جواهر الكلام - ج ٣٧

الشيخ محمّد حسن النّجفي

يد المشتري وفي ضمانه ، فيجب أن يكون هذا القدر كافيا في صدق الغصب ، ومن أن العرف قاض بأن الغصب إنما يتحقق بالدخول ، لأن الاستيلاء به يحصل. ونحو ذلك قال في التذكرة هنا ، وفي التحرير جزم باشتراط الدخول ، والمسألة موضع تردد ، ولا يتصور إزعاج الضعيف القوي.

ولا أثر لانتفاء الدخول والإزعاج إلا إذا كان المالك غائبا فأسكن غيره مع جهل الغير ، فان في الدروس أن الآمر غاصب لأن يد المأمور كيده ، والساكن ليس بغاصب وإن ضمن المنفعة ، ويشكل بما لو انهدمت الدار وهو فيها مثلا ، فان عدم التضمين مع إثبات يده بغير حق وإن كان مغرورا بعيد ، فان قال بثبوته ولم يسمه غاصبا فلا مشاحة في التسمية وهو ملخص ما ذكره في التذكرة كما أن ما فيها تلخيص ما في بعض كتب الشافعية.

ولعل الأولى من ذلك إيكال الأمر في صدق الغصب وصدق أخذ اليد إلى العرف الذي هو المرجع في نحو ذلك ، ضرورة عدم حصول كشف العرف بما ذكره في صورة دخول الضعيف على القوي واستيلائه على ما تصرف فيه وثبت يده عليه ، فان عدم تحقق الغصب به بناء على أنه الاستيلاء ممنوع ، إذ قوة المالك لا تنافي صدق الاستيلاء وإثبات اليد من الضعيف ، وأوضح من ذلك استيلاء الضعيف دار المالك القوي الخالية عنه.

على أنه لو سلم عدم تحقق الغصب بناء على اعتبار القهر فيه أو الاستقلال المفقود في الصورة الأولى فلا ريب في الضمان من حيث قاعدة اليد وان لم يكن غصبا.

وكذا ما ذكروه في صورة دخول القوي على الضعيف مستوليا من‌

٢١

اضمحلال يد المالك وكونه غاصبا للجميع ، إذ يمكن منعه مع فرض بقاء تصرف المالك وعدم رفع يده ، وقدرة القوي على رفع يده لا يقتضي استقلاله بإثبات اليد ، وحينئذ فلا يتجه ضمانه الجميع على التقدير المزبور ، ودعوى اختصاصه باليد ممنوعة كل المنع ، اللهم إلا أن يفرض دخوله على وجه لم يبق له يد أصلا وكان الجميع في يد القوي واستيلائه ، وربما يشهد لذلك ما عن بعض النسخ من فرضه على هذا الوجه.

وكذا ما ذكروه في صورة الإشكال الذي لا ينبغي حصوله مع فرض كون الإزعاج لتحقق الاستيلاء الذي يكفي مثله في قبض العقار وصيرورته تحت يده ، كما في غصب الملك دار بعض رعيته ، فان احتمال توقف صدقه على دخوله واضح المنع في العرف.

كما أنه لا ينبغي حصوله بالازعاج الذي لم يقصد به الاستيلاء على الدار ، فان هرب المالك وإزعاجه خوفا من الملك على نفسه لا يقتضي غصب الدار مع فرض عدم إرادة الاستيلاء عليها.

وبالجملة إيكال الأمر إلى العرف في صدق الغصب والقبض وإثبات اليد أولى من الإطناب في ذكر الأفراد المختلفة باعتبار خصوصياتها.

ومن هنا لم يمكن كشف المعاني العرفية باعتبار عدم الإحاطة بخصوصياتها التي تدرك بالذوق وحسن الانتقاد في كل موضع بخصوصه ، ولعل إلى هذا المعنى أشار المصنف بقوله : « ويتحقق » إلى آخره ، ضرورة عدم ذكره زيادة على ما سمعته من التعريف ، فليس المراد منه إلا الإيكال إلى العرف الذي لا ريب في تحققه بإزعاج المالك من داره واستيلائه عليها بأخذ المفاتيح مثلا ونحوه وإن لم يدخل إليها كما عرفت.

( وكذا لو أسكن غيره ) فيها بعنوان الاذن منه والرخصة ، من غير فرق بين جهل الساكن بالحال وعلمه ، وإن كان في الثاني يكون‌

٢٢

كل منهما غاصبا ، كما أن كلا منهما ضامن في الأول وإن لم يكن الجاهل غاصبا ، لعدم علمه بالحال إلا أنه ضامن بإثبات اليد واستيلائه على مال الغير بغير حق في الواقع ، فهو كالغاصب في ضمان العين والمنفعة وإن لم يسم غاصبا اصطلاحا ، لأن ضمان المأخوذ باليد بعد فرض تحقق صدقه عرفا لا يتوقف مع ذلك على صدق الغصب معه ، لعموم قاعدة اليد ، فنفي الضمان من بعضهم هنا عما لم يتحقق فيه الغصب وإن تحقق فيه إثبات اليد لا وجه له ، أو يراد منه نفيه من حيث الغصب.

وعلى كل حال ( فلو سكن الدار مع مالكها قهرا لم يضمن الأصل ) أي جميع الدار ، لعدم استقلاله لإثبات اليد ، بل مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين ضعف المالك وقوته ، لأن الفرض عدم رفع يده ، بل هي باقية على نحو ما لو كان قويا.

