سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

٣١

جرائم « بني قينقاع »

كانت معركة « بدر » بمثابة طوفان شديد ضدّ الوثنية في قلب شبه الجزيرة العربية.

طوفان اقتلع بعض جذور الوثنية العريقة ، فقد قتل طائفة من صناديد قريش ، واسرت اخرى وهرب الباقون بمنتهى الذل والصغار ، وانتشر خبر هزيمة جيش قريش المتغطرس في جميع أنحاء وربوع الجزيرة العربية.

ولكن ساد بعد هذا الطوفان المرعب ، شيء من الهدوء والمقرون بالاضطراب والقلق. هدوء كان منشؤه التفكير في مستقبل شبه الجزيرة العام وما تخبئه الايام القادمة لسكانها على أثر التحول الجديد.

وكانت مخاوف القبائل الوثنية ، ويهود يثرب الاثرياء ويهود خيبر ووادي القرى تزداد يوما بعد يوم من تقدم الاسلام المطّرد ، وتعاظم شوكته ، واشتداد أمر حكومته الفتية ، وكان جميع هؤلاء يجدون مستقبلهم مهددا بخطر جديّ ، بعد أن كانوا لا يتصورون أن يكسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المهاجر من مكة كلّ هذه النجاحات الباهرة ، وأن يبلغ من القوة ذلك المبلغ ، بحيث يقهر بقواه المحدودة قوة قريش الكبرى ويكسر شوكتها العريقة!!

وكان يهود بني قينقاع الذين يقطنون داخل المدينة ، ويمسكون بخيوط اقتصادها ، أشدّ خوفا من غيرهم ، واكثر قلقا على مستقبل أمرهم ، لأنهم كانوا يخالطون المسلمين مخالطة كاملة وكان وضعهم يختلف عن وضع يهود خيبر ووادي القرى الذين كانوا يعيشون خارج المدينة بعيدا عن مركز قوة المسلمين ومنطقة حاكميتهم!!

١٢١

من هنا بدأ يهود بني قينقاع قبل غيرهم من طوائف اليهود العائشة في تلك الديار بتدبير المؤامرات ، وممارسة الأعمال الإيذائية ضدّ المسلمين والقيام بالحرب الباردة ( الإعلامية ) ضدّهم ، وذلك بنشر الأكاذيب وبثّ المعلومات الكاذبة ، واطلاق الشعارات القبيحة ، وانشاد القصائد التي من شأنها الاساءة الى المسلمين وتحقيرهم ، وتخريب معنوياتهم.

وبهذا يكون اليهود قد بدءوا عمليّا بنقض معاهدة التعايش السلمي التي ذكرناها سلفا ، والتي عقدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله معهم في إبّان قدومه المدينة.

ولم تكن هذه الحرب الباردة الشريرة لتبرر تصدي القوى الاسلامية لها بالحرب الساخنة ، واستعمال السلاح ، لأن ما يمكن حله بسلاح المنطق لا يحبذ أن يعالج بمنطق السلاح ، وخاصة أن الرد الساخن والمسلح يؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المدينة ، والحال أن المحافظة على الوحدة السياسية ، واستتباب الأمن والاستقرار في المدينة كان مما يهمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جدا وهو يواجه أعداء أشداء من الخارج.

فلم يكن من مصلحة الاسلام والمسلمين تفجير الموقف في عاصمة الاسلام ، يومئذ.

ولهذا ـ وبغية اتمام الحجة على يهود بني قينقاع ـ وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم في سوقهم بعد أن جمعهم فيه ثم قال لهم :

« يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ، فانكم قد عرفتم انّي رسول الله ( أو أني نبي مرسل ) تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم ».

وهنا نزل قول الله تعالى :

« قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ

١٢٢

يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ » (١).

ولكن اليهود المغرورين المتكبرين لم يشكروا نصيحة النبي هذه أو يسكتوا حسب ، بل ردوا عليه بعناد ولجاج وصلافة قائلين : يا محمّد انك ترى انا قومك لا يغرنّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فاصبت منهم فرصة ، إنا والله ولئن حاربناك لتعلمنّ أنّا نحن الناس ( أو أنّا والله أصحاب الحرب ، ولئن قاتلتنا لتعلمنّ أنك لم تقاتل مثلنا )!! (٢)

فلم تترك كلمات يهود « بني قينقاع » الجوفاء ، وتشدقهم الفارغ بقوتهم وقدرتهم على القتال والمواجهة أدنى اثر في نفوس المسلمين.

ولكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أتم عليهم الحجة ، فلم يعودوا معذورين حسب السياسة الاسلامية ، وقد أصبح ساعتئذ من اللازم الاحتكام إلى منطق السلاح بعد أن لم ينجع سلاح المنطق ، ولم يقنع اليهود بضرورة تغيير مواقفهم ، والتخلي عن مؤامراتهم وخططهم الايذائية ضد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين.

أجل لا بد من استخدام القوة مع هؤلاء اليهود الصلفين المتعنتين والاّ ازدادوا صلافة ، وكثرت اعتداءاتهم.

