جواهر الكلام - ج ٣٨

الشيخ محمّد حسن النّجفي

النهر في ملك الغير بلا يد لذي النهر على حافتيه ولا تصرف ، وإلا فلو فرض كونه كذلك خرج عن موضوع المسألة ، وكذا لو فرض كون النهر مملوكا لشخص وما جاوره من الأرض ملكا لآخر ، إنما الكلام فيما لو علم كون النهر في ملك الغير خاصة ، فتأمل جيدا ، فإنه دقيق جدا ، والله العالم.

( وحريم بئر المعطن ) بكسر الطاء التي يستقى منها لشرب الإبل ( أربعون ذراعا ) من كل جانب. ( وبئر الناضح ) وهو البئر الذي يستقى عليه للزرع وغيره ( ستون ) ذراعا ، فلا يجوز لأحد إحياء المقدار المزبور بحفر بئر أخرى أو غيره كزرع أو شجر أو نحوهما وإن ظهر من بعض النصوص (١) والفتاوى خصوص حفر بئر أخرى إلا أن المتجه الأعم ، ضرورة اشتراك الجميع في الضرر على ذي البئر المزبورة ، بلا خلاف معتد به أجده عندنا في التقدير المزبور وإن استفاض حكاية الشهرة عليه على وجه يظهر منه الاعتداد بالمخالف.

بل في التذكرة نسبة ذلك إلى علمائنا ، مشعرا بالإجماع عليه كقوله في التنقيح : « عليه عمل الأصحاب » بل عن الخلاف الإجماع على أن حريم البئر أربعون ذراعا.

وفي الغنية « روى أصحابنا أن حد ما بين بئر المعطن إلى بئر المعطن أربعون ذراعا ، وما بين بئر الناضح إلى بئر الناضح ستون ذراعا ، وما بين بئر العين إلى بئر العين في الأرض الصلبة خمسمائة ذراع ، وفي الرخوة ألف ذراع ، وعلى هذا لو أراد غيره حفر بئر إلى جانب بئره ليسرق منها الماء لم يكن له ذلك بلا خلاف ، ولا يجوز له الحفر إلا أن يكون بينهما الحد الذي ذكرنا ».

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٥.

٤١

كل ذلك مضافا إلى‌ خبر عبد الله بن مقفل (١) المنجبر بما سمعت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « من احتفر بئرا فله أربعون ذراعا حولها لعطن ماشيته ».

وقوي السكوني (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما بين بئر المعطن إلى بئر المعطن أربعون ذراعا ، وما بين بئر الناضح إلى بئر الناضح ستون ذراعا ، وما بين العين إلى العين خمسمائة ذراع ».

وعن قرب الاسناد (٣) أنه روي مثل ذلك إلا أنه زاد « وحريم البئر المحدثة خمسة وعشرون ذراعا ».

وفي الفقيه (٤) « قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن البئر حريمها أربعون ذراعا لا يحفر إلى جنبها بئر أخرى لعطن أو غنم ».

وحينئذ فما في‌ صحيح حماد بن عثمان (٥) المروي في الكافي « سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : حريم البئر العادية أربعون ذراعا حولها ».

قال : « وفي رواية أخرى (٦) خمسون ذراعا إلا أن تكون إلى عطن أو طريق ، فيكون أقل من ذلك إلى خمسة وعشرين ذراعا ».

لا عامل به.

وكأنه أشار إلى‌ خبر وهب بن وهب (٧) عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام « أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يقول :حريم البئر العادية خمسون ذراعا إلا أن تكون إلى عطن أو إلى طريق ، فيكون أقل من ذلك خمسة وعشرين ذراعا ».

وعلى كل حال هو غير واضح المعنى وإن قال في المسالك : « ونسبة‌

__________________

(١) كنز العمال ـ ج ٣ ص ٥١٧ ط عام ١٣٧٠.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب إحياء الموات الحديث ٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب إحياء الموات الحديث ٩.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب إحياء الموات الحديث ٧.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب إحياء الموات الحديث ١.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب إحياء الموات الحديث ٢.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب إحياء الموات الحديث ٨.

٤٢

البئر إلى العادية إشارة إلى إحداث الموات ، لأن ما كان في زمن عاد وما شابهه فهو موات غالبا ، وخص عادا بالذكر لأنها في الزمن الأول كان لها آثار في الأرض فنسب إليها كل قديم ـ ثم قال ـ : وبسبب اختلاف الروايات وعدم صحتها جعل بعضهم حريم البئر ما يحتاج إليه في السقي منها ، وموضع وقوف النازح والدولاب ، وتردد البهائم ، ومصب الماء ، والموضع الذي تجتمع فيه لسقي الماشية والزرع من حوض وغيره ، والموضع الذي يطرح فيه ما يخرج منه بحسب العادة ».

