الثّاقب في المناقب

عماد الدين أبي جعفر محمّد بن علي الطوسي [ ابن حمزة ]

الثّاقب في المناقب

المؤلف:

عماد الدين أبي جعفر محمّد بن علي الطوسي [ ابن حمزة ]


المحقق: الشيخ نبيل رضا علوان
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-438-681-7
الصفحات: ٧٠١

فقلت : إنّها أرض سبخة لا ماء فيها ! فقال : «اطع إمامك» فملت ، وسرنا ما شاء الله ، فإذا نحن بعين فوّارة ، وماء بارد عذب ، وأشجار خضر ، فنزلنا وتطهّرنا وصلّينا وشربنا وأروينا رواحلنا وملأنا سقاءنا ، وقمنا ومضينا .

فلمّا سرنا غير بعيد قال لي : «يا داود ، هل تعرف الموضع الذي كنّا فيه ؟» قلت : نعم ، يا ابن رسول الله .

قال : «فاذهب وجئني بسيفي فقد علّقته على الشجرة فوق العين ونسيته» فمضيت إليه فوجدت السيف معلقاً على الشجرة ، وما رأيت أثراً من العين ، ولا من الأشجار الخضر ، وإنّما هي أرض سبخة لا عهد للماء فيها .

٣٥٥ / ٥ ـ عن داود بن ظبيان ، قال : كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام أنا والمفضّل بن أبي المفضل ويونس بن ظبيان ، فقال أحدهما لأبي عبد الله عليه السلام : أرني آية من الأرض . وقال الآخر : أرني آية من السماء . فقال : «يا أرض ، انفرجي» فانفرجت مدّ البصر ، فنظرت إلى خلق كثير في أسفل الأرض .

ثم قال : «يا سماء ، انشقي» فانشقت .

قال : فلو شئت أن أجتذب السماء بيدي هاتين لفعلت ، فقال : «استشفّ (١) وانظر» ثمّ تلا هذه الآية : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) (٢) .

٣٥٦ / ٦ ـ عن الحسن بن عطية ، قال : كان أبو عبد الله عليه

___________________

٥ ـ عنه في مدينة المعاجز : ٤١٦ / ٢٣٥ .

(١) استشف : تبين ما وراء الشيء ، انظر «لسان العرب ـ شفف ـ ٩ : ١٨٠» .

(٢) سورة آل عمران الآية : ١٤٤ .

٦ ـ الاختصاص : ٣٢٥ .

٤٢١

السلام واقفاً على الصفا ، فقال له عبّاد البصري : حديث يروى عنك . قال : «وما هو ؟» قال : قلت : «إنّ حرمة المؤمن أعظم من حرمة هذه البنية» (١) .

قال : قلت ذلك ، إنّ المؤمن لو قال لهذه الجبال : أقبلي ، أقبلت» .

قال : فنظرت إلى الجبال قد أقبلت ، فقال لها : «على رسلك ، إنّي لم أردك» .

٣٥٧ / ٧ ـ عن علي بن المبشر قال : لمّا قدم أبو عبد الله عليه السلام على أبي جعفر أقام أبو جعفر مولى له على رأسه وقال له : إذا دخل عليَّ فاضرب عنقه . فلمّا دخل أبو عبد الله عليه السلام ونظر إلى أبي جعفر أسرّ شيئاً فيما بينه وبين نفسه ، لم ندر ما هو ، ثمّ أظهر : «يا من يكفي خلقه كلّه ولا يكفيه أحد ، اكفني» فصار أبو جعفر لا يبصر مولاه ولا مولاه يبصره ، فقال أبو جعفر : يا جعفر بن محمّد ، لقد عنَّيتك (٢) في هذا الحرّ ، فانصرف . وخرج أبو عبد الله عليه السلام من عنده ، فقال لمولاه : ما منعك أن تفعل ما أمرتك به ؟! فقال : لا والله ، ما أبصرته ، ولقد جاء شيء فحال بيني وبينه . فقال له أبو جعفر : والله لئن حدّثت بهذا الحديث (٣) أحداً لأقتلك .

٣٥٨ / ٨ ـ عن أبي الصامت ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أعطني شيئاً أزداد به يقيناً ، وأنفي به الشك عن قلبي . فقال

___________________

(١) في ش ، ص : هذا البيت .

٧ ـ بصائر الدرجات : ٥١٤ / ١ .

(٢) من العناء وهو النصب «لسان العرب ـ عنا ـ ١٥ : ١٠٦» .

