المرأة في ظلّ الإسلام

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله

المرأة في ظلّ الإسلام

المؤلف:

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٥

خالد مما كانت عليه من الاستهتار والمجون ، فوجد من اسم سكينة بنت الحسين (ع) باباً واسعاً للتورية وتضليل البسطاء.

عند ذلك نسب أفعال سكينة بنت خالد بن مصعب الى سكينة بنت الحسين.

جاء بعد ذلك بعض المؤرخين والكتاب ، فأخذوا عن ابي الفرج الأصبهاني من دون أي انتباه ... أو روية ... الى الأسباب التي حملت الأصبهاني على المواربة والتحريف والتورية.

على أن قول عمر بن ابي ربيعة في شعره : « أسكين ما ماء فرات » الخ.

ليس من الضروري أن يكون المراد سكينة بنت الحسين. بالاضافة الى ذلك نرى أغلب الرواة يروون الشعر على النحو التالي :

قالت « سعيدة » والدموع ذوارف

منها على الخدين والجلباب

إلى أن يقول :

« أسعيد » ما ماء الفرات وطيبه

مني على ظمأ وفقد شباب

تقول الدكتورة بنت الشاطئ :

« قال ابو الفرج : وسعيدة ... هي سعدي بنت عبد الرحمن بن عوف ، كان عمر قد تعرض لها بعد طوافه فقالت له :

ويحك يا ابن أبي ربيعة ، ما تزال سادراً في حرم الله متهتكاً ! تتناول بلسانك ربات الجمال من قريش !...

٣٢١

آمرك بتقوى الله وترك ما أنت عليه ؟

قال أبو الفرج : وإنما غيَّره المغنون ، فقالوا : « سكينة ».

وقال أبو إسحاق الحصري ( ت ٤١٣ ه‍ ) بعد أن أورد هذه الأبيات كرواية القالي : ( كذب من روى هذا الشعر في سكينة رضي الله عنها ) (١).

__________________

(١) تراجم سيدات بيت النبوة ـ الدكتورة بنت الشاطئ.

٣٢٢

عرض وتحليل

إن السيدة سكينة سليلة بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل ، من الاسرة الهاشمية العريقة التي ضربت المثل الأعلى بالإباء والشمم والعزة والكرامة ، حتى صارت مناراً لكل من أراد أن يدفع الضيم عن نفسه ويموت عزيزاً كريماً.

والدليل على ذلك ما فعله مصعب بن الزبير حينما أراد الخروج لحرب عبد الملك ابن مروان بعدما انفضَّ عنه أصحابه.

جاء مودعاً زوجته السيدة سكينة فقالت له :

لا تفجعني بك ... واحزناه عليك يا مصعب ...

فالتفت إليها وقال لها : أو كل هذا لي في قلبك !؟

ثم قال : لو كنت اعلم ان هذا كله لي عندك ، لكانت لي ولك حال ، ولكن أباك لم يترك لحر عذراً ، وأنشد :

وإن الاولى بالطف من آل هاشم

تأسوا فسنوا للكرام ، التأسيا

لا أجافي الحق إذا قلت أن بني هاشم الكرام ، الذين وصفهم الفرزدق

٣٢٣

بقصيدته المشهورة التي منها :

ولكن إلى أهل الفضائل والنهى

وخير بني حواء والخير يطلب

أقول : كيف يروق لبني هاشم ، أهل الفضائل والنهى ترك كريمتهم وابنة سيدهم الإمام الحسين (ع) تسرح وتمرح وتعقد مجالس اللهو والسمر ، وتساجل الشعراء ، وفي بني هاشم الغيرة والحمية والأنفة ؟

على أن السيدة سكينة عاشت جل حياتها في بيت أخيها علي بن الحسين زين العابدين (ع).

أجل زين العابدين الذي كان يواصل الليل بالنهار باكي العين حزناً على والده الحسين (ع) سيد شباب أهل الجنة.