وكأنه مال إليه وتبعه عليه في المفاتيح إلا أنا لم نجد ذلك لأحد منا وإن حكاه في الكفاية عن أبي علي ، لكن في المختلف عنه أنه « لو كان بقرب المكان الذي يريد الحافر حفر البئر فيه بئر عادية محفورة قبل الإسلام وماؤها نابع يمكن شربه بالنزع فقد‌ روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) أنه قال : حريم البئر إذا كانت حفرت في الجاهلية خمسون ذراعا ، وإن كانت حفرت في الإسلام فحريمها خمس وعشرون ذراعا ـ ثم قال ـ : ولو كان البلاد مما لا يسقى الماء فيها إلا بالناضح كان حريم بئر الناضح قدر عمقها من الناضح ،

وقد جاء في الحديث (٢) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن حريم بئر الناضح ستون ،

وقد يحتمل أن ذلك قدر عمق الآبار في تلك البلاد التي حكم بذلك فيها ».

وهو كما ترى أجنبي عن ذلك ، بل في المسالك حكى عن ابن الجنيد في الناضح ما سمعته أيضا ، نعم هو محكي عن الشافعي.

ودعوى أنه المتجه جمعا بين النصوص يدفعها عدم التكافؤ ، وبعد تسليم الانتقال إلى الجمع المزبور وعدم الاحتياج إلى الشاهد فلا محيص حينئذ عما عليه الأصحاب المحتمل كون حكمة تعبد التقدير فيه رفع النزاع الذي ربما‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ٨ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٣.

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ٨ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٤.

٤٣

يؤدي إلى تلف النفوس وغيرها ، ولو لا ذلك لأمكن الجمع بوجوب الأقل وأولوية الزائد أو بغير ذلك ، إلا أن ذلك بعد النص والفتوى لا وجه له خصوصا بعد ظهور حكمة التعبد الرافع للاختلاف.

( و ) منه تحديد حريم ( العين ) بـ ( ألف ذراع في الأرض الرخوة وفي الصلبة خمسمائة ذراع ) الذي في محكي الخلاف عليه إجماع الفرقة وأخبارهم ، والتذكرة عند علمائنا ، وفي التنقيح عليه عمل الأصحاب ، وفي جامع المقاصد إطباق الأصحاب.

وفي‌ خبر عقبة بن خالد (١) المنجبر بما عرفت وبرواية المشايخ الثلاثة له عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « يكون بين البئرين إذا كانت أرضا صلبة خمسمائة ذراع وإن كانت أرضا رخوة ألف ذراع ».

وبه يقيد ما في‌ مرسل حفص (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام المروي في الكافي « يكون بين العينين ألف ذراع » وما في‌ خبر مسمع (٣) عنه عليه‌السلام أيضا « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بين العين إلى العين خمسمائة ذراع » وما في‌ خبر السكوني (٤) عنه عليه‌السلام أيضا : « ما بين العين إلى العين يعني القناة خمسمائة ذراع ».

( و ) لكن مع ذلك ( قيل ) والقائل الإسكافي ( حد ذلك أن لا يضر الثاني بالأول ) ونفى عنه البأس في المختلف ، وفي المسالك أنه أظهر ( و ) إن كان ( الأول أشهر ) ومال إليه بعض أتباعه.

وربما يشهد له‌ صحيح محمد بن الحسين (٥) قال : « كتبت إلى أبي محمد عليه‌السلام رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل أن‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٣ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ١.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ١.

٤٤

يحفر قناة أخرى إلى قرية أخرى كم يكون بينهما في البعد حتى لا يضر بالأخرى في الأرض إذا كانت صلبة أو رخوة؟ فوقع عليه‌السلام على حسب أن لا تضر إحداهما بالأخرى إنشاء الله تعالى ».

ونحوه‌ خبر محمد بن علي بن محبوب (١) قال : « كتب رجل إلى الفقيه عليه‌السلام. » بأدنى تفاوت في الألفاظ ، وما فيه من جهالة الكاتب بعد نقل الثقة المكتوب اليه غير قادح.

مؤيدا ذلك كله بخبر عقبة بن خالد (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجل أتى جبلا فشق فيه ( منه خ ل ) قناة جرى ماؤها سنة ، ثم إن رجلا أتى ذلك الجبل فشق منه قناة أخرى فذهبت قناة الآخر بماء قناة الأول ، قال : فقال : يتقايسان ( يتقاسمان خ ل ) بحقائب البئر ليلة ليلة ، فينظر أيهما أضرت بصاحبتها ، فإن رأيت الأخيرة أضرت بالأولى فلتعور ».

وفي الوسائل ورواه الصدوق بإسناده عن عقبة بن خالد (٣) نحوه ، وزاد « وقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، وقال : إن كانت الأولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأول سبيل ».

وفي‌ خبر عقبة (٤) أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في‌

__________________

(١) أشار إليه في الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ١ وذكره في الفقيه ـ ج ٣ ص ١٥٠ الرقم ٦٥٩.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ١ وهذا مروي بطريق الكليني ( قده ) وليس في الوسائل والكافي ج ٥ ص ٢٩٤‌ قوله ( ٧ ) : « جرى ماؤها سنة .. فشق منه قناة أخرى » وهذه القطعة مذكورة في رواية الصدوق ( قده ) التي أشار إليها ( قده ) بعد هذه الرواية.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٢.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٦ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٣.

٤٥

رجل احتفر قناة وأتى لذلك سنة ، ثم إن رجلا احتفر إلى جانبها قناة فقضي أن يقاس الماء بحقائب ( بجوانب خ ل ) البئر ليلة هذه وليلة هذه ، فان كانت الأخيرة أخذت ماء الاولى عورت الأخيرة ، وإن كانت الأولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأول شي‌ء ».

