المرأة في ظلّ الإسلام

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله

المرأة في ظلّ الإسلام

المؤلف:

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٥

النهج وغيره ، بما مضمونه ومعناه :

أن الزهراء عليها‌السلام عندما رجعت من المسجد الشريف الى منزلها ، مهضومة الحق ... كسيرة القلب ، حزينة ، وذلك بعدما خاطبت المهاجرين والأنصار ولم تجد تجاوباً منهم ، لم تتمالك من أن توجه اللوم الى زوجها ابي الحسن علي عليه‌السلام ، بكلام تبدو عليه ... القسوة ... والشدة ... والملامة.

وفيما هي تحدثه وتخاطبه لائمة إِياه على تقاعده وسكوته عن حقه الشرعي والمطالبة به وإِذا بصوت المؤذن يتعالى :

« الله أكبر ... أشهد أن لا إله إلا الله ... وأشهد أن محمداً رسول الله ».

عندها قام علي الى السيف ... واستله من غمده ، والتفت الى الزهراء قائلاً : ما معناه ...

يا بنت رسول الله ؟ لو نازعت القوم في طلب حقي ... وحاربتهم عليه وطالبتهم بحقك من الإرث ، لثارت ثائرتهم ، وذهبوا أشتاتاً ، ولم يبق للإسلام إسم ... ولا رسم. واختفى هذا الصوت الذي يتعالى في الأجواء مردداً :

«الله اكبر ... أشهد أن لا إله إلا الله ... أشهد أن محمداً رسول الله ».

عندها هدأت ثورة الزهراء وسكنت ، وتعلًّقت بالإمام عليه‌السلام ، ودموعها تنساب على خديها وهي تقول : بل اصبر يا ابن عم ... حسبي ... وغايتي ... بقاء هذا الصوت والحفاظ على بقاء رسالة ابي ... وتركيز دعائم الاسلام ونشره.

٢٢١

وفاة الزهراء (ع)

يذكر المؤرخون ان الزهراء (ع) استسلمت للحزن فلم ترى قط منذ وفاة والدها النبي (ص) إلا باكية العين كسيرة الفؤآد.

الزهراء رافقت دعوة أبيها منذ بدايتها ، وتأصلت في نفسها أركان الرسالة حتى أصبحت وكأنها جزء من حياتها وقاعدة عظيمة من كيانها ، تمدها بالثبات على الحق ، والدفاع عن المظلومين والضعفاء والمحرومين والمعذبين.

تضحي بكل ما لديها لإسعاد البشر ، وإقامة العدل ولا تتواني مهما كان الثمن غالياً.

وكانت عليها‌السلام تتمثل دائماً بابيات من الشعر تتذكر بها أيام أبيها فتقول :

صبت علي مصائب لو أنها

صبت على الأيام عدن لياليا

قد كنت أرتع تحت ظل محمد

لا اختشي ضيماً وكان جماليا

واليوم اخضع للذليل واتقي

ضيمي وادفع ظالمي بردائيا

واخيراً مرضت الزهراء (ع) ، وساء حالها ، فبادرت نساء المسلمين لعيادتها ...

نظرت اليهن ثم أشاحت بوجهها عنهن قائلة :

٢٢٢

اجدني كارهة لدنياكن مسرورة بفراقكم ، وسأشكوا إلى الله ورسوله ما لقيت من بعده ... فما حفظ لي حق ، فخرجن من عندها كسيرات ، يتلاومن ... وقد ادهشن ما سمعن ورأين.

وصية الزهراء (ع) :

ذكر أصحاب التاريخ وأهل السير وصية الزهراء (ع) على عدة أوجه ، ففي رواية : انها لما احست عليها‌السلام بدنو أجلها ، استدعت اليها زوجها « عليا » امير المؤمنين (ع) فاوصته وصيتها ، وطلبت منه ... وألحت عليه ان يواري جثمانها في غسق الليل ، حتى لا يحضر جنازتها أحد من الذين ظلموها ، وجحدوا حقها ، وان يعفى موضع قبرها.

واوصته أيضاً أن يتزوج ابنة اختها « امامة » لتقوم على رعاية ابنائها ، قالت له :

« يا ابن عم لابد للرجال من النساء ، فإذا أنا مت ، فعليك بابنة اختي « امامة » فانها تكون لأولادي ... مثلي ...

