سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

٣٨

سقوط آخر أوكار الفساد والمؤامرة

أقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة الاولى من هجرته الى المدينة ، على تنظيم وعقد ميثاق تعايش بين سكان المدينة وما حولها ، بغية إنهاء جميع أشكال الاختلاف ، والتنازع ، والصراع الداخليّ.

وقد تعهّد الأوسيّون والخزرجيّون ، عامة واليهود من تينك القبيلتين أن يدافعوا عن المدينة وما حولها ، وقد مرّ النص الكامل لهذا الميثاق على القارئ الكريم فيما سبق (١).

هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى عقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينه وبين يهود المدينة ميثاقا آخر ينصّ على أنّ مختلف الطوائف اليهودية تتعهد بأن لا تلحق أيّ ضرر وأذى برسول الله وأصحابه ، ولا تمدّ أعداءهم بالخيل والسلاح ، وأنها لو فعلت شيئا من ذلك يكون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحق في أن يقتلهم ، ويسبي نساءهم وأبناءهم.

إلاّ أنّ جميع الطوائف اليهودية الثلاث نقضت الميثاق المذكور بشتى العناوين والصور ، وتجاهلت بنوده ، ومواده!

فقد قتل « بنو قينقاع » مسلما ، وخطّطت « بنو النضير » لاغتيال رسول الله

__________________

(١) راجع صفحة ٢١ من هذا الجزء.

٢٨١

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأجبرهم على الجلاء من المدينة وأخرجهم من البيئة الاسلامية.

وتعاونت « بنو قريظة » مع جيش المشركين لضرب المسلمين ، وطعنهم من الخلف ، والآن يجب أن نرى كيف يوبخ رسول الله بني قريظة على نقضهم للميثاق.

قوات الاسلام تحاصر بني قريظة :

لم يكن الصبح قد أسفر بعد عند ما غادرت آخر مجموعة من جنود « الأحزاب » أرض المدينة قافلة إلى بلادها مرعوبة فزعة للغاية.

كما أن آثار التعب والارهاق لم تكن قد فارقت بعد ملامح المسلمين ، ومع ذلك فقد أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يعالج قضيّة « بني قريظة » بصورة نهائية ، فأذّن مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمسلمين صلاة الظهر ، ثم نادى منادي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس : من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلاّ ببني قريظة!

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قدّم « عليّ بن أبي طالب » برايته (١) ، وخرج معه جنود الإسلام الشجعان ، فحاصروا حصون « بني قريظة » ، فأخبرهم ديرانيهم بنشاط المسلمين ، فبادروا إلى اغلاق أبواب الحصون ، والتحصّن في داخلها ، ونشبت الحرب بين بني قريظة والمسلمين من اللحظات الاولى فقد أخذ اليهود يشتمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا فيه مقالة قبيحة فرجع عليّ عليه‌السلام بالمسلمين فالتقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الطريق وقد كره أن يسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أذاهم وشتمهم وحاول أن يثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الاقتراب إلى حصن بني قريظة قائلا : لا عليك أن تدنو

__________________

(١) زاد المعاد : ج ٢ ص ٧٣ ، وامتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٤٣.

٢٨٢

من هؤلاء الاخابث.

فلما عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبب ذلك قال : لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من حصونهم قال لهم :

« هل أخزاكم الله وأنزل عليكم نقمته »؟

وقد كانت ردة فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الشديدة غير متوقعة لليهود ، ومن هنا قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا .. وهم يريدون بذلك إطفاء مشاعره الملتهبة ضدّهم (١).

فأثارت كلمتهم هذه عاطفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث رجع من غير اختيار ، وسقط رداؤه من كتفه.

اليهود يتشاورون حول الموقف :

تشاور يهود بنو قريظة وهم معتصمون بحصونهم في الموقف ، وقد شارك فيه « حيي بن أخطب » مثير معركة الأحزاب ، فانه لم يذهب إلى خيبر بعد أن وضعت الحرب ـ في معركة الاحزاب ـ أوزارها وولى العرب المشركون بل دخل في حصون بني قريظة.

هذا وقد طرح زعيم بني قريظة ثلاثة اقتراحات وطلب من الجميع أن يتفقوا على واحدة منها لمعالجة الموقف :

١ ـ أن يؤمنوا برسول الله ، ويصدّقونه لأنه قد تبيّن لهم أنه نبي مرسل ، وأنه الّذي يجدونه في كتابهم ، وبذلك يأمنون على دمائهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم.

٢ ـ أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يخرجوا إلى محمّد وأصحابه يقاتلونهم ، فإذا هلكوا ، هلكوا ولم يتركوا وراءهم نسلا يخشى عليه ، وإن انتصروا تزوجوا

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٣٤ ، تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٤٥ و ٢٤٦.