وبأن الموجود في خبر المشهور البئر ، وهو غير محل النزاع ، ولا ريب في قوته لو لا الشهرة العظيمة والإجماع المزبوران الجابران للأخبار المذكورة سندا ودلالة ، مضافا إلى غيرهما من القرائن على إرادة العين من البئر التي قد تطلق عليها.

ويمكن مراعاة التحديد المزبور عند عدم معرفة الضرر ، ولو لاختلاف أهل الخبرة في ذلك ان لم يكن ذلك إحداث قول على وجه يكون مخالفا للإجماع.

ثم إنه لا يخفى عليك ظهور النص فيما صرح به غير واحد من أن الحريم هنا يمنع إحداث عين اخرى ، فلا يضر حينئذ إحياء ما زاد على ما تحتاج إليه العين من نزح ونحوه ، بخلاف بئر المعطن التي قد عرفت الحال فيها ، والله العالم.

( وحريم الحائط في المباح مقدار مطرح ترابه ) وآلاته بلا خلاف أجده فيه ، بل في التذكرة عندنا مشعرا بدعوى الإجماع عليه ( نظرا إلى إمساس الحاجة إليه لو استهدم ).

( وقيل ) والقائل المشهور على ما في المسالك وغيرها ( للدار ) حريم هو ( مقدار مطرح ترابها ) وقمامتها ورمادها وثلجها ( ومصب مائها ومسلك الدخول والخروج ) ونحو ذلك مما يحتاج إليه عادة.

ولكن ظاهر نسبة المصنف إلى القيل التردد فيه ، بل في المسالك وغيرها عن بعضهم التصريح بعدم حريم لها ، وإن كنا لم نتحققه لأحد منا‌

٤٦

وإنما هو لبعض الشافعية.

ولعل وجهه عدم الدليل عليه ، بل فعل الناس في سائر البلدان على خلافه ، لاستبعاد اتفاق أحيائهم دفعة.

وفيه ( أولا ) أن مثله جار في الحائط الذي اعترف بثبوت الحريم له. و ( ثانيا ) بعدم معلومية حال الواقع في البلدان الجاري في الحيطان أيضا من التراضي أو الإحياء دفعة أو غير ذلك.

فالمتجه ثبوت الحريم لها الذي يرجع في أصل ثبوته ومقداره إلى العرف ولو بمراعاة قاعدة الضرر والضرار ، فلا يحتاج إلى دليل خاص سيما بعد ما ورد من الحريم لما عرفت المشعر بأن ذلك حق لكل ما يحتاجه ومنه ما‌ ورد (١) « أن حريم المسجد أربعون ذراعا من كل ناحية ، وحريم المؤمن في الصيف باع ، وروي عظم الذراع » وحريم النخلة طول سعفها (٢).

اللهم إلا أن يقال : إن ذلك كله يقتضي ثبوت الحريم لما أحدثه في المباح كالجدار والنخلة ونحوهما ، لا مثل الدار التي مرجع الحريم المفروض الى الساكن فيها لا نفسها ، إذ ليس المراد جدرانها التي لا إشكال في ثبوت الحريم لها ، ضرورة كونها من الحائط ، بل المراد ما يكون من القمامة ونحوها التي تكون من الساكن لا مما أحدثه في المباح.

ولعله لذا توقف المصنف فيه.

نعم ينبغي على هذا تخصيص محل التوقف بالحريم لما يحتاج إليه الساكن مما لا يعد من حقوق الدار ، بخلاف ما كان كذلك كالتراب الصائر منها ونحوه مما يرجع إليها.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من كتاب إحياء الموات الحديث ١٠.

(٢) الوسائل الباب ـ ١٠ ـ من كتاب إحياء الموات الحديث ٢.

٤٧

على أن ما يحتاجه الساكن فيها راجع إليها أيضا ، نحو بئر المعطن المحتاجة إلى الحريم باعتبار الإبل والماشية التي تسقى منها ، فتأمل جيدا.

وربما يؤيده ما في الدروس من « أن حريم القرية مطرح القمامة والتراب والوحل ومناخ الإبل ومرابض الخيل والنادي وملعب الصبيان ومسيل المياه ومرعى الماشية ومحتطب أهلها مما جرت العادة بوصولهم إليه ، وليس لهم المنع فيما بعد من المرعى والمحتطب بحيث لا يطرقونه إلا نادرا ، ولا المنع مما لا يضر بهم مما يطرقونه ، ولا يتقدر حريم القرية بالصيحة من كل جانب ، ولا فرق بين قرى المسلمين وأهل الذمة » إذ هو كما ترى كثير منه مما يرجع إلى الساكن ، بل هو نحو ما يذكر للدار.

هذا وفي المسالك « والمراد بمسلك الدخول والخروج في الصوب الذي يفتح فيه الباب ، لا بمعنى امتداد الممر في قبالة الباب على امتداد الموات ، بل إيصاله إلى الطريق السالك ولو بازورار وانعطاف ، لأن الحاجة تمس إلى ذلك ».

