المرأة في ظلّ الإسلام

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله

المرأة في ظلّ الإسلام

المؤلف:

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٥

هذه شجاعة ، لقد لعمري كان أبوك شاعراً سجاعاً.

قالت : ما للمرأة والشجاعة إن لي عن السجاعة لشغلاً ... ».

ثم التفت ابن زياد عليه لعنة الله فرأى علي بن الحسين عليه‌السلام وكان مريضاً قد أنهكته العلة فأراد قتله ، عندها تعلقت به عمته زينب سلام الله عليها ، وقالت له : يا ابن زياد حسبك من دمائنا ما سفكت ، فإذا أردت قتله فاقتلني دونه ، فقال : عجبت للرحم ودت لو أنها تقتل دونه.

وهكذا دافعت بطلة بني هاشم عن سليل النبوة بمنطقها البليغ ، وشجاعتها وإقدامها على المخاطر ، وجرأتها العظيمة التي ورثتها عن جدها وأبيها وامها وأخيها ، فكان الله معها في كل مكان حلت به ، وصارت إليه.

زينب عقيلة بني هاشم في الشام :

خرج موكب الاسارى من الكوفة ، بقيادة شمر بن ذي الجوشن عليه لعائن الله ، يجد السير نحو الشام عاصمة بني امية ، مقر الطاغية يزيد لعنه الله.

ولما أشرف الركب على الشام ترنح يزيد في مقصورته طرباً فقال :

لما بدت تلك الحمول وأشرقت

تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح

فلقد قضيت من الرسول ديوني

وأدخلت الرؤوس والسبايا ، على يزيد وهو في مجلسه يحف به أعوانه ورجال بلاطه.

ووضع رأس الحسين الشريف (ع) بين يدي يزيد لعنه الله فالتفت الى أصحابه وقال لهم : هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام :

٣٠١

أبى قومنا أن ينصفونا فانصفت

قواضب في أيماننا تقطر الدما

يفلقن هاماً من رجال أعزة

علينا وهم كانوا أعق وأظلما

تقول المرويات : « نظر رجل شامي الى فاطمة بنت علي (١) فطلب من يزيد أن يهبها له لتخدمه ، ففزعت ابنة امير المؤمنين وتعلقت باختها العقيلة زينب وقالت لها : كيف أخدم ؟

قالت زينب : لا عليك إنه لن يكون هذا ابداً.

فقال يزيد : لو أردت لفعلت ...

فقالت له : إلا أن تخرج عن ديننا ، فرد عليها بتهكم :

إنما خرج عن الدين أبوك وأخوك ...

قالت زينب : بدين الله ودين جدي وأبي وأخي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً.

قال : كذبت يا عدوة الله !

فرقت عليها‌السلام وقالت : أنت أمير مسلط ، تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك » (٢).

لقد توقعت الناس يومئذٍ ، أن تحني الكارثة المؤلمة جبهة زينب سلام الله عليها وتصدع أركانها. وتنقاد لعاطفتها فتطأطئ رأسها.

__________________

(١) وفي بعض الروايات ... انها فاطمة بنت الحسين (ع) وليست فاطمة بنت علي ...

(٢) مقتل الحسين ـ للسيد عبد الرزاق المقرم ـ تاريخ الطبري ـ تاريخ ابن الأثير.

٣٠٢

ولكنها حفيدة الرسول ... وابنة علي ... وسليلة بيت المجد والكرامة والإباء والأنفة فلا مجال للعاطفة ، والانكسار والذل.

إنها البطلة الصامدة ، والمؤمنة الصابرة ، لم تخلق للنياحة ، ولم تتهيأ للبكاء والعويل.

إنها تحمل وصية امها الزهراء ، وأخيها الحسين سيد الشهداء ، فهي صاحبة رسالة ، يجب عليها أن تتحمل في سبيلها المتاعب والمصاعب.

وعن ابن طيفور في بلاغات النساء قال :

« لما كان من أمر أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما‌السلام الذي كان ، وانصرف عمر بن سعد لعنه الله بالنسوة ، والبقية من آل محمد (ص) ووجههن الى ابن زياد لعنه الله فوجههن هذا الى يزيد لعنه الله وغضب عليه.