كان يقول لمن يطلب منه تخفيف البكاء والتصبر :

« إني ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا تذكرت فرارهن من خيمة الى خيمة ... ».

في هذا الجو المفعم بالحزن والبكاء كانت السيدة سكينة مع اخيها السجاد وأهل بيتها الثكالى ، فكيف والحالة هذه أن يصدر منها ما يشين كرامتها وينافي الامور المتبعة في البيت الهاشمي الشريف.

علاوة على ذلك ، كيف يترك الإمام زين العابدين (ع) وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، شقيقته سكينة التي رافقته في مراحل المحنة القاسية ، من المدينة ... إلى كربلاء ... وإلى الشام سبايا ... ثم إلى المدينة.

ألم يكن بإمكانه (ع) وعظها ؟ ... وإرشادها إلى جادة الصواب ، وحملها على العمل بسيرة السلف الصالح من الامهات ... والجدات.

٣٢٤

حاشا الإمام زين العابدين أن يرضى بذلك ... وحاشا السيدة سكينة من مقالة السوء ... ومن كل افتراء.

جاء في كتاب الأغاني : « ان إسحاق الموصلي غنى الرشيد بشعر عمر بن أبي ربيعة :

قالت سكينة والدموع ذوارف

منها على الخدين والجلباب

فغضب الرشيد حتى سقط القدح من يده ... ونهره وقال :

لعن الله الفاسق ، ولعنك معه ! ... فسقط في يد إسحاق ، فعرف الرشيد ما به.

فسكن الرشيد ثم قال : ويحك أتغني بأحاديث الفاسق ابن أبي ربيعة في بنت عمي ، وبنت رسول الله ؟ ...

إلا تتحفظ في غنائك ؟ ... أو تدري ما يخرج من رأسك ؟ »

ألا ترى معي أيها القارئ ، كيف غضب الرشيد على إسحاق الموصلي وأخذته حمية النسب لأنه هاشمي ؟... مع العلم أن ، العباسيين كانوا أعداء العلويين ، آل ابي طالب في زمانهم.

فكيف يسكت ... أو يرضى آل علي الكرام بما نسب للسيدة سكينة ؟ ...

وعلى الأخص الإمام المعصوم زين العابدين (ع) ؟

وحاشا السيدة سكينة بنت الإمام من هذه المفتريات. فهي أجل ... وأنقى ... وأطهر ... سليلة المقدسين الأطهار.

مطهرون نقيات ثيابهم

تجري الصلاة عليهم اينما ذكروا

٣٢٥

وقبل ان ننتهي من حديث السيدة سكينة ، لابد لنا من الاشارة إلى بعض الأقوال من كتّاب سامحهم الله وهداهم.

يقول الدكتور زكي مبارك في كتابه « حب ابن أبي ربيعة ، وشعره ـ ص ـ ١٨١ ... » (١).

« لا يغضب قوم إن ذكرنا انها كانت ( يعني سكينة ) في عفافها نزقة طائشة ، تؤثر الخفة على الوقار ، وتهوى ان يخلد حسنها في قصائد الشعراء ...

وما اظن هذه السيدة سلمت في صلتها بابن ابي ربيعة من متورع يرميها على طهرها بالخلاعة والمجون ».

إلى آخر ما هنالك من المفتريات التي لم يعفّ قلم الدكتور زكي مبارك عنها.

اقول وبمنتهى الأسف ، لم يكن من المنتظر ان يأتي ( في الزمن الأخير ) بعد الأصبهاني ، امثال الدكتور زكي مبارك فيجعل من السيدة الجليلة ، حفيدة الرسول ، الزاهدة الورعة جليسة للشاعر الماجن المستهتر عمر بن ابي ربيعة.

ثم يجرد قلمه فيصف السيدة سكينة بأوصاف لا تتصف بها امثالها من جليلات القدر ، والمكانة المرموقة.

وبعدها يجعل من دار سكينة بنت الحسين مرتعاً للمجون وملاذاً للشعراء.

