جواهر الكلام - ج ٣٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

يصدق كون الشي‌ء في يد المستحق وفي تصرفه وتحت قبضته ، فأخذه منه حينئذ كدفعه الحسي ظلم.

ولعله لذا اعتبروا الرحل مع نية العود في الطريق والمسجد ، بخلاف ما إذا لم يكن له رحل ، فإن نية العود لا تكفي في صدق كون الشي‌ء في اليد وتحت القبضة.

نعم هو كذلك في سكنى بيوت المدارس والربط ونحوها ، ولذا لم يعتبر أحد منهم بقاء الرحل في الاستحقاق لو خرج الخروج الذي لا ينافي صدق كونه في قبضته عرفا في مثل الخروج لقضاء حاجة ونحوها ، وإن كان هو لا يخلو من نظر إن لم يكن إجماعا ، كما ستعرف إنشاء الله فتأمل جيدا.

ثم إنه حيث يجوز له الجلوس يجوز له التظليل بما لا يضر بالمارة كما نص عليه غير واحد وعلى أنه لا يجوز له بناء دكة ، بل في الدروس ولا تسقيف ، وإن كان قد يشكل مع فرض عدم الإضرار بالمارة بأن مقتضى الأصل الجواز.

وفي المسالك « وله أن يظلل عليه موضع جلوسه بما لا يضر بالمارة من ثوب وبارية ونحوها ، لا بناء دكة إلا مع سعة الطريق بحيث لا يتضرر به المارة أصلا ، فيتجه الجواز ». وفيه ما لا يخفى من عدم الفرق مع فرض عدم الضرر.

ومنه يعلم ما في إطلاق المحكي عن المبسوط « إذا سبق إلى موضع كان أحق به من غيره ، لأن بذلك جرت عادة أهل الأمصار ، يفعلون ذلك ولا ينكره أحد ، غير أنه لا يجوز أن يبني دكة ولا ينصب مستندا » وتحقيق ذلك هو أن الأصل والسيرة القطعية يقتضيان جواز سائر وجوه الانتفاع بالمنافع المشتركة إذا لم تعارض أصل المنفعة المقصودة منه‌

٨١

الذي أعد لها بإحياء المحيي أو بوقف الواقف أو بتسبيل المسبل أو بغير ذلك من غير فرق بين ما يدوم أثر التصرف كالبناء ونحوه وبين ما لا يدوم مع فرض عدم إخراجه بذلك عما أعد له ، فلو بنى بعض أرض الطريق بآجر مثلا على وجه لا يخرجه عن أصل الاستطراق لم يكن بذلك بأس وإن كان مراده بذلك الاستئثار به لو أراد الجلوس عليه غير المضر بالمارة ، باعتبار أنه ملكه نحو وضع البساط ونحوه.

وكذلك الكلام في السقف ، ولا ينافي ذلك ثبوت حق الاستطراق بعد ما سمعت من الإجماع على جواز الارتفاق بغير المضر به ، فليس للمستطرق حينئذ اختيار هذه القطعة لاستطراقه بعد فرض وجود ما يصلح له غيرها ، إذ الثابت له حق الاستطراق في المجموع لا في كل جزء ، ومن هنا لم يكن له إزعاج الجالس غير المضر ، واستمرت الطريقة على وضع القمامة وغيرها في الطرقات إذا لم تكن مضرة بالمستطرق ، لوجود ما يصلح لاستطراقه غيرها.

ولا ينافي ذلك اشتراك الناس فيها بعد أن كان الثابت من الاشتراك كونه على الوجه المزبور ، بل هو مؤكد له ، ومن ذلك استمرار الناس على الانتفاع بالمساجد بغير العبادة مع عدم المزاحمة لأهل المنفعة المقصودة.

ودعوى حرمة الانتفاع بغيرها إلا ما جرت السيرة عليه لا حاصل لها بعد أن علم منها الجواز على وجه الكلية ، لا خصوص أفراد من الارتفاق ، بل صريح كلمات الأصحاب أن المدار على تضرر ذوي المنفعة المقصودة وعدمه ، كما هو واضح ، والله العالم.

( ولو جلس للبيع أو الشراء ) في الطريق ( فالوجه ) عند المصنف ( المنع إلا في المواضع المتسعة كالرحاب نظرا إلى العادة ) ونحوه ما في التحرير ، غير أنه قال : احتمل المنع. وفي القواعد « ولو‌

٨٢

جلس للبيع والشراء في الأماكن المتسعة فالأقرب الجواز » وفي الإرشاد « ولو كان أي الجلوس للبيع أو الشراء في الرحاب فكذلك »

لكن لا يخفى عليك ما في الجميع من الإجمال ، ضرورة أنه إن أريد بالرحاب المتسعة الأماكن التي ليست طرقا فهو ـ مع أنه خارج عن مفروض البحث فلا يصح استثناؤه ـ أنه لا يناسبه ذكر الوجه والأقرب والاحتمال فيه ، ضرورة عدم المانع من ذلك فيها.

وإن أريد خصوص ما زاد على النصاب مما هو مستطرق فكذلك أيضا بناء على عدم جريان حكم الطريق على الزائد المزبور ، بل لو قلنا بكونه مثله أشكل الفرق حينئذ بينه وبين غيره مع فرض عدم الضرر ، وربما احتمل إرادة غير المضرة بالاستطراق من المتسعة كما عبر به جماعة ، لكنه كما ترى.

