المرأة في ظلّ الإسلام

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله

المرأة في ظلّ الإسلام

المؤلف:

السّيدة مريم نور الدّين فضل الله


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٥

ثم قام النبي يدعو إلى الله

وفي الكفر شدة واباء

امما شربت في قلوبهم الكفر

فداء ضلال فيهم عياء

شخصية أم المؤمنين خديجة :

ستظل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها رمزاً حياً في سجل المرأة المسلمة الصالحة. وستبقى على مر العصور القدوة الحسنة التي يجب على كل امرأة أن تتبع خطاها.

لقد وقفت السيدة خديجة (رض) حياتها للعطاء الكامل. الذي وهبته للرسول الكريم ، بكل ايمان. وخطت بعقيدتها الثابتة طريق الصواب ، لبنات جنسها ، في وقت كانت البشرية لا تعي حقيقة وجود المرأة ، وقبل أن يتفتح العقل الإنساني ، ويتفهم معنى السعادة الحقيقة.

صحيح ان هناك أناساً يقيسون السعادة واللذة بمقدار ما يغرقون بها من متع جنسية ... أو بقدر ما يلتهمون من أطعمة شهية ... أو بضخامة ما يمتلكون من ثروة مالية ... الخ ... غير ان الواقع لا يؤيد ذلك أبداً ...

ان اللذة والسعادة لا تعني المتعة الحسية المادية فقط. بل هي الشعور الذاتي بالرضا ... والإسترضاء وهي كل ما يدخل الاطمئنان إلى قلب الإنسان.

ومما لا ريب فيه أن السعادة الحقيقة يفوز بلذتها كل من يتمسك بايمانه وعقيدته ومبادئ الأخلاق الفاضلة.

ان السعادة لمن يفضل الإخلاص على الخيانة ... وهي لمن يؤثر الضنك

١٤١

والدخل المحدود ، على الكسب الحرام والربا والاحتكار. وهي لمن يجد اللذة في تحمل المشاق والمتاعب للمحافظة على دينه وعرضه وشرفه.

وهذه سيدتنا خديجة أم المؤمنين (رض) لقد اكتنفت السعادة حياتها على رغم المصاعب والعقبات التي لاقتها. فكانت تذللها بقلب مطمئن بالايمان ، حتى سجلها التاريخ باحرف من نور ، بعد أن لامس الاسلام قلبها وهداها الباري إلى طريق السعادة الأبدية.

وفاة خديجة أم المؤمنين (رض) :

دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خديجة ، وهي تجود بنفسها ، فوقف ينظر اليها ، والألم يعصر قلبه الشريف ثم قال لها : ـ بالكره مني ما أرى ـ.

ولما توفيت خديجة (رض) جعلت فاطمة ابنتها تتعلق بابيها الرسول (ص) وهي تبكي وتقول : أين امي ... ؟ أين امي ... ؟ فنزل جبريل فقال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لفاطمة ان الله بنى لامك بيتاً في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب.

وبعد خروج بني هاشم من الشعب بثمانية أعوام ، ماتت خديجة (رض) وكانت وفاتها ووفاة أبو طالب في عام واحد فحزن النبي (ص) عليهما حزناً عظيماً.

وقد سمى النبي ذلك العام ـ عام الأحزان ـ وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين.

١٤٢

عظمت المصيبة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفقد عمه الكفيل أبي طالب (رض) وزوجته الوفية المخلصة المساعدة. وقال عليه الصلاة السلام ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب.

ودفنت خديجة رضوان الله عليها بالحجون ، ونزل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حفرتها. وكان لها من العمر خمس وستون سنة.

لزم الرسول صلوات الله عليه بيته حزناً عليها ، وكانت مدة إقامتها معه خمساً وعشرين سنة قضتها في كفاح وجهاد مستمر.

وفي ختام المطاف لا باس من ذكر قول الرسول الأعظم في حقها ، دلالة على عظمتها : قال عليه الصلاة والسلام :

« كمل من الرجال كثير ـ وكمل من النساء أربع ـ آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

١٤٣

عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم

هبت قريش عندما صرح النبي محمد (ص) بالرسالة ، وراح فراعنتها يتفننون في تعذيب الذين اسلموا وآمنوا ، باشد أنواع العذاب.