٢٨٣

من جديد ، ووجدوا أبناء.

٣ ـ ان الليلة هي ليلة السبت ، وانه عسى أن يكون محمّد وأصحابه قد منوهم فيها ، لعلمهم بأن اليهود لا يقاتلون في السبت ، فلينزلوا من الحصون لعلهم يصيبون من محمّد وأصحابه على حين غفلة.

ولكن المشاورين رفضوا جميع هذه الطروحات وقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره ، وقالوا : ان نقتل أبناءنا ونساءنا فما خير العيش بعدهم ، وقالوا : لا نقاتل ليلة ليلة السبت ، محمّدا وأصحابه نفسد سبتنا علينا ، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلاّ من قد علمت ، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ (١).

إن هذا الحوار يساعدنا على فهم نفسية تلك الجماعة ( ونعي اليهود ) ، وخصالهم وأخلاقهم الفاسدة.

فإن رفض الاقتراح يكشف عن أنهم كانوا جماعة معاندة ، لجوجة ، لأنهم إذا كانوا حقا يعرفون صدق نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما قال زعيمهم ـ لم يكن لوقوفهم سبب الا العناد والعتوّ ، واللجاج.

واما الاقتراح الثاني وما دار حوله من كلام فيشهد ـ بجلاء ـ على أن تلك الطائفة كانت جماعة قاسية ، لا تعرف للرحمة والحنان معنى ، لان قتل الاطفال والنساء الابرياء لا يمكن من دون قسوة شديدة.

هذا مضافا إلى أن المشاورين آنذاك رفضوا هذا المقترح لا بدافع الرحمة والشفقة على الأطفال والنساء ، بل لأن الحياة لا تعود لذيذة بعد فقدهم هذا هو ما قالوه. ولم يقل أي واحد منهم : وما ذا جنى الاطفال والنساء حتى نقتلهم ونذبحهم ، ولو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ تمكن منهم ـ لم يقتلهم ، فكيف نعمد نحن ( الآباء الرحماء ) إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة بحقهم. فنفسك دماءهم

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٣٦.

٢٨٤

من غير جرم ولا جناية؟

وأما الاقتراح الثالث فيكشف عن أنهم لم يكونوا يعرفون جيدا مدى علم رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بفنون القتال ، والدفاع وكانوا يتصورون أن القائد الأعلى للاسلام لا يراعي قواعد الحذر والاحتياط ليلة السبت ويومه ، وخاصة في مواجهة أعداء خونة ، أخوان غدر ومكر ، أمثال اليهود الناقضين للعهود ، الناكثين للمواثيق.

ان دراسة وتقييم معركة « الاحزاب » تثبت ندرة وجود الاذكياء والفطنين بين هذه الجماعة ، والاّ لكانوا يتمكنون من حفظ كيانهم حتى من الناحية السياسية في تلك الظروف من دون أن ينحازوا إلى أيّ واحد من طرفي الصراع ( الاسلام والشرك ).

أي أنه كان من الممكن أن يتخذوا جانب الحياد الكامل ، ويبقوا متفرجين لما يدور بين محمّد ، وجيش المشركين ، وبهذا يبقوا محافظين على كيانهم ووجودهم ، انتصر من انتصر وغلب من غلب.

ولكنهم خدعوا بتسويلات « حيي بن أخطب » ووسوساته وانحازوا الى جيش العرب المشركين فتورطوا في مثل تلك الورطة ، وهي أن يتخلوا ـ في النهاية ـ عن مساعدة قريش بعد شهر كامل من التعاون معهم ، والرضوخ لخطة « نعيم بن مسعود » ، وإخبار قريش بأنهم لن يتعاونوا معهم ضدّ رسول الاسلام ما لم تسلم قريش بعض شخصياتها إليهم ، لغرض الاحتفاظ بهم في حصونهم كوثيقة!!

لقد غاب عن تلك الزمرة المعاندة اللجوجة أنهم قد تعاونوا ضدّ رسول الاسلام في بداية الأمر ، فاذا قطعوا علاقاتهم مع قريش ، وترك جيش المشركين ساحة المعركة إذا أحسّ بالعجز عن تحقيق أي انتصار ، وعاد الى بلاده ، فان بني قريظة بأجمعهم سيكونون حينئذ في قبضة المسلمين.