فلما مثلوا بين يديه ، أمر برأس الحسين عليه‌السلام فأبرز في طست ، فجعل ينكث ثناياه بقضيب في يده وهو يقول :

يا غراب البين أسمعت فقل

إنما تذكر شيئاً قد حصل

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكت بقباء بركها

واستمر القتل في عبد الأشل

لأهلوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيداً لا تشل

فجزيناهم ببدر مثلها

وأقمنا ميل بدر فاعتدل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل (١)

__________________

(١) بلاغات النساء ـ لابن طيفور.

٣٠٣

خطبة السيدة زينب (ع) في مجلس يزيد في الشام :

يذكر المؤرخون وجميع أهل السير أن السيدة زينب وقفت في مجلس يزيد والإباء والأنفة يملآن نفسها ، ثم توجهت (ع) إليه تسمعه من التقريع والتوبيخ بل تعدت للتهديد والتنديد غير هيابة ولا وجلة ، مستصغرة قدره وسلطانه ، ومستعظمه ومستنكره لفعلته النكراء وجريمته الشنعاء.

قالت عليها‌السلام : (١)

« صدق الله ورسوله يا يزيد ـ ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ (٢) أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ » (٣).

أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض ، وأكناف السماء ، فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى ، ان بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة.

وان هذا العظيم خطرك ! افشمخت بأنفك ، ونظرت في عطفك جذلاناً فرحاً حين رأيت الدنية مستوسقة لك ، والامور متسقة عليك ، وقد امهلت ونفست ، وهو قول الله تبارك وتعالى :

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ).

أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك نسائك وإمائك ؛ وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد هتكت ستورهن وأصحلت أصواتهن ، مكتئبات تجري بهن الأباعر ،

__________________

(١) عن بلاغات النساء لابن طيفور.

(٢) السوآى : تأنيث ـ او مصدر وصف به ـ تفسير القرآن للسيد عبد الله شبر.

(٣) سورة الروم ـ آية ـ ١٠.

٣٠٤

ويحدو بهن الاعادي من بلد الى بلد ، لا يراقبن ولا يؤوين ، يتشوفهن القريب والبعيد ، ليس معهن ولي من رجالهن ! وكيف يستبطأ في بغضنا من نظر الينا بالشنف والشنآن والاحن والاضغان ... ؟

أتقول « ليت أشياخي ببدر شهدوا » ؟ اغير متأثم ولا مستعظم وانت تنكث ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك !!

ولم لا تكون كذلك ، وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، باهراقك دماء ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ، ولتردن على الله وشيكاً موردهم ، ولتودن انك عميت وبكمت وانك لم تقل : « فاهلوا واستهلوا فرحاً ».

... اللهم خذ لنا بحقنا وانتقم لنا ممن ظلمنا. ثم قالت :

والله ما فريت إلا في جلدك ، ولا حززت إلا في لحمك وسترد على رسول الله (ص) برغمك ، وعترته ولحمته في حظيرة القدس ، يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث ، وهو قول الله تبارك وتعالى :

( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ).

وسيعلم من بوأك ، ومكنك من رقاب المؤمنين ، إذا كان الحكم الله ... والخصم محمد (ص) ، وجوارحك شاهدة عليك.

فبئس للظالمين بدلاً ايكم شر مكاناً واضعف جنداً.

مع اني والله يا عدو الله وابن عدوه استصغر قدرك واستعظم تقريعك ، غير

٣٠٥

ان العيون عبرى والصدور حرى وما يجزى ذلك او يغني وقد قتل الحسين عليه‌السلام ، وحزب الشيطان يقربنا الى حزب السفهاء ليعطوهم اموال الله ، على انتهاك محارم الله.

فهذي الأيدي تنطف من دمائنا ، وهذه الأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الزواكي يعتامها عسلان الفلوات.

فلئن اتخذتنا مغنماً ، لتجدنا مغرماً حين لا تجد إلا ما قدمت يداك.

تستصرخ يا ابن مرجانة !! .. ويستصرخ بك ، وتتعاوى وأتباعك عند الميزان ، وقد وجدت أفضل زاد زودك معاوية قتلك ذرية محمد (ص).

فوالله ما اتقيت غير الله ... ولا شكواي إلا إلى الله ... فكد كيدك ، واسعى سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا يرحض عنك عار ما اتيت الينا أبداً.

والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة ، لسادات شبان الجنان فأوجب لهم الجنة ، اسأل الله أن يرفع لهم الدرجات ، وان يوجب لهم المزيد من فضله فإنه ولي قدير ».