لقد تجاوز طغاة قريش الحدود في الظلم والاستبداد خصوصاً على المستضعفين الذين سبقوا إلى الإسلام ، ولا عشائر لهم تمنعهم ، ولا قوة ترد عنهم ظلم المعتدين من رؤساء قريش المشركين.

وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين الضعفاء ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر.

كانوا يخرجونهم إذا حميت الظهيرة ، ويطرحونهم على الرمال ، ويأتون بالصخر يضعونه على صدورهم ، ويعذبونهم باشد العذاب. فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يزداد تصلباً وإيماناً بالإسلام ونبيه.

كانت المرأة في طليعة المؤمنين الصادقين ، ومن السابقين للإسلام الذين قال الله سبحانه وتعالى في حقهم : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي

١٤٤

تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١).

وقد كانت المرأة في طليعة المؤمنين ومن الذين استعذبوا العذاب في سبيل العقيدة الإسلامية ولنا في قصة سمية أم عمار بن ياسر أكبر دليل على ما نقول.

سمية أم عمار بن ياسر :

هي بنت خباط ، كانت امة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي وكان ياسر حليفاً لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي ، فزوجه سمية. فولدت له عماراً فاعتقه.

هذه المرأة التي سجلها التاريخ ، وسجل لها جهادها وشجاعتها وثباتها على عقيدتها ، لقد صبرت سمية على العذاب والهوان ، وظلت متمسكة بعقيدتها وإيمانها حتى أصبحت في مصاف المجاهدين الذين قال الله تعالى فيهم : ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ ) (٢).

وذكر ابن هشام في سيرته : كانت سمية سابع سبعة في الإسلام ، وكانت ممن يعذب في الله عز وجل أشد العذاب ، وهي أول شهيدة في الإسلام ، قال مجاهد :

__________________

(١) سورة التوبة ـ آية ـ ١٠٠ ـ.

وقد ذكر صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن ما نصه : وفي هذه الآية ، دلالة على فضل السابقين ومزيتهم على غيرهم لما لحقهم من أنواع المشقة في نصرة الدين. فمنهما مفارقة العشائر والأقربين ـ ومنها مباينة المالوف من الدين ـ ومنها نصرة الإسلام مع قلة العدد وكثرة العدو ـ ومنها السبق الى الإيمان والدعاء اليه.

(٢) سورة الحج ـ آية : ٣٥.

١٤٥

أول من أظهر الإسلام بمكة ـ ما عدا بني هاشم ـ سبعة أشخاص ، أبو بكر ـ وبلال ـ وخباب ـ وصهيب ـ وياسر ـ وعمار وسمية.

فأما أبو بكر منعه قومه وعشيرته ، وأما الآخرون فألبسوا أدراع الحديد ، ثم صهروا في الشمس.

وفي رواية ابن عبد البر : أن عماراً جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله بلغ منّا ـ أو بلغ منها العذاب ( أي سمية ) كل مبلغ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

صبراً أبا اليقظان ، الَّلهم لا تعذب أحداً من آل ياسر بالنار ...

ثم مرَّ أبو جهل يوماً بسمية وهي في العذاب ، فأغلظت له القول ، فطعنها بحربة في قلبها فماتت. وذلك قبل الهجرة.

وروي أنه لما قتل أبو جهل يوم بدر قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لعمار : ( قتل الله قاتل أمك ).

كانت سمية أم عمار رضي الله عنها ذات إيمان قوي بالله ، أسلمت وحسن إسلامها. فكانت من السابقين الذين موعدهم الجنة.

تحملت العذاب وصبرت على الأذى صبر الكريم ، فلم تصبأ ، او تهن عزيمتها ، او يضعف إيمانها الذي رفعها الى مستوى الأبطال الخالدين.