ولهذا أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظر الفرصة المناسبة لتأديب تلك الجماعة المتعنتة الوقحة.

لهيب الحرب يبدأ من شرارة :

قد تجر بعض الحوادث الصغيرة إلى سلسلة من التحولات والاحداث في الاجتماعات الكبرى. يعني أن تتسبب حادثة جزئية في انفجار الحوادث الكبرى ، فيصفي كلّ من طرفي النزاع حسابه مع الطرف الآخر ، انطلاقا من علل واسباب اخرى ، وليست تلك الحادثة الجزئية.

__________________

(١) آل عمران : ١٢ و ١٣.

(٢) المغازي : ج ١ ص ١٧٥ و ١٧٦.

١٢٣

فللمثال نشأت الحرب العالمية الاولى وهي إحدى اكبر الحوادث التاريخية في حياة البشر من حادثة صغيرة تذرعت بها الدول الكبرى ، وتلك الحادثة الصغيرة التي اشعلت فتيل الحرب العالمية الاولى هي اغتيال « الارشيدوق فرانسيز فريديناند » ولي عهد النمافي سراييفو.

فقد وقعت هذه الحادثة في ٢٨ من شهر يونيو عام ١٩١٤ وبعد شهر وعدة أيام بدأت الحرب العالمية الاولى بهجوم الالمان على بلجيكا ، وافرزت هذه الحرب المدمرة الشاملة عن مقتل عشرة ملايين وجرح عشرين مليونا من البشر (١).

ولقد انزعج المسلمون من صلافة يهود بني قينقاع ، وردهم الوقح على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يخاطبهم بأدب ينصحهم ، وكانوا يتوقعون أن يقوم اليهود بعمل عدائي ليثوروا ضدهم ، ويؤدبوهم.

وبيناهم على هذه الحال إذ تعرضت امرأة من العرب لاعتداء من اليهود فاشعل هذا الحادث الموقف.

وإليك مفصل تلك الحادثة :

جاءت امرأة من العرب الى سوق بني قينقاع فجلست عند صائغ تبيع حليّا لها أو تشتري ، وكانت تبالغ في ستر وجهها عن اليهود ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت فعمد رجل من يهود بني قينقاع إليها وجلس من ورائها ، وهي لا تشعر فعقد أسفل ثوبها إلى ظهرها ، فلما قامت المرأة بدت عورتها ، فضحكوا منها فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين الى ذلك الرجل اليهودي فقتله ، فاجتمعت بنو قينقاع ، وشدّوا على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم القتيل المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون غضبا شديدا.

ولقد كان من الطبيعي أن يثب الرجل المسلم على ذلك اليهودي الوقح الشرير الذي فعل بالمرأة العربية ذلك الصنع ، فان قضية « الأعراض » قضية حياتية وحساسة في أي مجتمع ، فهي قضية شرف ، وقد كان هذا الأمر يحظى في المجتمع

__________________

(١) الموسوعة العربية الميسرة : ص ٧٠٠.

١٢٤

العربيّ خاصة بأهمية كبرى ، وخاصة عند البدو الرحل منهم ، فكم من دماء جرت لعدوان على عرض ديس أو تعرض للتحرش.

من هنا أزعج وضع تلك المرأة الغريبة وحالها المؤلم واضطرابها الرجل المسلم ، وأشعل غيرته فوثب على اليهودي المعتدي وقتله.

وكان من الطبيعي أيضا أن لا يمرّ هذا العمل دون رد من اليهود فيثب اليهود بأجمعهم على ذلك المسلم الغيور ويقتلوه ، ويريقوا دمه بأجمعهم.

نحن هنا لا يهمّنا أن نعرف أن قتل ذلك الرجل اليهودي لازدرائه بامرأة كان أمرا صحيحا منطقيا يتفق مع الموازين أم لا ينطبق.

ولكنّه ما من شك في أن وثوب مئات من الرجال واجتماعهم على قتل رجل مسلم واحد ، وإراقة دمه ، عمل بالغ الشناعة والقبح.

من هنا تسبّب انتشار هذا الخبر ( اي مقتل رجل مسلم واحد على أيدي مجموعة كبيرة من الرجال بصورة مفجعة ) في إثارة المسلمين ونفاذ صبرهم ، ودفعهم إلى العزم على حسم الموقف حسما كاملا وبالتالي هدم قلعة الفساد على رءوس أصحابها القتلة.

فاحس « بنو قينقاع » بخطر الموقف ، وأدركوا انه لم يعد من الصالح أن يبقوا في أسواقهم ، ويواصلوا البيع والشراء ، وقد تلبّد الجوّ بالغيوم الداكنة على أثر العمل الفضيع والجناية الكبرى التي ارتكبوها.

من هنا تركوا أسواقهم بسرعة ، وعادوا إلى قلاعهم المحصّنة ، وتحصّنوا فيها ، وكان ذلك منهم انسحابا خانعا بعد ذلك التشدّق الصلف!!