وسكتت زينب بعد ان اضرمت النار في القلوب ، وهزت المشاعر وايقظت النفوس المتخدرة ، فأفاقت على الحقيقة التي اوضحتها العقلية في خطبتها التي اعجزت البلغاء ، ودقت أجراس الثورة والفداء ضد الظلم والفساد.

وحسبنا اقتناعاً ان خطبة زينب كانت البداية في إيقاظ المشاعر فإن الشام برغم انها كانت عاصمة الامويين ومقر خلافة يزيد لعنه الله. فقد سرت البلبلة بين الناس وكثر اللغط وساد الهرج.

٣٠٦

ففي بعض المرويات : قيل ان « هند ابنة عبد الله بن عامر زوجة يزيد » سمعت ما يدور في مجلس زوجها ، وخطاب السيدة زينب ـ فتقنعت بثوبها وخرجت اليه فقالت :

يا يزيد أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله ؟

قال : نعم ، فاعولي عليه ... لقد عجل عليه ابن زياد فقتله ...

فقالت : ابنات رسول الله سبايا فاطرق برأسه لان صوت زينب لا يزال يدوي في اذنيه.

فقالت له زوجته : غداً يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ... ويجيء الحسين وجده رسول الله شفيعه !. ».

زينب وحدها التي لم تغب لحظة عن مسرح المأساة والفاجعة الأليمة ، وهي التي سجلها التاريخ على صفحاته.

وهي وحدها التي سمعت الصيحة الأولى ، ولم تفارق الحسين لحظة واحدة منذ بدأ القتال حتى انتهى.

وهي وحدها كانت الى جانب المريض العليل « زين العابدين » (ع) تمرضه وتحافظ عليه ـ ومع المحتضر تواسيه والشهيد تبكيه.

وقال بعض الشعراء عندما مر على أرض المعركة قبل دفن الجثث :

وقفت على أجداثهم ومجالهم

فكاد الحشا ينفض والعين ساجمة

لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى

سراعاً الى الهيجا حماة خضارمة

٣٠٧

تأسسوا على نصر ابن بنت نبيهم

بأسيافهم آساد غيل ضراغمه

وما أن رأى الراؤون أفضل منهم

لدى الموت سادات وزهر قماقمه

عقيلة بني هاشم في مدينة جدها الرسول (ص) :

عاد موكب السبايا الى مدينة جدهم الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تحدوهم الحسرات ، ويلفهم رداء الحزن والكآبة.

وكان منظرهم مؤلماً يتصدع له الصخر الأصم.

فقد هرع الناس لاستقبال الركب الحزين بمآتم مفجعة تبللها دموع البواكي ونوح الثكالى.

لكن العقيلة زينب لم تلتفت لشيء او تفوه بكلمة ، ولم تتوقف عن السير رغم تهافت الناس عليها. بل مضت في طريقها صامتة ، حتى وصلت المسجد النبوي الشريف فأخذت بعضادتي الباب وصاحت من قلب جريح :

يا جداه يا رسول الله ... جئت ناعية اليك أخي الحسين والاقمار من أهل بيته ... وخنقتها العبرة وماتت الكلمات على شفتيها ...

ثم كانت المآتم في بيوت بني هاشم ولم تبقى مخدرة في المدينة إلا خرجت نائحة تبكي.

وخرجت زينب بنت عقيل « اخت مسلم » ومعها نساؤها نادبة تلوي بثوبها وهي تقول :

٣٠٨

ماذا تقولون إن قال النبي لكم

ماذا فعلتم ، وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي

منهم اسارى ومنهم ضرجوا بدم

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

وتقول بعض المرويات : وسمع صوت من بعيد يقول :

أيها القاتلون جهلاً حسيناً

أبشروا بالعذاب والتنكيل

رجعت زينب عليها‌السلام الى بيتها ومرت بديار أهلها فرأتها موحشة باكية تنعي أهلها وتندب سكانها. كما قال الشاعر :

مررت على أبيات آل محمد

فلم أرها أمثالها يوم حلت

فلا يبعد الله الديار وأهلها

وإن أصبحت منهم برغمي تخلت

وكان عمرو بن سعيد الاموي (١) والياً على المدينة ، وتذكر الأخبار أنه لما

__________________

(١) لقد لاقى عمرو بن سعيد الاموي جزاء شماتته بقتلى بني هاشم ، إذ قتله عبد الملك بن مروان الاموي بالشام.