( و ) من هنا ( قال الشيخ : يضمن النصف ) مع فرض تساوى يديهما على الدار ، وتبعه الأكثر بل المشهور ، بل لا نجد فيه خلافا محققا.

( و ) لكن في المتن وتبعه بعض من تأخر عنه ( فيه تردد ، منشأه عدم الاستقلال من دون المالك ) فلا يتحقق الغصب الذي هو الاستقلال بإثبات اليد ، ولم نجده لأحد ممن تقدمه فضلا عن الجزم بعدمه ، وإن حكاه المصنف في النافع قولا ، بل عن التنقيح نسبته إلى المبسوط إلا أنا لم نتحققه ، وعلى تقديره فهو واضح الفساد ، ضرورة صدق الغصب بذلك عرفا المقتضي لاعتبار الاستيلاء فيه دون الاستقلال أو للقول بتحققه هنا ولو بالنسبة إلى النصف.

ودعوى اعتباره فيه على معنى رفع يد المالك ولو على جهة المشاركة واضحة الفساد ، لأن العرف أعدل شاهد بخلافها ، بل مقتضى ذلك عدم‌

٢٣

الضمان على الشخصين المشتركين في غصب شي‌ء واحد على وجه الاستقلال لكل منهما ، وهو معلوم الفساد اللهم إلا أن يفرق بين شركة المالك وغيره ، ولكن العرف على خلافه قطعا.

ودعوى كون الغاصب حينئذ مجموعهما الذي حصل له وصف الاستقلال وتضمينه يقتضي التوزيع بينهما يدفعها إمكان القول بمثله في الفرض وإن سقط الضمان بالنسبة إلى المالك ، باعتبار عدم تصور ضمان ماله لنفسه ، بل إن لم يكن إجماعا أمكن القول بضمان الغاصب لجميع عين الدار مع فرض إثبات يده عليها جميعها بالتصرف والانتفاع ونحوهما ، وإن كان المالك أيضا متصرفا بها أجمع ، فإن اجتماع اليدين على الكل بالمعنى المزبور غير ممتنع ، والحكم بالتنصيف في الملكية في مثله باعتبار عدم تعقل الحكم بملكية الجميع الذي هو مقتضى اليد لكل منهما ، فليس حينئذ إلا التنصيف بينهما كالبينتين ، لا لأن يد كل منهما على النصف كما أوضحنا ذلك في كتاب القضاء. أما في المقام فلا مانع من الحكم بضمان الغاصب لجميع العين باستيلائه على جميعها الذي لا ينافيه استيلاء المالك أيضا على جميعها ، هذا بالنسبة إلى العين.

أما بالنسبة إلى المنفعة فيضمن الغاصب كل منفعة للعين التي صارت في يده واستيلائه ، سواء استوفاها أو لا ، نعم ما استوفاها المالك منها تسقط عن ضمانه باعتبار استيفاء المالك لها ، فتأمل جيدا فإنه دقيق.

هذا وفي الرياض تبعا للكفاية لا بد من التقييد بكونه متصرفا في النصف مثلا بحيث يمنع المالك من أنواع التصرفات فيه ، كالبيع والهبة وأمثالهما ، لا مجرد السكنى.

وفيه أنه يكفي في ضمانه النصف إثبات يده بالسكنى على الإشاعة‌

٢٤

وإن لم يمنعه عن التصرفات المزبورة ، لصدق‌ « على اليد » (١).

وعن مجمع البرهان أن ذلك ـ أي ضمان النصف ـ إذا شاركه في كل موضع من البيوت ، بحيث ما يزاحمه ولا يزعجه إلا عن النصف ، ثم قال : « ويمكن أن يكون الحكم كذلك إذا شاركه في البيوت من غير تعيين نصف ، بل يقول له : أنا وأنت نكون في هذه الدار مع إثبات يده على الكل وعدم منعه من شي‌ء ، مثل الشريكين بالنصف وأحدهما يأذن للآخر ».

واستجوده بعض من تأخر عنه ، وقال : « لا فرق بعد فرض تصرفه في قدر النصف أو أقل أو أكثر ، لأن المتصرف في جميع الدار مثلا اثنان ، فيحال الضمان عليهما كالجنايات ، فلو جنيا عليه ومات من جنايتهما كانت الدية عليهما نصفين وإن كان أحدهما جرحه ألف جرح والآخر جرحا واحدا ».

قلت : لا يخفى عليك ما في ذلك كله بعد الإحاطة بما ذكرناه ، وأنه لا يقاص المقام الذي بناء الضمان فيه على قاعدة اليد على الجناية التي يصدق أنهما معا قتلاه وإن تعددت جناية أحدهما دون الآخر ، بخلاف المقام الذي فرض فيه صدق الاستيلاء على الجميع واليد على كل منهما ، فيضمن الجميع من كانت يده يد ضمان دون الآخر ، إذ ليس يد كل منهما على النصف حتى يختص ضمانه به.

وكذا لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه ما في المحكي عن أبي العباس في كتابيه من أن الغاصب لا يضمن من الأجرة إلا قدر ما ينتفع به من السكنى ، إذ قد عرفت أن المتجه ضمانه لكل منفعة عدا‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ٤. وسنن البيهقي ج ٦ ص ٩٥.