يقول ابن سعد في طبقاته : « ان فاطمة احبت ان يصنع لها نعشاً يواري جثمانها ، لأن الناس كانوا يومذاك يضعون الميت على سرير مكشوف لا يستر. فكرهت ذلك ، واحبت ان لا ينظر جثمانها أحد وهي محمولة على أكتاف الرجال.

فاستدعت « أسماء بنت عميس » وشكت اليها نحول جسمها وقالت لها : اتستطيعين ان تواريني بشيء ؟

قالت اسماء اني رأيت الحبشة يعملون السرير للمرأة ، ويشدون النعش

٢٢٣

بقوائم السرير ، فأمرتهم بذلك وعمل لها نعش قبل وفاتها ، ولما نظرت اليه قالت :

« سترتموني ستركم الله ».

وفي رواية : لما نظرت اليه ابتسمت ، وكانت هذه أول ابتسامة لها بعد وفاة ابيها ».

والذي وعاه التاريخ ، ان الزهراء (ع) ، كان يبدو عليها الارتياح في اليوم الاخير من حياتها ، فقامت من فراشها ونادت أولادها ، فعانقتهم طويلاً وقبلتهم ثم أمرتهم بالخروج إلى زيارة قبر جدهم رسول الله (ص).

وكانت أسماء بنت عميس تتولى خدمتها وتمريضها (١) فطلبت منها بصوت واه ضعيف ، ان تهيء لها ماء لتغتسل.

وبكل ارتياح ، بادرت أسماء إلى احضار طلبها ، فاغتسلت (ع) ولبست أحسن ثيابها وبدا عليها الحبور ، فظنت أسماء انها تماثلت للشفاء.

ولكن تبددت ظنونها عندما طلبت منها ان تنقل لها الفراش إلى وسط البيت. وقفت أسماء والدهشة بادية على وجهها ، وقد ساورها قلق شديد عندما رأت الزهراء قد اضطجعت على الفراش واستقبلت القبلة ، ثم التفتت اليها قائلة :

« اني مقبوضة الآن وراحلة عن هذه الدنيا ، إلى جوار رب رحيم ، لاحقة بأبي الرسول الكريم ... »

__________________

(١) وفي رواية ثانية أن أم رافع مولاة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي كانت تسهر عليها ، وتتولي تمريضها.

٢٢٤

وتسمرت أسماء في مكانها وقد عقدت الدهشة لسانها لما رأت وسمعت ...

لقد اذهلها الخطب العظيم ، واستبد بها القلق والجزع والخوف على الزهراء وما هي إلا دقائق معدودات حتى حم القضاء وعلت صفرة الموت وجه سيدة النساء.

صاحت أسماء وناحت ، وعلا الصراخ، فاسرعت زينب والحسنان لاستفسار الخبر ، فوجدوا أمهم قد فارقت الحياة ...

واجتمع الناس على صوت البكاء والعويل ، واحاطوا بدار علي بن أبي طالب وهم بين باك وباكية ، ومتفجع ومتفجعة وقد اشتد بهم الحزن والاسى على بضعة الرسول فاطمة الزهراء (ع).

وعن ينابيع المودة عن أم سلمة (رض) قالت :

اشتكت فاطمة في وجعها ، فخرج « علي » لبعض حاجته فقالت لي فاطمة :

يا اماه اسكبي لي ماء ، فسكبت لها ماء ، فاغتسلت أحسن غسل ، ثم قالت : يا اماه ناوليني ثيابي الجدد ، فناولتها ثم قالت : قدمي فراشي وسط البيت ، فاضطجعت ووضعت يدها اليمنى تحت نحرها ، واستقبلت القبلة ثم قالت : يا اماه اني مقبوضة الآن ، فلا يكشفني أحد ، ولا يغسلني أحد.

قالت أم سلمة : فقبضت مكانها صلوات الله وسلامه عليها.

قالت : ودخل « علي » فاخبرته بالذي قالت ، فقال علي : والله لا يكشفها

٢٢٥

أحد. فدفنها بغسلها ولم يكشفها أحد. ولم يغسلها أحد (١).

واختلفت الروايات ، فقيل : « لما توفيت غسلتها أسماء بنت عميس وعلي ( رضي الله عن الجميع ) ودفنها ليلاً (٢).