(٣) في ر ، ك ، م : الأمر .

٨ ـ الخرائج والجرائح ١ : ٣٠٦ ، باختلاف فيه ، مدينة المعاجز : ٤١٦ ، عن كتابنا هذا .

٤٢٢

لي : «هات ما معك» وكان في كمي مفتاح ، فناولته ، فإذا المفتاح أسد ، ففزعت منه ، ثمّ قال : «نح وجهك عنّي» ففعلت ، فعاد مفتاحاً .

٣٥٩ / ٩ ـ عن داود الرقي ، قال : دخل كثير النواء على أبي عبد الله عليه السلام ، وكان كبيراً ، فسلّم ، فأجابه وخرج ، فلمّا خرج قال عليه السلام : «أما والله ، لئن كان أبو إسماعيل يقول ذلك لهو أعلم بذلك من غيره» .

وكان معنا رجل من أهل خراسان من بلخ يكنى بأبي عبد الله فتغيّر وجهه ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : «لعلك ورعت ممّا سمعت» . قال : قد كان ذلك .

قال أبو عبد الله عليه السلام : «فهلا كان هذا الورع ليلة نهر بلخ» فقال : جعلت فداك ، وما كان بنهر بلخ ؟! قال : «حيث دفع إليك فلان جاريته لتبيعها ، فلمّا عبرت النهر افترعتها في أصل الشجرة» . فقال : لقد كان ذلك جعلت فداك ، ولقد أتى لذلك أربعون سنة ، ولقد تبت إلى الله من ذلك . قال رجل : لقد تاب الله عليك .

ثمّ إنّ أبا عبد الله عليه السلام أمر معتباً غلامه أن يسرج حماره فركب وخرجنا معه حتّىٰ برزنا إلى الصحراء فاختال الحمار في مشيته ـ في حديث له طويل ـ فدنا منه أبو عبد الله فمضينا حتّى انتهينا إلى جب بعيد القعر ، وليس فيه ماء فقال البلخي : اسقنا من هذا الجب ، فإنّ هذا جب بعيد القعر ، وليس فيه ماء . فدنا منه أبو عبد الله فقال : «أيّها الجب السامع المطيع لربه ، اسقنا ممّا جعل الله فيك» .

قال : فوالله لقد رأينا الماء يغلي غلياناً حتّى ارتفع على وجه

___________________

٩ ـ الخرائج والجرائح ١ : ٢٩٧ ، مدينة المعاجز : ٤٠٧ / ١٨٦ ، اثبات الهداة ٣ : ١١٤ ، بلفظ آخر .

٤٢٣

الأرض ، فشرب وشربنا .

فقال المفضّل وداود الرقي : جعلنا فداك ، وما هذا ، إنّما هذا يشبه فيكم كشبه موسى بن عمران . فقال : «رحمكم الله» .

ثمّ مضينا حتّى انتهينا إلى نخلة يابسة لا سعف لها ، فقال البلخي : يا أبا عبد الله ، أطعمنا من هذه النخلة . فدنا عليه السلام من النخلة فقال : «أيّتها النخلة اللينة ، السامعة لربّها ، المطيعة ، أطعمينا ممّا جعل الله فيك» قال المفضّل : فنثرت علينا رطباً كثيراً ، وأكل وأكلنا معه .

وقال المفضّل وداود الرقي : جعلنا الله فداك ، ما هذا إنما هو أشبه فيكم كشبه مريم . فقال لهم : «رحمكم الله» .

ثمّ مضى ومضينا معه حتّى انتهينا إلى ظبي ، فوقف الظبي قريباً منه ، تنغم وتحرك ذنبه ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : «أفعل إن شاء الله تعالى» .

قال : ثمّ أقبل وقال : «هل علمتم ما قال الظبي ؟!» فقلنا : الله ورسوله وابن رسول الله (ص) أعلم .

قال : «إنّه أتاني فأخبرني أنّ بعض أهل المدينة نصب لأنثاه الشرك فأخذها ، ولها خشفان لم ينهضا ولم يقويا للرعي ، فسألني أن أسألهم أن يخلو عنها ، وضمن أنّها إذا أرضعت خشفيها حتّى يقويا أن ترد عليهم ، فاستحلفته ، فقال : برئت من ولايتكم أهل البيت إن لم أوفِّ ، وأنا فاعل ذلك إن شاء الله» .

فقال المفضّل وداود الرقي : يشبه فيكم ذلك كشبه سليمان بن داود . فقال لهم : «رحمكم الله» .