تقول بعض المرويات ، انه حينما دخل عمرو بن سعيد على عبد الملك بن مروان بالشام تنازعا

٣٠٩

سمع واعية بني هاشم وبكائهن على الحسين ضحك وابتهج وقال : يوم بيوم يا عثمان ... وناعية بناعية عثمان ... ثم تمثل بقول عمرو بن معد يكرب :

عجت نساء بني زياد عجة

كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

شخصية السيدة زينب وأثرها على المجتمع :

يمضي التاريخ ليسجل بطولة سيدة عظيمة ، هي السيدة زينب بنت علي ، عقيلة بني هاشم الثائرة على الظلم ، المتمردة على الطغيان.

تلك السيدة الأبية ، التي أتمت مسيرة نهضة أخيها الحسين (ع). وإيقظت

__________________

وكان نزاعهما حول الملك ـ او الخلافة بالشام ، فأمر عبد الملك صاحب حرسه ( أبا الزيزعة ) بضرب عنق عمرو بن سعيد الاموي.

وجاء في كتاب مروج الذهب للمسعودي ... ما ملخصه ، قال : ان عمرو بن سعيد خرج من منزله يريد عبد الملك ، فعثر بالبساط ، فقالت له امرأته نائلة : انشدك الله لا تأتيه.

فقال لها : دعيني عنك فوالله لو كنت نائماً ما أيقظني.

ودخل على عبد الملك وهو مكفر بالدرع ، فقال له : يا أبا امية أجئت للقتال ؟ وبعد كلام طويل بينهما قال له : اني كنت قد حلفت إن ملكتك لأشدنك في الجامعة ( أي القيد ). فلما وضع الجامعة في عنق عمرو بن سعيد أيقن عمرو بالهلاك. قال لعبد الملك : تخرجني الى الناس وأنا في جامعة ؟ فقال له عبد الملك : أتريد أن اخرجك الى الناس فيمنعوك ويستنقذوك من يدي ؟ ... ( أتماكرني وأنا أمكر منك ؟ ) ثم أضجعه وذبحه ولم يراع له عهداً ولا حرمة.

لقد أظهر عمرو بن سعيد الشماتة حين مقتل بني هاشم بعد موقعة كربلاء ... وما أحسن قول الشاعر :

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

٣١٠

مشاعر الناس ببلاغتها وصمودها وجهادها ، فهيجت فيهم شعوراً لاذعاً ممضاً بالحسرة والندم تارة ، وبالخزي والعار طوراً.

توافد الناس على عقيلة بني هاشم ، فكانت تتكلم لتجلي الضباب عن البصائر ، ويبقى كلامها يدوي في آذانهم ليخترق الضمائر مذكراً بالجريمة النكراء ، والفعلة الشنعاء قتل الحسين وأهل بيته وأصحابه الأبرياء.

يتكهرب جو المدينة ... ويلتهب ... تلهبة الثائرة المطالبة بدم الشهداء الأبرار.

تلهبه شعلة الثائر وعنوان البطولة ، التي كانت المعول الأول في هدم عرش بني امية وأمثالهم من الطغاة المستبدين.

« زينب » تلك التي أعطت البشرية درساً في الصمود ، والإباء والشرف ، والوقوف بوجه الجور والتعسف والطغيان تتناقله الأجيال.

يمضي الوالي عمرو بن سعيد الأموي ، فيرسل الى يزيد أن أهل المدينة في هياج. ثم يقول : « إن كان لك بالمدينة شغل فأخرج بنت علي منها فإنها ألَّلبت الناس عليك ».

ويأتي الفصل الأخير من حياة المجاهدة البطلة ، عندما يطلب منها الوالي عمرو بن سعيد الأموي ، مغادرة المدينة ، بل الحجاز.

فتجيب عليها‌السلام قائلة : ويلكم أمن حرم جدنا تخرجوني ؟ ... لك الويل يا ابن سعيد ... الله أعلم بما صارت إليه حالنا بعد سيد الشهداء ...

صبرنا على قتل خيرنا ... وحملنا على الأقتاب ، وساقونا كما تساق الأنعام ، فلست بخارجة من مدينة جدي ... فافعل ما أنت فاعل.

٣١١

واشتد الموقف بين الوالي ... وبين عقيلة بني هاشم « زينب » وهي لا تبالي ، ماضية في أداء رسالتها التي كلفها بها سيد الشهداء الحسين (ع) بالنهوض والمحافظة على رسالة جدها الرسول الأعظم (ص).