وهو معنى ما في جامع المقاصد قال : « ليس المراد من استحقاق الممر في صوب الباب استحقاق الممر في قبالة الباب على امتداد الموات بل يجوز لغيره إحياؤها في قبالة الباب إذا أبقي له الممر ، فان احتاج إلى ازورار وانعطاف جاز ، لأن الحاجة تمس إلى ذلك ، ذكره في التذكرة.

لكن ينبغي تقييده بما إذا لم يحصل ضرر كثير عادة ، لاستدعائه إفراط طول الطريق ونحوه ».

قلت : قد يتوقف في إحياء ذلك بعد فرض اعتياد استطراقه الذي هو من الاحياء أو بحكمه.

ثم إن الظاهر اعتبار التحديد المزبور فيه ، لإطلاق الأدلة ، وإن كان هو للسلوك إلى داره لا طريقا عاما ، والله العالم.

٤٨

( و ) كيف كان ف ( كل ) ما ذكرنا من ثبوت ( ذلك ) الحريم له ( إنما يثبت له حريم إذا ابتكر في الموات ، أما ما يعمل في الأملاك المعمورة فلا ) بلا خلاف أجده فيه ، كما عن الشيخ وابني زهرة وإدريس الاعتراف به ، بل في الكفاية نسبته إلى الأصحاب مشعرا بالإجماع عليه ، ولعله لقاعدة تسلط الناس على أموالهم وغيرها ، ولأنها متعارضة باعتبار عدم أولوية أحدهما من الآخر به ، ولذا كان المشاهد في البلدان عدم الحريم لأحدهم وإن كان يمكن أن يكون لتساويهم في الاحياء أو لغيره.

ومن هنا صرح في القواعد وغيرها بأن لكل منهم التصرف في ملكه بما شاء وإن تضرر صاحبه ، وأنه لا ضمان عليه لو جعل ملكه بيت حداد أو قصار أو حمام على خلاف العادة.

نعم في التذكرة « هذا إذا احتاط وأحكم الجدران بحيث يليق بما يقصده ، فان فعل ما يغلب على الظن فيه أنه يؤدي إلى خلل في حيطان جاره فأظهر الوجهين عند الشافعية الجواز ، وذلك كما إذا يدق الشي‌ء في داره دقا عنيفا ينزعج منه الحيطان ، أو حبس الماء في ملكه بحيث تنتشر منه النداوة إلى حيطان الجار ، ولو اتخذ داره مدبغة أو حانوته مخبزة حيث لا يعتاد فان قلنا لا يمنع في الصورة السابقة فهنا أولى ، وإن قلنا بالمنع فهنا يحتمل عدمه ، لأن الضرر من حيث التأذي بالدخان والرائحة الكريهة ، وأنه أهون ، وكذا البحث في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر ، والأقوى أن لأرباب الأملاك التصرف في أملاكهم كيف شاؤوا ، إذ لو حفر في ملكه بئر بالوعة وفسد بها ماء بئر الجار لم يمنع منه ، ولا ضمان ، ولكنه قد يكون فعل مكروها ، وبه قال الشافعي ، وقال مالك : يمنع ، فان فعل وتلف شي‌ء ضمنه ».

وتبعه في الدروس والمسالك في جميع ذلك ، لكن قال في الأخير‌

٤٩

« نعم له منع ما يضر بحائطه من البئر والشجر ولو ببروز أصلها إليه والضرب المؤدي إلى ضرر الحائط ونحوه ».

وفيما حضرني من نسخة جامع المقاصد « قال في التذكرة : هذا إذا احتاط وأحكم الجدران بحيث يليق بما يقصده ، فان فعل ما يغلب على الظن أنه يؤدي إلى خلل في حيطان جاره ففي منعه تردد ، فلو دق دقا عنيفا أحدث به نقصا في جدران جاره أو حبس الماء بحيث انتشرت منه النداوة إليها أو حصل ذلك من ماء الحمام ففي الضمان تردد ».

وظاهره حكاية ذلك عن التذكرة التي سمعت ما فيها ، إلا أن المحكي عن الجامع المزبور التردد ، ولعل النسخة غير صحيحة.

وعلى كل حال فالتردد المزبور في المسألة حاصل ، بل في الكفاية « يشكل هذا الحكم في صورة تضرر الجار تضررا فاحشا نظرا إلى تضمن الأخبار نفي الضرر والإضرار (١) وهو الحديث المعمول به بين الخاصة والعامة المستفيض بينهم ، خصوصا ما تضمن الأخبار المذكورة من نفي الضرر الواقع في ملك المضار ».

وقد يناقش بأن حديث نفي الضرر المستفيض معارض بمثله من الحديث (٢) الدال على ثبوت السلطنة على الإطلاق لرب المال ، وهو أيضا معمول به بين الفريقين ، والتعارض بينهما تعارض العموم من وجه ، والترجيح للثاني بعمل الأصحاب كما اعترف به ، ولا سيما إذا استلزم منع المالك عن التصرف ضررا عليه أشد من ضرر الجار أو مساويا أو أقل بحيث لم يتفاحش معه ضرره.

بل في الرياض « وينبغي القطع في هذه الصورة بما عليه الأصحاب‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من كتاب إحياء الموات.

(٢) البحار ـ ج ٢ ص ٢٧٢ ـ الطبع الحديث.