ولقد أخطئوا هذه المرة أيضا إذ ظنوا انهم مانعتهم حصونهم ، من انتقام الله. ولو أنهم اعتذروا لخطئهم ، وأظهروا الندامة لكانوا يجلبون رضا المسلمين ، ويحصلون على عفو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم يعرفون خلقه العظيم ؛ وصفحة الكريم.

إلاّ أن تحصّنهم كان آية عنادهم ، واعلانهم الحرب ، ونصبهم العداء الصريح للاسلام والنبيّ والمسلمين.

١٢٥

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمحاصرتهم ، ومنع من دخول أيّ امداد إليهم ، كما منع من اتصالهم بأي أحد خارج حصونهم.

فحصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة أشدّ الحصار ، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب ، وفقدوا القدرة على المقاومة ، ورضوا بأن ينزلوا عند حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم!!

وأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يؤدب تلك الجماعة التي كانت أول من نقض العهد ونبذ الميثاق تأديبا قاسيا ، يكون عقابا لهم وعبرة لغيرهم.

ولكن « عبد الله بن أبي بن سلول » الذي كان من منافقي المدينة ويتظاهر بالاسلام ، أصرّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يحسن معاملتهم ، ولا يأخذهم بما فعلوا لحلف ومودة كانت بينه وبين يهود من السابق ، فانصرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ما كان يريد من تأديبهم الشديد ، وعقوبتهم على كره منه (١) ولكن أمر بأن يجلوا من المدينة ، ولا يبقوا فيها شريطة أن يتركوا أسلحتهم ، وأموالهم ، ودروعهم.

فنزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد المسلمين بقبض أموالهم وأسلحتهم ، وكلّف « عبادة بن الصامت » باجلائهم من حصونهم فعجّل عبادة في ترحيلهم وإجلائهم.

فخرجوا من المدينة ولحقوا بمنطقة تدعى « أذرعات » وهي بلد في اطراف الشام.

__________________

(١) هذا مع العلم ان القرآن الكريم ندّد بمثل هذه الوساطة الذي قام بها ذلك الرجل المنافق رغم تخفيف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله معاقبة اليهود ورسم للمسلمين منهجا في التعامل مع اليهود والنصارى إذ قال :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ، أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ » ( المائدة : ٥١ ـ ٥٣ ).

١٢٦

وباجلاء « بني قينقاع » عادت الوحدة السياسية الى المجتمع في المدينة.

وكانت الوحدة السياسية هذه المرة مقرونة بالوحدة الدينية إذ كان المسلمون يشكلون الاغلبية الساحقة في المدينة فلم يكن لغيرهم فيها شأن يذكر (١).

تقارير جديدة تصل الى المدينة :

من المعلوم أن الاخبار تنتشر بين الناس بسرعة في المناطق الصغيرة ، على العادة.

من هنا فان انباء أكثر المؤامرات والتحركات المعادية للاسلام التي كانت تقع في المناطق المختلفة من شبه الجزيرة كانت تصل بسرعة ـ وعبر المسافرين المحايدين أو الاصدقاء المترصدين ـ الى مركز القيادة الاسلامية في المدينة.

هذا مضافا الى أن هذا النوع من المعلومات كان يحظى لدى رسول الاسلام باهمية كبرى ، فيرصد لها من يأتي بها أولا بأول ، ولهذا كانت اكثر التحركات والمؤامرات يقضى عليها في مهدها بفضل الردّ السريع والمناسب الذي كانت القيادة الاسلامية تقوم به في ضوء المعلومات الواردة إليها ، أو التي حصلت عليها.

فبمجرّد أن تتضمن هذه المعلومات ، إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خبرا مفاده أن إحدى القبائل تعد قوة ، وتستعدّ للهجوم على المدينة كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يبادر الى بعث سرية أو يقود هو بنفسه مجموعة مناسبة لمحاصرة تلك القبيلة ، وافشال مؤامرتها ، وابطال تدبيرها قبل أن تستطيع فعل شيء ، وكان هذا هو اسلوب المباغتة الذي استطاع به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقضي على كثير من التحركات المعادية في مهدها.

وإليك مختصرا عن بعض تلك الغزوات التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة :

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ١٧٧ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٨ و ٢٩.

١٢٧

١ ـ غزوة قرقرة الكدر (١) :

كانت المنطقة التي تتمركز فيها قبيلة « بني سلم » تدعى « الكدر ».

وقد بلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن القبيلة المذكورة تهيّئ ، وتعدّ العدة للهجوم على مركز الاسلام وعاصمته ( المدينة ). فخرج رسول الله بنفسه من المدينة بعد أن استخلف عليها أحد أصحابه وأوكل إليه إدارة المدينة في غيابه ، وكان الذي استخلفه هذه المرّة « ابن أمّ مكتوم » ، وخرج على رأس قوة عسكرية إلى مركز تلك القبيلة فلما سمعوا بمسير القوى الاسلامية إليهم تفرقوا ، وعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة من غير قتال.

ثم بعث سرية بقيادة فارس من فرسانه يدعى « غالب بن عبد الله » إلى نفس تلك المنطقة ، فوقع بينه وبينهم قتال محدود وعاد « غالب » الى المدينة ظافرا بعد أن استشهد ثلاثة من رجاله.