والوالي عمرو بن سعيد ماض في تركيز دعائم ملك بني أمية ، وتنفيذ أوامر الطاغية يزيد.

ويأتي الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) ليقنع عمته « زينب » بالخروج كي لا تتجدد المأساة على أهل بيت الرسول.

إن الأمويين لا يتورعون عن ارتكاب أفظع الجرائم في سبيل توطيد حكمهم.

وينساب صوت الإمام زين العابدين (ع) :

« عمتي يا زينب ... لقد صدقنا الله وعده ، وسيجزي الله الظالمين ... إرحلي الى بلد آخر ... والله حسبنا ونعم الوكيل ».

ولم تتمكن السيدة زينب إلا الأخذ برأي الإمام زين العابدين فقررت السفر لعل خوف الأمويين من وجودها بالمدينة يهدأ قليلاً.

وقف موكب السيدة زينب عند مسجد الرسول الأعظم (ص). ومن حوله بنو هاشم ، الرجال والنساء والبقية الصالحة من أهل المدينة المؤمنين.

وكان المشهد مؤثراً ، والوداع حاراً ، فقد صاحت زينب (ع) بصوت ملتاع يتصدع له الصخر الأصم :

يا جداه ... يا رسول الله ... ها أنا تاركة المدينة منفية ، كأني قد أتيت أمراً نكرا ، ثم تأوهت متحسرة ... وكما يقول الشاعر :

٣١٢

مشردون نفوا عن عقر دارهم

كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفر

وسجل التاريخ على صفحاته ، موقف السيدة زينب الرائع المؤثر ، الذي تتجلى فيه العزة والإباء مع الاحزان ، والشجن الدامي والأسى العميق.

ومن ذا الذي لا يهزه موقف زينب ، وقد تذكرت امها الزهراء (ع) وما لاقته من المتاعب والمصاعب ، وكما قيل :

عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا

فلما دهتني لم تزدني بها علما

أحن الى الكأس الذي شربت به

وأهوى لمثواها التراب وما ضما

وقد اختلف أهل التاريخ والسير ، فمنهم من قال : انها ذهبت الى مصر ، ولها مقام مقدس وعظيم يؤمه الناس.

ومنهم من قال : انها في الشام ومقامها ايضاً معروف هناك يقصده الزوار ، من جميع الأقطار. وهو القول المشهور.

وعلى كل حال سواء كان مثوى السيدة زينب عليها‌السلام في الشام ... أم في مصر ... فقد هيجت الاحساس ، وأوقدت نيران الثورة على أنظمة الظلم والطغيان وشلت عرش الأمويين المستبدين في وقت قصير.

لم تخب تلك الشعلة الملتهبة ، بل ظل كلامها يتجاوب صداه في ابواق التاريخ ، يرن في الآذان وهي تخاطب الطاغية يزيد بقولها :

« فوالله لا تمحو ذكرنا ... ولا تميت وحينا ... ولا تدرك أمدنا ... »

٣١٣

لقد عجز الطغاة عن طمس ذكر أبطال الحق ، وشهداء العدل ، ذكر زينب وآلها الكرام ... المشعل الذي يضيء الطريق أمام الهداة ، وأصحاب الضمائر الحرة. والنبراس الذي يهتدي به كل من ثار من أجل العقيدة ، والدين والكرامة ، والانسانية ، والإباء.

٣١٤

السيدة سكينة بنت الحسين (ع)

ما عساني أن أكتب عن حفيدة الزهراء السيدة سكينة بنت الحسين (ع) بعد أن جال ابطال اهل التاريخ وأصحاب السير في أفكارهم وأقلامهم ، كلٌّ في مجاله ، وحسب ميله وهواه.

وما عساني أن أقول فيمن ولدت في حجر الإيمان ، وترعرعت في كنف معدن القداسة ، وعجنت طينتها بالعفة والنزاهة. فنشأت متأثرة بحسن التربية ، وكرم الأخلاق ، وعنوان المجد والسؤدد.

جللها كرم الأصل بجلباب الشرف ، وألبسها مطارف الحياء والمعرفة والأدب.

ومما لا ريب فيه فقد بلغت حفيدة الزهراء ، وسليلة البيت النبوي الشريف ، الذروة العليا في الجمال والكمال ، والتقى والورع ، وسلكت السبيل الواضح في مجاهدة النفس ، والطريق الذي لا يشوبه أي انحراف أو ميل نحو ملذات الدنيا.

