المرأة في ظلّ الإسلام

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله

المرأة في ظلّ الإسلام

المؤلف:

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٥

فرجعت امتثالاً لأمر الحسين عليه‌السلام.

وهذه هي حال المرأة الصالحة المسلمة ، التي لم تتوقف عن خوض المعارك والدفاع عن الدين والعقيدة ، ولم تعوزها الشجاعة والأقدام لو سمح لها الامام الحسين عليه‌السلام بالجهاد.

٣٤١

عكرشة بنت الاطرش

من ربات الفصاحة والبلاغة والبيان وقوة الحجة وحرية الرأي ، دخلت على معاوية فسلمت فقال لها :

يا عكرشة الآن صرت امير المؤمنين ؟ ... قالت : نعم اذ لا علي حي ... قال الست صاحبة الكور المسدول والوسيط المشدود ، والمتقلدة بحمائل السيف ، وانت واقفة بين الصفين يوم ( صفين ) تقولين :

يا ايها الناس عليكم بأنفاسكم لا يضركم من ضل اذ اهتديتم ، ان الجنة دار لا يرحل عنها من قطنها ، ولا يحزن من سكنها فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ولا تنصرم همومها. كونوا قوماً متبصرين. ان معاوية دلف اليكم بعجم العرب غلف القلوب لا يفقهون الايمان ، ولا يدرون ما الحكمة ، دعاهم بالدنيا فاجابوه واستدعاهم الى الباطل فلبوه.

فالله الله عباد الله في دين الله ، وإياكم والتواكل فان في ذلك نقض عروة الاسلام ، واطفاء نور الإيمان ، وذهاب السنة ... واظهار الباطل ، هذه بدر الصغرى والعقبة الأخرى.

قاتلوا يا معشر الانصار والمهاجرين على بصيرة من دينكم واصبروا على عزيمتكم ، فكأني بكم غداً وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة والبغال الشحاجة تضفع ضغع البقر ، وتروث روث العتاق ... الخ.

٣٤٢

دارمية الحجونية

لا يخفى ان قوة العقيدة ، وعزة النفس ، يسجلان للانسان اسمى الفضائل ، ويجعلان منه مثلاً ساميا وقدوة صالحة ، فلا تزيده مر الليالي والأيام الا رفعة واعظاماً.

لقد سجل التاريخ على صفحاته موقف درامية الحجونية ، فسجل الصراع بين الحق والباطل وبين قوة السلاح وقوة العقيدة.

حج معاوية بن ابي سفيان ، فسأل عن امرأة من بني كنانة ، كانت تنزل بالحجون ، يقال لها درامية الحجونية ، وكانت سوداء كثيرة اللحم فأخبر بسلامتها ، فبعث اليها فجيء بها.

فقال : ما حالك يا بنة حام ؟ فقالت : لست لحام ان عبتني ، انا امرأة من كنانة. قال صدقت ، اتدرين لم بعثت اليك.

قالت لا يعلم الغيب الا الله. قال : بعثت اليك لأسألك علام احببت علياً وابغضتني وواليته وعاديتني ؟

قالت : او تعفيني يا امير. قال : لا اعفيك. قالت : اما اذا أبيت فاني احببت علياً على عدله في الرعية ، وقسمه بالسوية وابغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر ، وطلبتك ما ليس لك بحق ، وواليت علياً على ما عقد له

٣٤٣

رسول الله (ص) من الولاء وحبه للمساكين واعظامه لأهل الدين.

وعاديتك على سفك الدماء ، وجورك في القضاء ، وحكمك بالهوى.

قال : فلذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك ، وربت عجيزتك.

قالت : يا هذا بهند والله كان يضرب المثل في ذلك ـ لا ـ بي.

قال معاوية : يا هذه اربعي ، فانا لم نقل الا خيرا ، انه اذا انتفخ بطن المرأة ثم خلق ولدها ، واذا عظم ثدياها تروي رضيعها ، واذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها ، فرجعت وسكنت.

قال لها : يا هذه هل رأيت علياً ؟ قالت : أي والله.