وهناك سيدة أخرى هي « زنيرة » التي أصيب بصرها وهي في العذاب ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات ... والعزى. فقالت : كذبوا وبيت الله ، ما تضر اللات ... والعزى وما تنفعان. ولكن هذا أمر من السماء ، وربي قادر على رد بصري ... فأصبحت من الغد وقد ردَّ الله تعالى بصرها.

١٤٦

ونحن عندما نذكر بعض اللواتي تحملن الأذى من سادات قريش وجبابرتها ، وصبرن على العذاب لا ننسى النهدية ... وابنتها ، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار. فكانت تعذبهما وتقول : والله لا أدعكما إلا أن تكفرا بمحمد.

وام عبيس : وهي أمة لبني زهرة. فكان الأسود ابن عبد يغوث يعذبها (١) وغيرهن كثيرات. مما يضيق المجال عن الإحاطة بهن.

موقف المرأة المسلمة في بدء الدعوة :

الواقع أن الانقلاب الذي أحدثه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبلاغ التعاليم السماوية والنظم الإسلامية لبني البشر ، والانتقال فجأة من طور ... إلى طور ... كان شبه المستحيل.

ورغم أن التقاليد التي صاغتها العصور والعادات التي فرضتها الأجيال ، والتي يتوارثها الأبناء عن الآباء ، لا يمكن أن تزول دفعة واحدة ، ولا تندثر أو تتبدل إلا بمدة طويلة من الزمن.

لكن التعاليم الإسلامية الجديدة ، قلبت نظام المجتمع العربي ، وأسرعت إلى قلوب المسلمين ، واحتلت الصدارة في نفوس المؤمنين. فإذا بأولئك الرجال الذين كانوا بالأمس القريب ، يعتبرون المرأة مخلوقاً وضيعاً لا تصلح إلا للخدمة أو للمتعة. نجدهم ينقلبون فجأة وبسرعة مدهشة ، إلى اعتبار النساء وإكرامهن حسب التعاليم النبوية وتوجيه الرسول الكريم.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ١ ـ ص ٣٤٠ ـ والكامل في التاريخ لابن الاثير ج ٢ ص ٤٦.

١٤٧

وكذلك نجدهم يعاملوهن بالمودة والرحمة أسوة بالنبي العظيم الذي كان يعامل المملوكة الرقيقة المؤمنة ، معاملة الحرة الرفيقة الكريمة.

ونتج عن هذا التبدل ـ التطور ـ ان المرأة شعرت بمنزلتها ، وحفظ كرامتها فقمن النسوة بواجباتهن منتعشات الأرواح نشيطات الأجسام.

والفين في امتثال الرجال لأوامر الدين ونواهيه طريقاً واسعاً للانطلاق من مجال القول الى مجال العمل.

نرى بذور الخير ، وقفزات واسعة ، ونشاطاً ظاهراً للمرأة المسلمة ، التي وقفت جنباً إلى جنب تشارك الرجل في جميع المراحل ... والميادين.

فقد ابتليت بما ابتلى به المسلمون من التعذيب والاضطهاد والأذى من قريش وطواغيتها.

أجل لقد جاهدت وضحت بكل غالٍ ورخيص في سبيل عقيدتها ثابتة على إيمانها.

هاجرت إلى الحبشة فراراً بدينها مع من هاجر من المسلمين.

نعم هاجرت المرأة الهجرتين. وصلت إلى القبلتين ، وثبتت على إيمانها حين دعا داعي الحق.

١٤٨

إشارة الرسول الأعظم (ص) على اصحابه بالهجرة :

لما كثر المسلمون وظهر الإيمان ، ثار ناس كثيرون من كفار قريش على من آمن من قبائلهم ، فعذبوهم وسجنوهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم ، فقال لهم رسول الله (ص) تفرقوا في الأرض.

قالوا : أين نذهب يا رسول الله ؟

قال : ها هنا وأشار إلى أرض الحبشة ، وكانت أحب الارض إليه. فهاجر ناس ذوو عدد من المسلمين ، منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه. فخرجوا متسللين سراً وكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، حتى انتهوا الى الشعيبة ، منهم الراكب والماشي.