ورحم الله القائل :

ولأي الأمور تدفن ليلاً

بضعة المصطفى ويعفى ثراها

ضاقت الدنيا على علي بن أبي طالب (ع) ، واشتد به الحزن على أم الحسنين زوجته فاطمة بنت الرسول (ص).

وبعد دفنها هاج به الألم ، فوقف على القبر يتحسر ، وقلبه يعتصر اسى ولوعة ثم قال : (٣)

« السلام عليك يا رسول الله ،عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك ، قل يا رسول الله عن صفيتك صبري ، ورق عنها تجلدي ، إلا ان لي في التأسي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز ، فلقد وسدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك فإنا لله وانا اليه راجعون.

فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، أما حزني فسرمد ، وأما ليلي فمسهد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم.

وستنبئك ابنتك بتضافر امتك على هضمها ، فاحفها السؤال ، واستخبرها

__________________

(١) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ...

(٢) مرآة الجنان ـ لليافعي المكي ـ ج ١ ـ ص ٦٠.

(٣) اعلام النساء للاستاذ عمر رضا كحالة.

٢٢٦

الحال ، هذا ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر. والسلام عليكما سلام مودع لا قال ، ولا سئم ، فإن انصرف فلا عن ملالة ، وإن اقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين.

ثم تمثل علي (ع) عند قبرها فقال :

ارى علل الدنيا علي كثيرة

وصاحبها حتى الممات عليل

لكل اجتماع من خليلين فرقة

وكل الذي دون الممات قليل

وان افتقادي فاطماً بعد احمد

دليل على ان لا يدوم خليل

وخشع الإمام عليه‌السلام ، ولم يتمالك من البكاء وهو يسوي التراب ، ففاضت عبراته ، وأخذ ينفض يديه بحركة يائسة ، وكأنه قد فرغ من الدنيا بعد ما وارى تحت الثرى ، زوجته الحبيبة ، وشريكة حياته التي ملأت عليه دنياه ووقفت بجانبه تشده وتوآزره في السراء والضراء. كما كانت أمها « خديجة » تناضل وتكافح وتضحي في كل غال ورخيص مجاهدة مع الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٢٧

الذكريات

وطافت الذكريات بالإمام علي (ع) واستولى عليه الحزن واستسلم لذكريات الماضي الحبيب ، وأخذت تمر هذه الصور في مخيلته متلاحقة تذكره بالراحلة الطاهرة الزكية التي كانت أشبه الناس بأبيها.

تذكرها يوم وقفت تلك الوقفة العظيمة ، تُذكِّر المسلمين ما أنساهم إياه الدهر ... أو تناسوه كما جاء في كتاب الغدير (١). حيث قالت : نسيتم قول رسول الله (ص) يوم غدير خم : « من كنت مولاه فعلي مولاه » وقوله أيضاً (ص) : يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى.

وكانت من أقرب الناس الى أبيها في الجود والسخاء والكرم ؛ ألم تسمعه يقول :

« السخاء شجرة من أشجار الجنة ، أغصانها متدلية الى الأرض ، فمن أخذ منها غصناً قاده ذلك الغصن إلى الجنة ».

وقالت أيضاً : السخي قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنة ، بعيد عن النار ، وإن الله جواد يحب كل جواد.

__________________

(١) الغدير ـ للشيخ الاميني ـ ج ١ ـ ص ١٩٧.

٢٢٨

وبلغ من جودها (ع) وسخائها العظيم ، انها كانت تؤثر المحتاجين على نفسها ، وتعطي الفقراء قوتها الذي لا تملك سواه كما كان يفعل أبوها النبي وزوجها علي وبهم نزلت الآية الكريمة : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (١).

وبدا الإمام (ع) في حزنه كسير القلب ، متصدع الأركان مع أنه ذلك الأسد الهصور، والبطل الهمام.

وتذكر الزهراء (ع) ، والحسرة تعصر قلبه ... لما لاقته في حياتها من أتعاب ، وآلام وأفراح وأحزان ، صاحبة النفس الرحيمة والقلب الكبير التي قضت حياتها وأفنت عمرها القصير في الجهاد والتضحية لخدمة الإسلام والمسلمين.