٢٥

ما استوفاها المالك ، من غير فرق بين ما استوفاها وما لم يستوفها ، لأن يده يد ضمان على العين وعلى المنفعة ، بل القائل بالتنصيف يضمنه منفعة النصف وإن لم يستوفها.

بل قد يظهر لك بالتأمل فيما ذكرناه ما ذكره غير واحد من التفريع على القول بالتنصيف ـ منهم الفاضل المقداد في التنقيح ـ أنه لو كان المالك أكثر من واحد هل يلزم الغاصب النصف أيضا أو بالنسبة فلو كان اثنين لزمه الثلث ، وثلاثة لزمه الربع؟ الأقرب الأخير كما لو تعدد الغاصب. والتحقيق يقتضي الضمان على نسبة ما استولى عليه واستقل به إن نصفا فنصف وإن ثلثا فثلث ، وإن ربعا فربع ، وهكذا.

وظاهره كون التحقيق غير ما جعله الأقرب أولا.

وفي الرياض أن ظاهر العبارة ونحوها من عبائر الجماعة يقتضي عدم الفرق في ضمانه النصف بين وحدة المالك وتعدده ، ويحتمل تخصيصها بالصورة الأولى والرجوع في الثانية إلى الضمان بالنسبة ، ثم حكى ما سمعته من التنقيح ، وقال : هو جيد.

قلت : قد عرفت أن ضمان العين يتبع اليد والاستيلاء ، فمع فرض صيرورتها أجمع تحت يده على وجه لا ينافي كونها مع ذلك تحت يد المالك يتجه ضمان الجميع ، نعم لو فرض تصور كون الداخل تحت يده النصف مشاعا أو الثلث كذلك من دون تصرف في الجميع اتجه حينئذ ضمان ذلك عليه خاصة.

وأما المنفعة فيضمن منها منفعة ما كان في يده من غير فرق بين ما استوفاه وغيره عدا ما استوفاه المالك ، نعم لو فرض كون ما في يده النصف ولكن نسبة انتفاعه بها إلى انتفاع المالك ثلثان وثلث اتجه حينئذ ضمان النصف للعين والثلثين للانتفاع.

٢٦

وبالجملة فالمسألة في غاية الغموض ومحتاجة إلى التأمل التام. والله العالم. هذا كله في قهر الغاصب المالك لقوته بالنسبة إليه.

( و ) أما ( لو كان الساكن ضعيفا عن مقاومة المالك لم يضمن ) من حيث الغصب قطعا بناء على اعتبار القهر في مفهومه الذي لا يتصور في الفرض ، وأما ضمانه من حيث اليد فقد عرفت الحال فيه ، وأن المتجه فيه الضمان.

وفي الدروس « لو سكن الضعيف مع المالك القوي فهو ضامن للمنفعة ، وفي كونه غاصبا الوجهان » قلت : قد عرفت ضمانه العين أيضا لو تلفت ، لقاعدة « على اليد » وإن لم نقل بكونه غاصبا.

( ولو كان المالك غائبا ضمن ) بلا خلاف أجده فيه بيننا وإن كان الساكن ضعيفا ، معللين له بأنه غاصب ، لأن الاستيلاء حاصل في الحال ، وأثر قوة المالك سهولة انتزاعه من يده وليس بمتحقق.

ولكن لا يخفى عليك أن مثله آت في الحاضر القوي ، ضرورة عدم الفرق في سكناه مع عيال المالك بين حضور المالك وغيبته ، وكذا سكناه في دار المالك القوي الخالية التي صرح في التحرير بضمانها ، إذ القهرية منتفية على كل حال ، كما أن الاستيلاء حاصل على كل حال.

ولا يراد بالأخذ المستفاد من‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : « على اليد ما أخذت » أزيد من هذا ، بل الظاهر عدم اعتبار قصد الغصبية فيه ، ومنه يعلم الوجه في ضمان المأخوذ للنظر ونحوه وان استشكل فيه من عرفت.

بل في الدروس « لو رفع كتابا بين يدي المالك فان قصد الغصب‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ٤. وسنن البيهقي ج ٦ ص ٩٥.

٢٧

فهو غاصب ، وإن قصد النظر إليه ففي كونه غاصبا الوجهان » مع أن منشأ الوجهين المذكورين في كلامه سابقا الشك في أن الغصب الاستقلال أو الاستيلاء ، وهما معا في الفرض حاصلان.

نعم يمكن الشك في كون المراد بالأخذ المستفاد من‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « على اليد ما أخذت » الاستبداد بالشي‌ء كالمالك أو الأعم منه ومما يشمل الأخذ للنظر ونحوه ، الظاهر الثاني ، بل لعله الموافق لكلمات الأصحاب في غير المقام التي لا تخلوا من تشويش نشأ من إطناب الشافعية في تنقيح أفراد الغصب عرفا ، ولعله لأنه من حيث كون الغصب سببا للضمان عندهم. وأما نحن فقاعدة اليد أعم عندنا منه ، ومساوية له في كيفية الضمان بالآفة السماوية وغيرها وإن كان هو أيضا سببا لقوله عليه‌السلام في الخبر السابق (١) : « كل مغصوب مردود ».