٢ ـ غزوة السويق :

كان عرب الجاهلية إذا نذروا ينذرون نذورا غريبة.

فقد نذر أبو سفيان بعد معركة بدر أن لا يقارب زوجته ما لم يثأر (٢) من المسلمين لقتلى بدر فكان عليه أن يقوم بهجوم على المدينة ، ويقاتل النبيّ وأصحابه ليفي بنذره!!

فخرج من مكة في مائتي راكب فجاء بني النضير ليلا ، يطلب مشورة من أحبار اليهود.

فلما كان في وقت السحر خرج فمر بالعريض فوجد رجلا من الانصار مع أجير له فقتل الأنصاريّ ، وقتل أجيره ، وحرّق بيتا وحرثا لهم بارشاد من كبير اليهود « سلام بن مشكم » ورأى أن يمينه قد حلّت ، ثم ذهب هاربا ، وخاف

__________________

(١) قرقرة الكدر : ناحية بين المعدن وبين المدينة ، ( الطبقات ).

(٢) المغازي : ج ١ ص ١٨٢ ، الطبقات : ج ٢ ص ٣٠.

١٢٨

ملاحقة المسلمين له.

فعرف به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فندب أصحابه فخرجوا في أثره ، وجعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون فيلقون أكياس السويق ( وهو القمح المقلّى المطحون الملتوت بالسمن أو العسل ) ، وهي عامة زادهم ، فجعل المسلمون يمرّون بها فيأخذونها.

فسميت تلك الغزوة بغزوة السويق لهذا الشأن.

٣ ـ غزوة ذي أمرّ :

بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن قبيلة غطفان تجمع أفرادها ، وتتأهب للعدوان على المدينة المنورة ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على رأس أربعمائة وخمسين رجلا.

فلما سمع العدو بمسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم خافوا خوفا شديدا فهربوا إلى رءوس الجبال ، فرارا من النبيّ والمسلمين.

فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم يبحث عنهم فلم يلاق أحدا منهم ، وقد غيّبوا سرحهم وذراريهم في ذرى الجبال خوفا وفرقا.

فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « ذا أمرّ » (١) وعسكر معسكره هناك ، فأصابهم مطر كثير ، فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ناحية ليقضي حاجة ، فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه ، وقد جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وادي « ذي أمرّ » بينه وبين أصحابه ، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف ، وألقاها على شجرة ، ثم اضطجع تحتها ، والأعراب ينظرون الى كلّ ما يفعل.

فقالت الأعراب لدعثور وكان سيّدها وأشجعها : قد أمكنك محمّد ، وقد انفرد من أصحابه ، حيث إن غوّث بأصحابه لم يغث حتى تقتله.

فاختار سيفا من سيوفهم صارما ثم أقبل مشتملا على السيف حتى قام على

__________________

(١) واد بطريق فيد إلى المدينة. وفاء الوفاء : ج ٢ ص ٢٤٩.

١٢٩

رأس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسيف مشهورا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مستلق على قفاه.

فقال بنبرة خشنة مهددة : ما يمنعك منّي اليوم؟ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله.

فكان لهذه الكلمة أثر عجيب في نفس دعثور بحيث ارعب ، ووقع السيف من يده ، فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقام به على رأسه ، فقال : ومن يمنعك منّي اليوم.

فقال : لا أحد.

ثم قال : فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا.

فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيفه ثم أدبر ، ثم أقبل بوجهه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : أما والله لانت خير منّي.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا أحق بذلك منك.

فأتى قومه ، وقصّ عليهم ما جرى له مع النبيّ ، وأنّه أسلم ، ودعا قومه الى الاسلام.

أجل يكتب المؤرخون في هذا المقام أن الرجل أسلم من فوره ، ويجب أن نعلم أنه لم يسلم خوفا وفرقا وتحت بارقة السيف لأنه بقي ثابتا ومستمرا في اسلامه بعد ذلك وأخذ يدعو قومه كما أسلفنا وهذا يدل على أنه أسلم عن طواعية ورغبة. وان اسلامه كان لتنبّه فطرته ، ويقظة وجدانه ، فانّ فشله غير المتوقع ، ونجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله التي تمت بطريقة خارقة للعادة جعلته ينتبه الى عالم آخر ، وعرف بأن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ارتباطا بعالم آخر ، وأنه مؤيّد بالتالي بقوة عليا ، وراء هذا العالم المادي.

ولهذا السبب ـ وليس لسواه ـ أسلم ، وقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اسلامه ، وبعد أن مشى خطوات ردّ الى النبيّ سيفه الذي أعاده إليه النبيّ قبل ذلك واعتذر إليه.

١٣٠

وقال : أنت أولى بهذا السيف لأنّك قائد هذه السرية المصلحة. (١)

قريش تغيّر مسير تجارتها :

تعرضت سواحل البحر الاحمر للخطر من قبل عناصر الجيش الاسلامي وحلفائهم ، ولم يعد من الممكن مواصلة التجارة وارسال القوافل التجارية عبرها.