وأوحش عنه ما في المسالك وأتباعها في شرح المتن المزبور من أنهم اختلفوا في جواز الجلوس للبيع والشراء ، فمنعه بعضهم مطلقا ، لأنه انتفاع بالبقعة في غير ما أعدت له فكان كالانتفاع بالوقوفات الخاصة في غير ما عينت له من الجهة ، والمشهور التفصيل ، وهو المنع من ذلك في الطريق المسلوك الذي لا يؤمن تأذي المارة به غالبا ، وجوازه في الرحاب المتسعة في خلاله بحيث يؤمن تأذي المارة به.

إذ هو ـ مع أن ما حكاه من القول الأول لم نعرفه لأحد من العامة والخاصة ، وقد نقل هو وغيره إجماع الناس في جميع الأعصار على فعل ذلك مع عدم التضرر من غير فرق بين الجلوس للبيع وغيره ـ أن التفصيل المزبور لم نعرفه أيضا لأحد إن لم يكن المراد به ما أشرنا إليه من ضرر المارة وعدمه.

كما أن ما ذكره من قوله : يؤمن ولا يؤمن لا حاصل له أيضا ،

٨٣

ضرورة كون المدار في المنع على الضرر المزبور الذي يمكن معه القول بالجواز حتى يحصل ، لا المنع حتى يعلم العدم وإن كان هو محتملا أيضا ، إلا أن الأول أقوى.

وعلى كل حال فلا فرق بين الجلوس للبيع والشراء وبين غيره حتى الجلوس للنزهة ونحوه ، ولو على جهة اتخاذ ذلك موطنا مع فرض عدم تضرر المارة.

ومن ذلك يعلم ما في المتن والقواعد من جعل حكم الجلوس للبيع مستقلا عما ذكره أولا من مطلق الجلوس الذي نسب القول فيه لبقاء حقه مع القيام ونية العود إلى القيل ، ولم يشر إلى مسألة الرحل ، ضرورة اتحاد الجميع في مدرك الجواز أو العدم.

وحينئذ فقوله هنا كالفاضل ( ولو كان كذلك ) أي جلس للبيع حيث يجوز له ذلك ( فقام ورحله باق فهو أحق به ) لا يختص بخصوص البيع ، ولعله لذا حكى غير واحد ما هنا في المسألة السابقة فيما إذا كان الرحل باقيا ، فلا حظ وتأمل فإنه قد قدمنا تحقيق الحال في ذلك ، والله العالم.

( ولو رفعه ناويا للعود فعاد قيل ) ولم أعرف القائل به منا : ( كان أحق به لئلا يتفرق معاملوه فيستضر ).

نعم في التذكرة عن الجويني من العامة أنه إن مضى زمان ينقطع فيه الذين ألفوا المعاملة معه ويستفتحون المعاملة مع غيره بطل حقه ، وإن كان دونه لم يبطل ، لأن الغرض من تعيين الموضع أن يعرف فيعامل ، فلا فرق بين أن تكون المعاملة لعذر كسفر أو مرض أو لغير عذر ، وعلى هذا فلا يبطل حقه بأن يرجع بالليل إلى بيته ، وليس لغيره مزاحمته في اليوم الثاني ، وكذلك الأسواق التي تقام في كل أسبوع أو في كل شهرة مرة‌

٨٤

إذا اتخذ منها مقعدا كان أحق به في النوبة الثانية وإن تخللت بينهما أيام.

وهو كما ترى مبني على استحسان ونحوه ، ضرورة عدم مدخلية تضرره بثبوت الحق المشترك بين الناس أجمع من الذين يتضررون بذلك أيضا ، وخصوصا من سبق إليه.

( و ) من هنا ( قيل ) والقائل من عثرنا على كلامه من الأصحاب وإن تفاوتوا بالإطلاق والتصريح عدا الفاضل في التذكرة : ( يبطل حقه ، إذ لا سبب للاختصاص ، و ) لا ريب في أنه ( هو أولى ) لأصالة الاشتراك السالمة عن المعارض والخبر المزبور (١) الذي استند إليه الفاضل في التذكرة في كونه أحق به إلى الليل لا جابر له ، مع أن مقتضاه وإن لم ينو العود ، بل وإن نوى عدمه.

هذا وفي التذكرة أيضا أنه حيث يختص الجالس بموضعه يختص أيضا بما حوله على قدر ما يحتاج إليه لوضع متاعه ووقوف المعاملين فيه ، وليس لغيره أن يقعد حيث يمنع من رؤية متاعه أو وصول المعاملين إليه أو يضيق عليه الكيل والوزن والأخذ والعطاء ، وتبعه عليه في المسالك.

ولكن الانصاف عدم دليل معتبر عليه على وجه ينطبق على أصول الإمامية ، خصوصا على مختاره فيها المقتضي لعدم ثبوت حق للسابق زائد على الظلم الذي ذكرناه سابقا ، وخصوصا بعد ما ذكرناه فيمن نصب خيمته ، فلا حظ وتأمل.

اللهم إلا أن يقال : إن الدليل على ذلك صدق السبق إلى ما لا يسبق إليه مسلم مع كون المسبوق إليه في يده وفي قبضته وفي تصرفه.