نعم ينبغي تنقيح قاعدة اليد ، ولا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه تحقيق القول فيها ، وأنه لا بد في الضمان من إثباتها ، لأنه هو معنى الأخذ ، لكن يكفي فيه الأخذ المشترك ولو مع المالك ، كما عرفت البحث فيه ، والأولى من ذلك إيكاله إلى العرف ، والتمسك في محال الشك فيه بأصل البراءة ونحوه كما سمعته في الغصب والقبض ، والله العالم.

( وكذا لو مد بمقود دابة فقادها ) بقصد الاستيلاء عليها أو ساقها كذلك ( ضمن ) وإن كان مالكها حاضرا لكن غير مثبت يده عليها ، لأنه حينئذ غاصب بمعنى مستقل بإثبات يده ومستول ومحتو ( و ) آخذ.

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأنفال ـ الحديث ٤ من كتاب الخمس وفيه‌ « الغصب كله مردود ».

٢٨

نعم في المتن ( لا يضمن لو كان صاحبها راكبا لها ) كما في محكي المبسوط ، ومرادهما على الظاهر كونه مع ذلك قادرا على منع الغاصب ، كما في القواعد وجامع المقاصد والمسالك وغيرها ، لعدم صدق الاستيلاء فضلا عن الاستقلال والأخذ.

وإليه يرجع ما في الإرشاد إلا أن يكون المالك راكبا إلا مع الإلجاء ، بمعنى كونه ملجأ غير قادر على دفعه ، كقوله في غيره : « ولو يمد بمقود دابة وصاحبها راكبها فلا استقلال إلا مع ضعفه عن المقاومة ».

ولعل وجهه حينئذ صيرورة يده بمنزلة العدم في جنب القائد المفروض كونه قاهرا مستوليا نحو ما سمعته في الداخل القوي على مالك الدار الذي يده معه ـ لضعفه وان لم يزعجه ـ بمنزلة العدم ، فيضمن الجميع حينئذ ، مع أنك قد عرفت الاشكال فيه سابقا مع صدق بقاء يده وتصرفه وإن كان الغاصب قادرا على رفعهما إلا أنه ما لم يتحقق لا يصدق الاستقلال والاستيلاء للجميع ، ومثله يأتي في المقام ، ولعله لذا تأمل فيه المقدس الأردبيلي ، خصوصا مع ملاحظة الحكم له باليد في مقام التنازع.

كما أنه قد يشكل ما ذكروه من عدم الضمان لو كان المالك الراكب قادرا بما تقدم لهم من ضمان النصف بدخول الساكن قهرا مع المالك ، ولعله لذا لم يفرق بعضهم بين المسألتين ، بل لعل حكاية العدم قولا في المسألة السابقة كما في النافع مأخوذ من هذه المسألة.

وربما فرق بأن القائد لا استيلاء له مع المالك الراكب على نصف ولا ربع ، لأنه أقوى يدا وأكثر تصرفا ، ولهذا يحكم له بها عند التنازع.

وفيه أنه لا يتم على القول بالتنصيف عند التداعي ، كما عن الخلاف والسرائر وثاني المحققين والشهيدين ، بل عن ثاني الشهيدين التصريح في‌

٢٩

باب الديات بأن جنايتها بيدها على القائد والراكب بالتنصيف ، فيضمن النصف أيضا هنا باعتبار إثبات يده مع يد المالك. كما لو ركبها معه.

بل قد يقال بضمانه الكل في الفرض باعتبار صدق الاستيلاء والأخذ الذي لا ينافيه قدرة المالك على الدفع إذا لم يدفع ، كما إذا لم يكن راكبا لها وكان حاضرا قادرا على الدفع ، أقصاه إثبات يده ، ولا ينافي ذلك يد الغاصب ، بل ولا استقلاله واستيلاؤه وأخذه واحتواؤه ، بل هو بقوده لها وعدم ممانعة المالك له استولى عليه وعليها ، نحو ما سمعته في الساكن المتصرف بجميع الدار مع عدم إزعاج المالك ، ولعل إيكال الأمر في ذلك إلى العرف المختلف باختلاف الأحوال والخصوصيات أولى.

وعلى كل حال فلا خلاف ولا إشكال في ضمانه لها لو اتفق تلفها بقوده لها وإن كان الراكب قويا على الدفع ، بل لا يبعد ضمانه لمنفعتها التي فاتت على المالك بقوده ، وكذا لو ساق الدابة وكان لها جماح فشردت بسوقه فوقعت في بئر ضمن ، والله العالم.

( وغصب الأمة الحامل ) مثلا ( غصب لحملها ( لولدها خ ل ) ) أيضا بلا خلاف ولا إشكال ( لثبوت يده ) بل استقلاله واستيلائه ( عليهما ) فيضمنهما حينئذ معا ، ولو بضمان تفاوت قيمتها حاملا وحائلا لو أسقطت.

وإن تلفت وتلف بعد الوضع ففي المسالك ألزم بالأكثر من قيمة الولد وقيمتها حاملا إن اعتبرنا الأكثر وإلا فقيمته يوم التلف ، ولعل المراد قيمة الولد يوم التلف فيكون المعنى أنه إذا تلف الولد بعد الوضع غرم الأكثر من قيمة الولد إلى يوم التلف ، مضافا إلى الأكثر من تفاوت قيمتها حاملا وحائلا ، وعلى القول باعتبار وقت التلف كان عليه قيمة الولد حينه وقيمة التفاوت كذلك إن كان.