فلو كانوا يملكون شيئا من الرؤية السياسية الصحيحة لكان عليهم أن يعلنوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فور قطع العلاقات مع قريش ـ عن ندامتهم على

٢٨٥

نقض الميثاق الذي عقدوه من قبل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويعتذروا إليه ممّا بدر منهم لينجوا من الخطر ـ في صورة انتصار المسلمين على الكفار ـ ولكن الشقاء أصابهم عند ما قطعوا العلاقات مع جيش قريش ، ولم يلتحقوا بالمسلمين ، ولم يعتذروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

على أنه لم يكن في مقدور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يترك بني قريظة ـ بعد هزيمة جيش العرب ـ على حالهم ، ويغض النظر عن موقفهم إذ لم يكن من المستبعد ، أن يفكر العرب في مناسبة اخرى في تسيير جيش ضخم ومنظم آخر لاجتياح المدينة ، ويتمكنوا مع مساعدة بني قريظة من استئصال الاسلام.

فكان يهود بني قريظة يعتبرون ـ في الحقيقة ـ العدوّ الداخلي الذي يهدّد كيان الاسلام من الداخل ، وعلى هذا كان من الواجب معالجة الامر مع بني قريظة ، وحلّ هذه المسألة الخطيرة بالنسبة الى المسلمين من الاساس.

خيانة أبي لبابة :

لقد طلب يهود بني قريظة بعد محاصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم ، أن يبعث إليهم « أبا لبابة » الأوسي ليتشاوروا معه في الموقف ، وقد كان أبو لبابة حليفا لليهود قبلى دخول الاسلام إلى المدينة ، فأرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه وقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد؟

قال : نعم ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ يريد أنهم سوف يقتلهم ولن يحقن دماءهم ، لو سلّموا.

لقد كان أبو لبابة يعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لن يوافق على بقاء هذه الزمرة الشريرة الخائنة الخطرة على دين التوحيد ، إلاّ أن أبا لبابة قد خان بفعله هذا المسلمين ، ومصالح الاسلام العليا ، وأفشى سرّا كان عليه أن يكتمه قبل وقوعه ، ولهذا ندم على فعله ندما شديدا ، فخرج من حصن بني قريظة وهو

٢٨٦

يرتجف ويقول : إنّي خنت الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانطلق على وجهه ، ولم يأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين وهم ينتظرون رجوعه إليهم ـ وربط نفسه في المسجد بعمود من أعمدته ، وقال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ ما صنعت!!

ويقول المفسرون : فنزل في خيانة أبي لبابة قول الله تعالى :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » (١).

فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خبر أبي لبابة ، وكان قد استبطأه قال : أما أنه لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.

وبقي أبو لبابة مرتبطا بالاسطوانة ، وكانت ابنته أو زوجته تأتيه في مواعيد الصلاة ، وتحلّ رباطه ، فيصلّي ثم تعيد الرباط.

فلما كان السحر من اليوم السابع نزلت توبة أبي لبابة بواسطة ملك الوحي ـ على رسول الله وهو في بيت أمّ سلمة ، والآية التي نزلت في توبته هي قوله تعالى :

« وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (٢).

فلما نظرت أمّ سلمة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مستبشر يضحك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لها :

« لقد تيب على أبي لبابة إن شئت فبشريه ».

فقامت إليه وهو مرتبط بالجذع في المسجد وقالت له : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك.

فلما عرف الناس بذلك أرادوا أن يطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله

__________________

(١) الأنفال : ٢٧.

(٢) التوبة : ١٠٢.

٢٨٧

صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي يطلقني.

فلما مر عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه (١).

ولا شك إن زلّة أبي لبابة كانت بسبب عواطفه تجاه يهود بني قريظة ، فقد سلبه بكاء رجالهم ونسائهم ، وصبيانهم واستغاثتهم العاطفية القدرة على ضبط النفس ، فكشف سرّا من أسرار المسلمين كان عليه أن يكتمه ، ولكنّ قوة الايمان بالله والخشية من عذابه أكبر وأعلى من كل شيء الى درجة أنها دفعت بابى لبابة إلى أن يندم على فعله ذلك الندم العجيب ، ويعمد ـ لجبران تلك الخيانة ـ الى ما فعل من الانابة ، والاستغفار ، الأمر الذي تكون نتيجته أن لا تراود مثل هذه الفكرة نفسه مرة اخرى قط.

إلى أيّ مدى ذهب الطابور الخامس في مشاغبته؟

خرج « شأس بن قيس » اليهودي من الحصن ليتحادث مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نيابة عن بني قريظة ، فطلب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يسمح ليهود بني قريظة بأن يحملوا معهم أموالهم ويخرجوا من المدينة كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع بني النضير ، فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : « لا ، إلاّ أن تنزلوا على حكمي ».

فقال شأس : لك الاموال والسلاح وتحقن دماءنا ، فابى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورفض هذا الاقتراح أيضا.

