعل ذلك الأمر كان مراعاة لامكانيات دحية المحدودة ، وكون السفر الى قسطنطنية كان يتطلب جهدا كبيرا أو لا يخلو من محاذير ).

فدفعه عظيم بصرى إليه وهو يومئذ بحمص ، وذلك بان استدعى عدي بن حاتم ووجهه مع سفير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليوصل كتابه إلى قيصر ، فذهب به إليه ، ولما أراد الدخول على قيصر قال قومه لدحية : اذا رأيت الملك فاسجد له ، ثم لا ترفع رأسك حتى يأذن لك.

فقال دحية : لا افعل هذا أبدا ، ولا أسجد لغير الله! ( أي انني قد جئت لتحطيم هذه السنن الجاهلية المقيتة فكيف أخضع لها ، انما جئتكم من قبل نبي لا بلّغ ملككم بأن عهد عبادة البشر قد انقضى وانتهى وأنه لا يحق السجود إلاّ لله وحده ، فكيف يمكنني ذلك وأنا أحمل هذه الرسالة التوحيدية إليكم؟! ) (٢).

ولقد أعجب قوم قيصر بمنطق دحية القوي ، وموقفه الصلب ، فقال له رجل منهم : أنا أدلك على أمر يؤخذ فيه كتابك ، ولا تسجد له ، ضع صحيفتك تجاه

__________________

(١) كانت بصرى مركز محافظة حوران التي كانت تعدّ من مستعمرات قيصر. وكان الحارث بن أبي شمر ـ وبصورة عامة ـ جميع ملوك بني غسان ، من ولاة قيصر على تلك المناطق.

(٢) الطبقات الكبرى ، ج ١ ص ٢٥٩.

٣٥٩

المنبر فان أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو ، ثم يدعو صاحبها فشكر دحية الرجل ، وأخذ بنصيحته ، وفعل ما اشار به.

فلما أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فاذا فيه :

« بسم الله الرحمن الرحيم. من محمّد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الرّوم سلام على من اتبع الهدى.

أمّا بعد فانّي أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلم يؤتك الله اجرك مرّتين. فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين (١) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بانّا مسلمون محمّد رسول الله ».

قيصر يحقّق حول النبي :

احتمل حاكم الروم اللبيب أن يكون كاتب هذه الرسالة هو : « احمد الموعود » الذي بشرت به الانجيل والتوراة ، ولهذا قرّر أن يحقق حول شخصيته ، ويتعرف على خصوصيات حياته ، الدقيقة.

فبعث أحدا إلى الشام فورا ليأتي له بقريب لمحمّد ، أو من يعرف شيئا عنه. حتى يسأله عن شخصية رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله فاتفق أن كان أبو سفيان بن حرب يومذاك بالشام للتجارة في ركب من قريش ، فأخذهم

__________________

(١) بين العلماء في تفسير هذه اللفظة خلاف ، فيقول ابن الاثير : قيل هم الخدم والخول وقال بعض : هم الاكّارون ( أي الفلاحون ) لأن اكثر الناس يومذاك كانوا من الفلاحين ، وهم اطوع الناس للحاكم.

ويؤيد هذا الرأي الاخير أنه جاء في بعض النسخ ( الكامل : ج ٢ ص ١٤٥ ) كلمة الأكارين بدل الاريسيين والاكار هو المزارع ، واحتمل البعض أن يكون الاريسيون طائفة كانت تعيش في الروم.

٣٦٠