٣٠

وكأن ما في المسالك مأخوذ مما في التحرير ، قال فيه : « لو غصب الأمة الحامل كان غاصبا للحمل ، فلو تلف الحمل ألزم بقيمته ، بأن يقوم الأمة حاملا وغير حامل ، ويلزم بالتفاوت ، ولو تلف بعد الوضع ألزم بالأكثر من قيمته وقت الولادة إلى يوم التلف ، وكذا البحث في الدابة الحاملة.

وعلى كل حال فلا إشكال في ضمان الحمل والحامل في الفرض.

بل في التذكرة والتحرير ( وكذا يضمن حمل الأمة المبتاعة بالبيع الفاسد ) لعموم « على اليد » (١) لكن في القواعد والدروس وجامع المقاصد والمسالك وغيرها عدم الضمان ، لعدم كونه مبيعا حتى يضمن بقاعدة ما يضمن بصحيحه ، فهو حينئذ أمانة في يد المشتري.

وفيه أنه مع فرض عدم إذن من المالك إلا الاذن البيعية التي فرض عدمها يتبين الفساد ، فيتجه الضمان حينئذ لعدم الاذن ، والأصل الضمان ، وقاعدة ما يضمن بناء الضمان فيها على ذلك ، وإلا فهي ليست من أسبابه من حيث نفسها ، وحينئذ فلا حاجة إلى ما في الدروس من حمل القول بالضمان على إرادة اشتراط دخول الحمل.

نعم لا وجه للقول بضمان حمل المقبوض بالسوم مع فرض كون السوم على الحامل دون الحمل كما صرح به غير واحد ، لكونه أمانة صرفة في يده ، وضمان الحامل على خلاف مقتضى القواعد ، فيقتصر عليه.

لكن عن التذكرة التصريح بضمانه أيضا. ويمكن حمله على المفروض دخوله في السوم مع الحامل أو يقال بأنه مقتضى‌ عموم « على اليد » الذي‌

__________________

(١) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ٤ وسنن البيهقي ج ٦ ص ٩٥.

٣١

لا ينافيه كونه بالاذن بعد انصراف الأمانة المنفي عنها الضمان إلى غير الفرض ، فتأمل جيدا.

هذا وقال في الدروس : « ولو أثبت يده على مسجد أو رباط أو مدرسة على وجه التغلب ومنع المستحق فالظاهر ضمان العين والمنفعة ».

وقد يشكل الضمان في المسجد ونحوه من المشاعر مما لم تكن المنفعة فيه ملكا للناس وإن ملكوا الانتفاع به ، إذ هو غير المنفعة ، فلا مالية حينئذ حتى يتجه الضمان وإن تحقق الغصب في مثله.

ولعله لذا صرح بعض الشافعية بتحقق الغصب والإثم بإقامة من قعد في مسجد أو موات أو استحق سكنى بيت برباط ، ويجب الرد في الأعيان الاختصاصية ، وفي المنافع الاختصاصية بتعلق الإثم ، ثم قال : « ولا ضمان في شي‌ء من متعلقات الاختصاص ». وهو جيد فيما ليس هو بمال كالمسجد.

أما ما كان ملكا للمسلمين أجمع كالطرق ونحوها فلا بأس بالقول بالضمان عينا ومنفعة ، بل المسجد الموقوف ، لا المخلوق مشعرا كذلك أيضا إن قلنا بكونه ملكا للمسلمين عينا ومنفعة ، وإن كان هو لا يخلو من نظر ، لقوة احتمال كونه كالتحرير في الخروج عن المالية.

وقد تقدم ما في المسالك من انتقاض التقييد في التعريف بمال الغير بما لو استولى المالك على ماله المرهون عدوانا ، فإنه يضمنه مع التلف بالمثل أو القيمة ، ويكون رهنا ، وحق المرتهن لا يسمى مالا وإن نزل منزلته.

وبما لو استقل باليد على حق الغير في نحو المدرسة والرباط والمسجد والتحجير ، فإنه في جميع ذلك غاصب مع أنه لم يستول على ماله.

وبما لو غصب الوقف العام فإنه ليس ملكا للغير ، أو الخاص على القول بانتقال ملكه إلى الله إلا أن يراد من الغير ما يشمل الله تعالى ،

٣٢

وهو بعيد.

وفي الدروس « وإضافة المال إلى الغير ـ أي في التعريف ـ ليخرج به مال نفسه ، فإنه لو أثبت يده على مال نفسه عدوانا كالمرهون في يد المرتهن فليس بغاصب ، إلا أن ينزل استحقاق المرتهن منزلة المال ، مع أنه لو تلف بعد التعدي ضمن قيمته أو مثله ، ويكون رهنا ».

قلت : لا إشكال في تحقق الغصب بمعنى القهر على غير الحق الذي هو نوع من الظلم في مثل ذلك ، وأما الضمان فلا يكون إلا للمال ، ووجوب دفع المثل أو القيمة لتكون رهنا لو أتلفه ليس ضمانا لحق الارتهان. بل هو حكم شرعي لدليله ، والله العالم.