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه وهو : لما ذا رفض رسول الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله مقترحات مندوب بني قريظة؟!

إن السبب واضح ، فانه لم يكن من المستبعد أن تقدم هذه الزمرة ـ بعد

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٣٧ و ٢٣٨.

٢٨٨

خروجها من قبضة المسلمين ـ على تحريك العرب المشركين الوثنيين ضدّ الاسلام والمسلمين على نحو ما فعلت بنو النضير ، وتعرّض المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية الفتية لأخطار كبرى جدا ، وتسبب في سفك دماء كثيرة.

ولهذا لم يوافق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على اقتراحات مندوب بني قريظة ، وعاد شأس إلى الحصن ، واخبر قومه بمقالة رسول الله عليه وآله ، ورفضه لمقترحاته.

فقرر بنو قريظة التسليم للمسلمين من دون أي قيد أو شرط.

أو الرضا بما يحكم به سعد بن معاذ الأوسي ـ وكان حليفا لهم ـ في حقهم.

ولهذا عمدوا الى فتح باب الحصن ، ودخل عليّ عليه‌السلام على رأس كتيبة خاصة من المسلمين الحصن وجرّدوا بني قريظة من السلاح ، وحبسوهم في منازل « بني النجار » ليتقرر مصيرهم فيما بعد.

وحيث إن يهود بني قينقاع قد اسروا على أيدي جنود الاسلام ، ثم عفي عنهم بوساطة من الخزرج وبخاصة « عبد الله بن ابي » ، وانصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن إهراق دمهم فيما مضى ، لذا ضغط الاوسيون المتحالفون مع بني قريظة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصرّوا عليه اصرارا شديدا بأن يعفو عن بني قريظة الذين كانوا متحالفين مع الأوس من قبل أن يقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ، وذلك منافسة للخزرج ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قاوم هذا الطلب ، وقال لهم :

« ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم »؟

قالوا : بلى.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فذاك إلى « سعد بن معاذ » فهو يحكم فيهم.

والطريف أن اليهود قد قبلوا هم أيضا بما يحكم به سعد بن معاذ فقد بعث بنو قريظة الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما يروى ابن هشام (١) والشيخ

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٤٠.

٢٨٩

المفيد (١) ـ : يا محمّد ننزل على حكم سعد بن معاذ.

وكان سعد آنذاك يتداوى في خيمة لامرأة تدعى « رفيدة » من سهم أصابه في معركة الخندق ، وكانت رفيدة تداوي الجرحى في سبيل الله ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعود سعدا بين الحين والآخر ، فلما حكّمه في بني قريظة أتاه فتيان الأوس ، وحملوه على حمار وقد وطئوا له بوسادة من أدم وكان رجلا جسيما جميلا ، ثم أقبلوا معه الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما طلع سعد على رسول الله والناس حوله صلى‌الله‌عليه‌وآله جلوس ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« قوموا إلى سيّدكم ».

فقام الناس على أرجلهم صفين احتراما لسعد ، وحيّاه كل واحد منهم ، حتى انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد طلب منه رجال قومه مرارا أن يحسن الحكم في حلفائهم : يهود بني قريظة ، ويخلّصهم من خطر الموت والقتل قائلين : يا سعد أجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد حكّمك فيهم لتحسن فيهم.

ولكن سعدا حكم في ذلك المجلس ـ رغم كل ذلك الالحاح ، والضغط ـ بأن يقتل رجال اليهود ، وتقسّم أموالهم ، وتسبى ذراريهم ونساؤهم (٢).

تقييم ما استند إليه سعد في حكمه :

ليس من شك في أنه اذا غلبت عواطف القاضي وأحاسيسه على عقله ، تعرض جهاز القضاء للفوضى والاختلال ، وانتهى الى تمزق المجتمع وسقوطه ،

__________________

(١) الارشاد : ص ٥٠ وأيضا راجع زاد المعاد : ج ٢ ص ٧٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٤٦.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٤٠ ، المغازي : ج ٢ ص ٥١٠ ، زاد المعاد : ج ٢ ص ٧٣ و ٧٤.

٢٩٠

وانهيار كل شيء ، لارتباط كل شيء بالعدالة وارتباط العدالة بالقضاء والمؤسسة القضائية.

إن العواطف تشبه الى حد بعيد الشهية الكاذبة التي تزيّن في نظر صاحبها كل مضر مهلك في حين إذا غلبت هذه العواطف والمشاعر العقل سحقت مصالح الفرد والمجتمع ، أو أضرت به أشدّ وأبلغ إضرار.