قال : فكيف رأيته ! قالت : رأيته والله لم يغتنه الملك الذي فتنك ، ولم تشغله النعمة التي شغلتك ، قال : فهل سمعت كلامه ؟

قالت : نعم : والله كان يجلو القلب من العمى ، كما يجلو الزيت صدأ الطست. قال : صدقت. فهل لك من حاجة ؟

قالت : او تفعل اذا سألتك ؟ قال : نعم. قالت : تعطيني مائة ناقة حمراء ، فيها فحلها وراعيها. قال : تصنعين بها ماذا ؟

قالت : اغذوا بالبانها الصغار ، واستحيي بها الكبار واكتسب بها المكارم ، واصلح بها بين العشائر ، قال : فان اعطيتك ذلك ، فهل احل محل علي بن ابي طالب ؟

قالت : ماء لا كصداء ، ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا

٣٤٤

كمالك (١).

ثم قال : أما والله لو كان علي حياً ، ما اعطاك منها شيئاً.

قالت : لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (٢).

__________________

(١) صداء : عين لم يكن عندهم ماء اعذب من مائها ـ والسعدان ، نبت ذو شوك ، وهو افضل مراعي الابل ولا تحسن على نبت حسنها عليه ـ ومالك : هو ابن نويرة ، وقد قال اخوه متمم هذا فيه لما قتله خالد بن الوليد.

(٢) العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي.

٣٤٥

ام البراء بنت صفوان بن هلال

ما اعظم الاسلام ، وما أجل قدره ، لقد بعث في قلوب المسلمين الجرأة والاقدام ، والتفاني في سبيل الله وعدم الاكتراث بأي تهديد او وعيد ، حتى لترى المرأة المسلمة الصالحة ليثا هصورا ، اتخذت من الايمان والعقيدة سلاحاً ماضياً ينحط عنده كل سلاح.

« وأم البراء ، شاعرة ذات لسان فصيح ، ومنطق مبين ، وهي ممن دخلن على معاوية بن ابي سفيان ، فأستأذنت عليه فاذن لها ، فدخلت في ثلاثة دروع ، تسحبها ، قد كارت على رأسها كوراً ، كهئية المنسف فسلمت ثم جلست. فقال : كيف حالك يا بنت صفوان ؟

قالت : بخير يا امير ، ضعفت بعد جلد ، وكسلت بعد نشاط.

قال : سيان بينك اليوم وحين تقولين :

يا عمرو دونك صارماً ذا رونق

عضب المهزة ليس بالخوار

اسرج جوادك مسرعاً ومشمراً

للحرب غير معرد لفرار

اجب الامام ودب تحت لوائه

وافر العدو بصارم بتار

يا ليتني اصبحت ليس بعورة

فاذب عنه عساكر الفجار

قالت : قد كان ذلك يا امير ، ومثلك عفا والله تعالى يقول عفا الله عما سلف.

٣٤٦

قال : هيهات اما انه لو عاد لعدت ، ولكن اخترم دونك ، فكيف قولك حين قتل ؟ قالت ، نسيته يا امير. فقال بعض جلسائه هو والله حين تقول :

يا للرجال لعظم هول مصيبة

فدحت فليس مصابها بالهازل

الشمس كاسف لفقد امامنا

خير الخلائق والامام العادل

يا خير من ركب المطي ومن مشى

فوق التراب لمحتف او ناعل

حاشا النبي لقد هددت قواءنا

فالحق اصبح خاضعاً للباطل

فقال معاوية : قاتلك الله يا بنت صفوان ، ما تركت لقائل مقالاً ، اذكري حاجتك.

قالت : هيهات بعد هذا والله لا سألتك شيئاً ثم قامت فعثرت ، فقالت : تعس شأنيء علي (١) ...

رحمك الله يا ام البراء ، هيهات ان تباع الضمائر الحرة ... ويسيطر القوي الغاشم على الاحرار الاوفياء اصحاب العقيدة والإيمان.

لا تخضعن لمخلوق على طمع

فان ذلك وهن منك في الدين

واسترزق الله مما في خزائنه

فانما الأمر بين الكاف والنون (٢)

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ـ اعلام النساء عمر رضا كحالة وغيرهما.

(٢) هذان البيتان من الديوان منسوب للامام علي عليه‌السلام.

٣٤٧

آمنة بنت الشريد

هي زوجة عمرو بن الحمق الخزاعي ، امرأة شجاعة ذات عقل ودين عزيزة الجانب فصيحة اللسان عظيمة الشأن ، ومن ذوات الشرف والمروءة.

لقد جاهدت عن عقيدتها ورأيها ما استطاعت ، ولا فرق بالجهاد بين اللسان والسنان.