( ولو تعاقبت الأيدي الغاصبة على المغصوب تخير المالك في إلزام أيهم شاء أو إلزام الجميع ) أو البعض ( بدلا واحدا ) على حد سواء أو مختلفا بلا خلاف ولا إشكال ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، بل في مجمع البرهان دعواه ، لأن كلا منهم غاصب مخاطب برد العين أو القيمة ، لقوله عليه‌السلام (١) : « كل مغصوب مردود ». و « على اليد ما أخذت » (٢) وقوله تعالى (٣) ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) و ( جَزاءُ سَيِّئَةٍ ) (٤) وغيرهما مما دل على العقاب بمثل ما عوقب (٥)

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأنفال ـ الحديث ٤ من كتاب الخمس وفيه‌ « الغصب كله مردود » ‌

(٢) المستدرك ـ الباب ـ ١ ـ من كتاب الغصب ـ الحديث ٤. وسنن البيهقي ج ٦ ص ٩٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٩٤.

(٤) سورة يونس : ١٠ ـ الآية ٢٧.

(٥) سورة النحل : ١٦ ـ الآية ١٢٦.

٣٣

وأن ( الْحُرُماتُ قِصاصٌ ) (١) ونحوه.

ولا فرق في تعاقب أيديهم بين كونه بصورة الضمان ببيع فاسد ونحوه وعدمه ، نعم قرار الضمان على من تلف المغصوب في يده منهم ، بمعنى أنه لو رجع المالك على غيره رجع هو عليه مع فرض عدم زيادة في العين يختص الأول بضمانها بخلاف ما لو رجع عليه نفسه ، فإنه لا رجوع له على غيره ، لأن ذمته المشغولة للمالك بالبدل وإن جاز له إلزام غيره باعتبار الغصب بأداء ما اشتغلت ذمته به ، فيملك حينئذ من أدى بأدائه ما للمالك في ذمته بالمعاوضة الشرعية القهرية.

وبذلك اتضح الفرق بين من تلف المال في يده وبين غيره الذي خطابه بالأداء شرعي لا ذمي ، إذ لا دليل على شغل ذمم متعددة بمال واحد ، فحينئذ يرجع عليه ولا يرجع هو.

كما أنه اتضح لك أيضا جواز مطالبة الكل ببدل واحد على السواء ومختلفا ، لأنه إذا جاز له مطالبة كل منهم بالجميع فالبعض بطريق أولى ، ويرجع حينئذ غير من تلف المال في يده على من تلف المال في يده بمقدار ما أدى.

بل ظاهر عدم تقييد الأيدي بكونها غاصبة في النافع واللمعة يقتضي عدم الفرق في الضمان بين الجاهل والعالم وإن افترقا في الإثم وعدمه والغرور وعدمه. بل هو صريح المحكي عن المبسوط والتذكرة والتحرير وجامع المقاصد والمسالك والروضة والكفاية ، بل لم يرد المصنف من التقييد المزبور إخراج الجاهل ، لتصريحه بعد ذلك بالرجوع على الجاهل.

نعم ما تقدم في الدروس سابقا ـ من أن الساكن في البيت بأمر الغاصب جاهلا يضمن المنفعة ـ ظاهر في ضمانها خاصة ، ومن هنا نشأت‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٩٤.

٣٤

الشبهة على المقدس الأردبيلي ، فتردد أو مال إلى عدم الرجوع على الجاهل المغرور الذي لم يعلم اندراجه في‌ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خبر سمرة بن جندب (١) : « على اليد » الذي لم تثبت صحته ولا تواتره بعد معلومية عدم كونه غاصبا ، وإلا لكان آثما.

وفيه ـ بعد إمكان تحصيل الإجماع على خلافه ـ أن عدم تواتره بل وعدم صحته لا يقدح بعد العمل به الجابر له سندا ودلالة ، بل نصوص المغصوب التي منها‌ قوله عليه‌السلام (٢) : « كل مغصوب مردود » شاملة له ، ضرورة صدق المغصوبية على ما في يده وإن لم يكن هو الغاصب.

وعدم كونه مخاطبا بالخطاب التكليفي لجهله لا يقتضي عدم كونه مخاطبا بالخطاب الوضعي ، وقاعدة الغرور ظاهرة في الرجوع عليه وإن رجع هو على من غره فيما إذا لم تكن يده يد ضمان ولم يكن التلف مباشرة منه بغير غرور ، كما لو أعاره الغاصب إياه عارية غير مضمونة أو أدعه إياه فتلف بآفة سماوية مثلا. أما إذا كانت يده يد ضمان أو باشر هو إتلافه بغير غرور فلا رجوع له ، كما ستسمع تفصيله إنشاء الله تعالى عند تعرض المصنف له.

والمراد من عبارة الدروس ما ذكرناه سابقا من أن الضمان للمنفعة مستقر على الساكن بخلاف العين ، فإنه يرجع به على الغار ، كما صرح به في المقام ، قال : « وتعاقب الأيدي العادية على العين يوجب تضمين كل واحد منهم ، وقرار الضمان على من تلفت في يده ، فيرجع غيره عليه لو رجع عليه ، ولو كان فيهم يد غير عادية فقرار الضمان على الغار ».

__________________

(١) سنن البيهقي ـ ج ٦ ص ٩٥.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأنفال ـ الحديث ٤ من كتاب الخمس وفيه‌ « الغصب كله مردود ».