إنّ عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره ، ومنظر صبيان ونساء بني قريظة المحزن ، وأوضاع رجالهم التي كانت تثير الاشفاق وهم في الحبس ، وملاحظة الرأي العام في قبيلة الأوسيين الذين كانوا يلحّون على سعد أن يحسن الحكم والرأي في بني قريظة ، كل هذه الاعتبارات كان من شأنها أن تجعل القاضي فريسة العاطفة ، فيصدر حكمه على أساس من تقديم مصالح أقلية خائنة مشاغبة على مصالح الاكثرية ( أي عامة المسلمين ) ويبرّئ بني قريظة الجناة الخونة ، أو يخفف عن عقوبتهم أكبر قدر ممكن ، على الأقلّ ، أو يسلّم لإحدى المقترحات السابقة.

إلاّ أن منطق العقل ، وحرية القاضي واستقلاله في الحكم والقضاء ومراعاة المصالح العامة كل ذلك قاد سعدا إلى ناحية اخرى ، فحكم بأن يقتل رجال تلك الزمرة المتآمرة الخائنة ، وتصادر أموالهم ، وتسبى نساؤهم وأطفالهم.

وقد استند هذا الحاكم في حكمه هذا إلى الامور التالية :

١ ـ أن يهود بني قريظة قد تعهّدوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مدّة بأنهم لو تآمروا ضدّ الإسلام ، والمسلمين ، وناصروا أعداء التوحيد ، واثاروا الفتن والقلاقل ، وألبوا على المسلمين كان للمسلمين الحق في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم (١).

وقد رأى بأنه لو حكم بمعاقبة اليهود حسب هذا الميثاق لم يصدر حكما مخالفا

__________________

(١) ولقد مرّ عليك نص هذا الميثاق الذي وقع عليه كعب بن الاسد رئيس بني قريظة.

٢٩١

للعدالة ، ولم يرتكب ظلما.

٢ ـ إن هذه الزمرة الناقضة للميثاق أخلّت بأمن المدينة في ظل حراب القوى المشركة ، فترة من الزمن ، وهاجمت منازل المسلمين ، ولو لا مراقبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للاوضاع وحراسة من عيّنهم من جنود الاسلام للحفاظ على أمن المدينة ، لفعلت تلك الزمرة الأفاعيل ولارتكبت أسوأ الفضائع والفجائع ، ولو أتيح لهم أن يسيطروا على المدينة لقتلوا رجال المسلمين وصادروا أموالهم ، وسبوا نساءهم وأطفالهم.

ومن هنا رأى سعد بن معاذ في نفسه بأنه لو قضى فيهم بمثل هذا القضاء لما خالف الحق وأطفالهم.

٣ ـ من المحتمل جدا أن سعد بن معاذ رئيس الأوس الحلفاء ليهود بني قريظة ، والذين كانت بينهم علاقات ودّ ومحبّة كان مطّلعا على قوانين اليهود ، الجزائية في هذا المجال ، فإن التوراة تنص بما يلى : « حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعاها إلى الصلح. فان اجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ، ويستعبد لك. وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. واذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف ، واما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك » (١).

ولعلّ سعدا فكر في نفسه بأن القاضي المرضيّ والمقبول لدى الجانبين لو عاقب المعتدين حسب شريعتهم ما فعل إلاّ ما يقتضيه العدل والانصاف.

٤ ـ والذي نتصوره هو أن أكبر أسباب هذا الحكم هو أن « سعد بن معاذ » رأى بام عينيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عفا عن بني قينقاع المعتدين بناء على طلب من الخزرجيين ، واكتفى ـ من عقابهم ـ باخراجهم من المدينة ، واجلائهم

__________________

(١) التوراة : سفر التثنية الفصل العشرون ١٠ ـ ١٤.

٢٩٢

عنها ولكن تلك الزمرة التي شملها عفو النبيّ لم تكن تغادر أراضي الاسلام حتى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضدّ الاسلام ، فذهب كعب بن الأشرف الى مكة ، وأخذ يتباكى ـ دجلا وخداعا ـ على قتلى بدر ، ويذرف عليهم دموع التماسيح ، ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد رسول الاسلام وأصحابه حتى عزمت قريش على تسيير جيشها نحو المدينة ، وكانت واقعة « احد » التي استشهد فيها اثنان وسبعون من خيرة أبناء الاسلام ، ورجاله.

وهكذا فعلت بنو النضير المتآمرون الخونة ، الذين عفا عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واكتفى من عقابهم بمجرّد اجلائهم عن المدينة ، ولكنهم قابلوا هذا الموقف الانساني ، بتأليب القبائل العربية المشركة ضدّ الاسلام ، والمسلمين ، وكوّنوا اتحادا نظاميا بينها ، وألفوا منها جيشا قويا ساروا به الى عاصمة الاسلام ( المدينة ) ، فكانت وقعة ( الاحزاب ) التي لو لا حنكة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخطة حفر الخندق لقضي على الاسلام بسببها منذ الايام الاولى ، ولما بقي من ذلك الدين خبر ولا أثر ولقتل آلاف الناس.