ووفق الله للمسلمين ساعة جاؤوا سفينتين للتجار ، حملوهم الى ارض الحبشة بنصف دينار. وكان مخرجهم في رجب من السنة الخامسة للنبوة.

وخرجت قريش في آثارهم ، حتى جاؤوا البحر حيث ركب المسلمون فلم يدركوا منهم أحداً (١).

ويقول ابن الأثير في تاريخه : « وكان عليهم عثمان بن مظعون فهو رئيس المهاجرين في الهجرة الاولى ، ليشرف على شؤونهم ويراقب أعمالهم ، كي لا تتفرق كلمتهم ، ومن هنا نعلم أن المسلمين يجب أن لا يخرجوا عن النظام الإسلامي الذي

__________________

(١) طبقات ابن سعد الكبرى ـ مجلد ـ ١ ـ ٢ ـ صفحة ١٣٦.

١٤٩

وضعه لهم النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لهم قائد يدير أمورهم ، وإن كانوا قليلين ، وإنَّ ترك المسلمين القيادة وانصراف كل حسب رأيه ، وميله ، وهواه ، لجعلهم كالغنم الشاردة فصاروا طعمة للمستعمرين ».

ولو أنهم اتبعوا دينهم العظيم ، وجعلوا لهم من وسطهم غيوراً على مصالحهم يكافح عنهم ، حسب التعاليم الإسلامية ( لا تأخذه في الله لومة لائم ) فيناضل الأعداء ، لتلافي النقصان ، وإصلاح الخلل ...

عندها تنهض الأمة الى السعادة والشرف.

الهجرة الثانية :

وبعد نقض الصحيفة ، وتضييق المشركين على المسلمين ... في حديث يطول شرحه لا مجال لذكره ... خرج المسلمون فراراً بدينهم الى أرض الحبشة ، فكانت الهجرة الثانية.

كان أمير القوم هذه المرة جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه ومعه امرأته أسماء بنت عميس.

تتابع المسلمون الى أرض الحبشة منهم من هاجر بأهله ، ومنهم من هاجر بنفسه كما ذكرنا في الهجرة الاولى.

فكان جميع من هاجر من المسلمين ، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغاراً ـ أو ولدوا في ارض الحبشة ـ كانوا ثمانين رجلاً وسبع عشرة امرأة أو ما يزيد والله أعلم

١٥٠

حزن الرسول (ص) على فراق خديجة :

بعد أن ألقينا نظرة خاطفة على حياة أم المؤمنين السيدة خديجة (رض) زوجة الرسول الكريم (ص) لابد لنا من أن نتكلم عن مدى حزن النبي (ص) لفراقه الزوجة الوفية ...

أجل ... لقد خمدت تلك الجذوة المشتعلة التي أضاءت طريق الجهاد مدة من الزمن.

رحلت خديجة الى جوار ربها آمنة مطمئنة ، وبقي الرسول الكريم (ص) بعدها في كآبة وحزن ، وهم بالغ ...

فالليالي تمضي كالحات ، مشحونة بالذكريات الأليمة ، ذكريات الزوجة الوفية ، ربة البيت ، وأم الأولاد ، وساعده القوي ، وشريكته في الجهاد.

كان عليه الصلاة والسلام يرجع الى البيت ، وهو مرهق ينوء بأعباء الرسالة العظيمة ، وقد أتعبه ما يلقى من المشركين ، من تعنت وأذى.

لقد فرح المشركون بموت خديجة ... وأبي طالب المحامي والكفيل لمحمد (ص) وظنوا أن الظلمات تكاثفت حوله ، فلن يبدو على الافق شعاع أو ضياء.

كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخلو الى نفسه ليستعيد ذكرى الراحلة التي ملأت عليه دنياه ، وقد تراكمت عليه الهموم والأحزان.

دخلت عليه خولة بنت حكيم السلمية ، وقالت له : يا رسول الله كأني

١٥١

أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة ؟!

فأجاب عليه الصلاة والسلام : ( أجل كانت أم العيال وربة البيت ).