٣٥

وإن كان لا يتم إطلاقه فيما لو كانت اليد الأولى عادية غارة والثانية مغرورة والثالثة عادية لعلمها بالغصب مثلا ، فلو رجع المالك على الثانية المغرورة لم يكن قرار الضمان على الغار الذي هو الأول ، فالمتجه تقييد ذلك بما إذا كان التلف في يد المغرور لا مطلقا. حتى في مثل الفرض الذي لم يكن التلف في يده.

أو يقال باختصاص قاعدة الغرور بما إذا كان التلف في يده ، وحينئذ يتجه في المثال الرجوع على من تلف المال في يده خاصة دون الأول ، بخلافه على السابق ، فان المتجه فيه التخيير بين الرجوع على الغار وإن رجع هو على من تلف المال في يده وبين الرجوع على من تلف المال في يده ابتداء جمعا بين القاعدتين ، لعدم تنافيهما ، هذا.

ومرادنا بما ذكرنا من رجوع الجاهل على غيره لو رجع عليه إذا كان مغرورا ، أما مع عدم الغرور فلا رجوع له ، بل هو حينئذ كالعالم في ذلك ، بل مرادنا أيضا بالجاهل غير العالم بالغصب ، من غير فرق بين الغافل والناسي وغيرهما ، والله العالم.

( والحر لا يضمن بالغصب ولو كان صغيرا ) لا عينا ولا منفعة بلا خلاف محقق أجده فيه ، على معنى كونه كغصب المال الموجب للضمان وإن مات حتف أنفه ، بل ولا إشكال ، ضرورة عدم كونه مالا حتى يتحقق فيه الضمان ، وما في النافع ـ من أنه لو كان أي التلف لا بسببه كالموت ولدغ الحية فقولان ـ لم نتحققه ، ونحوه ما عن المفاتيح من نسبة ما في المتن إلى القيل والكفاية إلى المشهور. ولذا قال في محكي المهذب والمقتصر : « إن الأصحاب على خلافه » أي القول المحكي في النافع كما عن التنقيح الاعتذار عنه بالمسامحة ، بل فيه وفي الروضة الإجماع على عدم ضمان الصغير إذا كان تلفه بالموت الطبيعي ، ومن هنا طفحت عباراتهم‌

٣٦

بعدم ضمان الحر بالغصب ، وأنه إنما يضمن عينا بالجناية عليه مباشرة أو تسبيبا ( و ) منفعة بالاستيفاء أو تسبيبا على الوجه الذي سيأتي إنشاء الله.

بل ( لو أصابه غرق أو حرق أو ) غيرهما فضلا من أن يصيبه ( موت في يد الغاصب من غير تسبيبه لم يضمنه ) للأصل ، كما عن مبسوط الشيخ وإيضاح الفخر وغيرهما ، بل في المسالك نسبته إلى الأشهر بل عن الكفاية إلى المشهور ( و ) ان كنا لم نتحققه.

بل ( قال ) الشيخ ( في كتاب الجراح ) من المبسوط :( يضمنه الغاصب إذا كان صغيرا ) أو مجنونا ( وتلف بسبب ، كلدغ الحية والعقرب ووقوع الحائط ).

بل في الدروس ومحكي الخلاف والمختلف هو قوي ، وعن المقتصر هو حسن ، بل عن التبصرة وتعليق الإرشاد وغيرهما اختياره ، وهو المحكي عن أبي حنيفة أيضا ، ولا ترجيح في النافع وكشف الرموز والتحرير والإرشاد والتذكرة في موضع منها. وغاية المراد والتنقيح والمهذب البارع والروضة على ما حكي عن بعضها.

نعم لا وجه ظاهر يقتضي الضمان ، إذ دعوى كونه بغصبه صار سببا شرعا لتلفه كحفر البئر واضحة المنع. والخبر (١) « من استعار حرا صغيرا فعيب ضمن » لا جابر له ولا عامل به ، ومناسبة الضمان للعدوان ـ بل عدمه يفضي إلى الاحتيال في قتل الأطفال ـ مجرد اعتبار ، والضمان في نقل المملوك الصغير والمجنون إلى المسبعة أو المضيعة كما عن التذكرة لا يقتضي الضمان في الفرض ، لظهور التسبيب فيه بخلافه.

ومن الغريب ما عن الفاضل من الجزم في موضع من محكي التذكرة‌

__________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب موجبات الضمان ـ الحديث ٢ من كتاب الديات.

٣٧

بعدم الضمان في مثله وتردده في المقام ، فالمتجه عدم الضمان مع فرض عدم تقصير منه في حفظه بالإهمال ونحوه ، وربما يحمل القول بالضمان على ما لو أهمل ، بحيث يكون سببا في تلفه ، لكونه غير قابل لحفظ نفسه ، بخلاف ما إذا لم يهمل فاتفق تلفه بأمر لا مدخل لإهماله فيه ، وحينئذ يكون النزاع لفظيا.

ثم إن الظاهر عدم الفرق في الحكم المزبور بين الصغير والمجنون ، كما صرح به جماعة.

بل في مجمع البرهان أن الظاهر عدم الفرق بينهما وبين الكبير إذا حبس بحيث لا يقدر على الخلاص منه ثم حصل في الحبس شي‌ء أهلكه ، لظلمته وعدم قدرته على الفرار من أذيته ، إذ هو حينئذ كالطفل ، بل كالحيوانات التي لا شعور لها ، فعلة الضمان فيهما سواء.