لقد كانت السيدة سكينة سابحة بين امواج العبادة والزهد والقداسة ، ترشف العلم من معينه ، وتجني الأدب من مستقاه ، حتى انعكست في مرآة نفسها ملامح الجلال والمهابة ، وفازت بشهادة الإمام الحسين (ع) حيث قال :

« الغالب عليها الاستغراق مع الله ».

٣١٥

ذكر السيد عبد الرزاق الموسوي : أن الحسن المثنى بن الحسن بن أمير المؤمنين (ع) أتى عمه ابا عبد الله الحسين (ع) يخطب إحدى ابنتيه « فاطمة ـ او سكينة » فقال له أبو عبد الله (ع) :

اختار لك فاطمة ، فهي أكثرهما شبهاً بامي فاطمة بنت رسول الله (ص) أما في الدين ، فتقوم الليل كله ، وتصوم النهار ، وفي الجمال ... تشبه الحور العين.

وأما سكينة : فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى فلا تصلح للرجل (١).

اجل لقد ذهبت السيدة سكينة بحب أبيها واعزازه لها ، وفازت بتلك المكانة العالية ، والعطف الفياض ، لذلك نراه عليه‌السلام يردد قائلاً :

لعمرك انني لاحب داراً

تحل بها سكينة والرباب

احبهما وابذل جل مالي

وليس لعاتب عندي عتاب

إلى ان يقول :

ولست لهم وان عتبوا مطيعاً

حياتي أو يغيبني التراب

يمضي الزمن وتدور الأيام ، والسيدة سكينة تبز نساء عصرها علماً وتقى وورعاً وزهادة.

صحبت والدها الإمام (ع) إلى كربلاء ، وشاهدت تلك المجزرة العظيمة ، ومصرع أهلها الميامين.

__________________

(١) السيدة سكينة ـ للسيد عبد الرزاق الموسوي المقرم ص ٣٣.

٣١٦

وقفت بجانب عمتها العقيلة زينب ، تتلقى المصائب صابرة محتسبة. وتكويها الأحزان بنار ملتهبة. وتذوق مرارة فقد الاحبة ، فلا تزيدها كل هذه الآلام إلا عزوفاً عن ملذات الدنيا ، ويصفها والدها الحسين (ع) « خيرة النسوان ».

في ساعة الوداع يوم « طف كربلاء » افتقد الحسين ابنته الحبيبة سكينة فوجدها منحازة عن النساء ، باكية العين ، كسيرة الفؤاد.

اكب عليها يقبلها في لهفة وحنان ، ثم رفع رأسه وقال في شجاعة واشفاق :

« هلا ادخرت البكاء ليوم غد ؟ تجلدي يا حبيبتي واصبري ان الله مع الصابرين ».

سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي

منك البكاء إذا الحمام دهاني

لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة

ما دام مني الروح في جثماني

فإذا قتلت فانت أولى بالذي

تأتينه يا خيرة النسوان

ها هي السيدة سكينة ، واقفه على أرض كربلاء ، بجانب جثة ابيها الإمام (ع) مهيضة الجناح ، حزينة القلب ، تتزاحم الدموع في مقلتيها في حين تطوي الألم والحسرات بين أضلعها وتردد :

ان الحسين غداة الطف يرشقه

ريب المنون فما ان يخطئ الحدقة

بكف شر عباد الله كلهم

نسل البغايا وجيش المرق الفسقة

أأمة السوء هاتوا ما احتجاجكم

وجلكم بالسيف قد صفقه

الويل حل بكم إلا بمن لحقه

صيرتموه لا رماح العدى درقه

يا عين فاحتفلي طول الحياة دماً

لا تبك ولداً ولا أهلاً ولا رفقه

٣١٧

لكن على ابن رسول الله فانسكبي

قيحاً ودماً وفي اثريهما العلقة

ويختلط صوت سكينة مع صوت أمها الرباب ، الثكلى الوالهة. تلك التي صغرت الدنيا في عينيها ، وكبرت المصيبة عليها ، فلم تقو على حملها لا تعرف غير البكاء والعويل. ونسمعها تردد وتقول :

واحسيناً فلا نسيت حسيناً

اقصدته اسنة الأعداء

غادروه بكربلاء صريعاً

لا سقى الله جانبي كربلاء (١)

اجل : الرباب الزوجة الوفية المخلصة التي ترعى العهد والذمام فقد ذكرت الأخبار انها استغرقت في حزنها على الحسين ، نادبة حزينة ، لا يظللها سقف. وقد خطبها الكثير من الوجهاء والأشراف ، ولكنها رفضت باصرار وقالت :

ما كنت لاتخذ حماً بعد رسول الله (ص).