إن الدكتور زكي مبارك لم يستند لدليل على أقواله ، بل راح يكتب عن خيال ، وكأنه في حفلة ساهرة ...

لعله يظن أنه حين يكتب تصدَّق اقواله ... لماذا ؟ ... لأنه دكتور ، وعلى

__________________

(١) حب ابن ربيعة وشعره ـ الدكتور زكي المبارك.

٣٢٦

هذا سقطت كتابته وأقواله عن الموضوعية ـ وكان من جراء أقواله السخيفة ، نرى أن كل من قرأ كتابته وتخيلاته بخصوص السيدة سكينة قد انتقده ، لأن الكاتب قبل أن يكتب يجب عليه أن يعي ما يقول ، ويعرضه على عقله ، ويتثبت من صحة الرواية وثقة الراوي.

وتقول الدكتورة بنت الشاطئ ، أيضاً :

« لكن المأساة أن اكثرنا قد صدقوا كل ما قال عمر ، وصدقوا اولئك القصاصين الذين راحوا ينسجون الحكايات حول هذه القصيدة او تلك من غزلياته. وهي قصص لا شك في أنها اخترعت بأجرة ، كما قال الدكتور طه حسين بحق ».

ثم تقول :

« على حين اخذ الدكتور زكي مبارك كل هاتيك الأخبار والقصص والمغامرات اخذاً لمَّا ، وصدقها غير مرتاب فيها ولا متظنن » (١).

__________________

(١) تراجم بيت النبوة ـ الدكتورة بنت الشاطئ ـ ص ٩٢٩.

٣٢٧

جهاد المرأة المسلمة ووضعها الاجتماعي

لقد انتزعت المرأة المسلمة المؤمنة ، المزيد من المنزلة الاجتماعية بمساهمتها في جميع المجالات السياسية والثقافية ونافست الرجال في شتى الميادين.

شقت طريقها بفضل الاسلام وتعاليمه ، وأنارت حياتها بنور العلم والإيمان ، فأصبحت داعية للقرآن ، راوية للحديث ، سابقة إلى الإجادة في ضروب الشعر ، خطيبة تأخذ بأعنة النفوس ، محافظة على نشاطها الاجتماعي الذي بعثه فيها الدين الإسلامي العظيم.

ففي الصراع الدامي بين امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) ومعاوية بن ابي سفيان في صفين ، ظهرت كثيرات من النساء اللواتي أبلين بلاء حسناً في نصرة الحق ... أهل بيت الرسول.

وأكثر من ذلك كله فإنهن على جانب من الشجاعة وحرية الرأي ، لا يعرفن المواربة ولا التملق ، ولا يخفن إلا الله سبحانه. وتتجلى جرأة المرأة الأدبية عندما تحضر المعارك الحربية وتلقي الخطب المثيرة ، تنشد الأشعار الحماسية التي تدفع المقاتلين على الاستبسال.

وعلى سبيل المثال لابد من ذكر بعض النساء اللواتي جاهدن في سبيل الحق منهن سودة بنت عمارة رحمها الله. لقد كان ثاقبة الرأي في السياسة. نافذة البصيرة في الزعامة ، تمثل قومها في الخطوب ، وتنوب عنهم في المحافل على الرغم

٣٢٨

مما عرف عن قومها ( بني همدان ) من نبل السلوك وبأس عند اللقاء. حتى قال فيهم الإمام علي عليه‌السلام :

ولو كنت بواباً على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

سودة بنت عمارة بن الاشتر الهمدانية :

جاء في بلاغات النساء : استأذنت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان ، فأذن لها ، فلما دخلت عليه قال :

هيه يا بنت الأشتر ؟ ألست القائلة يوم صفين :

شمَّر كفعل ابيك يا ابن عمارة

يوم الطعان وملتقى الأقران

وانصر علياً والحسين ورهطه

واقصد لهند وابنها بهوان

إن الإمام أخو النبي محمد

علم الهدى ومنارة الإيمان

فقد الجيوش وسر أمام لوائه

قدماً بأبيض صارم وسنان

قالت : اي والله ما مثلي من رغب عن الحق ، او اعتذر بالكذب.