من هنا تشاورت قريش فيما بينها ، ودرست أوضاعها في ظل هذه المستجدات ، واتفقت على أنه لو تركت التجارة لهلكت رءوس أموالها وفنيت ، وكان عليها أن تسلّم للمسلمين.

وان واصلت التجارة لم تحرز في هذا المجال نجاحا ما دامت الطريق غير آمنة ، وما دام يمكن أن تتعرض أموالها للمصادرة على أيدي المسلمين كلما عثروا عليها.

فاقترح أحدهم التجارة إلى الشام عن طريق العراق فاستحسنوا رأيه جميعا ، وتهيّأت القافلة للحركة في الخط الجديد وتولّى أبو سفيان وصفوان بنفسيهما مهمة الاشراف على تلك القافلة وادارتها ، واستخدما رجلا من بني بكر يدعى « فرات ابن حيان » ليدلّهما على الطريق.

قال المقريزي في امتاع الاسماع : سمع رجل من المدينة ( وهو سليط بن النعمان ) بخبر خروج صفوان بن أمية في عيره وما معهم من الاموال فخرج من ساعته وأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب فاصابوا العير ، وأفلت أعيان القوم ، فقدموا بالعير فخمّسها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبلغ الخمس عشرين ألف درهم ، وقسّم ما بقي على أهل السريّة ، وكان فيمن اسر فرات بن حيّان فأسلم (٢).

__________________

(١) المناقب : ج ١ ص ١٦٤ ، المغازي : ج ١ ص ١٩٤ ـ ١٩٦.

(٢) الإمتاع الاسماع : ج ١ ص ١١٢.

١٣١

حوادث السنة الثالثة من الهجرة

٣٢

الدفاع عن الحرّية

غزوة احد أو الدفاع عن الحرّية عند جبل احد :

لم تكن السنة الهجرية الثالثة بأقل من السنة الثانية من حيث وقوع الحوادث والوقائع الملفتة للنظر فيها.

فاذا وقعت في السنة الثانية من الهجرة غزوة « بدر » فقد وقعت في السنة الثالثة منها غزوة « احد » وهما من أعظم معارك الاسلام وغزواته.

على أن غزوة « احد » لم تكن الغزوة الوحيدة التي وقعت في السنة الثالثة ، بل وقعت أيضا غزوات اخرى (١) الى جنب طائفة من السرايا ، التي اخترنا منها سرية واحدة وغزوتين فقط.

١ ـ سرية محمّد بن مسلمة :

لقد وصل نبأ انتصار المسلمين في معركة « بدر » عن طريق رجلين من المسلمين.

ولم يكن الجيش الاسلامي الظافر قد وصل الى المدينة بعد ، عند ما انزعج « كعب بن الاشرف » ـ الذي كانت أمه من يهود « بني النضير » وكان شاعرا قويا ، وخطيبا بارعا ـ من الفتح الذي أصابه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون في « بدر » فقال : والله لئن كان محمّد أصاب أشراف العرب وملوك الناس ( ويعني سادة قريش وصناديدهم الذين قتلوا في بدر على أيدي المسلمين لبطن

__________________

(١) مثل غزوة بحران وغزوة حمراء الأسد.

١٣٢

الأرض خير من ظهرها!! وبدأ يبث الأكاذيب والشائعات في المدينة ومضى يشكك في انتصارات المسلمين في بدر.

وقد كان يسيء الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قصائده حتى قبل معركة « بدر » ويحرّض الناس على المسلمين.

ثم إنه لما تيقن الخبر خرج حتى قدم مكة وجعل يحرّض قريشا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أنشد في هذا المجال أشعارا يبكي فيها أصحاب القليب من قريش وقد ذكرتها المصادر التاريخية (١).

ثم رجع كعب هذا الى المدينة فشبّب (٢) بنساء المسلمين حتى آذاهم!!

ولا شك أنه بهذه المواقف المعادية كان من أظهر مصاديق المفسد في الارض ، الأمر الذي آل إلى أن يقرّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله التخلص منه ، وكفاية المسلمين شره ، وقد أوكل هذه المهمة الصعبة الى « محمد بن مسلمة ».

وقد خطّط « ابن مسلمة » للتخلص من « كعب » خطة رائعة ، وألّف لتنفيذها فريقا كان من بينهم « أبو نائلة » الأخ الرضاعي لكعب بن الأشرف ، ليمكن من هذا الطريق التمويه على كعب وتنفيذ الخطة المذكورة.

فخرج أبو نائلة إلى كعب وجلسا يتحادثان ، ويتبادلان الشعر.

ثم إن أبا نائلة قال لكعب ـ بعد ان طلب منه أن يخرج كل من كان هناك من ذويه وأهله ـ : إني قد جئتك في حاجة إليك اريد ذكرها لك فاكتم عني ، وإني كرهت ان يسمع القوم كلامنا ، فيظنون! لقد كان قدوم هذا الرجل ( يعني رسول الله ) علينا من البلاء ، وحاربتنا العرب ، ورمتنا عن قوس واحدة ، وقطّعت السبل عنا حتّى جهدت الانفس ، وضاع العيال ، أخذنا بالصدقة ولا نجد ما نأكل.