ثم قال فيها متصلا بذلك : « هذا في المستوطن ، أما المتردد الجوال الذي يقعد كل يوم في موضع من السوق يبطل حقه إذا فارق المكان ،

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب آداب التجارة ـ الحديث ١ من كتاب التجارة.

٨٥

وما تقدم من أولوية الجالس إنما هو مفروض في غيره » وفيه أن إطلاق الخبر الذي ذكره سندا له يقتضيه.

وفي المسالك بعد أن ذكر ما سمعته من التذكرة قال : « هذا كله في المستوطن أما الجوال الذي يقعد كل يوم في موضع من السوق فلا إشكال في بطلان حقه إذا فارق المكان ، بل هذا خارج بنية المفارقة فلا يدخل في قسم ناوي العود ، ولا يفتقر إلى استثناء » وفيه أنه لا يستحيل فرض نية العود منه ، وخصوصا في بعض اليوم ، إذ الكلام أن نية عوده تقوم مقام مكثه في بقاء الحق أو لا ، فيجري فيه حينئذ ما يجري في غيره ، نعم لا يجي‌ء على كلام الجويني الذي جعل المدار على التضرر بمعرفة المكان ، فتأمل فإن المقام في بعض الكتب غير نقي ، والله العالم والهادي.

( و ) كيف كان ف ( ليس للسلطان ) فضلا عن غيره ( أن يقطع ذلك ) أو بعضه ( كما لا يجوز إحياؤه ولا تحجيره ) بلا خلاف أجده فيه عدا ما تسمعه من التذكرة ، وذلك لأن مورد الثلاثة الموات لا ما تعلق به حق المسلمين.

خلافا لبعض العامة فجوز إقطاع الإمام ، لأن له يدا وتصرفا فيما يصلح المسلمين ، كما أن له إزعاج بعض الجالسين.

وهو مبني على أصولهم لا أصولنا التي منها عصمة الإمام الذي هو وإن كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، إلا أن تصرفه في ذلك يكون على القوانين الشرعية ، نعم لو فعل كان هو القانون الشرعي.

هذا ولكن في التذكرة « يجوز أن يقطع إنسانا الجلوس في المواضع المتسعة في الشوارع ، فيختص بالجلوس فيه ، وإذا قام عنه لم يكن لغيره‌

٨٦

الجلوس فيه للاقطاع ، وبه فرق بينه وبين السابق الذي يزول حقه بانتقاله ».

ولا يخفى عليك ما فيه ، خصوصا إذا أراد عدم جواز انتفاع غيره حتى وقت انتقاله عنه ، واحتمال أن ما لا يتضرر به المارة يبقى حكمه حكم الموات للإمام عليه‌السلام يدفعه أن الطريق قد احيي طريقا وتعلق به حق المستطرقين بأجمعه وإن اتفق في بعض الأزمنة عدم الضرر على المارة ولكن ذلك لا يجعله موتا ، كما هو واضح.

ثم إن الظاهر عدم الفرق في استحقاق الاستطراق بين المسلمين وغيرهم من أهل الذمة ، بل لهم الانتفاع به أيضا فيما لا يضر بالمارة على نحو المسلم ، للسيرة المستمرة على ذلك.

ولو استبق اثنان على وجه تعلق حقهما به معا ولم يمكن الجمع فالأقرب القرعة ، بناء على ما ذكرناه غير مرة من أنها لكل أمر مشكل لجهل به أو لغيره ، ولا ريب في تحققه هنا بعد أن لم يكن معينا شرعيا.

فما عن بعض العامة من أن التعيين للإمام بحسب المصلحة من أحوجية ونحوها واضح الضعف وإن احتمل في المحكي عن حواشي الشهيد تقديم الأحوج قال : « لأن القرعة لتعيين المجهول عندنا إذا كان متعينا في نفس الأمر ، وليس كذلك هنا » لكنه كما ترى ، على أنه ما ندري ما ذا يقول مع تساويهما في الاحتياج.

ولو اشترى دارا فيها زيادة من الطريق ففي النهاية ومحكي السرائر إذا لم يعلم المشتري ثم علم بعد ذلك لم يكن عليه شي‌ء إذا لم يتميز الطريق ، فإذا تميز وجب عليه ردها إليه ، ورجع على البائع بالدرك.

ولعله لموثق ابن مسلم (١) عن أحدهما عليهما‌السلام « سألته‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب عقد البيع ـ الحديث ٣ من كتاب التجارة.

٨٧

عن رجل اشترى دارا فيها زيادة من الطريق ، قال : إن كان ذلك في ما اشترى فلا بأس » وخبر عبد الله بن أبي أمية (١) « سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن دار يشتريها يكون فيها زيادة من الطريق ، قال : إن كان ذلك دخل عليه في ما حدد له فلا بأس ».

وفيه أن الخبر الثاني ضعيف لا جابر له ، بل الظاهر تحقق الموهن.

وأما الأول وإن كان موثقا إلا أنه مخالف لما عرفت من عدم جواز تملك أحد للطريق.

وما سمعته من الشيخ والحلي من عدم التمييز لا يقتضي الحل ، إذ أقصاه جهل المغصوب ، وذلك لا يقتضي حله ، فالمتجه حينئذ بطلان البيع للجهالة. أما مع عدم جهالته ولكن لم يعلم بغصبه كذلك فللمشتري الخيار بتبعيض الصفقة.