قال لها : فما حملك على ذلك ؟

قالت : حب علي عليه‌السلام ، واتباع الحق. قال : فوالله ما أرى عليك من أثر علي شيئاً.

قالت : انشدك الله يا أمير ، وإعادة ما مضى ، وتذكار ما قد نسي. قال : هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى ، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك.

٣٢٩

قالت : صدق فوك ، لم يكن اخي ذميم المقام ، ولا خفي المكان كان والله كقول الخنساء :

وان صخراً لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

قال : صدقت لقد كان كذلك. فقالت : مات الرأس ، وبتر الذنب وبالله اسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيت منه. قال : قد فعلت فما حاجتك ؟

قال : إنك أصبحت للناس سيداً ، ولأمرهم متقلداً ، والله سائلك من أمرنا ، وما افترض عليك من حقنا ، ولا يزال يقدم علينا من ينوه بعزك ، ويبطش بسلطانك ، فيحصدنا حصد السنبل ويدوسنا دوس البقر ، ويسومنا الخسيسة ، ويسلبنا الجليلة ، هذا بسر بن ارطاة ، قدم علينا من قبلك فقتل رجالي وأخذ مالي ، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة ، فإما عزلته عنا فشكرناك ، وإما لا فعرفناك.

فقال معاوية : أتهدديني بقومك ؟ لقد هممت أن احملك على قتب أشرس ، فأردك إليه ، ينفذ فيك حكمه. فأطرقت تبكي ثم أنشأت تقول :

صلى الإله على جسم تضمنه

قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً

فصار بالحق والإيمان مقرونا

قال لها : ومن ذلك ؟ قالت : علي بن ابي طالب عليه‌السلام. قال : وما صنع حتى صار عندك كذلك ؟ قالت : قدمت عليه في رجل ولاه صدقاتنا ، فكان بيني وبينه وما بين الغث والسمين ؛ فأتيت علياً عليه‌السلام ، لأشكوا إليه ما صنع ، فوجدته قائماً يصلي. فلما نظر إلي انفتل من صلاته ، ثم قال برقة وتعطف : ألك حاجة ؟ فأخبرته الخبر. فبكى ثم قال : اللهم إنك أنت الشاهد

٣٣٠

عليَّ وعليهم ، إني لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا بترك حقك ، ثم أخرج من جيبه قطعة كهيئة طرف الجراب. فكتب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم « قد جاءتكم بيّنة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ».

إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام.

فأخذته منه والله ما ختمه بطين ، ولا خزمه بخزام.

فقال معاوية : اكتبوا لها بالإنصاف والعدل عليها ، فقالت : إليَّ خاصة أم لقومي ؟ قال : وما أنت وغيرك ؟

قالت : هي والله الفحشاء واللؤم ... إن لم يكن عدلاً شاملاً وإلا فأنا كسائر قومي. قال : هيهات لمظكم ابن أبي طالب الجرأة وغركم قوله : (١)

فلو كنت بواباً على باب جنة

لقلت لهمدان أدخلي بسلام

لقد كانت السيدة سودة تتمتع بمزايا عظيمة من قوة الحجة على الدعوى وعمق الاحساس بالقضية الملقاة إليها. مع قدر كاف من حسن التعبير ودقة التصوير.

ومن أبرز الصفات للوعي الاجتماعي عند المرأة في صدر الإسلام هو ذلك الصمود الذي لا تفلّه الغلبة وذلك الثبات الذي لا تزعزعه الحوادث والكوارث. والصبر مع الإيمان الذي لا ينفذ عند استبطاء النصر. ولا يتلاشى عند مجابهة الأعداء.

__________________

(١) اعلام النساء لعمر رضا كحالة ـ بلاغات النساء لابن طيفور ـ والعقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي.