فاقترحت عليه خولة بعد حديث طويل أن يتزوج. فأجابها بنبرة عتاب ... « من بعد خديجة ؟ »

فقالت : هون عليك ، إن أردت ثيباً فهذه سودة بنت زمعة ... أو أردت بكراً ... فعليك بعائشة بنت أبي بكر ، فقال لها : لكنها لا تزال صغيرة يا خولة.

وكان رد خولة حاضراً : تخطبها اليوم الى أبيها ، ثم تنتظر حتى تنضج.

فأجابها النبي باستغراب : حتى تنضج ؟! ثم أردف بلوعة ...

لكن من للبيت يرعى شؤونه ؟ ومن لبنات الرسول يخدمهن ؟

واخيراً أذن لها الرسول في خطبتهما. فمرت أولاً ببيت ( أبي بكر ) ثم جاءت بيت ( زمعة ) فدخلت على ابنته ( سودة ) وهي تقول : ـ ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة يا سودة ؟

فسألت ( سودة ) وهي لا تدري مراها : وماذا يا خولة ؟

قالت : أرسلني رسول الله أخطبك عليه ...

وكانت الهجرة الى يثرب ( المدينة المنورة ) بوحي من السماء أتى به جبريل.

هناك في المدينة أنصار للرسول الأعظم ، يحيطون به ويفتدونه بأرواحهم مستبسلين ، يرون الاستشهاد في سبيل الدعوة الاسلامية مجداً وانتصاراً ، وغاية أمانيهم نشر الإسلام وتعاليمه ، وتركيز دعائمه.

١٥٢

هجرة الرسول ( ص) الى يثرب :

تعالى الهتاف في أنحاء يثرب ، وخرج أهلها مسرعين ليروا الرسول الكريم (ص). وأقبلت أفواج الناس ساعية في شوق ولهفة ، الى حيث تلقى المهاجر العظيم.

خرج أهالي يثرب رجالاً ونساء ، مرحبين ... داعين بصوت واحد : « هلم إلينا يا رسول الله ـ الى العدد ـ والعدة ـ والمنعة » خرجوا وهم يهتفون :

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا

ما دعى لله داع

أيها المبعوث فينا

جئت بالأمر المطاع

وكان النبي الأعظم (ص) يحيي المستقبلين مبتسماً ثم يقول : « خلوا سبيل ناقتي ».

ولما بركت ناقة الرسول ، اختار عليه الصلاة والسلام ذلك الموضع الذي بركت فيه ، فبنى عليه مسجداً « المسجد النبوي الشريف ».

وبنى الرسول (ص) حول المسجد بيوتاً من الطين والجريد ، ... أقام بهذه البيوت بعض المهاجرين ينعمون بسماع أصوات المصلين والمتعبدين ، التي هي أعظم نغم وأعذب ترتيل ينعش قلوب المؤمنين.

وفي بعض هذه البيوت ، أقامت السيدة سودة بنت زمعة أم المؤمنين ، ترعى شؤون بيت الرسول الاعظم (ص) وتسهر على راحة بناته.

١٥٣

ولما استقر المسلمون في دار الهجرة ، حيث العدد ـ والعدة ـ والمنعة ـ وعبدوا الله بدون خوف من اضطهاد عدوهم وأذيته.

قام الرسول (ص) وخطب بالمسلمين ، وآخى بينهم ، المهاجرين منهم والأنصار. فقال (ص) تآخوا في الله أخوين ... أخوين ...

« آخى بين أبي بكر وبين خارجة بن زهير الخزرجي ، وآخى بين عمر بن الخطاب وبين عتبان بن مالك العوفي ، وآخى بين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ ... الخ ...

ثم أخذ النبي (ص) بيد علي بن أبي طالب (ع) وهو يقول : هذا أخي ... وابن عمي ... ووزيري ...

وتفرق الجمع ، وخرج كل مهاجر بأخ له ، وذهب علي بن أبي طالب (ع) بالربح الوفير ... مؤاخاة سيد البشر وخاتم الأنبياء ، فكان له الأخ والوصي ... والساعد القوي.