فكيف ينسى الإمام (ع) زوجته ، هذه الإنسانة الحورية ... وينسى مواقفها البطولية ، وشجاعتها وبلاغتها وعلمها وفصاحتها ، مع ثباتها على الحق.

وإذا اشتد به الأسى والألم نجده عائداً إلى بيته وألم الحزن يحز في نفسه.

وكيف لا يكون ذلك وقد فقد شخصين عظيمين من أعز الناس عليه وهما « محمد ... وفاطمة » تلك الشجرة الطيبة والغمامة ذات الظل الوارف ، والعلم الزاخر والغضل الذي لا يدرك مداه.

__________________

(١) سورة الحشر ـ آية ـ ٩.

٢٢٩

لقد ظلت الزهراء عليها‌السلام ، بعد وفاة ابيها (ص) ، تكافح من أجل احقاق الحق ، وارجاعه لاهله ، وتثبيت ، دعائم العدل ، ودفع الظلم الذي أحيط بها وبزوجها « علي » ، وبقيت تناضل الى ان فارقت الدنيا ، تاركة احسن صورة للانوثة الكاملة ... المقدسة.

ما اجمل تعبير الاستاذ العقاد حيث يقول :

( ان في كل دين صورة للانوثة الكاملة المقدسة ، يتخشع بتقديسها المؤمنون ، كأنما هي آية الله من ذكر وانثى.

فاذا تقدست في المسيحية صورة « مريم العذراء. » ففي الاسلام لا جرم أن تتقدس صورة « فاطمة الزهراء ... البتول ».

وسيظل ذكر الزهراء على لسان المؤمنين ، يخلدونه ، ومركزها ومكانتها وجلال قدرها الرفيع بين اعلام النساء ، وعباد الله المكرمين ).

واختلف في تاريخ وفاتها ، فقد ذكر ابن سعد في طبقاته ، انها توفيت بعد ابيها بثلاثة أشهر ، وعمرها عشرون عاماً ، وقيل بستة أشهر ، وقيل لحقت بأبيها بعد خمسة وسبعين يوماً ، وذلك في اليوم الثالث من شهر رمضان الى غير ذلك من الروايات.

وضم ثرى المدينة المنورة ، جثمان الصديقة الطاهرة ، فاطمة الزهراء كما احتوى من قبل على جثمان ابيها الرسول (ص).

وأوحشت ديار بني هاشم بعد النبي وابنته وافتقد اهلها النور الذي كانوا يهتدون به والركن القويم الذي اليه يستندون ويلجأون.

٢٣٠

حزن علي على فراق زوجته الزهراء (ع) :

تقول المرويات كان علي بن ابي طالب عليه‌السلام يزور قبر زوجته الزهراء في كل حين ، واقبل ذات يوم فانكب على القبر ، وبكى بكاء مراً وأنشأ يقول :

مالي مررت على القبور مسلماً

بر الحبيب فلم يرد جوابي

يا قبر مالك لا تجيب منادياً

أمللت بعدي خلة الاحباب ؟

فأجابه هاتف يقول :

قال الحبيب وكيف لي بجوابكم

وانا رهين جنادل وتراب

أكل التراب محاسني فنسيتكم

وحجبت عن اهلي وعن اترابي

فعليكم مني السلام تقطعت

مني ومنكم خلة الاحباب

وبات أهل المدينة والمسلمون وقد خيم عليهم الحزن وظللتهم الكآبة لفقد الزهراء بضعة الرسول.

ماتت الزهراء بجسمها ، ولكنها بقيت بروحها ، ولا تزال حية في قلوب المؤمنين ... ورمزاً حياً للمرأة المسلمة ، وقدوة صالحة للمقتدين ...

بقي صدى كفاحها عليها‌السلام ، وثباتها على الحق وجهادها في سبيل الاسلام يقضُّ مضاجع حكام السوء ، وطغاة العصور على مر الأيام والسنين.

روت عن ابيها الرسول الأعظم (ص) الكثير من الاحاديث والروايات ،

٢٣١

فقد ولدت في بيت الوحي ومهد النبوة وترعرعت تحت ظل صاحب الرسالة. ورافقتها حتى آخر حياتها الشريفة.

وعت الاسلام ووقائعه وانتصارته. وقد روى عنها ولداها الحسن والحسين ، ووالدهما علي بن ابي طالب (ع).