قتل معاوية بن ابي سفيان زوجها عمرو بن الحمق ، لأنه كان من أصحاب علي بن ابي طالب عليه‌السلام وذلك حينما ظفر به بواسطة واليه عبد الرحمن بن الحكم. ولما قتله بعث براسه الى معاوية ( وهو اول راس حمل في الاسلام ). وكان معاوية قد أخذ بالتنكيل من اصحاب علي عليه‌السلام : امثال : ( حجر بن عدي الكندي وأصحابه (رض) ).

« فلما اتى معاوية الرسول بالرأس ، بعث به الى آمنة بالسجن وقال للحرسي : احفظ ما تتكلم به حتى تؤديه الي ، واطرح الرأس في حجرها.

ففعل هذا ، فارتاعت له ساعة. ثم وضعت يدها على رأسها وقالت : واحزنا لصغره في دار هوان ، وضيق من ضيمه سلطان ، نغيتموه عني طويلاً ، واهديتموه الي قتيلاً ، فاهلاً وسهلاً ، بمن كنت له غير قالية ، وانا اليوم له غير ناسية ، ارجع به ايها الرسول الى معاوية وقل له ولا تطوه دونه.

« ايتم الله ولدك ، واوحش منك اهلك ، ولا غفر الله ذنبك » فرجع الرسول الى معاوية فأخبره بما قالت : فارسل اليها ، فاتته وعنده نفر فيهم

٣٤٨

اياس بن حسل اخو مالك بن حسل وكان في شدقيه نتؤعن فيه لعظم كان في لسانه ، وثقل اذا تكلم. فقال لها معاوية :

أأنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغني به ؟

قالت : نعم غير نازعة عنه ولا معتذرة منه ولا منكرة له ، فلعمري اجتهدت في الدعاء ان نفع الاجتهاد ، وان الحق لمن وراء العباد ، وما بلغت شيئاً من جزائك ، وان الله بالنقمة من ورائك.

فاعرض عنها معاوية ، فقال اياس : اقتل هذه يا امير المؤمنين ؟ فوالله ما كان زوجها احق بالقتل منها ، فالتفت اليه ، فلما رأته ناتئ الشدقين ، ثقيل اللسان ، قالت : تباً لك ويلك ، بين لحيتيك كجثمان الضفدع ثم انت تدعوه الى قتلي ، كما قتل زوجي بالأمس ، ان تريد الا ان تكون جباراً في الأرض وما تريد ان تكون من المصلحين ؟

فضحك معاوية ثم قال : لله درك اخرجي ثم لا اسمع بك في شيء من الشام.

قالت : وأبي لاخرجن ، ثم لا تسمع لي في شيء من الشام فما الشام لي بحبيب ولا أعرج فيها على حميم وما هي لي بوطن ، ولا احن فيها إلى سكن ، ولقد عظم فيها ديني ، وما قرت بها عيني ، وما أنا فيها إليك بعائدة ، ولا حيث كنت بحامدة.

فاشار اليها ببنانه اخرجي ... فخرجت وهي تقول : وا عجبي لمعاوية يكف عني لسانه ، ويشير إلى الخروج ببنانه ، أما والله ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد شديد أوجع من نوافذ الحديد أو ما أنا بابنة الشريد من

٣٤٩

كلام طويل (١).

خرجت آمنة بنت الشريد من الشام ، بعد ما لاقت من الذل والهوان ما يعجز عنه البيان ، في زنزانة معاوية بن أبي سفيان وجلاوزته ، وذلك طيلة عامين كاملين ، وليس لها من ذنب إلا العقيدة الراسخة والإيمان القوي وحرية الرأي الذي بعثه فيها الدين الإسلامي العظيم.

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ـ اعلام النساء عمر رضا كحالة.

٣٥٠

عمرة بنت النعمان الانصارية

ان التاريخ يحدثنا عن مسلمات صالحات ، كمن مرَّ ذكرهن ، اذ أن المرأة المسلمة العربية المؤمنة ، الصادقة بعقيدتها قد قامت بدور عظيم في مجال التوجيه الاجتماعي والديني والأخلاقي والسياسي.

ان حادثة عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصارية من أروع الحوادث التي تدلنا على تمسك المرأة المؤمنة بالعقيدة والوقوف بجانب الحق مما جعلها تسير في صف أعاظم الرجال.

كانت عمرة بنت النعمان زوجة المختار الثقفي (١) الذي قتله مصعب بن الزبير بعد انتصاره عليه في الحرب التي دارت بينهما.

وبعد مقتل المختار أرسل مصعب وأحضر عمرة بنت النعمان زوجة المختار وطلب منها أن تتبرأ من زوجها أمام الناس وتطعن في دينه.