وانصرف وانصرفنا معه ، فلمّا انتهى إلى باب داره تلا هذه الآية :

٤٢٤

«( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ ) (١) نحن والله الناس الذين ذكرهم الله في هذا المكان ، ونحن المحسودون» .

ثمّ أقبل علينا فقال : «رحمكم الله اكتموا علينا ولا تذيعوا إلّا عند أهله ، فإنّ المذيع علينا أشدّ مؤنة من عدونا ، انصرفوا رحمكم الله» .

٣٦٠ / ١٠ ـ عن سدير الصيرفي ، قال : مرّ أبو عبد الله عليه السلام على حمار له يريد المدينة ، فمرّ بقطيع من الغنم ، فتخلفت شاة من القطيع واتبعت حماره ، فتعبت الشاة ، فحبس عليه السلام الحمار عليها حتّى دنت منه الشاة ، فأومى برأسه نحوها ، فقالت له : يا ابن رسول الله ، أنصفني من راعيي هذا . قال : «ويحك ، ما بالك تريدين الإِنصاف من راعيك ؟!» قالت : يا ابن رسول الله ، يفجر بي . فوقف عليها حتّى دنا منه الراعي ، ثمّ قال له : «ويلك تفجر بها !!» .

قال : فالتفت الراعي إليه يقول : أمِنَ الشياطين أنت ، أو من الجن ، أو من الملائكة ، أو من النبيّين ، أو من المرسلين ؟ فقال : «ويلك (٢) ، ما أنا بشيطان ، ولا جنّي ، ولا ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل ، ولكني ابن رسول الله (ص) وإن تبت استغفرت لك ، وإن أبيت دعوت الله عليك بالسخط واللعنة في ساعتك هذه» . فقال : يا ابن رسول الله ، إنّي تائب عمّا كنت فيه ، فاستغفر الله لي . فقال للشاة : «أيّتها الشاة ، ارجعي إلى قطيعك ومرعاك ، فإنّه قد ضمن أن لا يعود إلى ما كان فيه إن شاء الله» فمرّت الشاة وهي تقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله ، وأنّك حجّة الله على خلقه ، ولعن الله من ظلمكم وجحد ولايتكم .

___________________

(١) سورة النساء الآية : ٥٤ .

١٠ ـ وعنه في مدينة المعاجز : ٤١٦

(٢) في ر ، ك : ويحك .

٤٢٥

٣٦١ / ١١ ـ عن أبي سلمة السرَّاج (ويونس بن ظبيان وحسين بن ثوير (١) قالوا : كنا عند أبي عبد الله عليه السلام فقال لنا : «عندنا خزائن الأرض ومفاتيحها ، ولو شاء أن أقول (٢) بإحدى رجليَّ : أخرجي ما فيك ، لأخرجت» .

وقال بإحدى رجليه ، فإذا نحن بالأرض قد انفرجت ، فنظرنا إلى سبائك من ذهب كثيرة ، بعضها على بعض ، فقال لنا أبو عبد الله عليه السلام : «خذوها بأيديكم وانظروا» [ قلنا ] : قد أعطيتم ما أعطيتم وشيعتكم وعامّتكم فقراء ؟!» .

فقال : «سيجمع الله لهم الدنيا والآخرة ، ويدخلهم جنّات النعيم ، ويدخل عدونا الجحيم» .

٣٦٢ / ١٢ ـ عن داود الرقيّ ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه السلام ، فقلت له : جعلت فداك ، كم عدد الطهارة ؟ فقال : «ما أوجب الله تعالى فواحدة ، وأضاف إليها رسول الله (ص) واحدة ، ومن توضَّأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له» .

فبينا أنا معه في ذلك المكان إذ جاء داود بن زربي فأخذ زاوية [ من البيت ] فسأله عمّا سألت في عدد الطهارة ، فقال له : «ثلاثاً ثلاثاً ، من نقّص عنهن فلا صلاة له» فارتعدت فرائصي ، وكاد أن يدخلني الشيطان ـ أعوذ بالله منه ـ فأبصر أبو عبد الله عليه السلام إليَّ وقد تغيّر لوني ، فقال لي : «اسكن يا داود ، هذا هو الكفر وضرب الأعناق» .

___________________

١١ ـ بصائر الدرجات : ٣٩٤ ، الكافي ١ : ٤٧٤ ، الاختصاص : ٢٦٩ ، دلائل الامامة : ١٤٥ ، عيون المعجزات : ٨٦ .