كذلك روت عنها السيدة عائشة ام المؤمنين والسيدة ام سلمة وسلمى أم رافع ، وانس بن مالك وغيرهم الكثير من كبار الصحابة ومشايخ وعلماء المسلمين الصالحين ...

وما عساني ان اكتب عن الزهراء عليها‌السلام ... ولكن اكتفي بالقول ان قلمي عاجز ...

يحق لي ان اعترف بالعجز عن الاحاطة بما كتب عن حياتها التي قضتها في الجهاد والكفاح في سبيل الاسلام والعقيدة مع ابيها النبي ... وزوجها الامام علي وولديها السبطين الحسن والحسين (ع).

واعترف ايضاً بالقصور عن ادراك معرفتهم ، وسبر غورهم ، والاحاطة بصفاتهم وفضائلهم ...

« وفوق كل ذي علم عليم »

بآل محمد عرف الصواب

في ابياتهم نزل الكتاب

وهم حجج الاله على البرايا

وبجد هم لا يستراب

٢٣٢

المرأة في صدر الاسلام :

ان صدر الاسلام ليس له تحديد معين بارقام سنين لا يتعداها ، ولكننا نقصد به ذلك الزمن الذي مضى من بدء دعوة محمد (ص) عهد الرسول الكريم وخلفائه الراشدين (١).

ذلك العهد الذي كان الناس يتقيدون باحكام الشرع العظيم ، وتعاليم الدين القويم.

وصدر الاسلام هو عهد انتقال من البداوة وعاداتها وتقاليدها ، وجاهليتها الى الاسلام وشريعته السمحاء ونظمه الحضارية وقوانينه المدنية.

وقد بذل المسلمون الجهود الجمة الجبارة ، ولاقوا المتاعب والمصاعب لسلوك الطريق الافضل ، بين التقاليد الموروثة والاعتقادات والعادات القديمة ... وبين ما جاء به الاسلام من تنظيم ديني ... ومدني ... وتوحيد لله سبحانه ، بالاضافة الى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ونحن اذ نتكلم أو نكتب عن المرأة في صدر الاسلام وما بعده حتى الآن ، ونشرح ما اصاب المرأة واخلاقها من التبدل والتطور ، يجب ان نشير ايضاً الى الرجل وما طرأ عليه من تطور وتبدل.

أليس كلاهما عضو فعال في الهيئة الاجتماعية الواحدة يؤثر فيها ... ويتأثر بها ؟!

__________________

(١) الخلفاء الراشدين ... حسب اصطلاح المؤرخين.

٢٣٣

ولا يمكننا ان نتجاهل تأثير الرجال الشديد بصورة خاصة على المجتمع النسائي.

اخلاق المرأة المسلمة في صدر الاسلام :

ان شمائل المرأة العربية واخلاقها الحميدة ، لهي اجمل صفة كانت تتحلى بها ، فقد كانت بحكم البيئة والمجتمع القديم رغم تسلط الرجل عليها ، وتعسفه واستئثاره ، تحتفظ بمزايا فطرية عظيمة ونبيلة.

كالشجاعة ... والجرأة الادبية ... والعفاف ... والكرم ... والوفاء ... وحفظ الجوار ... واغاثة الملهوف ... والعفو عن المقدرة ... الى غير ذلك من الاخلاق الفاضلة ، والمزايا الحميدة ...

فلما جاء الاسلام أبقى على هذه المزايا والشمائل ، وتعهدها واضاف اليها صفات جديدة ...

كالتقى والايمان ... والورع ... والتدين وكان الاسلام حريصاً على مكارم الاخلاق كما ورد في الحديث الشريف عن الرسول الاعظم (ص) « انما بعثت لأتم مكارم الاخلاق ».

وحتى نتمكن من الاحاطة بما فعله الاسلام من تبديل وتطوير وتأثير على اخلاق المرأة وسير حياتها ، لابد لنا من استعراض بعض مآثرها في النواحي الاجتماعية لتوضيح ما كان من سيرة حياتها في ذلك العهد.

جهاد المرأة في الاسلام :

لقد كانت الشجاعة في ايام الجاهلية عنوان القوم ، ومدار اهتمامهم ،

٢٣٤

والمحور الذي تدور عليه مفاخرتهم واشعارهم وغزواتهم وحروبهم.