٥٠

قال ـ : وأما فيما عداها فالظاهر أيضا ذلك ، لما ذكر وإن كان الأحوط عدم الإضرار على الإطلاق ، وأما الأخبار الدالة على نفي الإضرار في ملك المضار فمع قصور سند بعضها وعدم مكافئته لما مضى يمكن حملها على ما إذا قصد المالك بالتصرف الإضرار دون دفع الحاجة ، كما يشعر به بعض تلك الأخبار (١) ثم على تقدير تسليم ترجيح نفي الضرر فلا وجه لتخصيصه بصورة تفاحش الضرر مع عمومه وشموله للغير ».

قلت : لا يخفى عليك ما في المسالك من الجزم بالمنع فيما يضر الحائط مع ذكره سابقا جواز حفر البالوعة التي تفسد بئر الغير.

كما أنه لا يخفى عليك ما في التذكرة من اعتباره أولا إحكام البناء لما يقصده وإطلاقه جواز التصرف للمالك في ملكه ثانيا مع التردد في بعض الصور.

بل قد سمعت ما في جامع المقاصد مما هو ظاهر في عدم كون المسألة إجماعية ، بحيث يكون التفصيل مخالفا للإجماع ، على أن المنساق من العامين المزبورين تحكيم قاعدة الضرر ، كما في جميع نظائره وإن كان بينهما تعارض العموم من وجه.

وربما يشهد له نصوص سمرة بن جندب (٢) وقول الصادق عليه‌السلام (٣) : « إن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم » على أن باب المقدمة يقتضي وجوب ترك التصرف تحصيلا لامتثال النهي عن إضرار الغير ، إذ لا تعارض بين الإباحة والحرمة.

بل قد ذكرنا في كتاب الغصب (٤) في مسألة من أجج نارا في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ١ و ٣ و ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٢.

(٤) راجع ج ٣٧ ص ٥٩ ـ ٦٢.

٥١

ملكه أو أرسل ماء كذلك فأتلف مال الغير ما يعلم منه عدم الإجماع على جميع صور المسألة.

بل قد تقدم أيضا مسألة تدلي أغصان الشجرة في ملك الغير ، وتلفت بفعل المالك.

وبالجملة فالغرض أن المسألة لم يكن فيها إجماع محقق على جهة الإطلاق فيمكن أن يقال بمنع التصرف في ماله على وجه يترتب عليه الضرر في مال الغير مثلا بتوليدية فعله ، بحيث يكون له فعل وتصرف في مال الغير وإتلاف له يتولد من فعله فعل في مال الغير ، لا تلف خاصة بلا فعل منه ، وخصوصا مع زيادته بفعله عما يحتاج إليه وغلبة ظنه بالسراية ، وقاعدة التسلط على المال لا تقتضي جواز ذلك ولا رفع الضمان الحاصل بتوليد فعله.

نعم لو كان تصرفه في ماله لا توليد فيه على الوجه المزبور وإن حصل الضرر مقارنا لذلك لم يمنع منه ، وربما كان فيما ذكرنا سابقا من مسألة الضمان بتأجيج النار في ملكه إشارة إلى ذلك ، فلا حظ وتأمل ، بل مر لنا في غير ذلك ماله نفع في المقام ، والله العالم.

( فرع : ) ( لو أحيا أرضا وغرس في جانبها غرسا تبرز أغصانه ) لو بقي ( إلى المباح أو تسري عروقه إليه ) كذلك ( لم يكن لغيره إحياؤه ) لأنه من الحريم التابع للملك الذي يرجع في مثله إلى العرف.

( و ) حينئذ ف ( لو حاول الاحياء كان للغارس منعه ) ‌

٥٢

وإن لم يكن بعد برزت الأغصان أو سرت العروق ، فان الاستعداد كاف بلا خلاف أجده بين من تعرض له.

ولعل‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « حريم النخل طول سعفها » ظاهر في ذلك ، بل هو صريح‌ خبر عقبة بن خالد (٢) « إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قضى في هوار النخل أن تكون النخلة والنخلتان للرجل في حائط الآخر فيختلفون في حقوق ذلك ، فقضى فيها أن لكل نخلة من أولئك من الأرض مبلغ جريدة من جرائدها حين بعدها ».

وكذلك لو باع البستان واستثنى شجرة ، فإنه يتبع مدى أغصانها في الهواء والمدخل والمخرج وغيرهما من الحقوق التي تتبع الإطلاق المزبور.

نعم ظاهر المصنف وغيره ثبوت الحريم المزبور للغرس ، أما لو أعد الأرض لها وهيأها لذلك أو غرس جملة منها فهل يكفي ذلك في ثبوت الحريم للغرس الذي بعد لم يغرس أو يبقى على أصل الموات؟ وجهان ، أولهما لا يخلو من قوة ، والله العالم.

( الشرط الثالث : أن لا يسميه الشرع مشعرا للعبادة ، كعرفة ومنى والمشعر ) وغيرها من الأماكن المشرفة والمواضع المحترمة التي جعلها الله تعالى شأنه مناسك للعبادة وشرفها كما شرف بعض الأزمنة الخاصة ، فهي في الحقيقة ليست من الموات الذي هو بمعنى المعطل عن الانتفاع فضلا عن وضع يد سائر المسلمين عليها وتعلق حقوقهم بها ، بل هي أعظم من الوقف الذي يتعلق به حق الموقوف عليهم بجريان الصيغة من الواقف ( فان الشرع ) الذي هو المالك الحقيقي قد ( دل على اختصاصها موطنا للعبادة ) من دون إجراء صيغة ، ومنها ما جعله الله‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ١.