عاد الرسول (ص) الى بيته وقد ارتاحت نفسه الشريفة الى مؤاخاة المسلمين ، واتحادهم وتضامنهم في سبيل الدعوة الى الإسلام ونصرة الداعي.

وجاء أبو بكر يتحدث الى النبي (ص) باتمام زواج ابنته عائشة التي عقد عليها الرسول الكريم (ص) بمكة ، وهي لا تزال يومئذ بنت ست سنوات على ما يروى ـ ومنهم من قال سبع سنوات ـ.

وأصغى النبي (ص) الى حديث أبي بكر ـ ثم سأله مستفسراً كم أصبح عمرها ؟ فقال أبو بكر : تسع سنين.

« وأجاب النبي ... وأتى مع بعض الأنصار ونسائهم الى منزل أبي بكر

١٥٤

الصديق حيث كان يقيم في بيت الحارث بن الخزرج ... » (٢).

عائشة أم المؤمنين :

هي بنت أبي بكر ، وإحدى زوجات النبي (ص) المحظوظات عاشت في كنف الإسلام ، وأخذت عن الرسول الأعظم (ص) الكثير من التعاليم ، وروت عنه الروايات الكثيرة في شتى المسائل.

كانت ذات نفوذ قوي بعد وفاة النبي (ص) ساعدها على ذلك أنها زوجة صاحب الرسالة ... وابنة أبي بكر ...

وبذكائها وفطنتها اغتنمت هذين الأمرين ، فأبرزت شخصيتها وخصوصاً في مطلع خلافة أمير المؤمنين علي (ع).

نظرت عائشة فوجدت أن علي بن أبي طالب أصبح خليفة للمسلمين ، وأن طلحة والزبير بايعا علياً (٢) وهي لم ترضى بذلك ، ولم يوافق هواها.

وكيف ترضى أن يلي الخلافة بنو هاشم ، وخصوصاً علي بن أبي طالب زوج الزهراء ابنة ضرتها أم المؤمنين خديجة.

كانت مقومات الشخصية القوية مكتملة لدى ابنة أبي بكر ، فهي تعيش في

__________________

(١) تاريخ الطبري.

(٢) إن طلحة والزبير بعدما بايعا علياً (ع) نكثا البيعة عندما علما أنهما لن يحققا رغبتهما في الامرة والسلطان لأن علياً سيساوي بين افراد الامة ، ويعطي كل ذي حق حقه بلا تفاضل أو تمييز.

١٥٥

ظل بيت رفيع ، بيت صاحبة الرسالة. ـ منذ تزوجها الرسول الأعظم (ص) ـ وتستقي من لدنه علماً وأدباً ، يعينها على ذلك ، ذكاء حاد ، وفطنة وقادة ، مما جعلها موئلاً ، وملجأ لطالبي الحديث عن الرسول الأعظم (ص).

فروى عنها كبار مشايخ المسلمين الكثير مما حفظته من زوجها النبي (ص) والكثير مما استفادته هي من تجارب الحياة كقولها : كما في بلاغات النساء.

« مكارم الأخلاق عشرة ـ صدق الحديث ـ وصدق البأس ـ وأداء الأمانة ـ وصلة الرحم ـ والمكافئة بالصنيع ـ وبذل المعروف ـ والتذمم للصاحب ـ وقرى الضيف ـ ورأسهن الحياء » (١).

كانت السيدة عائشة تتمتع بشباب ناضر ، وجمال فتان ، بالإضافة الى صفات لها الأثر الكبير في زرع الثقة في النفس لدى الانثى ، هذه الثقة التي جرأت أم المؤمنين أن تخوض غمار الحرب ، وتسحر بعض المسلمين بطلاوة حديثها ، وعذوبة ألفاظها ، فتأخذ بأعنة النفوس ، وتصنع ما يصنع الرجال العظام.

إن شخصيتها ، وقوة إدراكها ، وتعقلها للامور وسعة افقها ... كل هذه الخصائص هي التي جعلتها تتفوق على صواحبها ، وتتغلب على كل ما يحيطها من مشاكل ، وتذلل أمام أهدافها الصعاب.