فقال كعب : قد والله كنت احدّثك بهذا يا ابن سلامة إن الامر سيصير الى ما أقول.

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) راجع السيرة النبويّة : ج ٢ ص ٥٢.

١٣٣

فقال أبو نائلة : إنّ معي رجالا من أصحابي على مثل رأيي ، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاما ، أو تمرا وتحسن في ذلك إلينا ، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة.

فقال كعب : وما ذا ترهنونني يا أبا نائلة ، أبناءكم ونساءكم؟؟!

فقال أبو نائلة : لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا ، ولكنا نرهنك من الحلقة ( أي السلاح ) ما ترضى به.

فرضي كعب بن الاشرف بذلك.

وإنما قال أبو نائلة هذا القول لابن الاشرف حتى لا يستغرب إذا رأى السلاح بيد الرجال الذين سيأتون معه.

ثم خرج أبو نائلة من عند ابن الاشرف على ميعاد ، فاتى أصحابه ، فأخبرهم بما دار بينه وبين كعب ، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده ، ثم أتوا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشاء وأخبروه ، فمشى معهم حتى اتى البقيع ، ثم وجّههم ، ثم قال :

« امضوا على بركة الله وعونه اللهم أعنهم ».

فمضوا حتى أتوا ابن الاشرف ، فلمّا انتهوا إلى حصنه هتف به أبو نائلة ، وكان ابن الاشرف حديث عهد بعرس ، فوثب من فراشه ، فأخذت امرأته بناحية ملحفته وقالت : أين تذهب ، إنك رجل محارب ، ولا ينزل مثلك في هذه الساعة؟؟

فقال ابن الاشرف : ميعاد ، إنما هو أخي أبو نائلة.

ثم نزل إليهم فحيّاهم ، ثم جلسوا فتحدثوا ساعة حتى اطمأن إليهم.

ثم قالوا له : يا ابن الاشرف : هل لك أن تتمشّى الى شعب العجوز ( وهو موضع قرب المدينة ) فنتحدث فيه بقيّة ليلتنا.

فخرجوا يتماشون حتى ابتعدوا عن حصنه ، وبينما هم كذلك إذ أدخل أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شم يده فقال : ويحك ما أطيب عطرك هذا يا ابن الاشرف ، ثم مشى ساعة ، ثم كرّر هذا العمل ثانية حتى اطمأن ثم مشى ساعة

١٣٤

ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه وقال : اضربوا عدوّ الله ، فضربوه بسيوفهم ، وطعنه أبو نائلة بخنجر في بطنه ، وصاح صيحة ثم وقع على الارض ولم تنفعه استغاثاته.

ثم عاد هذا الفريق الفدائي إلى المدينة من فورهم ولما بلغوا « بقيع الغرقد » كبّروا ، وقد قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الليلة يصلّي ، فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تكبيرهم بالبقيع كبّر ، وعرف أنهم قد قتلوه.

وبهذا أعلنوا عن نجاح عمليّتهم الفدائية الجريئة التي أراحت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه من شرّ ذلك المفسد الخطير الذي لم يفتأ عن إيذاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتناول أعراض المسلمين في أشعاره ... (١).

اغتيال مفسد آخر :

وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي يظاهر كعب بن الاشرف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم بنفس الدور الخبيث الذي كان يقوم به ابن الاشرف من الايذاء والازعاج للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين. فقام فريق فدائي آخر من المسلمين باغتياله على غرار اغتيال صاحبه في عملية فدائية جسورة على نحو ما رواه ابن الأثير في كتابه : الكامل في التاريخ بصورة مفصلة (٢).

وقد كانت هاتان العمليتان وامور اخرى من أسباب اندلاع معركة « احد ».

وقد حان الأوان الآن أن نستعرض تفاصيل هذه الواقعة الكبرى!

قريش تتكفل نفقات الحرب :

كانت بذور الرغبة في الانتقام والثأر من المسلمين قد بذرت في مكة من زمان وقد ساعدت خطة المنع من البكاء والنياحة على القتلى على اذكاء روح الانتقام هذه لدى قريش.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥١ ـ ٥٦ ، المغازي : ج ١ ص ١٨٤ ـ ١٩٠.

(٢) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٠١.

١٣٥

كما أن تعذّر مرور قافلتها التجارية عبر طريق مكة ـ المدينة ـ الشام ، واضطرارها الى سلوك طريق العراق للسفر الى الشام زاد هو الآخر من سخطها وانزعاجها.

ولقد أجج مقتل « كعب بن الاشرف » من أوار هذا الحقد ، وأوقد لهيبه في النفوس.

من هنا اقترح « صفوان بن أميّة » و « عكرمة بن أبي جهل » على أبي سفيان ومن كانت له في قافلة قريش التجارية مشاركة ، أن يدفع كل واحد منهم مبلغا من المال لتسديد نفقات الحرب قائلين : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا.