٥٣

مسجدا كمسجد الحرام ومسجد الكوفة ونحوهما من مراقد الأئمة عليهم‌السلام التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

( فالتعرض لتملكها ) حينئذ مناف للجعل المزبور من رب العزة ، بل فيه ( تفويت لتلك المصلحة ) من غير فرق بين جميع أجزائها في ذلك ، وبين زيادة سعتها لذلك وعدمه ، ضرورة أن الله تعالى شأنه جعل كل جزء جزء منها كذلك.

فمن الغريب ما وقع من المصنف من قوله ( أما لو عمر فيها ما لا يضر ولا يؤدي إلى ضيقها عما يحتاج إليه المتعبدون كاليسير لم أمنع منه ) بل كاد يكون كالمنافي للضروري ، بل فتح هذا الباب فيها يؤدي إلى إخراجها عن وضعها.

وأغرب منه موافقة بعض من تأخر عنه على ذلك بتخيل أن المنع من جهة مزاحمة الناسكين ، فمع فرض عدمها كاليسير يتجه الجواز حينئذ لانتفاء العلة المزبورة. وفيه ما لا يخفى بعد ما ذكرناه.

وأعجب من ذلك تفريعهم على التقدير المزبور الذي هو معلوم الفساد أنه هل يجوز للناسك الوقوف بها مع عدم الاذن أو مع النهي أو لا يجوز مطلقا أو مع وجود غيره من المكان بخلاف ما لو تضيق؟! مع أن القول بالملك يأبى القول بالجواز مطلقا إلا أن يجعله مراعى بعدم الإضرار ، فيتجه التفصيل حينئذ إلا أن ذلك كله كما ترى لا ينبغي أن يسطر ، والله العالم.

الشرط ( الرابع : أن لا يكون مما أقطعه إمام الأصل ) ولو كان مواتا خاليا من تحجير الذي لا خلاف في أن له ذلك ، كما عن المبسوط بل ولا إشكال ، ضرورة كون الموات من ماله الذي هو مسلط عليه ، مع أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

٥٤

كما ( أقطع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عبد الله بن مسعود ( الدور ) (١) وهي اسم موضع بالمدينة بين ظهراني عمارة الأنصار ويقال : المعني أنه أقطعه ذلك ليتخذها دورا.

( و ) أقطع وابل بن حجر ( أرضا بحضرموت ) (٢).

( و ) أقطع الزبير ( حضر فرس ) ه‍ أي عدوه ، بل قيل : إن ( الزبير ) أجرى فرسه حتى قام الفرس رمى بسوطه طلبا للزيادة ،

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله « أعطوه من حيث بلغ السوط » (٣).

وأقطع بلال بن الحارث العقيق (٤) ( فإنه ) إن لم يفد الملك فلا ريب بل لا خلاف في أنه ( يفيد اختصاصا مانعا من المزاحمة ، فلا يصح دفع هذا الاختصاص بالاحياء ) بل عن المبسوط نفيه كذلك بين المسلمين ، وكذا ليس لأحد نقضه.

وما‌ عن عمر من أنه لما تولى قال لبلال : « ما أقطعت العقيق لتحجبه ، فأقطعه الناس » (٥) لا حجة فيه ، وكم له من أخذ فدك ونحوها.

على أنه يمكن ذلك كما تسمعه في التحجير إذا لم يحي المحجر ، كما صرح به في جامع المقاصد ، وإن كان ذكر المصنف وغيره ذلك في التحجير دونه يشعر بالعدم ، بل لو لا ظهور الاتفاق عليه هناك لأمكن إشكاله بتعلق الحق الذي يقتضي استصحابه عدم الزوال وإن عطل.

وكأن ما ذكر من الاختصاص المزبور مبني على عدم تملك الموات‌

__________________

(١) نيل الأوطار ج ٦ ص ٥٩.

(٢) سنن البيهقي ـ ج ٦ ص ١٤٤.

(٣) سنن البيهقي ـ ج ٦ ص ١٤٤.

(٤) سنن البيهقي ـ ج ٦ ص ١٤٩.

(٥) رواه ابن قدامة في الشرح الكبير المطبوع في ذيل مغني ابن قدامة ج ٦ ص ١٦٩.

٥٥

بغير الاحياء ، ولكن فيه منع واضح إن لم يكن إجماعا ، وحينئذ فلا بد من تنزيل الإقطاع المزبور على وجه الاختصاص والأحقية بالاحياء ، وإلا فلو فرض كونه على جهة التمليك جاز إن لم يكن إجماعا ، وليس لأحد حينئذ الاعتراض عليه بتعطيله وإن تمادى الزمان على إشكال ، لاحتمال جواز إحياء الغير له بأجرة على نحو ما سمعته في الأرض التي ملكت بالاحياء فأهملها حتى ماتت.