(١) في الأصل : زيد بن ظبيان وحسين بن زيد ، وما أثبتناه هو الصحيح ، راجع «معجم رجال الحديث ٥ : ٢٠٦ و ٢٠ : ١٩٢» .

(٢) في ر : لو أشرنا بإحدى .

١٢ ـ رجال الكشي ٢ : ٣١٢ / ٥٦٤ ، مدينة المعاجز : ٤١٦ ، عن كتابنا هذا .

٤٢٦

قال : فخرجنا من عنده ، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور ، وكان ألقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي ، وأنّه رافضيُّ يختلف إلى جعفر بن محمّد فقال أبو جعفر : إنّي أطّلع على طهارته ، فإن هو توضَّأ وضوء جعفر بن محمّد فإني لأعرف طهارته ، وحققت عليه القول فاقتله .

فاطَّلع وداود يتهيَّأ للصلاة من حيث لا يراه ، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثاً ثلاثاً كما أمره أبو عبد الله عليه السلام ، فما أتمّ وضوءه حتّى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه .

قال داود : فلمّا دخلت عليه رحّب بي فقال : يا داود قيل فيك شيء باطل ، وما أنت كذلك حتّى اطَّلعت على طهارتك ، ليست طهارتك طهارة الرفضة . فجعلني في حِلّ وأمر لي بمائة ألف درهم (١) .

قال داود الرقّي : فالتقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبد الله عليه السلام فقال له داود بن زربي : جعلني الله فداك ، حقنت دماءنا في دار الدنيا ، ونرجو أن ندخل بحبّك (٢) الجنّة .

فقال أبو عبد الله عليه السلام : «فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين» .

ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام : «يا داود بن زربي ، حدَّث داود الرقيّ بما مرّ عليك ، حتّى يسكن روعه» فحدَّثني بالأمر كلّه ، ثمّ قال : «يا داود بن زربي ، توضَّأ مثنى مثنى ، لا تزدن عليه ، فإنك إن زدت عليه فلا صلاة لك» .

___________________

(١) في ر : بألف درهم .

(٢) في ك ، م : بهمتك .

٤٢٧
٤٢٨

الباب العاشر

في ذكر معجزات الامام موسى بن جعفر عليهما السلام

وفيه ستة فصول

٤٢٩

٤٣٠

١ ـ فصل :

في ظهور آياته في إحياء الموتى

وفيه : حديثان

٣٦٣ / ١ ـ عن المغيرة بن عبد الله ، قال : مر العبد الصالح عليه السلام بامرأة بمنى ، وهي تبكي ، وصبيانها حولها يبكون ، فدنا منها وقال عليه السلام لها : «ما يبكيك يا أمة الله ؟» فقالت : يا عبد الله ، إنّ لي صبياناً يتامى ، وكانت لي بقرة كانت معيشتي ومعيشة صبياني منها ، وقد ماتت ، وبقيت منقطعة بي وبولدي ، ولا حيلة لنا .

فقال لها : «يا أمة الله ، هل لك أن أحييها لك ؟» فألهمت أن قالت : نعم يا عبد الله .

فتنحّى عليه السلام وصلّى ركعتين ، ثمّ رفع يديه وقلب يمينه وحرّك شفتيه ، ثمّ قام فمرَّ بالبقرة فنخسها (١) نخساً أو ضربها برجله ، فاستوت البقرة على الأرض قائمة ، فلمّا نظرت المرأة إلى البقرة قد قامت فقالت : وصاحت عيسى بن مريم وربّ الكعبة . فخالط موسى بن جعفر عليه السلام الناس ومضى .

___________________

١ ـ بصائر الدرجات : ٢٩٢ / ٢ ، الكافي ١ : ٤٨٤ / ٦ ، الخرائج والجرائح ١ : ٢٩٤ ، مناقب ابن شهراشوب ٤ : ٣٠٩ ، كشف الغمة ٢ : ٤١١ ، مدينة المعاجز : ٤٤١ .

(١) نخس الدابة : غرز جنبها أو مؤخرها بعود ونحوه فهاجت ، انظر «لسان العرب ـ نخس ـ ٦ : ٢٢٨» .