ولقد لقي هذا الاقتراح قبولا من أبي سفيان وتقرّر الإعداد للحرب فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى فعل أبو سفيان ذلك.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع كما ذكر كيف أن قريشا لم تحصد من هذا الإنفاق الا الخيبة والخسران اذ قال تعالى :

« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ » (١).

وحيث إن زعماء قريش كانوا يعرفون بقوة المسلمين وقد رأوا من كثب استقامتهم وثباتهم في معركة « بدر » لهذا قرروا أن يتألف جيشهم هذه المرة من صناديد أكثر القبائل العربية وشجعانها البارزين وأبطالها المعروفين.

فكلّف « عمرو بن العاص » وعدة أشخاص آخرين بأن يؤلّبوا العرب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويجمعوا أبطالها وصناديدها ، للمشاركة في الجيش الكثيف والمنظم الذي اعتزمت قريش على تسييره لقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين ، وغزوهم وبأن يخبروهم بأن قريشا قد تكفّلت نفقات هذه المعركة.

وقد أثمرت نشاطات « عمرو » ورفاقه في هذا السبيل.

__________________

(١) الانفال : ٣٦ ، وراجع السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٠ ، مجمع البيان : ج ٢ ص ٥٤١ ، السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٢١٧.

١٣٦

فقد استطاعوا بعد محاولات واسعة أن يضمّوا إلى جيش قريش أبطالا وصناديد من بني كنانة وتهامة ، فخرجت قريش وهم أربعة آلاف بمن انضم إلى صفوفهم من تلك القبائل (١).

وقد كان هذا هو عدد الرجال الذين شاركوا في هذه المعركة ، ولو أضفنا إليهم عدد النساء اللواتي شاركن فيها لتجاوز العدد ما ذكرناه.

على أنه لم يكن من عادة العرب أن يشركوا نساءهم في الغزو ويخرجوهن معهم إلى القتال ، ولكن نساء مكة الوثنيات شاركن مع رجالهن في هذه المعركة على خلاف عادة العرب ، وكان الهدف من أخذهن هو أن يحرّضن الرجال على القتال والصمود ، ويمنعن المقاتلين من الفرار ، ويذكّرن بقتلى بدر ، ويشعلن الحماس في النفوس بدق الدفوف ، وإنشاد الأشعار المثيرة للهمم والداعية إلى الثأر ولأن فرار الرجال كان يعني أن تقع النسوة في الأسر ، وهو ما كان يأباه العربي آنذاك. فتكون الغيرة والحمية على العرض سببا للمقاومة والصمود.

كما أنه اشترك في هذه المعركة طائفة من العبيد والرقيق طمعا في العتق الذي وعدوا به إن نصروا أسيادهم وقاتلوا بين أيديهم ، وذلك مثل « وحشي » وكان غلاما حبشيا لمطعم بن جبير يقذف بحربة له قذف الحبشة قلّما يخطئ بها فقال له سيده : أخرج مع الناس فإن نلت محمدا أو عليّا أو حمزة فأنت عتيق (٢).

وعلى أية حال استطاعت قريش أن تجهّز بعد جهد كبير جيشا كبيرا قويا يتألف من سبعمائة دارع ، وثلاثة آلاف فارس ، ومشاة كثيرين ، وقد خرجوا بعدة وسلاح كثير.

الاستخبارات ترفع تقريرا الى النبيّ :

فلما اجمعت قريش على المسير كتب العباس بن عبد المطلب (٣) كتابا يضم

__________________

(١) اختلف علماء التفسير والتاريخ كعلي بن ابراهيم والشيخ الطبرسي في إعلام الورى ، وابن هشام والواقدي في عدد المشركين والكفار في هذه المعركة ، وما ذكرناه هو الاقرب الى الحقيقة.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٩٦.

(٣) وكان العباس كما أسلفنا ممن أسلم وآمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة ولكنه ظلّ يكتم

١٣٧

تقريرا مفصلا عن نوايا واستعدادات قريش ، وختمه واستأجر رجلا من بني غفار واشترط عليه أن يقطع الطريق إلى المدينة في ثلاثة أيام ويوصل تلك الرسالة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقدم الغفاري المدينة فلم يجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وانما وجده في بستان خارجها فدفع إليه كتاب العباس المختوم ، فقرأه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واطلع على ما فيه ، ولكنه كتم محتواها عن أصحابه (١).

روى العلامة المجلسي عن الامام ابي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنه قال : كان مما منّ الله عزّ وجلّ على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان لا يقرأ ولا يكتب ، فلما توجّه أبو سفيان الى « احد » كتب العباس إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه ولم يخبر أصحابه ، وأمرهم أن يدخلوا المدينة فلما دخلوا المدينة أخبرهم (٢).