٣٣١

الزرقاء بنت عدي

هذه المرأة من المسلمات الأول اللواتي لا يعرفن التملق والحيل والخداع ، كانت من ربات الفصاحة والبلاغة والعقل والرأي ، ناصرت علي بن ابي طالب (ع) يوم صفين (١) ولما تم الأمر لمعاوية قال لأصحابه : ايكم يحفظ كلام الزرقاء ؟

فقال القوم : كلنا نحفظه يا امير المؤمنين. قال : فما تشيرون عليَّ فيها ؟ قالوا : نشير عليك بقتلها. قال بئس ما اشرتم عليَّ به ... ايحسن بمثلي ان يتحدث الناس اني قتلت امرأة بعدما ملكت ، ثم دعا كاتبه ، فكتب الى عامله بالكوفة ان اوفد اليَّ الزرقاء بنت عدي.

فلما قدمت على معاوية قال لها : مرحباً واهلاً ، هل تعلمين لما بعثت اليك ؟ قالت : سبحان الله أنى لي بعلم ما لم أعلم ، وهل يعلم ما في القلوب إلا الله. قال : بعثت اليك ان اسألك ؟

« الست راكبة الجمل الأحمر يوم ( صفين ) بين الصفين ، توقدين الحرب

__________________

(١) صفين : موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس.

٣٣٢

وتحرضين على القتال ، فما حملك على ذلك ؟ ».

قالت : يا أمير المؤمنين انه قد مات الرأس ، وبتر الذنب ، والدهر ذو غير ومن تفكر أبصر والأمر يحدث بعده الأمر.

قال لها : صدقت ، فهل تحفظين كلامك يوم صفين ؟ فقالت : ما أحفظه. قال : ولكنني أحفظه لله أبوك لقد سمعتك تقولين : « أيها الناس أنكم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن المحجة فيالها من فتنة عمياء صماء تسمع لنا عقها ، ولا تسلس لقائدها ، ان المصباح لا يضيء في الشمس ، وأن الكواكب لا تنير مع القمر ، وأن البغل لا يسبق الفرس ، وأن الزف لا يوازن الحجر ولا يقطع الحديد إلا الحديد.

إلا من استرشدنا أرشدناه ، ومن استخبرنا أخبرناه ، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها.

فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار ، فكأن قد اندمل شعب الشتات ، والتأمت كلمة العدل ، وغلب الحق باطله ، فلا يعجلن أحد فيقول كيف العدل وأنّى ؟ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.

« إلا أن خضاب النساء الحناء ، وخضاب الرجال الدماء والصبر خير عواقب الأمور. أيهاً إلى الحرب قدماً غير ناكصين ولا متشاكسين فهذا يوم له ما بعده.

ثم قال معاوية : والله يا زرقاء لقد شركت علياً في كل دم سفكه فقالت : أحسن الله بشارتك يا أمير ، وأدام سلامتك مثلك من بشر بخير وسر جليسه.

٣٣٣

قال لها : وقد سرك ذلك ؟ قالت : نعم. والله لقد سرني قولك فأنى لي بتصديق الفعل.

فقال معاوية : والله لوفاؤكم له بعد موته ، أعجب الي من حبكم له في حياته ، أذكري حاجتك ، قالت : يا أمير أني قد آليت على نفسي ان لا أسأل أميراً أعنت عليه شيئاً (١).

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ـ العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي ـ اعلام النساء.

٣٣٤

بكارة الهلالية

لنقف أيها القارئ الكريم ، ونلقي نظرة خاطفة على بكارة الهلالية تلك المرأة المؤمنة ، التي كانت تحمل بين جنبيها قلباً حافظاً ، وإيماناً راسخاً وعقيدة ثابتة.

كانت من النساء المسلمات المؤمنات ، الموصوفات بالشجاعة والاقدام والفصاحة ، والشعر والنثر والخطابة.