٤٣١

٣٦٤ / ٢ ـ عن علي بن يقطين ، قال : استدعى الرَّشيد رجلاً يُبطل به أمر موسى بن جعفر عليهما السلام ويقطعه (١) ويخجله في المجلس ، فانتُدِبَ له رجل معْزَم (٢) فلمّا حضرت المائدة عمل ناموساً على الخبز ، فكان كلّما رام أبو الحسن عليه السلام تناول رغيفاً من الخبز طار من بين يديه ، واستفز (٣) هارون الفرح والضحك لذلك ، فلم يلبث أبو الحسن عليه السلام أن رفع رأسه إلى أسد مصوّر على بعض الستور ، فقال له : «يا أسد الله ، خذ (٤) خذ عدوّ الله» .

قال : فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع ، فافترس ذلك المعزم ، فخرّ هارون الرشيد وندماؤه على وجوههم مغشياً عليهم ، وطارت عقولهم خوفاً من هول ما رأوه ، فلمّا أفاقوا ، قال هارون لأبي الحسن عليه السلام : أسألك بحقّي عليك لمّا سألت الصورة أن تردّ الرجل . قال عليه السلام : «إن كانت عصا موسى ردَّت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيّهم ، فإنّ هذه (٥) الصورة تردّ ما ابتلعته من هذا الرجل» (٦) .

___________________

٢ ـ عيون اخبار الرضا عليه السلام ١ : ٩٥ / ١ ، أمالي الصدوق : ١٢٧ / ١٩ ، مناقب ابن شهراشوب ٤ : ٢٩٩ ، روضة الواعظين : ٢٥٧ ، مدينة المعاجز : ٤٤٦ ، اثبات الهداة ٣ : ١٨١ / ٣١ .

(١) يقطعه : بمعنىٰ يسكته عن حجته ويبطلها ، انظر «لسان العرب ـ قطع ـ ٨ : ٢٧٩» .

(٢) معزم : الرجل الذي عنده العزيمة والرقي ، انظر «لسان العرب ـ عزم ـ ١٢ : ٤٠٠» .

(٣) استفزه الضحك : استخفه وغلب عليه حتىٰ جعله يضطرب لشدة ضحكه ، انظر «لسان العرب ـ قزز ـ ٥ : ٣٩١» .

(٤) في م : كُلْ .

(٥) في ر : فهذه ، بدل (فإن هذه) .

(٦) زاد في ر : وكان ذلك أعمل الأشياء في إفاقة نفسه عليه الصلاة والسلام .

٤٣٢

٢ ـ فصل :

في بيان ظهور آياته ومعجزاته من كلامه في المهد

وفيه : حديث واحد

٣٦٥ / ١ ـ عن يعقوب السرّاج ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه السلام ، وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى عليه السلام وهو في المهد ، فجعل يسارُّه طويلاً ، فجلست حتّى فرغ فقمت إليه فقال لي : «أدن من مولاك فسلّم عليه» . فدنوت وسلّمت عليه ، فردّ عليّ بلسان فصيح ، فقال : «اذهب فغير اسم ابنتك التي سمّيتها أمس ، فإنّه اسم يبغضه الله عزّ وجل» . وقد كانت ولدت لي بنت فسمّيتها باسم فقال أبو عبد الله عليه السلام : «انته إلى أمره ترشد» .

___________________

١ ـ الكافي ١ : ٣١٠ / ١١ ، مناقب ابن شهراشوب ٤ : ٢٨٧ ، إعلام الورىٰ : ٢٩٩ ، مدينة المعاجز : ٤٣١ ، عن كتابنا هذا .

٤٣٣

٣ ـ فصل :

في بيان ظهور آياته من الإِخبار عن آجال الناس

وفيه : ستة أحاديث

٣٦٦ / ١ ـ عن إسحاق بن عمّار ، قال : كنت عند أبي الحسن الأول عليه السلام فدخل عليه رجل فقال له أبو الحسن عليه السلام : «يا فلان ، إنّك تموت إلى شهر ، فأضمرت في نفسي كأنّه يعرف آجال الشيعة !» فقال : «يا إسحاق ، ما تنكرون من ذلك ؟ قد كان رشيد الهجري مستضعفاً ، وكان يعرف علم المنايا ، فالإِمام أولى بذلك منه» .

ثمّ قال : «يا إسحاق ، إنّك تموت إلى سنتين ، ويفتقر أهلك وأهل بيتك ، وتفلسون إفلاساً شديداً» وكان كما قال .

وفي ذلك ثلاث آيات .