ويمكن حمل الخبرين المزبورين على عدم تبين الغصب حملا لفعل المسلم على الوجه الصحيح ، إذ يمكن كون الطريق مرفوعا وأخذه بإذن أربابه ، ويمكن أن يكون مسلوكا ولكن كان فيه زيادة على المقدر الشرعي ، بناء على بقاء مثله على الإباحة أو أن للحاكم المصالحة عنه مصلحة للمسلمين.

وبالجملة لا صراحة فيهما بدخول الزيادة على الوجه الغصبي وإلا كانا مطرحين ، لمخالفتهما للضوابط مع قلة العامل ، بل عدمه صريحا على الوجه المزبور ، والله العالم.

( وأما المسجد ف ) لا إشكال ولا خلاف في أن ( من سبق إلى مكان منه فهو أحق به ما دام جالسا ) فيه ، بل يمكن تحصيل الإجماع أو الضرورة عليه ، بل في المسالك وغيرها سواء كان جلوسه لصلاة أم‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢٧ ـ من أبواب عقد البيع ـ الحديث ٤ من كتاب التجارة.

٨٨

لمطلق العبادة أم لتدريس العلم والإفتاء ونحو ذلك.

قلت : بل وإن لم يكن لشي‌ء من ذلك ، بل لنفس الجلوس فضلا عن الاشتغال بأمر آخر ، نعم ليس له ذلك مع مزاحمة المصلين على نحو ما سمعته في الطريق.

وهل الصلاة مقدمة على غيرها من العبادات كقراءة القرآن؟ وجهان ، أقواهما ذلك ، ولكن لم أجده في كلام أحد من الأصحاب ، بل ولا غيره من صور التعارض المتصورة في المقام.

وعلى كل حال ( فلو قام مفارقا ) رافعا يده عنه ( بطل حقه ) بلا خلاف ( و ) لا إشكال حتى ( لو عاد ) وقد شغله غيره.

( وإن قام ناويا للعود ) إليه ( فإن كان رحله باقيا فيه فهو أحق به ، وإلا كان مع غيره سواء ) كما صرح به الفاضل والشهيدان والكركي وغيرهم ، بل في جامع المقاصد أنه المشهور ، بل في محكي المبسوط نفي الخلاف فيه ، قال : « فمن سبق إلى مكان في المسجد كان أحق به ، فان قام وترك رحله فيه فحقه باق ، وإن حول رحله منه انقطع حقه منه ، ولا خلاف فيه ، وفيه نص لنا عن الأئمة عليهم‌السلام ».

بل ليس فيه نية العود كالإرشاد والدروس ، ففي الأول « ولو قام ورحله فيه فهو أولى عند العود وإلا فلا » وفي الثاني « فإذا فارقه بطل حقه إلا أن يكون رحله باقيا » بل في الروضة « هذا الشرط ـ أي نية العود ـ لم يذكره كثير » وإن كنا لم نتحققه.

بل ربما مال إليه بعض مشايخنا ، لنفي الخلاف والمرسل المزبورين في المبسوط المؤيدين‌ بالخبر (١) « إذا قام أحدكم من مجلسه في المسجد فهو‌

__________________

(١) سنن البيهقي ـ ج ٦ ص ١٥١ وفيه‌ « إذا قام الرجل من مجلسه ثم عاد اليه فهو أحق به » ‌

.

٨٩

أحق به إذا عاد إليه » بل والخبر (١) السابق « سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل ».

لكن فيه أنه لا وجه لبقاء الأحقية مع الاعراض عنه ، ضرورة معلومية اشتراك الناس فيه ، وبقاء الرحل ليس تحجيرا ، ونفي الخلاف في الفرض غير متحقق ، بل لعل عكسه كذلك ، فلا جابر للمرسل المزبور ، بل ولا للخبرين المذكورين المقتضيين ثبوت الأولوية حتى مع عدم بقاء الرحل.

نعم قد يقال بالحكم بها مع بقاء الرحل في صورة الجهل بالحال اعتمادا على شاهد الحال الذي هو بقاء الرحل ، أما مع العلم بالعدم فلا ريب في عدمها ، بل لو علم تردده في المجي‌ء وعدمه لم يكن له حق وإن كان مقتضى إطلاق ما سمعت ذلك ، لكن لا جابر له ، فلا يكون حجة.

نعم مقتضى إطلاق النص عدم الفرق بين طول الزمان وقصره ، لكن في المسالك عن الذكرى تقييده بأن لا يطول زمان المفارقة ، وإلا بطل حقه أيضا ، قال : « ولا بأس به خصوصا مع حضور الجماعة واستلزام تجنب موضعه وجود فرجة في الصف ، للنهي (٢) عن ذلك ، بل استثنى بعضهم ذلك مطلقا وحكم بسقوط حقه حينئذ ، ولا بأس به ».

وفيه أن ذلك مجرد اعتبار لا يقتضي سقوط الحق الثابت بالدليل.