لقد لاحظ سعد بن معاذ كل هذه الاعتبارات ، فلم تسمح له التجارة الماضية بأن يستسلم لعواطفه ، ويضحّي بمصالح الآلاف في سبيل الحفاظ على مصالح أقلية لأنه كان من المسلّم به أن هذا الفريق سيقوم في المستقبل بايجاد تحالف عسكري أوسع ، وسيثير ويؤلب قوى العرب ضد الاسلام ، ويعرّض مركز الاسلام ، ومحوره الاساسي للخطر من خلال تدبير مؤامرات اخرى.

وعلى هذه الأساس رأى بأن وجود هذه الزمرة يضرّ المجتمع الاسلامي مائة بالمائة وأيقن بأن هذه الزمرة لو أتيح لها أن تخرج من قبضة المسلمين لما فتأت لحظة عن المؤامرة ولواجه المسلمون بسببها أخطارا كبرى.

ومن المحقق أنه اذا لم تكن في المقام هذه الجهات والاعتبارات لكان إرضاء الرغبة العامة في الابقاء على بني قريظة أو التخفيف في عقابهم أمرا في غاية الأهمية بالنسبة إلى سعد بن معاذ ، فان رئيس أي قوم ، أو جماعة أحوج ما يكون

٢٩٣

إلى تأييد قومه وجماعته وكسب رضاهم ودعمهم ، ولا ريب أن عدم الاستجابة لمطلبهم ، وتجاهل توصياتهم يوجّه أكبر ضربة لسيد القوم ورئيسهم ، ولكن سعدا ( رئيس الأوس ) أدرك أن جميع هذه التوصيات والوساطات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين ، من هنا آثر عدم الحياد عن حكم العقل ، والمنطق ، على رضا قومه عنه.

هذا وإن الّذي يشهد بدقة نظر سعد ، وصواب رأيه ، وصحة تشخيصه وتقديره للأمر أنه عند ما اتي بحيي بن أخطب ليضرب عنقه فوقعت عينه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكنه من يخذل الله يخذل. أي لو لا خذلان الله لليهود لاستمرّوا في معاداة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتدبير المؤامرات ضده.

ثم أقبل على الناس فقال : يا أيّها الناس لا بأس بأمر الله ، ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل.

ثم إنه قتل في هذه الواقعة من النساء امرأة واحدة لأنها ألقت برحى من فوق الحصن فقتلت به أحد المسلمين ، فقتلت قصاصا.

وكان بين المحكوم عليهم بالقتل رجل اسمه « الزبير بن باطا » شفع له رجل من المسلمين يدعى ثابت بن قيس ، فلم يقتل ، واخلي سبيل زوجته وأولاده ، واعيدت إليه أمواله ، وأسلم أربعة من بني قريظة ، وقسّمت غنائم العدوّ بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها ، واخراج ما يرتبط بالامور الادارية الاسلامية العامة.

وقد اعطي للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد ، وسلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أموال « الخمس » إلى زيد بن حارثة ليذهب بها إلى نجد ويشتري بها العتاد ، والسلاح ، والخيل ، وغيرها من أدوات الحرب (١).

__________________

(١) تاريخ الطبرى : ج ٢ ص ٢٥٠ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٤١ ، زاد المعاد : ج ٢ ص ٧٤.

٢٩٤

وهكذا انتهت مشكلة بني قريظة في التاسع عشر من شهر ذي الحجة من السنة الخامسة للهجرة ، وقد نزلت في شأن هذه الواقعة الآيات ٢٦ ـ ٢٧ من سورة الاحزاب اذ يقول سبحانه :

« وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ».

وقد استشهد « سعد بن معاذ » الذي سبق أن جرح في معركة الخندق بعد حادثة بني قريظة هذه (١)

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٥٠ ـ ٢٥٤.

٢٩٥

حوادث السنة السادسة من الهجرة

٣٩

أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة (١)

لم تنقض السنة الهجرية الخامسة إلاّ وقد انتهت فتنة « الاحزاب » و « بني قريظة » ، وقضي عليهما بالكامل ، وأصبحت المدينة وضواحيها برمتها في قبضة المسلمين وتحت سيطرتهم ، وازدادت قواعد الحكومة الاسلامية الفتية رسوخا وثباتا ، وساد هدوء نسبي في المنطقة التي تخضع للحكومة الاسلاميّة ، غير أن هذا الهدوء كان هدوء موقتا ، وكان على قائد المسلمين الأعلى أن يراقب أحوال العدو وأوضاعه ، وتحركاته ليقضي في المهد على كل مؤامرة ضدّ الاسلام بما اوتي من قوى وامكانيات.