حضرت حرب صفين وكانت من أنصار الحق وبجانب الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

دخلت على معاوية بن أبي سفيان بعد ان كبرت سنها ودق عظمها ، ومعها خادمان لها وهي متكئة عليهما وبيدها عكاز ، وكان عنده مروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، فابتدأ مروان فقال :

أما تعرف هذه يا أمير المؤمنين ؟ فقال : ومن هي ؟

قال : هي التي كانت تعين علينا يوم صفين ، وهي القائلة :

يا زيد دونك فاستثر من دارنا

سيفاً حساماً في التراب دفينا

قد كنت أدخره ليوم كريهة

فاليوم أبرزه الزمان مصونا

فقال عمرو بن العاص ، وهي القائلة :

أترى ابن هند للخلافة مالكاً

هيهات ذاك وما أراد بعيد

٣٣٥

منتك نفسك في الخلاء ضلالة

اغراك عمرو للشقاء وسعيد

فارجع بانكد طائر بنحوسها

لاقت علياً أسعد وسعود

فقال سعيد : يا أمير المؤمنين وهي القائلة :

قد كنت آمل ان أموت ولا أرى

فوق المنابر من أمية خاطبا

فالله أخر مدَّتي فتطاولت

حتى رأيت من الزمان عجائبا

في كل يوم لا يزال خطيبهم

وسط الجموع لآل أحمد عائبا

ثم سكت القوم فقالت بكارة :

نبحتني كلابك يا معاوية ... واعتورتني ، فقصر محجتي وكثر عجبي ، وعشي بصري !

أنا والله قائلة ما قالوا : لا أدفع ذلك بتكذيب ، فامض لشأنك ، فلا خير في العيش بعد أمير المؤمنين علي.

فقال معاوية : لا يضعك شيء ، فاذكري حاجتك ؟ قالت : الآن ... فلا ... (١).

__________________

(١) العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي ـ بلاغات النساء لابن طيفور ـ اعلام النساء لعمر رضا كحالة.

٣٣٦

أم الخير بنت الحريش البارقية

سيدة جليلة ، لا تقل شجاعة واقداماً عن اللواتي ناصرن الحق ، وحرية الرأي هي أم الخير بنت الحريش ، مثال المرأة المسلمة المؤمنة الصالحة ، وهي من ربات الفصاحة والبلاغة.

وقد ذكر أهل التاريخ ان معاوية بن أبي سفيان كتب الى واليه بالكوفة : ان أوفد عليّ أم الخير بنت الحريش.

فلما ورد الكتاب ركب الوالي اليها وأبلغها. فقالت له : أما أنا فغير راغبة عن طاعة ولا معتلة بكذب :

ولما قدمت على معاوية ، انزلها مع الحرم ثلاثة أيام ، ثم أذن لها في اليوم الرابع وجمع الناس.

فدخلت عليه فقال : بحسن نيتي ظفرت بكم وأعنت عليكم.

قالت : مه ... يا هذا لك والله من دحض المقال ما تردى عاقبته.

قال : ليس لهذا أردناك.

قالت : إنما أجري في ميدانك ، إذا أجريت شيئاً فاسأل عما بدا لك.

قال : كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر ؟

٣٣٧

قالت : لم أكن والله رويته من قبل ، ولا زورته بعد ، وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة ، فإن شئت ان أحدث لك مقالاً غير ذلك فعلت.

قال : لا أشاء ذلك ، ثم التفت الى اصحابه فقال : أيكم يحفظ كلام أم الخير ؟

قال رجل من القوم : أنا أحفظه يا أمير.

كأني بها وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية ، وهي على جمل أرمك ، وقد أحيط حولها ، وبيدها سوط منتشر الضفر وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول :

أيها الناس اتقوا ربكم ان زلزلة الساعة شيء عظيم. ان الله قد أوضح الحق ، وأبان الدليل ، ونور السبيل ، ورفع العلم ، فلم يدعكم في عمياء مبهمة ، ولا سوداء مدلهمة ، فالى اين تريدون رحمكم الله ؟ أفراراً من الزحف ، أم رغبة عن الإسلام ، أم ارتداداً عن الحق ؟ أما سمعتم الله عز وجل يقول : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ).