لكن السيدة عائشة انهزمت عند الصراع مع هواها وعواطفها ، وفشلت في تجريد نفسها من الغرائز الانثوية وبقيت الانثى ... انثى تشعر بالغيرة من غيرها.

صحيح ان لها مكان الصدارة بين زوجات النبي اللواتي كن يتوافدن الواحدة تلو الأخرى ، بعد موت خديجة التي أكرمها الباري سبحانه فلم تتجرع مرارة الضرائر ، ولم تكتوي بنار الغيرة التي تشعل صدورهن.

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ... هكذا وردت في الأصل.

١٥٦

وهنا لعبت الطبيعة دورها ، فالسيدة عائشة لا تتمكن من اخماد نار الغيرة التي تتأجج في صدرها ، وهي ذات الشعور القوي ... أليست الغيرة من صفات الأنثى ... من البشر !

ومن طريف ما يروى عن السيدة عائشة ، أن النبي (ص) قال لها مداعباً : « ما ضرك لو متِ قبلي ، فقمت عليكِ ... وكفنتك ... وصليت عليك ... ودفنتك ؟؟ ».

فأجابت وقد التهب صدرها بنار الغيرة : « ليكن ذلك حظ غيري. والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك ، لقد رجعت الى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك » (١).

لقد ضم بيت النبي (ص) عدداً من النساء ، من ذوات الجمال والذكاء ، علاوة على النسب الرفيع.

عاشت السيدة عائشة بين ضرائر من بينهنَّ السيدة الحسناء الأبية المترفعة أم سلمة بنت أبي أمية ـ زاد الركب ـ والسيدة ذات الشرف والحسب زينب بنت جحش ، وهي ابنة عمة الرسول التي كانت تفاخر ضرائرها بأن الله سبحانه زوّجها في السماء ، إشارة إلى قوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ) (٢) وأم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم مشركي مكة ، وقائد جيشها لحرب النبي (ص).

__________________

(١) تاريخ الطبري ـ ابن جرير.

(٢) سورة الاحزاب ـ آية ٣٨.

وفي مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي : نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش الاسدية ، بنت اميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله (ص) فخطبها على مولاه زيد بن حارثة. وفي الحديث ان زينب كانت تفتخر على سائر نساء النبي وتقول : ( زوجني الله من النبي وأنتن إنما زوجكن اولياؤكن ).

١٥٧

ناهيك عن جويرية بنت الحارث التي تبهر الأنظار لروعة جمالها. وحفصة بنت عمر بن الخطاب. وصفية بنت حيي بن أحطب الناعمة ... الساحرة.

ولكن السيدة عائشة كانت تقول : ما غرت من امرأة قط كغيرتي من خديجة ... ولم أرها.

لقد حاولت السيدة عائشة أم المؤمنين الاستيلاء على قلب الرسول الزوج العظيم ، بشتى الطرق ، وجعلت سلاحها من أنوثتها ـ وذكائها ـ وصباها ـ وجمالها ـ.

ولكن المرارة ... مرارة الغيرة لم تقدر أن تستسيغها ، فالحب العميق الذي يكنه الرسول الأعظم (ص) لزوجته الراحلة خديجة (رض) كان شغلها الشاغل.

لقد بقيت خديجة (رض) تشارك عائشة عواطف الزوج وحنانه ، وهي بين الأموات ، وتحت الثرى ، ولكن طيفها ما زال ماثلاً أمام عيني الرسول ، ولسانه الشريف يلهج بذكرها يردد اسمها في كل حين ، ولم يسأم من الثناء عليها حتى تأججت نار الغيرة في قلب عائشة (رض) فلم تتمالك أم المؤمنين أن قالت مرة للرسول (ص) : لقد عوضك الله من كبيرة السن ... فغضب رسول الله (ص) من كلامها غضباً عظيماً حتى أسقطت من جلدها. فقالت في نفسها : اللهمَّ إن ذهب غضب رسول الله عني لم أعد أذكرها بسوء.