ولقد سمح الهدوء الذي ساد المنطقة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقمع بعض مشعلي فتنة « الاحزاب » الذين هربوا من قبضة المسلمين بعد رحيل « الاحزاب ».

فلقد قتل « حيي بن أخطب » الذي كان من مشعلي معركة الأحزاب ، في غزوة بني قريظة ، ولكن رفيقه « سلاّم بن أبي الحقيق » كان لا يزال يعيش في خيبر ، ولا شكّ في أن هذا العنصر الخطر لم يكن ليفتأ لحظة واحدة عن إثارة وتأليب « الأحزاب » مرّة اخرى ضدّ الاسلام ، وخاصة أن العرب الوثنيين كانوا

__________________

(١) يستفاد من السيرة النبوية : ج ٣ ص ٢٩١ ط ١٣٥٥ أن خطة اغتيال « سلاّم » كانت قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة ، ولكن بالنظر إلى أن قضية بني قريظة حدثت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة يستبعد هذا الرأى.

٢٩٦

مستعدين لشن حرب على الاسلام ، وكان من المحتمل إذا نوفرت هناك جهة تتكفل نفقات الحرب ، أن تتكرر قضية الاحزاب مرة اخرى.

على أساس هذه المحاسبات كلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) مجموعة من شجعان الخزرج وفوارسهم بأن يصفّوا هذا العنصر الخطر ، الجريء والحاقد ، بشرط أن لا يتعرّضوا لأحد من أبنائه وزوجاته.

فخرجوا حتى قدموا خيبر ، فدخلوا خيبر ليلا ولم يدعوا بابا في الدار الا أغلقوه على أهله حتى لا يحس بهم أحد إذا صاح واستغاث بأحد ، ثم تسللوا إلى غرفته وكانت في الطابق الاعلى ، فطرقوا باب حجرته ، فخرجت إليهم امرأته وقالت : من أنتم؟ قالوا : ناس من العرب نلتمس الميرة ، ففتحت الباب وسمحت لهم بالدخول عليه من دون التحقق من أمرهم ، فدخلوا في غرفته وابتدروه وهو على فراشه بأسيافهم بعد أن أغلقوا باب الغرفة على أنفسهم ، وقضوا على ذلك المفسد الشرير الذي طالما أزعج المسلمين بفتنه ومؤامراته ، ثم خرجوا ، وانحدروا من الدرج واختبئوا في ممرّ مائي من خارج الحصن الى داخله ، فصاحت زوجته ، واستغاثت بالجيران ، فأوقد اليهود النيران ، واشتدوا في طلب تلك الجماعة الفدائية المسلمة ، ولكن من دون جدوى ، وعند ما يئسوا من القبض عليهم رجعوا الى صاحبهم المقتول ، وقد بلغ من جرأة المسلمين أن بعثوا أحدهم ليدخل بين اليهود في خيبر ويأتي لهم بخبر ابن أبي الحقيق ، لأنهم كانوا يظنون بأنه لا يزال على قيد الحياة.

فدخل ذلك الرجل بين اليهود فوجدهم وامرأته حول ابن أبي الحقيق ، وفي يدها المصباح تنظر في وجهه ، وتحدثهم ، وتقصّ عليهم ما جرى ، ثم أقبلت عليه

__________________

(١) إن السبب أو الحكمة في تكليف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الخزرج بهذه المهمة هو أن الاوس قاموا بعملية مشابهة في حق « كعب بن الأشرف » اليهودى الخطر فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إقامة توازن في كسب المفاخر بين تينك القبيلتين ولذلك أوكل مهمة تصفية هذا اليهودي المفسد إلى رجال الخزرج.

٢٩٧

تنظر في وجهه ثم قالت : فاظ ( أي مات ) وإله يهود.

فعاد إلى رفاقه وأخبرهم بنجاح عمليّتهم وهلاك عدوّ الله : « سلام بن أبي الحقيق » على أيديهم ، فخرجوا في تلك الليلة من مخبأهم وعادوا إلى المدينة وأخبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما جرى (١).

أهل الرأي من قريش يهاجرون الى الحبشة :

توجه جماعة من أهل الرأي في قريش الذين أخافهم تقدّم الاسلام ، وانتشاره المطرد بشدة ، الى البلاط الحبشي ليقطنوا ويقيموا في الحبشة فقد قالوا : الرأي أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده ، فان ظهر « محمّد » على قومنا كنا عند النجاشي ، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمّد وإن ظهر قومنا فنحن من عرفوا فلن يأتينا منهم إلاّ خير.