نعم قد يقال : إن المراد بالأحقية تقدمه على غيره عند التعارض لا جواز الانتفاع بالمكان حال عدمه ، فحينئذ يجوز لغيره الوقوف فيه ، فإذا جاء تنحى عنه ولو في أثناء الصلاة مع فرض عدم اقتضاء ذلك التصرف برحله وإلا لم يجز له لذلك لا للأحقية المزبورة.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب آداب التجارة ـ الحديث ١ من كتاب التجارة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧٠ ـ من أبواب صلاة الجماعة من كتاب الصلاة.

٩٠

وفي المسالك متصلا بما حكيناه « ثم على تقدير سقوط حقه يجوز رفع رحله إن استلزم شغل موضعه التصرف فيه وتوقف تسوية الصف عليه ، ويضمن الرافع له إلى أن يوصله إلى صاحبه جمعا بين الحقين ، مع احتمال عدم الضمان للاذن شرعا ».

قلت : لا يخفى عليك ضعف الاحتمال المزبور ، لما ذكرناه غير مرة من أصالة الضمان مطلقا ، لقاعدة اليد وغيرها.

بل قد يقال : إن سقوط أحقيته لا يقتضي جواز التصرف في ماله بعد أن كان وضعه بحق ولم تنحصر الصلاة في الموضع المخصوص ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه أنه لا خلاف في سقوط حقه مع عدم الرحل وإن نوى العود وكان قيامه لضرورة من تجديد طهارة ( و ) نحوها.

لكن في المتن ( قيل : إن قام لتجديد طهارة أو إزالة نجاسة وما أشبهه لم يبطل حقه ) ولكن لم نعرف القائل ممن تقدمه ، نعم هو للفاضل في التذكرة والشافعي في أحد قوليه ، لإطلاق الخبر (١) السابق الذي لا جابر له فيه ، بل الموهن متحقق.

أما إذا كان قيامه لغير ضرورة فلا ريب ولا خلاف في سقوط حقه ، لكن في المسالك نسبته إلى المشهور مشعرا بوجود الخلاف فيه ، قال : « وفرقوا بينه وبين مقاعد الأسواق بأن غرض المعاملة يختلف باختلاف المقاعد ، والصلاة في بقاع المسجد لا تختلف » ثم نظر فيه بمنع عدم اختلاف بقاع المسجد في الفضيلة ، لأن ثواب الصلاة في الصف الأول‌

__________________

(١) سنن البيهقي ـ ج ٦ ص ١٥١.

٩١

أكثر ، وقد يألف الإنسان بقعة من المسجد ويتضرر بفواتها كتضرره بفوات المتعاملين.

قلت : لا يخفى عليك ما فيه بعد ما عرفت سابقا من أن أحد من أصحابنا لم يقل بذلك فضلا عن أن يكون هو المشهور كما هو مقتضى كلامه حتى يحتاج إلى الفرق المزبور ، والنظر المذكور ـ مع أن فيه ما فيه ـ انما ذكر ذلك الجويني كما عرفت الكلام فيه سابقا.

وكذا الكلام في قوله متصلا بما سمعت : « وظاهر الأصحاب عدم الفرق هنا بين من يألف بقعة ليقرأ عليه القرآن ويتعلم من الفقه ونحو ذلك وغيره ، لعموم قوله تعالى (١) ( سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ) وفرق بعضهم فأوجب أولوية المذكورين ، كمقاعد الأسواق خصوصا في الجوامع الكبيرة ، لأن له غرضا في ذلك الموضع ليألفه الناس » فإنه لم نجد الفرق المزبور لأحد من أصحابنا ، وإنما هو لبعض الشافعية الذين يناسب أصولهم الاعتبارات المزبورة.

وأغرب من ذلك قوله متصلا بما سمعت : « وإن كان قيامه لضرورة لتجديد طهارة أو إزالة نجاسة وقضاء حاجة ففي بطلان حقه وجهان : أحدهما ـ وهو الذي قطع به المصنف ـ عدم البطلان ، لمكان الضرورة واحتج له في التذكرة بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : « إذا قام » إلى آخره.

وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣) : « سوق » إلى آخره. ويشكل مع قطع النظر عن السند بأنه أعم من المدعى وأنتم لا تقولون به على العموم ، والمخصص لهما مع عدم الضرورة مخصص‌

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ ـ الآية ٢٥.

(٢) سنن البيهقي ـ ج ٦ ص ١٥١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من أبواب آداب التجارة ـ الحديث ١ من كتاب التجارة ـ الحديث ١ من كتاب التجارة.

٩٢

معها. والوجه الثاني بطلان حقه ، لحصول المفارقة » إذ هو كما ترى نسب إلى المصنف الأول وصريح كلامه خلافه ، بل قد عرفت أنه لم نعرفه قولا لأحد من أصحابنا. ومنه يعلم ما قوله : « وجهان » المشعر بالتردد.

ثم إن ظاهر الأصحاب عدم الفرق في بطلان الحق مع عدم الرحل بمفارقة المكان للعذر بين كونه قبل الصلاة أو في أثنائها ، لكن في الدروس الفرق فحكم ببقاء الأولوية في الثاني إلا أن يجد مكانا مساويا للأول أو أولى منه ، وسقوطها في الأول محتجا بأنها صلاة واحدة فلا يمنع من إتمامها.