٣٦٧ / ٢ ـ عن خالد بن نجيح ، قال : قال لي أبو الحسن عليه السلام : «أفرغ فيما بينك وبين الناس في سنة أربع وسبعين ومائة حتّى يجيئك كتابي ، فاخرج وانظر ما عندك وابعث إليَّ ، ولا تقبل من أحدٍ شيئاً» . وخرج إلى المدينة ، وبقي خالد بمكّة فبقي خالد بعد المدة

___________________

١ ـ بصائر الدرجات : ٧٣ / ٦ ، الكافي ١ : ٤٨٤ ، دلائل الإِمامة : ١٦٠ ، مناقب ابن شهراشوب ٤ : ٢٨٧ ، إعلام الورى : ٢٩٥ .

٢ ـ بصائر الدرجات : ٢٨٤ / ١٠ ، ٧٣ / ٦ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٧١٥ / ١٤ ، مدينة المعاجز : ٤٦٦ .

٤٣٤

خمسة عشر يوماً ثمّ مات .

٣٦٨ / ٣ ـ وعنه ، قال : قلت لأبي الحسن عليه السلام : إنّ أصحابنا قدموا من الكوفة فذكروا أنّ المفضل شديد (١) الوجع ، فادع الله له . فقال : «قد استراح» وكان هذا الكلام بعد موته بثلاثة أيّام .

٣٦٩ / ٤ ـ وعنه ، قال : كنت بمكّة معه عليه السلام ، فدخلت عليه ، فقال : «من ها هنا من أصحابكم ؟» فعددت عليه ثمانية أنفس ، فأمر بخروج أربعة ، وسكت عن أربعة ، فما كان إلّا يومه من الغد حتّى مات أربعة ، وخرج الأربعة فسلموا .

٣٧٠ / ٥ ـ عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : استقرض أبو الحسن عليه السلام من شهاب بن عبد ربه مالاً ، وكتب كتاباً ووضعه على يدي ، وقال : إن حدث بي حدث فخرّقه .

قال عبد الرحمن : فخرجت إلى مكّة فلقيني أبو الحسن عليه السلام وأنا بمنى ، فقال لي : «يا عبد الرحمن ، خرّق الكتاب» ففعلت ، وقدمت الكوفة وسألت عن شهاب ، فإذا هو قد مات في الوقت الذي أومأ إليّ في خرق الكتاب .

وفي ذلك آيتان .

٣٧١ / ٦ ـ عن الحسن بن علي الوشّاء ، عن هشام ، قال : أردت

___________________

٣ ـ بصائر الدرجات : ٢٨٤ / ١٠ ، اختيار معرفة الرجال : ٣٢٩ / ٥٩٧ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٧١٥ / ١٣ ، مدينة المعاجز : ٤٦٦ / ١١٦ .

(١) في النسخ : براه . وما أثبتناه من المصادر .

٤ ـ بصائر الدرجات : ٢٨٤ / ١١ .

٥ ـ بصائر الدرجات : ٧٢ / ٦ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٧١٤ / ١٢ ذكره مفصلاً ، مدينة المعاجز : ٤٦٦ ، عن كتابنا هذا .

٦ ـ بصائر الدرجات : ٧٢ / ٦ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٧١٦ / ١٦ ، كشف الغمة ٢ : ٢٤٣ ، مدينة المعاجز : ٤٦٦ ، عن كتابنا هذا .

٤٣٥

شراء جارية بمنى ، فكتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أستشيره في ذلك ، فأمسك ولم يخبر .

قال : فانني من الغد عند مولى الجارية إذ مرَّ بي ، وهي جالسة عند جوار تتحدّث مع جارية ، فنظر إليها ، ثمّ رجع إلى منزله وقال لي : «لا بأس ، إن لم يكن في عمرها قلّة» فأمسكت عن شرائها ، فلم أخرج من مكّة حتّى ماتت .

٤٣٦

٤ ـ فصل :

في بيان ظهور آياته في إخباره عن حديث النفس

وفيه : خمسة أحاديث

٣٧٢ / ١ ـ عن خالد بن نجيح ، قال : دخلت على أبي الحسن الأول عليه السلام وهو في عرصة داره ، وهو يومئذ بالرميلة (١) ، فلمّا نظرت إليه قلت في نفسي : بأبي وأمّي مظلوم مغصوب مضطهد ، ثمّ دنوت فقبّلت ما بين عينيه ، ثمّ جلست بين يديه ، فالتفت إليّ وقال : «يا خالد ، نحن أعلم بهذا الأمر ، فلا تضمر هذا في نفسك» فقلت : والله ما أردت بهذا شيئاً .