__________________

(١) المختار الثقفي هو الذي قام بأخذ ثأر الحسين عليه‌السلام. ممن قتله ، او أشرك بدمه وكان شعاره : يا لثارات الحسين : ولما قتل المختار عبيد الله بن زياد واتباعه لعنهم الله ... استتب الامر للمختار. وبعث عبد الله بن الزبير اخاه مصعباً الى العراق واليا. فدارت بين المختار وبين مصعب معارك كثيرة كانت الغلبة فيها لمصعب على المختار فقتله وقتل زوجته عمرة. فرحم الله المختار وزوجته شهداء العقيدة والمبدأ.

٣٥١

ولكن عمرة وقفت مواقف الاشراف الأباة ، وهيهات أن تذل الحرة ، وتبيع عقيدتها ، أمر مصعب بقتلها لعلها تنهار أمام التهديد والخوف. واستعمل جميع وسائل الإغراء من بذل المال وأطماعها بالجاه ، وغير ذلك.

لكنه وقف أمام عقيدتها الراسخة ووفائها وصمودها الجبار عاجزاً مقهوراً. فباء بالفشل والخيبة ، ولم تنفعه الحيل.

بعد ذلك أمر أن توضع ( عمرة بنت النعمان ) في حفرة وأمر السياف أن يقف على رأسها ووقف مصعب بجانبها يتوعدها تارة ويتهددها اخرى.

لكن عمرة لم تكترث بالموت ، ولم تبالي بما يحيط بها من دواعي الشر بل انطلقت تقول بصوت ملؤه الإيمان بالله ، تصرخ في وجوه الظالمين : كيف اتبرأ من رجل يقول ربي الله !؟ اني اعهده صائماً نهاره ، قائماً ليله ، وقد بذل دمه في سبيل الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « شهادة أرزقها ثم اتركها ! الله اشهد اني متبعة لنبيك وابن بنته ... وأهل بيته ... وشيعته.

وحينما ابت عمرة الانصياع لمصعب وراعه صمودها أمام السياف فضربها ثلاث ضربات على رأسها حتى ماتت ، وهي باقية على عقيدتها.

وفي مقتل عمرة بنت النعمان الانصارية ، قال عمر بن ابي ربيعة :

ان من أعجب الاعاجيب عندي

قتل بيضاء حرة عطبول

قتلوها ظلماً ومن غير جرم

ان لله درها من قتيل

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جر الذيول (١)

__________________

(١) حادثة عمرة بنت النعمان الانصارية. ذكرت بعدة اوجه :

ذكرها الطبري في تاريخه ، وابن عبد ربه الاندلسي في العقد الفريد ـ والسيد علي فضل الله الحسني في الاخلاق الاسلامية وغيرهم.

٣٥٢

ولا ننسى ان نذكر ( اروى بنت عبد المطلب ) تلك المرأة الجليلة صاحبة المراثي من الشعر الجيد.

وكذلك أم هاني بنت ابي طالب التي اجارت من استجار بها يوم فتح مكة فقال لها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لقد اجرنا من اجرت وامنا من امنت ).

وعندما مات زوجها هبيرة المخزومي خطبها رسول الله (ص) فقالت له : يا رسول الله لأنت أحب إلي من سمعي وبصري ، وحق الزوج عظيم ، فاخشى ان اقبلت على زوجي ، ان اضيع بعض شأني وولدي ، وان اقبلت على ولدي ان اضيع حق الزوج ...

فقال رسول الله (ص) : ان خير نساء ركبن الإبل نساء قريش ، احناهن على ولد في صغره ، وارعاهن على بعل في ذات يده.

وكانت رواية من راويات الحديث.

وكذلك اسماء بنت عميس التي اسلمت قبل دخول رسول الله (ص) دار الأرقم بمكة ، وهاجرت مع زوجها عبد الله بن جعفر إلى الحبشة ، وروت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروى عنها الكثير من اجلاء الصحابة كعبد الله بن العباس ، وعمر بن خطاب ، وحفيدها القاسم بن محمد بن ابي بكر وابناها عبد الله وعون ابناء جعفر بن ابي طالب وحفيدتها أم عون بنت محمد بن جعفر وعروة بن الزبير وغيرهم.

وعائشة أم الدرداء التي برعت في الفقه والدراية وهي القائلة « لقد طلبت العبادة في كل شيء فما أصبت لنفسي أشفى من مجالسة العلماء ومذاكرتهم ».