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة :

تحرّك جيش قريش باتجاه المدينة ، وبعد قطع مسافة معينة وصلت طلائعه إلى الابواء ، وهي المنطقة التي دفنت فيها والدة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله السيدة « آمنة بنت وهب » فقال فتية من قريش : تعالوا ننبش قبر أم محمّد ، فانّ النساء عورة ، فان يصب من نسائكم أحد قلتم هذه رمة امّك ، فان كان برّا بامّه كما يزعم فلعمري ليفادينكم برمة أمّة ، وان لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة امّه بمال كثير إن كان بها برّا.

__________________

ايمانه ليتمكن من البقاء بين قريش ورصد تحركاتهم واخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنواياهم.

راجع السيرة الحلبية : ج ١٠ ص ١٩٨.

(١) المغازي : ج ١ ص ٢٠٣ ، ويرى بعض المؤرخين أن مبعوث العباس قدم بالرسالة المدينة وكان النبيّ ساعتها في المسجد فأعطى النبيّ الرسالة إلى أبي بن كعب فقرأها عليه ، وقد روى الواقدي هذا الوجه أيضا ( ج ١ ص ٢٠٤ ) ومع أن النبيّ لم يعهد منه أن قرأ رسالة فيكون الوجه الاول أقرب الى الحقيقة.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ١١١.

١٣٨

واستشار أبو سفيان أهل الرأي من قريش في ذلك فاستقبحوه وشجبوه بشدة وقالوا :

لو فعلنا ذلك نبشت بنو بكر وخزاعة ( وهم أعداء قريش ) موتانا (١).

وبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة الخميس الخامس من شهر شوال ، السنة الثالثة من الهجرة ، « أنسا » و « مونسا » ابني « فضالة » للتجسس على قريش خارج المدينة ، واخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله بتحركاتهم ، فأخبرا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باقتراب جيش المشركين إلى المدينة ، وانهم قد سرحوا إبلهم وخيولهم ترعى في مراعي المدينة.

كما أخبر « الحباب بن المنذر » هو الآخر باقتراب جيش المشركين إلى المدينة ، وان طلائع ذلك الجيش قد استقر على مقربة من جبل احد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بعث الحباب سرا وقال له : لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلاّ أن ترى قلة.

وبخبر الحباب تأكّد ما أخبر به ابنا فضالة.

وحيث إن المسلمين كانوا يخافون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من العدو ، أن يهاجموه ليلا ، لذلك باتت وجوه الأوس والخزرج ( الانصار ) ليلة الجمعة وعليهم السلاح في المسجد بباب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يحرسونه ، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا.

منطقة « احد » :

كان الوادي الطويل الكبير الذي يصل طريق الشام التجارية باليمن يسمى آنذاك بـ « وادي القرى » ، وكانت القبائل العربية من اليهود وغير اليهود تقطن في كل منطقة تتوفر فيها ظروف المعيشة ومستلزمات الحياة ، ولهذا نشأت على طول هذا الخط « قرى » بسبب وجود مناطق خصبة فيه وقد سوّرت بأسوار من الحجارة ،

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٢٠٦.

١٣٩

وكانت يثرب مركز هذه القرى وامها وهي التي سميت في ما بعد بمدينة الرسول ، ومن ثم « المدينة » تخفيفا واختصارا.

وكان على كل قادم من مكة إلى المدينة ، أن يدخل من جنوب يثرب وحيث إن أرض هذه المنطقة ذات طبيعة صخرية لذلك يكون عبور الجيش من خلالها أمرا عسيرا وفي غاية الصعوبة.

من هنا عمدت قريش ـ عند ما وصل جيشها الى مشارف المدينة ـ تحاشت هذه المنطقة ، ودخلت من شمال المدينة ، واستقرت في وادي العقيق في سفوح جبل « احد » ، وقد كانت هذه المنطقة لعدم وجود نخيل فيها ، ولسهولة أرضها ، أفضل مكان للعمليات العسكرية ، وخير ميدان للقتال والحرب.

وقد كانت المدينة عرضة للخطر من هذه الناحية لأنه قلّما كان المرء يرى فيها موانع طبيعية.

نزلت قوى المشركين عصر يوم الخميس في الخامس من شوال من السنة الثالثة من الهجرة عند جبل « احد ».

وبقي النبي ذلك اليوم وليلته في المدينة ، وفي يوم الجمعة أقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عقد شورى عسكرية ، واستشار قادة جيشه وأهل الخبرة والرأي من أصحابه في كيفية مواجهة العدو ، والتكتيك الذي يجب أن يتبعه المسلمون (١).

المشاورة في كيفية الدفاع :

كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد امر من جانب الله تعالى أن يشاور أصحابه في الامور العسكرية وما يشابهها ويشركهم في قراراته وخططه التي يتخذها في المجالات المذكورة ، ليعطي بذلك درسا كبيرا للمسلمين ، ويوجد بين أصحابه وأتباعه روح الديمقراطية ( الصحيحة ) وتحري الحق ، والموضوعية.

__________________

(١) لم تكن هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي شاور النبيّ فيها أصحابه وقد ذكرنا عدة موارد من هذا النوع من التشاور والهدف منه في كتابنا : معالم الحكومة الاسلامية.

١٤٠