وفيه أن حقه تابع لاستقراره بعد فرض عدم الرحل ، وإتمامها لا يتوقف على مكان الشروع ، وفرض كونه أقرب للعود لا يقتضي بقاء الأولوية المزبورة وإن أدى ذلك إلى بطلان صلاته ، كما هو واضح.

ثم إن ظاهر الأصحاب هنا بيان حكم المفارقة مع بقاء الرحل الذي قيل إنه شي‌ء من أمتعته وإن قل.

أما السبق بذلك فهل يوجب الأحقية أو لا بد من وصوله إليه نفسه واستقراره عليه؟ قد يظهر الثاني من المحكي عن الشهيد ، فإنه حكى عن الفاضل في التحرير في كتاب الصلاة أنه لا تحصل الأولوية بالرجل في المسجد ، وجمع بين ذلك وبين كلامه هنا بحمل الأول على تقدم رحله من غير استقرار عليه وكلامه هنا على الاستقرار ثم الخروج بعد ذلك.

ولعل مراده من الاستقرار مطلق الكون ، ضرورة عدم مدخليته في ثبوت الأحقية مع الوصول إليه.

وقد يقال بتحقق السبق بمثل ذلك عرفا وإن لم يصل إليه ، لكنه محل شك ، والأصل عدمه خصوصا بعد ظهور كلمات الأصحاب في الثاني.

٩٣

لكن لا يخفي عليك أنه بناء على ما حققناه سابقا في الطريق يتجه عدم ثبوت الأحقية ببقاء المتاع إذا كان صغيرا بحيث لا يستلزم المكث في المكان التصرف فيه ، نعم لو كان كبيرا مشغلا للمكان مثلا اتجه وجوب الاجتناب ، لحرمة التصرف بمال الغير ، لا لأن وضعه يفيد أحقية في المكان نحو التحجير وإن كان جملة من العبارات توهم ذلك ، لكن قد عرفت عدم الدليل له.

وعليه لا فرق حينئذ بين الصغير والكبير بعد صدق اسم الرحل لا غيره كالتربة ونحوها.

( و ) بذلك يظهر لك النظر في بعض كلمات بعض ، كما أنه ظهر لك أيضا مما ذكرناه سابقا في الاستباق للجلوس للبيع مثلا في الطريق مع عدم الضرر بالمارة الوجه فيما ( لو استبق اثنان ) هنا مثلا إلى موضع من المسجد ( فتوافيا ) إليه على حد سواء ( ف ) ان الحكم فيهما متحد ( إن أمكن الاجتماع جاز وإن تعاسرا أقرع بينهما ) فلا حظ وتأمل ، والله العالم.

( وأما المدارس والربط ) جمع رباط ككتاب وكتب ( فمن سكن بيتا ) منها مثلا ( ممن له السكنى ) بأن كان متصفا بالوصف المعتبر في الاستحقاق إما في أصله بأن يكون مشتغلا بالعلم في المدرسة أو بحسب الشرط بأن تكون موقوفة على قبيل مخصوص أو نوع من العلم يتصف به الساكن ، وحينئذ ( فهو أحق به ) بمعنى عدم جواز إزعاج أحد له بلا خلاف أجده فيه ، لأنه أحد المستحقين لذلك ، فإزعاجه ظلم قبيح عقلا ونقلا ( وإن تطاولت المدة ما لم يشترط الواقف أمدا فليزمه الخروج عند انقضائه ) بلا فصل وإن لم يؤمر به.

نعم في الدروس « ويحتمل في المدرسة ودار القرآن الإزعاج إذا تم‌

٩٤

غرضه من ذلك ، ويقوى الاحتمال إذا ترك التشاغل بالعلم والقرآن وإن لم يشترطهما الواقف ، لأن موضوع المدرسة ذلك ، أما الربط فلا غرض فيه ، فيجوز الدوام فيه ».

وفيه أنه إن خرج عن الموضوع بتمام الغرض أزعج قطعا ، وإلا فلا وجه للاحتمال ، بل ولا لما قواه فيه ، ضرورة أنه إن لم يشترطها ولكن كانت هي المنفعة المقصودة فالمتجه حينئذ عدم معارضة لأهلها ، كما سمعته في الطريق والمسجد ، وإلا كان الناس فيها شرعا سواء.

نعم احتمل في التحرير جواز الإزعاج مع طول المكث على وجه يكون كالملك ، قال : « ولو طال الاستيطان على هذه الانتفاعات المشتركة وصار كالملك الذي يبطل به أثر الاشتراك ففي الإزعاج إشكال ».

وفيه أنه لا إشكال مع فرض منافاة مصلحة الوقف ، أما مع عدمها لوجود ما يحترز به عن ذلك فالمتجه عدم جواز الإزعاج.

ومنه يعلم ما في جامع المقاصد قال : « ولو أدى طول المدة إلى التباس الحال بحيث يمكن لو ادعى الملك أن يلتبس على الناس عدم صحة دعواه احتمل جواز الإزعاج أيضا لأنه مضر بالوقف ». ( و ) على كل حال فهو أمر آخر.

نعم ( لو اشترط مع السكنى التشاغل بالعلم ) مثلا ( فأهمل ألزم الخروج ) إن لم يخرج بنفسه بلا خلاف ولا إشكال ، إذ الوقوف على حسب ما يقفها أهلها المقتضي لعدم جواز سكنى المفروض ( وإن استمر على الشرط لم يجز إزعاجه ) لكونه حينئذ من المستحق.