هذا ويمكن الاستغناء عن هذين الشرطين بل والسابق واللاحق بالأول ، بناء على إرادة ما يشمل الحق الحاصل من الإقطاع والتحجير وكونه مشعرا من اليد فيه ، والأمر سهل.

الشرط ( الخامس : أن لا يسبق إليه سابق بالتحجير ، فان التحجير ) عندنا كما في التذكرة ( يفيد أولوية ) واختصاصا ( لا ملكا للرقبة ) التي لا تملك إلا بالإحياء الذي هو غير التحجير ( وإن ملك به التصرف ) في المحجر ومنع الغير ( حتى لو تهجم عليه من يروم الاحياء كان له منعه و ) دفعه عن ذلك ، بل ( لو قاهره فأحياه لم يملك ) بلا خلاف ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، كما أنه يمكن تحصيله على غير ذلك مما سمعته.

بل في الرياض عليه الإجماع في كلام جماعة كالمسالك وغيرها ، وإن كنا لم نتحققه في غير المفاتيح التي حكاه فيها على إفادته الأولوية دون الملك إلا أنه يمكن تحصيله.

وعدم ذكره في الدروس شرطا مستقلا لإدراجه إياه فيما ذكره من الشرط الرابع ، وهو أن لا يكون مملوكا لمسلم أو معاهد ، إلى أن قال : « والمحجر كالمملوك على ما تقرر » بل ذكر سابقا أن التحجير يفيد الأولوية لا الملك ، فلا يصح بيعه ، نعم يورث عنه ، ويصح الصلح‌

٥٦

عليه ، نعم ستسمع في الطرف الثاني حكاية المصنف عن بعض فقهاء عصره أن التحجير إحياء ، ويأتي البحث فيه إنشاء تعالى.

وعلى كل حال فهو غير مناف لتحصيل الإجماع على عدم تملك المحجر بالاحياء لغير المحجر ، نعم يحكي عن جامع الشرائع أنه قال : « يملك الآخر ، ويكون قد أساء » ولم أتحقق ذلك.

وكيف كان فلم نجد في شي‌ء مما وصل إلينا من النصوص هذا اللفظ فضلا عما ذكروه في تفسيره ، وإنما الموجود في‌ خبر سمرة بن جندب (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « من أحاط حائطا على أرض فهي له » ومقتضاه الملك به ، كما تسمعه من ابن نما ، إلا أن يحمل على أرض يتحقق إحياؤها بذلك أو يراد من اللام ولو بقرينة الشهرة أو الإجماع الأحقية المزبورة لا الملك.

وربما يستفاد الأحقية به من صدق حيازة المباح به وإن كان لا يملك إلا بالاحياء ، ومن أنه سبق إليه نحو السبق إلى الوقف والسوق والمسجد ونحوها ، وفي‌ حديث أبي داود المروي من طرق العامة (٢) وفي الإسعاد أنه صححه الصابي « من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له » وفي بعض كتب الأصحاب رواية « فهو أحق به » (٣).

ولكن مع ذلك كله فالإنصاف أن العمدة الإجماع المزبور ، وإلا فما في التذكرة والمسالك وبعض كتب الشافعية من الاستدلال عليه بأنه إذا أفاد الاحياء ملكا فلا بد أن يفيد التحجير الذي هو الشروع فيه أولوية نحو البيع والاستيام ـ كما ترى ، ضرورة عدم الملازمة ، مع احتمال أن التحجير أعم من الشروع فيه وإن فسره به في القواعد والمسالك وغيرهما.

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٣ وسنن البيهقي ج ٦ ص ١٤٨.

(٢) سنن البيهقي ـ ج ٦ ص ١٤٢.

(٣) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ٤.

٥٧

( و ) في المتن وكذا الإرشاد ( التحجير هو أن ينصب عليها المروز أو يحوطها بحائط ) وزاد في القواعد « أو بحفر ساقية أو إدارة تراب حول الأرض أو أحجار ، ولا يفيد ملكا ، فان الملك يحصل بالاحياء لا بالشروع ، والتحجير وشروع في الاحياء ، بل يفيد اختصاصا وأولوية ».

وفي محكي المبسوط التحجير ان يؤثر فيها أثرا لم يبلغ به حد الاحياء مثل أن ينصب فيه المروز أو يحوط عليها حائطا أو ما أشبه ذلك من آثار الاحياء » وعن جامع الشرائع الاقتصار على التمثيل بالحائط. وعن التحرير أنه يكون بنصب المروز وحفر الخندق.

لكن لا يخفى عليك أن ظاهر بعض الأمثلة الاكتفاء في حصوله بنصب ما يدل على إرادة الاحياء وإن لم يكن من آثاره ، نحو ما ذكره العامة من حصوله بالإعلام ، أي بنصب علامة تدل على ذلك ، كوضع أحجار أو غرز خشب أو قصب أو حفر أساس أو جمع تراب أو نحو ذلك.

بل في بعض الكتب أو يخط خطة.

اللهم إلا أن يقال : إن ذلك كله من الشروع في الاحياء كما في بعض كتب الشافعية ، بل هو مقتضى ما سمعته من الفاضل ، لكنه كما ترى وإن كان هو الموافق لما سمعته من تحقق الأولوية بالسبق المحقق بنصب العلامة المزبورة ، مع احتمال القول بأن الأصل عدم ثبوت الأولوية المقتصر في الخروج منه على المتيقن ، وهو التحجير بمعنى الشروع في الاحياء وفعل أثر من آثاره.