فقال : «نحن أعلم بهذا الأمر من غيرنا ، لو أردنا لزف إلينا ، وإن لهؤلاء القوم مدة وغاية لا بدَّ من الانتهاء إليها» .

فقلت : لا أعود أضمر في نفسي شيئاً بعد هذا . فقال : «لا تعد أبداً» .

٣٧٣ / ٢ ـ عن هشام بن سالم ، قال : لمّا قبض أبو عبد الله عليه

___________________

١ ـ بصائر الدرجات : ١٤٦ / ٧ ، دلائل الإِمامة : ١٥٩ .

(١) الرميلة : منزل في طريق البصرة إلى مكة «معجم البلدان ٣ : ٧٣» .

٢ ـ بصائر الدرجات : ٢٧٠ / ١ ، نحوه ، اختيار معرفة الرجال : ٢٨٢ / ٥٠٢ ، مثله ، دلائل الإِمامة : ١٥٩ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٣٣٢ / ٢٣ ، نحوه ، مناقب ابن

٤٣٧

السلام اختلف أصحابه من بعده ، ومالوا إلى عبد الله بن جعفر ، فتبين لهم منه أنّه ليس بصاحب الأمر بعد أبيه ، فمالوا إلى محمّد بن جعفر فوجدوا فيه مثل ما وجدوا في عبد الله ، فاغتمّوا لذلك غمّاً شديداً ، فدخلنا مسجد رسول الله (ص) وصلّى كلّ واحد منّا ركعتين ، ثمّ رفعنا أيدينا إلى السماء ، باكية أعيننا ، حيرةً منّا في أمرنا ، ونحن نقول : اللهمّ إلى مَن ؟ إلى المرجئة أم إلى الخوارج أم إلى المعتزلة ؟ فجاءنا مولى لأبي عبد الله ، فدعانا إلى أبي الحسن موسى عليه السلام ، فمضينا معه (١) ، فاستأذن لنا عليه ، فأذن لنا ، فدخلنا فلمّا بصر بنا قال من قبل أن نتكلم : «إليّ ، لا إلى الخوارج ، ولا إلى المعتزلة ، ولا إلى المرجئة» فعلمنا أنّه صاحب الأمر .

٣٧٤ / ٣ ـ عن علي بن يقطين ، قال : أردت أن أكتب إلى أبي الحسن الأول عليه السلام : أيتنور الرجل وهو جنب ؟ فكتب إليَّ أشياء ابتداءً منه ، أولها : «النورة تزيد الرجل نظافة ، ولكن لا يجامع الرجل وهو مختضب ، ولا يجامع امرأة مختضبة» .

٣٧٥ / ٤ ـ عن أحمد بن عمر الحلّال : لمّا سمعت الأخرس بمكّة يذكر أبا الحسن عليه السلام اشتريت سكيناً وقلت : والله لأقتلنه إذا خرج من المسجد . فأقمت على ذلك وجلست ، فما شعرت إلّا برقعة

___________________

شهراشوب ٤ : ٢٩٠ ، مضمونه ، كشف الغمة ٢ : ٢٢٢ ، إثبات الهداة ٣ : ١٧٣ ، باختلاف فيه ، مدينة المعاجز : ٤٣٠ .

(١) في ر : إليه .

٣ ـ بصائر الدرجات : ٢٧١ / ٣ ، دلائل الإِمامة : ١٦٠ ، تهذيب التهذيب ١ : ٣٧٧ ، الخرائج والجرائح ١ : ٦٥٢ ، الصراط المستقيم ٢ : ١٩٣ / ٢٤ ، ملحق احقاق الحق ١٢ : ٣٢٢ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٩٩ .

٤ ـ بصائر الدرجات : ٢٧٢ / ٦ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٦٥١ / ٣ ، مناقب ابن شهراشوب ٤ : ٢٨٩ ، اثبات الهداة ٣ : ١٩٩ / ٨٧ ، مدينة المعاجز : ٤٦١ ، عن كتابنا هذا .

٤٣٨

من أبي الحسن عليه السلام قد طلعت فيها : «بحقّي عليك إلّا كففت عن الأخرس ، فإنّ الله معي وهو حسبي» .

٣٧٦ / ٥ ـ عن عثمان بن سعيد ، عن أبي علي بن راشد ، قال : اجتمعت العصابة بنيسابور في أيّام أبي عبد الله عليه السلام فتذاكروا ما هم فيه من الانتظار للفرج ، وقالوا : نحن نحمل في كلّ سنة إلى مولانا ما يجب علينا ، وقد كثرت الكاذبة ، ومَن يدّعي هذا الأمر ، فينبغي لنا أن نختار رجلاً ثقة نبعثه إلى الإِمام ، ليتعرف لنا الأمر .