ولما ظهر الاسلام بنور تعاليمه الساطعة ، انبرت المرأة للمساهمة بنصيبها الاكبر في الجهاد.

فكانت مع الرجل جنباً الى جنب تروي ظمأه اذا عطش وتضمد جراحه اذا اصيب ، وتثير الحماس في رؤوس المقاتلين.

واذا اضطرت للدفاع ، او تعرضت للاهوال ، وقفت وقفة الابطال ، واقبلت على محاربة الاعداء ، غير هيابة ولا وجلة ، بشجاعة وثبات ... وصلابة وعقيدة.

في حين نرى ان بعض الرجال البارزين ، يعجز ... أو يهاب ان يقف موقفها.

جهاد الهاشميات :

ان جهاد بني هاشم في سبيل الاسلام معروف ومشهور لا ينكره احد.

فكما كان للرجال جهاد ، كان للنساء مواقف سجلها التاريخ على صفحاته وفي مقدمة النساء كن الهاشميات فقد ساهمن في سبيل الدفاع عن الاسلام ، واعلاء كلمته ما وسعهن المساهمة. سواء بالشجاعة والاقدام ... او بالخطب والكلام. واولهن الصحابية الجليلة سليلة البيت الهاشمي الرفيع. « صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول ».

٢٣٥

صفية بنت عبد المطلب :

لقد حدثنا التاريخ عن بطولة وجهاد سيدة عظيمة هي صفية بنت عبد المطلب بن هاشم ( عمة الرسول ).

ذكر ابن هشام في سيرته (٢).

« كان رسول الله (ص) ، اذا خرج لقتال عدوه ، اصطحب بعض نسائه معه ، ففي غزوة ( الخندق ) رفع ازواجه ونساءه في حصن حسان بن ثابت ، وكان من احصن آكام المدينة.

فمر رجل يهودي وجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة ، وقطعت ما بينها وبين رسول الله (ص) والمسلمون في نحور عدوهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا الى ذلك الحصن إن اتاه آت.

فقالت صفية : يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن ، واني والله ما آمنه ان يدل على عورتنا من ورائنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله (ص) واصحابه ، فانزل اليه فاقتله.

فقال حسان : يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب ! والله لقد عرفت ما انا بصاحب هذا.

__________________

(١) ذكر هذا الحديث جميع اهل التاريخ والسير ـ كالسيرة الحلبية ـ والسيرة النبوية لابن هشام ـ كتاب الدر المنثور لزينب فواز ـ اعلام النساء عمر رضا كحالة وغيرهم.

٢٣٦

فلما سمعت صفية كلام حسان ، قامت فأخذت عموداً ثم نزلت من الحصن الى ذلك اليهودي فضربته في العمود فقتلته.

ثم رجعت الى الحصن فقالت : يا حسان. انزل اليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل.

فقال لها حسان : « ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب ».

وتقول بعض المرويات : ان صفية لما قتلت اليهودي ، وقطعت رأسه ، قالت لحسان :

« قم فأطرح رأسه على اليهود وهم أسفل الحصن ».

فقال : والله ما أستطيع ذلك. قالت : فقمت فرميت رأسه على اليهود ، فأدهش ذلك اليهود وقالوا :

« لقد علمنا أن هذا ( محمداً ) لم يكن ليترك أهله خلواً ليس معهم أحد. فتفرقوا خائفين ».

وهذه الراوية تشهد لصفية بنت عبد المطلب بالشجاعة الفائقة والاقدام على نصرة الاسلام.

ولكنها لم تنقص من قدر حسان بن ثابت شاعر الرسول الأعظم (ص) ولم يكن خاملاً ...

حسان بن ثابت ليس رجل حرب ... وليس بمقدوره مقارعة الفرسان ...

بل إن جهاده في سبيل إعلاء كلمة الحق ونشر راية الاسلام كان بشعره ولسانه وبيانه ... لا بسيفه ورمحه وسنانه.

أجل إن شاعر الرسول « حسان بن ثابت » وإن كان جباناً في القتال ،

٢٣٧

لكن له مواقفه الجليلة ، حيث يصنع اللسان ما يعجز عنه السنان.