ولو سلكن المسلمات اليوم طريق المسلمات الأول وانتهجن المنهج الصحيح الذي كانت تسيطر عليه المبادئ الاسلامية العظيمة من قوة العزيمة ، وطهارة

٣٥٣

القلوب ، وبراءة النفوس ، وصدق النية والأخلاص في العمل في سبيل العقيدة والشرف ، لأصبحت المرأة المسلمة في عصرنا الحاضر القدوة الصالحة لجميع نساء العالم.

ولكن هيهات ... ان يسجل التاريخ أمثال المسلمات الاوائل ، إلا اذا رجعن نساء اليوم الى حظيرة الدين والايمان.

لأن الدين هو النور الذي يرينا خفايا أسرار الوجود ، والأمل الوضاء الذي ينعش انفسنا ويضيء أمامنا الطريق نحو الحرية والكرامة.

٣٥٤

بعض نوابغ النساء المسلمات

في القرن الثاني والثالث وما بعدهما

أما في العهد العباسي وذلك عندما أصبحت بغداد مقر الأمبراطورية الإسلامية ، وازدهرت دور العلم ، وتوافد اليها العلماء والأدباء.

لقد كان الخليفة العباسي « المأمون » عالماً فيلسوفاً يعقد مجالس العلم ويناظر فيها ، ويبذل الأموال الطائلة في سبيل الترجمة والتأليف.

أما وقد أصبح الناس في ذلك العهد يقدرون الأشخاص بمقدار نصيبهم من العلم والآدب فمن الطبيعي ان تلتمس المرأة طريقها في هذا المضمار ، وتأخذ منه مقداراً يحمل القوم على حبها واحترامها.

منهن السيدة زبيدة زوجة الرشيد ، لم تقتصر على مشاريعها الخيرية التي لا تزال باقية حتى الان ، فإنها كانت على جانب من الأدب.

قالت تخاطب ابنها الأمين في قصيدة طويلة منها :

نفسي فداؤك لا يذهب بك التلف

ففي بقاءك ممن قد مضى خلف

ولها أشعار كثيرة في رثاء ولدها الأمين ، ومدح المأمون والشكاية من طاهر بن الحسين قاتل ولدها.

وكان لبعض النساء في العهد العباسي مساهمة فعالة ، فشاركن في العلوم

٣٥٥

الدينية ، واللسانية ، والأدبية ، وفي التأليف والترجمة.

وتصدر بعضهن للدرس والتدريس ، ومنح بعضهن اجازات من علماء أماثل.

ومن النساء المشتغلات في حقل العلم بنت الشريف المرتضى ، كانت عالمة فاضلة روت كتاب « نهج البلاغة » عن عمها السيد الشريف الرضي رحمة الله عليه. وروى عنها الكثير من العلماء (١).

__________________

(١) اعلام النساء ـ عمر رضا كحالة.

٣٥٦

السيدة نفيسة بنت الحسن

ومن النساء المجاهدات اللواتي يأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن ابي طالب (ع).

عالمة جليلة ، وعابدة ورعة ، وتقية زاهدة ، حفظت القرآن وتفسيره ، وقد حضر اليها الامام الشافعي ، وسمع عليها الحديث.

وكان بشر بن الحارث يعودها لشؤون علمه ، واستجار بها لتقواها الامام احمد بن حنبل في ان تدعو له بالمغفرة ، وقد سألها الامام الشافعي يوماً من وراء حجاب لتدعو له ، وصلت على جنازته يوم وفاته.

ذهبت الى مصر مع زوجها اسحاق بن جعفر الصادق « المؤتمن » وقيل انه لما ظلم احمد بن طولون ، استغاث الناس من ظلمه ، وتوجهوا الى السيدة نفيسة يشكونه اليها. فقالت لهم : متى يركب ؟ قالوا : في غدٍ.

فكتبت رقعة : ووقفت بها في طريقه وقالت : يا احمد بن طولون ... فلما رآها عرفها فترجل عن فرسه ، وأخذ منها الرقعة وقرأها فاذا فيها :

ملكتم فأسرتم ، وقدرتم فقهرتم ، وخولتم فعسفتم ، وردت اليكم الارزاق فقطعتم هذا وقد علمتم ان سهام الاسحار نافذة ، غير مخطئة لا سيما من قلوب اوجعتموها ، واكباد جوعتموها ، واجساد عريتموها فمحال ان يموت المظلوم ويبقى الظالم.