وكيف كان ففي التذكرة « ولا يبطل حقه بالخروج لحاجة كشراء مأكول أو مشروب أو ثوب أو قضاء حاجة وما أشبه ذلك ، ولا يلزمه تخليف أحد في الموضع ، ولا أن يترك متاعه فيه. لأنه قد لا يجد غيره‌

٩٥

وقد لا يأمن على متاعه سواه » ونحوه في المسالك وبعض أتباعها مع زيادة لفظ « قطعا » فيها.

لكن ستسمع من الكركي نوع تردد فيما يقرب منه ، ولعله لإمكان منع صدق كونه في يده وقبضته مع فرض عدم دخل له فيه ، ولأن منافع الوقف العام لا تستحق إلا بالاستيفاء التدريجي ، بمعنى عدم مزاحمة الغير له ، فهو في الحقيقة سبق استيفائه مقدم على غيره إلا أنه حصل له حق بالسبق على وجه يثبت له حق الاستيفاء المستقبل وإن لم يكن له رحل وإلا لثبت ذلك في المسجد والطريق ، فان الجميع من واد واحد من حيث الدليل.

اللهم إلا أن يقال بملاحظة ذلك للواقف ، وفيه تأمل أو منع ، أو يقال باختلاف أفراد المسبوق إليه بالسبق عرفا ، ففي المدارس مثلا يصدق أنه في يده وفي قبضته نحو باقي الأعيان الموقوفة كالكتاب ونحوه ، فإنه إذا كان في يد شخص لا يستحقه آخر بمجرد وضعه من يده الحسية ، بخلاف المسجد والطريق.

ولكن لا يخفى عليك أن ذلك كله تهجس ، وإلا فالموافق لما عليه سيرة الناس وعملهم في جميع الأعصار أن المدرسة والرباط ونحوهما إذا لم يشترط الواقف كيفية خاصة وحالا مخصوصا أو لم يعلم بحاله كالمسجد في جواز الانتفاع ، وأنه أحق من غيره في استيفاء المنفعة المشتركة بينه وبين غيره بالسبق على الوجه الذي ذكرناه ، والمنفعة المقصودة للواقف الملاحظة لا على جهة الشرطية فائدتها الترجيح عند المعارضة ، لا عدم جواز الانتفاع بغيرها مع عدم المعارضة.

وحينئذ فقد يقال : إنه بعد أن كان المتعارف في العمل ذلك يمكن‌

٩٦

أن يكون الواقف مدرسة مثلا أو رباطا يكون مقصوده ذلك ، نحو الوقف مسجدا الذي قد‌ ورد فيه أنه « بيت الله » (١) وأنه « منزل للغرباء والضعفاء » ونحو ذلك مما هو راجع إلى الشرع لا مدخلية للواقف في ملاحظته.

بل قد يحتمل أن ذلك إذن شرعية باعتبار خروج المال عن يد الواقف لا على جهة خاصة ، فصار أمره إلى الشرع الذي مقتضاه ما عرفت.

وكون المراد من المسجد بيتا للعبادة مثلا بخلاف المدرسة ـ فإن المراد فيها السكنى ـ غير مجد ، ضرورة أن التشاغل بها لا يقتضي ثبوت الحق له في مستقبل الزمان وفي حال عدم قابليته لها ، نعم لا يبعد إلحاق المفارقة لها في الأزمنة التي لا تنافي صدق التشاغل فيها بها ، ولو للسيرة المستمرة على ذلك ، فكل ما لا يكون كذلك سقط حقه حينئذ ، كما يشهد له ما تسمعه منهم في صورة المفارقة ، والله العالم.

( و ) كيف كان ف ( له ) أي السابق المستحق ( أن يمنع من يساكنه ما دام متصفا بما به يستحق السكنى ) إذا كانت العادة أو الشرط من الواقف يقتضي انفراد الواحد ، أما لو فرض كون البيت الواحد معدا لجماعة باشتراط الواقف أو باقتضاء العادة لم يجز لأحد منع غيره إلا أن يبلغ العدد النصاب فلهم حينئذ منع الزائد ، والله العالم.

( ولو فارق ) الساكن المسكن على وجه خارج عما عرفته من الأمور الضرورية للساكن ، بل كان ( لعذر ) وغرض ناويا للعود إليه كسفر لزيادة مثلا ( قيل ) ولم نعرف القائل ممن تقدمه :

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧٠ ـ من أبواب أحكام المساجد ـ الحديث ١ من كتاب الصلاة وفيه « بيوت الله ».

٩٧

( هو أولى عند العود ) وإن لم يكن له فيه رحل ، لصدق كونه سابقا ، وأن ما سبق إليه في يده وفي قبضته.

( و ) لكن ( فيه تردد ) مما عرفت ومما ستعرف لا لصدق المفارقة التي هي ليست عنوانا في شي‌ء من الأدلة ( ولعل الأقرب سقوط الأولوية ) التي مقتضى الأصل عدمها في مثل الفرض ، بل في القواعد والإرشاد الجزم بذلك ، بل في الروضة نسبته إلى الأكثر.