ثم رفعت رأسها الى السماء وهي تقول : اللهم قد عيل الصبر وضعف اليقين ، وانتشر الرعب ، وبيدك يا رب أزمة القلوب. فاجمع الكلمة على التقوى ، وألّف القلوب على الهدى ، ورد الحق الى أهله.

هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل ، والوصي الوفي والصديق الأكبر.

انها والله إحن بدرية ، وأحقاد جاهلية ، وضغائن أحدية ، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس.

ثم قالت : ( قَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) صبراً معاشر

٣٣٨

المهاجرين والأنصار ، قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم ، وكأني بكم غداً قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة ، فرت من قسورة لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض ، باعوا الآخرة بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعما قليل يصبحن نادمين حتى تحل بهم الندامة ، فيطلبون الإقالة ! انه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل ومن لم يسكن الجنة نزل النار.

أيها الناس : ان الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها ، واستبطأوا مدة الآخرة ، فسعوا لها. والله أيها الناس : لولا ان تبطل الحقوق وتعطل الحدود ويظهر الظالمون ، وتقوى كلمة الشيطان ، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه ، فإلى أين تريدون رحمكم الله ؟ عن ابن عم رسول الله (ص) وزوج ابنته وأبي ابنيه ، خلق من طينته ، وتفرع من نبعته وخصه بسره ، وجعله باب مدينته ، وأعلم بحبه المسلمين ، وأبان ببغضه المنافقين ، فلم يزل كذلك يؤيده الله عز وجل بمعونته ، ويمضي على سنن استقامته ، لا يعرج لراحة اللذات ، وهو مفلق الهام ومكسر الأصنام إذ صلى والناس مشركون وأطاع والناس مرتابون ، فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر ، وأفنى أهل أحد ، وفرق جمع هوازن ، فيا لها من وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقاً وردة وشقاقاً ، وقد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فقال معاوية : يا أم الخير ما اردت بهذا إلا قتلي ؛ والله لو قتلتك ما حرجت في ذلك ؟ قالت : والله ما يسوءني يا ابن هند ان يجري الله ذلك على يد من يسعدني الله بشقائه.

٣٣٩

أم وهب زوجة عبد الله بن عمر الكلبي

ان الكثيرات من النساء الصالحات ، هن افضل من الكثير من الرجال ، بعقلهن وإيمانهن وتدينهن وشجاعتهن ، وكانت الدنيا في اعينهن لا تعادل شيئاً في سبيل الله سبحانه ، والدفاع عن الكرامة والدين.

ذكر السيد عبد الرزاق المقرم في كتابه ( حديث كربلاء ) ، قال : حينما قتل عبد الله بن عمر الكلبي في واقعة كربلاء الشهيرة وكان من اصحاب الحسين عليه‌السلام ، مشت اليه زوجته أم وهب ، وجلست عند رأسه تمسح الدم عنه وتقول :

« هنيئاً لك الجنة ، اسأل الله الذي رزقك الجنة ان يصحبني معك » ، فقال الشمر لغلامه رستم : اضرب رأسها بالعمود فشدخه وماتت مكانها ، وهي أول امرأة قتلت من اصحاب الحسين (ع).

وقطع رستم رأسه ورمى به الى جهة اصحاب الحسين ، فأخذته امه ومسحت الدم عنه ، ثم أخذت عمود خيمة وبرزت الى الاعداء ، فردها الحسين وقال : ارجعي رحمك الله فقد وضع عنك الجهاد (١).

__________________

(١) حديث كربلاء او مقتل الحسين ذكره السيد عبد الرزاق المقرم وغيره كثير امثال الطبري ـ وابن شهر اشوب ـ وابن الأثير وغيرهم.

٣٤٠