٣٥٧

اعملوا ما شئتم فانا صابرون وجوروا فانا بالله مستجيرون ، واظلموا فانا الى الله متظلمون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

قصة امرأة تطلب الانصاف عند المأمون

« جلس المأمون يوماً للمظالم ، فكان آخر من تقدم إليه ... وقد همَّ بالقيام ، امرأة عليها هيئة السفر ، وعليها ثياب رثة ، فوقفت بين يديه فقالت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

فنظر المأمون الى يحيى بن اكثم ، فقال لها يحيى : وعليك السلام يا أمة الله تكلمي بحاجتك ، قالت :

يا خير منتصف يهدى له الرشد

ويا اماماً به قد اشرق البلد

تشكو اليك عميد القوم ارملة

عدَّ عليها فلم يترك لها سبد (١)

وابتز مني ضياعي بعد منعتها

لما تفرَّق عنها الأهل والولد

فأطرق المأمون حيناً ثم رفع رأسه إليها وهو يقول :

في دون ما قلت زال الصبر والجلد

عني واقرح مني القلب والكبد

هذا اذان صلاة العصر فانصرفي

واحضري الخصم في اليوم الذي أعد

فالمجلس السبت ان يقضى الجلوس

ننصفك منه وإلا المجلس الأحد

__________________

(١) السبد : الشعر ، ويكنى به عن الابل ، كما يكني بالوبر عن الغنم ، فيقال : ما له سبد ولا لبد ، اي ذو وبر ، ولا صوف متلبد ؛ يريد ابلا ، وغنماً.

٣٥٨

فلما كان يوم الأحد جلس ، فكان اول من تقدم اليه تلك المرأة.

فقالت : السلام عليك يا امير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

فقال : عليك السلام ، ثم قال : اين الخصم ؟

فقالت : الواقف على رأسك يا امير المؤمنين ... واومأت الى ابنه العباس ...

فقال : يا احمد بن ابي خالد ، خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم.

فجعل كلامها يعلو كلام العباس. فقال لها احمد بن ابي خالد : يا أمة الله انك بين يدي امير المؤمنين ، وانك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك.

فقال المأمون : دعها يا احمد فان الحق انطقها ، والباطل اخرسه ثم قضى لها برد ضيعتها اليها ( وظلم العباس بظلمه لها ) وأمر بالكتاب لها الى العامل الذي ببلدها ، ان يوغر لها ضيعتها (١) ويحسن معونتها ، وأمر لها بنفقة » (٢).

بوران زوجة المأمون

كانت النساء المسلمات يعقدن مجالس العلم والأدب للمناظرة والمساجلة.

فمن النساء اللواتي برزن في ميدان العلم السيدة بوران زوجة المأمون ( الخليفة العباسي ) كانت فارسية الأصل جمعت بين الكرامة الاسلامية

__________________

(١) يوغر لها ضيعتها ـ اي يسقط عنها خراجها.

(٢) عن كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي ... والاخلاق الاسلامية للسيد علي فضل الله الحسني.

٣٥٩

والكياسة الفارسية.

عرفت بالذكاء والفطنة والفهم والأدب وحسن التصرف ، وأقامت في بغداد المدارس والمستشفيات.

قطر الندى زوجة المعتضد بالله

ومن النساء الشهيرات المعروفات بالذكاء والفطنة والمقدرة قطر الندى زوجة المعتضد بالله العباسي وأم المكتفي ، كانت عالمة فذة ، خبيرة بالشريعة الإسلامية والقضاء.

قامت بالوصاية على ابنها قبل ان يبلغ سن الرشد ، وادارت الأحكام ، وقضت بنفسها بين الناس.

أحاط بها كثيرون ، وكثيرات من الشعراء والشاعرات ، والأدباء والأديبات ، وأهل الرأي والحزم.

ولا ننسى شهدة الملقبة بفخر النساء في القرن الخامس الهجري كانت تلقي دروساً في الأدب والتاريخ في جامع بغداد على الجمهور.

وكان لها منزلة علمية كبيرة في التاريخ الاسلامي ، ولهذا كان يحضر دروسها كثير من العلماء والفضلاء.

ولبنى وهي الكاتبة في ديوان الخليفة الحكم بن عبد الرحمان ، المجيدة للكتابة ، الشاعرة العالمة في النحو ، المتينة في الحساب وفنونه وقد توفيت سنة (٣٩٢) هجرية (١).

__________________

(١) عظمة الرسول ـ محمد عطية الابراشي.

٣٦٠