وربما كان في ذلك نوع إيماء إلى ما ذكرنا إذا كان المراد منه أن لحبسه على الوجه المزبور مدخلا في تلفه على وجه يكون سببا وإن كان كبيرا قابلا للدفع عن نفسه إلا أنه منعه عن ذلك على وجه صار كالصغير الغير القابل للدفع عن نفسه.

وكذا ما في جامع المقاصد والروضة من أنه لو كان بالكبير خبل أو بلغ رتبة الصغير لمرض أو كبر ففي إلحاقه وجهان ، ضرورة كون الوجه في الضمان ما عرفت ، إذ لا خصوصية للصغير من حيث كونه كذلك ، بل ليس إلا لعدم قابليته للدفع عن نفسه ، فغيره مما كان كذلك في القصور مثله في الضمان مع الإهمال على الوجه المزبور ، والله العالم.

( ولو استخدم الحر فعليه ( لزمه خ ل ) الأجرة ) بلا خلاف أجده فيه ، بل ولا إشكال ، لأن منفعته متقومة حينئذ ، فهو كمن أخذ مال‌

٣٨

غيره ( و ) لو لأن منفعته المزبورة تقابل بمال.

أما ( لو حبس صانعا لم يضمن أجرته ما لم ينتفع به ) فضلا عن غير الصانع بلا خلاف أجده فيه ، بل في الكفاية هو مقطوع به في كلام الأصحاب ، وإن عبر في التذكرة بلفظ الأقوى مشعرا باحتمال الضمان فيه ، بل في مجمع البرهان قوة ذلك ، لقاعدة نفي الضرر مع كونه ظالما وعاديا ، فيندرج في قوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (١) و ( جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ ) (٢) وغيرهما مما دل على المقاصة والعقاب بمثل ما عوقب (٣) فالضمان حينئذ لذلك لا للغصب الذي لا يقتضيه ، باعتبار عدم كون المغصوب مالا تتبعه منافعه ولو شرعا في الدخول تحت اليد واسم الغصب وغيرهما.

وحكاه في الرياض عن خاله العلامة في حواشيه عليه ، حيث قال : « إن ثبت إجماع على ما ذكره الأصحاب وإلا فالأمر كما ذكره الشارح ».

ومال إليه في الرياض حيث يكون الحابس سببا مفوتا لمنافع المحبوس.

ثم قال : « يحتمل قويا اختصاص ما ذكره الأصحاب بصورة عدم استلزام الحبس التفويت كما فرضناه بل الفوات ، وربما يستفاد ذلك من التذكرة حيث إنه مع تصريحه بما ذكره الأصحاب قال في عنوان البحث : منفعة بدن الحر تضمن بالتفويت لا بالفوات ، انتهى. ويظهر الفرق بين المقامين فيما لو حبسه مدة لها اجرة في العادة ، فإن كان لو لم يحبس لحصلها كان حبسه سببا لتفويتها. فيضمن هنا كما ذكراه ، وإن كان لو لم يحبس لم يحصلها أيضا لم يكن حبسه سببا لتفويتها ، وهذا هو مراد‌

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٩٤.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ ـ الآية ٤٠.

(٣) سورة النحل : ١٦ ـ الآية ١٢٦.

٣٩

الأصحاب في حكمهم بنفي الضمان فيه كما احتملناه من كلامهم ، ولا شبهة فيه ».

قلت : لا يخفى فساد الاحتمال المزبور على من لاحظ كلمات الأصحاب ، بل فرضهم المسألة في حبس الصانع كالصريح في عدم الضمان وإن كان سببا.

والمراد بالتفويت في عبارة التذكرة الاستيفاء ، كما يشعر به تفريع ذلك عليها فيها ، قال : « منفعة بدن الحر تضمن بالتفويت لا بالفوات فلو قهر حرا واستعمله في شغل ضمن أجرته ، لأنه استوفى منافعه ، وهي متقومة ، فلزمه ضمانها ، كما لو استوفى منافع العبد ، ولو حبسه مدة لمثلها اجرة وعطل منافعه فالأقوى أنه لا يضمن الأجرة ، لأن منافعه تابعة لما لا يصح غصبه ، فأشبهت ثيابه وأطرافه ، ولأن منافعه في يده ، لأن الحر لا يدخل تحت اليد ، فمنافعه تفوت تحت يده فلم يجب ضمانها ، بخلاف الأموال ، وهو أصح وجهي الشافعية ، والثاني أنه يضمنها ، لأن منافعه تتقوم بالعقد الفاسد. فأشبهت منافع الأموال ، فقد فوتها بحسبه فضمنها كمنافع العبد ، أما لو منعه من العمل من غير حبس فإنه لا يضمن منافعه وجها واحدا ، لأنه لو فعل ذلك بالعبد لم يضمن منافعه ، فالحر أولى ».

وهو كالصريح فيما ذكرناه ، على أن التسبيب الذي ذكره إنما يقتضي الضمان إذا تعلق بتلف الأموال ، ومنفعة الحر معدومة ، فلا يتصور التسبيب لتلفها ، كما أن قاعدة نفي الضرر والضرار وغيرها مما ذكره من الآيات لو اقتضت الضمان على وجه تشمل الفرض لا تثبت فقها جديدا ، ضرورة اقتضائها الضمان بالمنع عن العمل أو الانتفاع بماله وغير ذلك مما عرفت عدم القول به من العامة الذين مبنى فقههم على القياس‌

٤٠