وخرجت هذه الجماعة وفيهم « عمرو بن العاص » بهدايا كثيرة من الحجاز قاصدة أرض الحبشة ، وبلاط النجاشيّ بالذات.

وصادف دخولهم على « النجاشي » ورود « عمرو بن اميّة الضمري » مبعوث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحامل كتابه إلى النجاشي يوصيه فيه بجعفر بن أبي طالب ، والمهاجرين الآخرين من رفقائه.

فقال « عمرو بن العاص » : لو دخلت على « النجاشيّ » بالهدايا وسألته عمرو بن اميّة فاعطانيه ، فضربت عنقه.

فدخل « عمرو بن العاصي » على « النجاشيّ » ، وسجد له ـ على النحو الذي كان متبعا ـ فسأله النجاشيّ عن حاله ، ثم قال : هل أهديت إليّ من بلادك شيئا؟

قال ابن العاص : نعم أيها الملك ، قد أهديت إليك ادما كثيرا ، ثم قال : أيها

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٧٤ و ٢٧٥.

٢٩٨

الملك اني قد رأيت رجلا خرج من عندك ( ويقصد مبعوث رسول الله ) وهو رسول عدوّ لنا ، فاعطنيه لأقتله ، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.

فغضب النجاشيّ لمقالة ابن العاص غضبا شديدا فصفعه صفعة كادت أن تكسر أنفه ، ثم قال : أتسألني أن اعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله. ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فانه والله لعلى الحق ، وليظهرنّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده ، ثم قال : أفتبايعني له على الاسلام؟

يقول عمرو بن العاص : فقلت نعم ، فبسط يده فبايعته على الاسلام ، ثم خرجت إلى أصحابي ، وقد حال رأيي عما كان عليه ، وكتمت أصحابي إسلامي (١).

الوقاية من تكرار التجارب المرة :

تركت حادثة « الرجيع » المرّة التي قتل فيها جماعة من قبائل « عضل » و « القارة » من بني لحيان ثلة من دعاة الاسلام غدرا ومن دون رحمة ، بل وسلّمت رجلين منهم بقوا على قيد الحياة إلى قريش فصلبتهما قريش صبرا انتقاما من رسول الله والمسلمين.

لقد تركت هذه الفاجعة المأساوية المؤلمة ألما شديدا في نفوس المسلمين ، وأحدثت جرحا عميقا في ضمائرهم وأدت إلى توقف حركة الارشاد والتبليغ والدعوة.

ولكن في الظروف المستجدة التي استطاع الاسلام أن يزيل ـ بعد الأحزاب وبني قريظة ـ كل العراقيل والعقبات عن سبيل المسلمين رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن من الضروري تأديب بني لحيان لتعتبر بقية القبائل ، فلا يؤذوا بعد ذلك فرق الدعوة وبعثات التبليغ الاسلامي.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٧٦ و ٢٧٧.

٢٩٩

فاستخلف مكانه لإدارة شئون المدينة « ابن أمّ مكتوم » في الشهر الخامس من السنة الهجرية السادسة ولم يظهر لأحد ما يقصده ، بل خرج يظهر أنه يريد الشام ليصيب « بني لحيان » على غفلة منهم ، فلما وصل الى طريق مكة عرّج حتى نزل بمنطقة تدعى غراب وهي منازل بني لحيان ، وقد كان بنو لحيان قد عرفوا بمسير النبي إليهم فحذروه ، وتمنعوا في رءوس الجبال.

وكان غزو المسلمين هذا ، وجبن العدو قد تركا أثرا نفسيا قويا ، فأحدث رعبا في قلوب أعداء الإسلام.

واستكمالا لهذا الهدف العسكريّ الهامّ عمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى القيام بسلسلة من المناورات العسكرية ، واستعراض القوة القتالية في جنوده ليرهب أعداء الله القريب منهم والبعيد ولتسمع بهم قريش خاصة فيذعرهم ، فنزل في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان على مقربة من مكة وقد قال من قبل :

« لو هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة ».

ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ( وهو موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال ). ثم عاد مع أصحابه إلى المدينة (١).

هذا وكان جابر بن عبد الله الأنصاري يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول حين رجوعه من هذه الغزوة :

« ... أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال » (٢).

غزوة ذي قرد :

لم يقم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة بعد عودته من الغزوة

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٧٩ و ٢٨٠.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٢٥٤ ، المغازي : ج ٢ ص ٥٣٥ ، إمتاع الاسماع : ج ١ ص ٢٥٩ و ٢٦٠.

٣٠٠