ثم تشرق بدمعها وتقول نادبة :

ان الذي كان نوراً يستضاء به

بكربلاء قتيل غير مدفون

سبط النبي جزاك الله صالحة

عنا وجنبت خسران الموازين

قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به

وكنت تصحبنا بالرحم والدين

من لليتامى ومن للسائلين ومن

يغني وياوي اليه كل مسكين

والله لا ابتغي صهراً بصهركم

حتى اغيب بين الرمل والطين

__________________

(١) والرباب هي زوجة الحسين (ع) ووالدة سكينة ، وهي التي طلبت رأس الحسين من ابن زياد ، فلما رأته أخذته ووضعته في حجرها وقالت هذه الأبيات.

٣١٨

شخصية السيدة سكينة الاجتماعية :

لقد استطاعت السيدة سكينة ان تنفرد بمكانة اجتماعية مرموقة ، لم ترق اليها سيدة سواها في ذلك العصر ، فكانت الشخصية الاولى في المجتمع الحجازي ... بل الاسلامي من حيث التقى والزهد والورع والمعرفة والأدب.

على أن السيدة سكينة كانت مشغولة البال ، تراعي حركات الوالد الشفوق في معركته الجبارة ضد الظلم.

إن الأحداث العنيفة التي جذبت سكينة الى دوامة الاعصار ، وشغلتها عن كل ملذات الحياة وبهارجها. هي التي صنعت منها الزهد والاستغراق في العبادة ، كما فعلت الأحداث بعمتها العقيلة زينب التي عاشت في صميم المعركة وألهتها الفجيعة بأخيها الحسين عليه‌السلام عن ولديها اللذين استشهدا في الدفاع عن الحق.

وكذلك كان حال الرباب والدة سكينة لم نسمع من المؤرخين أنها كانت تذكر ولدها عبد الله بل كانت تبكي الحسين وترثيه ، حتى ماتت حزناً وكمداً ... بعد وقعة كربلاء بعام واحد.

وبعدما ذكرنا لمحة موجزة من سيرة السيدة سكينة لابد لنا من ذكر بعض من كتب عنها وأغرق في كتابته ، ونسب إليها اموراً لم تكن بها ، كأبي الفرج الأصبهاني مثلاً قال :

« اجتمع نسوة من أهل المدينة ، من أهل الشرف ، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه ، فتشوقن إليه وتمنينه ، فقالت سكينة بنت الحسين (ع) أنالكنَّ به.

٣١٩

فأرسلت إليه رسولاً وواعدته « الصورين » وسمت له الليلة والوقت ، وواعدت صواحباتها فوافاههن عمر على راحلته ، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن فقال لهن : والله إني لمحتاج لزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصلاة في مسجده ، ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئاً.

ثم انصرف الى مكة وقال :

قالت سكينة والدموع ذوارف

منها على الخدين والجلباب

ليت المغيري الذي لم أجزه

فيما أطال تصيدي وطلابي

كانت ترد لنا المنى أيامنا

إذ لا نلام على هوى وتصابي

خبرت ما قالت فبت كأنما

ترمي الحشا بنوافذ النشاب

أسكين ما ماء الفرات وطيبه

مني على ظمأ وطيب شراب

بالذِّ منك وإن نأيت وقلما

ترعى النساء امانة الغياب (١)

وما رواه صاحب الأغاني ، البارع في وضع القصص والكثير من المفتريات وخصوصاً على البيت الهاشمي ، فشأنه معروف لأنه أموي النسب « والعداء بين البيت الهاشمي النبيل والبيت الأموي متغلغل في النفوس ».

إن كل عاقل ومنصف يكاد يقطع أن المراد من سكينة في الأبيات التي قالها عمر بن ابي ربيعة ... هي في سكينة بنت خالد بن مصعب.

والظاهر أن صاحب الأغاني الأموي ، أراد أن يبرئ ساحة سكينة بنت

__________________

(١) الاغاني لأبي الفرج الاصبهاني.

٣٢٠