وبعض الأمثلة المزبورة من بعض إن لم تحمل على الاشتباه من الذاكر لها بأنها من الشروع في الاحياء يمكن حملها على موات تكون هي أثرا من آثاره ، ولعل هذا لا يخلو من قوة.

وعلى كل حال فلا إشكال في عدم جواز بيعه ، لعدم الملك ، بل‌

٥٨

ولا هبته وإن قال في القواعد « لم يصح على إشكال » وفي جامع المقاصد جوز نقله بالهبة كالصلح ، وهما معا كما ترى.

ومن الغريب ما عن التذكرة من احتمال صحة البيع ، لأن الأرض المفتوحة عنوة تباع بمجرد الأولوية تبعا للآثار ، ولأنه حق يقابل بالمال ، فتجوز المعاوضة عليه. إذ هو كما ترى ، بل قد يمنع ثبوت الأولوية هنا بيع الآثار التي يفرض كونها ملكا للمحجر وإن أفادت ذلك بالنسبة إليه باعتبار صدق كونه محجرا ، نعم لو نقل الحق معها ولو بالشرط بناء على صلاحيته لمثل ذلك تثبت حينئذ لذلك ، لا لبيع الآثار ، والله العالم.

هذا ( ولو اقتصر على التحجير وأهمل العمارة أجبره الامام على أحد أمرين : إما الأحياء وإما التخلية بينها وبين غيره ، ولو امتنع أخرجها السلطان من يده لئلا يعطلها ) بلا خلاف أجده بين من تعرض له ، كالشيخ وابن حمزة والفاضلين والشهيدين وغيرهم على ما حكي عن بعضهم ، معللين له بقبح تعطيل العمارة التي هي منفعة الإسلام.

نعم إن ذكر عذرا في التأخير كإصلاح آلاته ( آلته خ ل ) أو غيبة العمال أو إباق العبد ونحوه أمهله الامام بمقدار ما يزول معه العذر ، وإن لم يذكر عذرا ألزمه بأحد الأمرين ، وإن أبقى له مدة قريبة يستعد فيها للعمارة بحسب ما يراه ـ ولا يتقدر عندنا بقدر ـ فإذا مضت مدة الإمهال ولم يشتغل بالعمارة رفع يده وأذن للناس في عمارتها.

ونحو ذلك ذكر العامة أيضا ، قال في الإسعاد الذي هو من أجل كتب الشافعية : « وينبغي أن يشتغل بالعمارة عقيب الحجر ، فإن أهمل الاحياء وأطال الإهمال بأن مضى زمن يعد مثله طويلا عرفا نوزع ، فيقول له الحاكم : أحي أو ارفع يدك ، لأنه ضيق على الناس في حق مشترك فيمنع منه ، كما لو وقف في شارع ، فان ذكر عذرا واستمهل أمهل‌

٥٩

مدة قريبة دفعا للضرر ، ولا يتقدر بثلاثة أيام على الأصح ، بل باجتهاد الحاكم ، فإذا مضت ولم يشتغل بالعمارة بطل حقه ، وإن استمهل ولم يذكر عذرا فمقتضى عبارة أصل الروضة أنه لا يمهل ، وقال السبكي : ينبغي إذا عرف الامام أنه لا عذر له في المدة أن ينزعها منه في الحال ، وكذا إذا لم تطل المدة وعلم منه الاعراض ».

وقال فيه أيضا سابقا : « وإنما يتحجر ما يطيق إحياؤه ، بل ينبغي أن يقتصر على قدر كفايته لئلا يضيق على الناس ، فان تحجر ما لا يطيق إحياؤه أو زائدا على قدر كفايته فلغيره أن يحيي الزائد على ما يطيقه وعلى قدر كفايته ، كما قواه في الروضة بعد أن نقله فيها كأصلها عن المتولي ».

إلى غير ذلك مما ذكروه مما يناسب أصولهم التي منها القياس والاستحسان والمصالح المرسلة ومطلق الاجتهاد بخلاف أصولنا التي مقتضاها الوقوف على ما جاء من أهل بيت الوحي عليهم‌السلام.

الذي عثرنا عليه مناسبا لذلك ـ مضافا إلى بعض القواعد التي يمكن تقريرها هنا ـ خبر يونس (١) عن العبد الصالح عليه‌السلام « إن الأرض لله تعالى جعلها وقفا على عباده ، فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت من يده ودفعت إلى غيره ».

وإن كان هو غير منطبق على تمام ما سمعت الذي مقتضاه الانتزاع من يده من دون دفع شي‌ء له عن حق تحجيره الذي لا ريب في جواز نقله بالصلح ونحوه ويورث ، اللهم إلا أن يكون إجماع على ما ذكروه.

كما أن ما في جامع المقاصد ومحكي التذكرة من تقييد ذلك بما إذا بقيت آثار التحجير وإلا عادت مواتا كذلك أيضا ، وإلا فمقتضى الاستصحاب بقاء الحق وإن زالت الآثار ، إذ هي ـ وإن كانت سببا في‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٧ ـ من كتاب إحياء الموات ـ الحديث ١.

٦٠