وقالت عائشة : كان النبي يكثر من ذكر خديجة وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة ؟ فيقول : إنها كانت وكان لي منها ولد.

فلا غرابة أن تزداد نار الغيرة في قلب السيدة عائشة (رض) وهي تسمع النبي يردد في كل حين ( كان لي منها ولد ) وعائشة تلك الشابة الحلوة ـ ذات الذكاء

١٥٨

والفطنة لم تنجب لزوجها ولداً ، في حين أن خديجة وهي العجوز قد انجبت له البنين والبنات.

ولا يمكن للسيدة عائشة أن تتجاهل ذلك الحب الشديد للأبناء ، والحرص على الانجاب الذي كان يكمن في قلب الرسول الأعظم (ص) ورجال ذلك العهد أجمع.

إن مرارة العقم ـ وحرارة عواطف الامومة ... المحرومة ... والكبت ... كل هذه الأشياء التي هي من صنع الطبيعة البشرية وقدرة الخالق الجبار ، كانت تثير في نفس السيدة عائشة دائماً شعوراً بوطأة الحرمان التي تجثم على صدرها. وتنظر الى بنات ضرتها ( خديجة ) متحسرة تشعر كأن حواجز منيعة تقوم بينها وبينهن. بل ترى أن كل واحدة منهن هي صورة عن ضرتها التي استأثرت بقلب الزوج الرسول وما بلغته من ايثار لم يبلغه احد من قبل ... ولا من بعد.

وهذا ما جعل السيدة عائشة تخرج الى حرب علي بن ابي طالب زوج فاطمة بنت محمد (ص) ابنة ضرتها التي احتلت مكان امها خديجة من قلب الرسول (ص).

وكانت وقعة الجمل الشهيرة في البصرة التي ذكرها جميع أهل التاريخ وأصحاب السير وليس هذا المجال مجال لذكرها.

ذكرت الدكتورة بنت الشاطئ : « لما تزوج النبي اسماء بنت النعمان التي أحست عائشة خطر جمالها منذ وقعت عيناها عليها ، وقدرت انها اذا لم تحل بينها وبين زوجها الرسول فسوف تكلفها من أمرها عسراً.

ومن ثم قررت أن تفرغ منها قبل أن يتم الزواج. وبدأت تعمل على الفور مستعينة بصواحبها ...

دعت إليها حفصة واخرى ممن يحرصن من إرضائها ، فقالت لهما :

١٥٩

« قد وضع يده في الغرائب يوشكن أن يصرفن وجهه عنّا » و ...

واتفقن على خطة موحدة ... أقبلن على العروس مهنئات ، يجلونها للزفاف ، ويوصينها بما تفعل ، وما تقول استجلاباً لرضا الزوج العظيم ... ومحبته ...

فكان مما نصحهن لها به ، أن تستعيذ بالله إذا ما دخل عليها ...!

وفعلت المسكينة ...

لم تكد ترى الرسول مقبلاً عليها ، حتى استعاذت بالله وفي حسابها أنها تستجلب محبته ورضاه ...

فصرف رسول الله وجهه عنها وقال : « لقد عذتِ بمعاذ ».

وغادرها من لحظته ، وأمرها أن تلحق بأهلها ...

فبعثت إليه ـ أو بعث أبوها ـ من يتوسط لردها ويتحدث عما كان من نسائه معها ، فلم يملك عليه الصلاة والسلام ، إلا أن يبتسم ويقول :

« إنهن صواحب يوسف ... وإن كيدهن عظيم ».

وبقي (ص) عند كلمته ، فلم يمسك تلك التي ( عاذت بمعاذ ).

وتخلصت عائشة من منافسة خطرة (١).

ومما روى ابن طيفور : أن عائشة (رض) لما احتضرت جزعت ، فقيل لها :

« أتجزعين يا أم المؤمنين وأنت زوجة رسول الله (ص) وأم المؤمنين ـ وابنة أبي بكر الصديق ؟!

__________________

(١) تراجم سيدات بيت النبوة ـ الدكتورة بنت الشاطئ.

١٦٠