ومما يروى عن الرسول الأعظم (ص) ، انه كان ينصب المنبر لحسان بيده الشريفة ويقول : « اللهمَّ أيد حساناً بروح القدس ... ما دافع عن رسولك ».

ولحسان بن ثابت أشعار كثيرة في تأييد الرسول (ص) والرسالة وتأييد الوصية لعلي بن أبي طالب (ع) فمن ذلك قوله في يوم غدير خم.

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم واسمع بالنبي مناديا

فقال فمن مولاكم ونبيكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت نبينا

ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له : قم يا علي فإنني

رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أتباع صدق مواليا

هناك دعا اللهمَّ وال وليه

وكن للذي عادى علياً معاديا

« وشهدت صفية ( عمة الرسول ) غزوة ( أحد ) ولما انهزم المسلمون قامت وبيدها رمح تضرب في وجوه الناس وتقول :

انهزمتم عن رسول الله ؟!

فلما رآها رسول الله (ص) قال لابنها الزبير بن العوام : إلقها فارجعها حتى لا ترى ما بشقيقها الحمزة بن عبد المطلب. فلقيها الزبير فقال لها : يا أماه ... إن رسول الله (ص) يأمرك أن ترجعي ، فقالت : ولمَ ؟ ... فقد بلغني أنه مثل بأخي « حمزة » وذلك في الله عز وجل قليل ، فما أرضانا بما كان من ذلك. لأحتسبن ولأصبرن إنشاء الله تعالى.

فلما جاء الزبير رسول الله (ص) فأخبره بذلك قال : خل سبيلها.

٢٣٨

فأتت صفية الحمزة ، فنظرت اليه ، وصلت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له.

ثم أمر رسول الله (ص) به فدفن (١) وقالت تبكي أخاها الحمزة وترثيه.

أسائلة أصحاب أحد مخافة

بنات ابي من أعجم وخبير

دعاه إله الحق ذو العرش دعوة

الى جنة يحيا بها وسرور

فوالله لا أنساك ما هبت الصبا

بكاء وحزناً محضري ومسيري

فيا ليت شلوي عند ذاك واعظمي

لدى أضبع تعتادني ونسور

كانت صفية شجاعة مقدامة ، عملت جهدها في سبيل نصرة الاسلام والمسلمين ، وتوفيت رحمها الله في سنة عشرين للهجرة ، ودفنت في البقيع.

__________________

(١) أمر رسول الله (ص) بدفن عمه الحمزة رضي‌الله‌عنه حيث قتل ولا يزال قبره الى الآن عند جبل احد.

واحد ـ جبل قرب المدينة المنورة. دارت قربه المعركه المشهورة ـ بوقعة احد.

٢٣٩

فاطمة بنت اسد بن هاشم

سيدة جليلة حافظت على رسول الله (ص) حفاظ الصدر على جنانه ، والطرف على إنسانه ، كانت تؤثره عليه الصلاة والسلام على أولادها ، وترعاه بعناية تامة ، وتحنو عليه أكثر من حنو الوالدة على رضيعها.

لذلك نرى النبي (ص) قابل صنيعها الجميل ، وما قامت به من خدمات أحسن مقابلة.

روي عن الرسول (ص) لما توفيت فاطمة بنت اسد بن هاشم (١) زوجة أبي طالب ، ووالدة علي أمير المؤمنين (ع) كفنها رسول الله (ص) في قميصه وصلى عليها ، وكبر عليها سبعين تكبيرة ، ونزل في قبرها فجعل يومي في نواحي القبر كأنه يوسعه ، ويسوي عليها ، وخرج من قبرها وعيناه تذرفان. وجثا في قبرها ، فلما ذهب قال له عمر بن الخطاب :

يا رسول الله رأيتك فعلت على هذه المرأة شيئاً لم تفعله على أحد ؟ فقال : يا عمر إن هذه المرأة كانت بمنزلة امي التي ولدتني.

__________________

(١) ذكر السيد الامين في كتابه أعيان الشيعة ـ أن فاطمة بنت اسد سبقت الى الاسلام وهاجرت الى المدينة في أول الهجرة. وروى الحاكم في المستدرك قال : كانت فاطمة بنت اسد اول هاشمية ولدت من هاشمي ، وكانت بمحل عظيم من الإيمان ، في عهد رسول الله وتوفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

٢٤٠