لكن في التذكرة « ولو فارق لعذر أياما قليلة فهو أحق إذا عاد ، لأنه ألفه ، وإن طالت غيبته بطل حقه » واستحسنه في المسالك ، وقواه في الروضة ، بل قد يظهر من اللمعة عدم البطلان مطلقا.

وفي جامع المقاصد « والظاهر أن مفارقته من غير أن يبقى رحله مسقط لأولويته ولو قصر الزمان جدا ، كما لو خرج لغرض لا ينفك عن مثله عادة ولا يخرج في العادة عن كونه ساكنا ، ففي بقاء حقه قوة ».

وعن تعليق الإرشاد له أيضا فيما إذا لم يبق رحله وقصر الزمان وجهان ، وعن التحرير « لا إشكال في بقاء حقه حيث فارق لعذر » ونحوه عن الكفاية.

وفي الدروس « لو فارق ساكن المدرسة والرباط ففيه أوجه ، زوال حقه كالمسجد ، وبقاؤه مطلقا ، لأنه باستيلائه جرى مجرى الملك ، وبقاؤه إن قصرت المدة دون ما إذا طالت لئلا يضر بالمستحقين ، وبقاؤه إن خرج لضرورة كطلب تأدية مهمة وإن طالت المدة ، وبقاؤه إن بقي رحله وخادمه ، والأقرب تفويض ذلك إلى ما يراه الناظر ».

وقد يشكل بأن الناظر ليس له إخراج المستحق اقتراحا ، فرأيه فرع الاستحقاق وعدمه ، نعم لو فوض إليه الأمر مطلقا فلا إشكال.

أما إذا أبقى رحله ففي القواعد الاشكال فيه ، قيل من أنه وضع بحق‌

٩٨

سابق اقتضى الأولوية على غيره فلا يزال ، ومن أن المدرسة للسكنى لا لوضع الرحل وإنما جاز وضعه تبعا لها وقد زالت فيزول التابع.

ورده الكركي بأن المتنازع فيه هو زوال السكنى بالخروج مع بقاء الرحل ، ومن خرج عن بيت مع بقاء متاعه فيه لغرض لا يخرج عن كونه ساكنا فيه عادة.

ومن هنا قال في جامع المقاصد : « الأقرب بقاء الحق إن لم تطل المدة بحيث يؤدي إلى التعطيل » ونحوه عن تعليقه على الإرشاد وحواشي الشهيد ، وفي الروضة « الأقوى أنه مع بقاء الرحل وقصر المدة لا يبطل حقه ، وبدون الرحل يبطل إلا أن يقصر الزمان بحيث لا يخرج عن الإقامة عرفا ».

هذا كله في المفارقة لعذر ، أما إذا كانت لغير عذر فظاهر المتن وغيره بطلان حقه مطلقا ، بل هو صريح المسالك والروضة وغيرهما ، بل في الكفاية أنه الأشهر.

قلت : قد ذكرنا ما يظهر لك منه ما في كثير من هذه الكلمات وغيرها المنبئة عن عدم تحقيق الحال عندهم في ذلك ، والمتجه ما عرفت من عدم ثبوت حق للسابق إلا على معنى عدم مزاحمة الغير في استيفائه على الوجه الذي ذكرناه.

وبقاء الرحل ليس هو من التحجير ، ولذا لا يورث ولا يصالح عنه ولا غير ذلك مما يجرى على الحقوق المالية ، وإنما هو طريق شرعي لحبس المكان باعتبار حرمة التصرف فيه للغير مع فرض عدم المعارضة لذي المنفعة المقصودة ، ونحوه جار في المدارس والربط أيضا ما لم يلزم التعطيل المنافي لغرض الواقف ، وإلا فليس لأحد التصرف فيه بعد أن كان وضعه بحق.

٩٩

والأصل في ذلك عدم أدلة شرعية يتضح منها الحال ، إذ ليس إلا النصوص التي هي غير جامعة لشرائط الحجية حتى الجبر بشهرة ونحوها في محال الشك ، لما عرفته من الاشكال والاضطراب.

ومن هنا لا وجه لدعوى استصحاب بقاء الحق ونحوه بعد أن لم يعلم كون الحق الثابت مما يستصحب أو لا ، إذ المحتمل كونه ما ذكرناه ، وكلمات الأصحاب وإن اشتملت على التعبير به أيضا إلا أنها أيضا غير منقحة بالنسبة إلى ذلك ، كعدم تنقيحها في مفروض المسألة الذي جزموا بسقوط الحق بالمفارقة لغير عذر وإن قصر الزمان ، بل ومعه إلا من سمعت مع صدق السكنى العرفية التي يمكن أن يكون بناؤها على التسامح ومعاملة الوقف معاملة الملك ، وكذا كلامهم مع الرخل ، فلا مناص حينئذ إلا ما ذكرناه ، والله العالم والهادي.

( الطرف الرابع )

( في المعادن )

جمع معدن ، وقد تقدم الكلام فيه في كتاب الصلاة (١) وقيل : إن المجتمع من كلمات ( كلام خ ل ) الفقهاء واللغويين هو ما استخرج من الأرض مما كانت أصله واشتمل على خصوصية يعظم الانتفاع بها ، وإليه يرجع ما في المسالك من أنها هي البقاع التي أودعها الله شيئا من الجواهر المطلوبة.

__________________

(١) راجع ج ٨ ص ٤١٢.

١٠٠