فاختاروا رجلاً يعرف بأبي جعفر محمّد بن إبراهيم النيسابوري ودفعوا إليه ما وجب عليهم في السنة من مال وثياب ، وكانت الدنانير ثلاثين ألف دينار ، والدراهم خمسين ألف درهم ، والثياب ألفي شقة ، وأثواب مقاربات ومرتفعات .

وجاءت عجوز من عجائز الشيعة الفاضلات اسمها (شطيطة) ومعها درهم صحيح ، فيه درهم ودانقان ، وشقّه من غزلها ، خام تساوي أربعة دراهم ، وقالت ما يستحق عليَّ في مالي غير هذا ، فادفعه إلى مولاي ، فقال : يا امرأة ، استحي من أبي عبد الله عليه السلام أن أحمل إليه درهماً وشقّة بطانة . فقالت : «ألا (١) تفعل ! إنّ الله لا يستحي من الحق ، هذا الذي يستحق ، فاحمل يا فلان فلئن ألقى الله عز وجل وما له قبلي حقّ قلّ أم كثر ، أحبّ إليَّ من أن ألقاه وفي رقبتي لجعفر بن محمّد حق .»

قال : فعوجت الدرهم ، وطرحته في كيس ، فيه أربعمائة درهم لرجل يعرف بخلف بن موسى اللؤلوئ ، وطرحت الشقة في رزمة فيها ثلاثون ثوباً لأخوين بلخيين يعرفان بابني نوح بن إسماعيل ، وجاءت

___________________

٥ ـ الخرائج والجرائح ١ : ٣٢٨ ، نحوه ، مناقب ابن شهراشوب ٤ : ٢٩١ ، مثل قطعة منه عنه مدينة المعاجز : ٤٦٢ .

(١) في ر : لم لا .

٤٣٩

الشيعة بالجزء الذي فيه المسائل ، وكان سبعين ورقة ، وكلّ مسألة تحتها بياض ، وقد أخذوا كلّ ورقتين فحزموها بحزائم ثلاثة ، وختموا على كلّ حزام بخاتم ، وقالوا : تحمل هذا الجزء (١) معك ، وتمضي إلى الإِمام ، فتدفع الجزءُ إليه ، وتبيّته عنده ليلة ، وعد عليه وخذه منه ، فإن وجدت الخاتم بحاله لم يكسر ولم يتشعب فاكسر منها ختمه وانظر الجواب ، فإن أجاب ولم يكسر الخواتيم فهو الإِمام ، فادفعه إليه وإلّا فرد أموالنا علينا .

قال أبو جعفر : فسرت حتّى وصلت إلى الكوفة ، وبدأت بزيارة أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، ووجدت على باب المسجد شيخاً مسنّاً قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، وقد تشنّج وجهه ، متزراً ببرد ، متشحاً بآخر ، وحوله جماعة يسألونه عن الحلال والحرام ، وهو يفتيهم على مذهب أمير المؤمنين عليه السلام ، فسألت من حضر عنده ، فقالوا : أبو حمزة الثمالي . فسلّمت عليه ، وجلست إليه ، فسألني عن أمري ، فعرّفته الحال ، ففرح بي وجذبني إليه ، وقبّل بين عيني وقال : لو تجدب (٢) الدنيا ما وصل إلى هؤلاء حقوقهم ، وإنّك ستصل بحرمتهم إلى جوارهم .

فسررت بكلامه ، وكان ذلك أول فائدة لقيتها بالعراق ، وجلست معهم أتحدّث إذ فتح عينيه ، ونظر إلى البرية ، وقال : هل ترون ما أرى ؟ فقلنا : وأي شيء رأيت .

قال : أرى شخصاً على ناقة . فنظرنا إلى الموضع فرأينا رجلاً على جمل ، فأقبل ، فأناخ البعير ، وسلّم علينا وجلس ، فسأله الشيخ وقال : من أين أقبلت ؟ قال : من يثرب . قال : ما وراءك ؟ قال : مات جعفر بن محمّد عليهما السلام . فانقطع ظهري نصفين ، وقلت لنفسي :

___________________

(١) في ر : الحزم . وفي هامشها : الحزائم .

(٢) في م : تخرب . وفي ر : نحرت . وفي هامشها : تجرت .

٤٤٠