شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

نفس العلم مرتبطة بما هو المبنى في نحو العلاقة بين الإطلاق والتقييد ، فبناء على القول بأن العلاقة بينهما ـ في نفس الأمر والواقع ـ هي علاقة التناقض وأن التقييد هو لحاظ القيد والإطلاق هو عدم لحاظ القيد. فالإطلاق في حالة يكون التقييد مستحيلا هو المتعيّن ، فحيث إنّ أخذ العلم بالحكم قيدا للحكم مستحيل فهذا يقتضي إطلاق الحكم وعدم تقيّده بهذا القيد الذي يستحيل اعتباره.

وأمّا بناء على القول بأن نحو العلاقة بين الإطلاق والتقييد هي علاقة العدم والملكة ـ فالإطلاق هو عدم التقييد في مورد يمكن فيه التقييد والملكة هي التقييد ـ فإنّ تحقّق الإطلاق في حالة يكون التقييد مستحيلا متعذّر.

وبعبارة أخرى : إنّه لمّا كان البناء على أنّ الإطلاق هو عدم التقييد في حالة يمكن فيها التقييد فهذا يقتضي استحالة الإطلاق في موارد استحالة التقييد كما هو شأن كل مفهومين بينهما علاقة العدم والملكة.

وبهذا اتّضح أنّ الإطلاق ـ من جهة أخذ العلم بالحكم قيدا لنفس الحكم ـ مستحيل كما هو التقييد ، فتكون الأحكام من هذه الجهة مهملة أي ساكتة عن إفادة الإطلاق كما هي كذلك من جهة التقييد ، فهي في قوّة الجزئيّة والتي تعني ثبوت الحكم لبعض أفراد الطبيعة الواقعة موضوعا للحكم. وبهذا يمكن إجراء الأصول العمليّة في غير الأفراد المتيقّنة.

أخذ العلم بالحكم في موضوع حكم آخر :

ويقع البحث في المقام عن إمكان اعتبار العلم بحكم موضوعا أو جزء موضوع لحكم آخر ، كأن يؤخذ العلم بحرمة شيء موضوعاً لوجوب

٨١

شيء آخر.

وهنا ثلاث حالات متصوّرة لأخذ العلم بحكم في موضوع حكم آخر :

الحالة الأولى : هي أخذ العلم بحكم موضوعا لحكم آخر مغاير للحكم المأخوذ في الموضوع.

ومثال ذلك « إذا علمت بنجاسة الفقّاع فلا تشربه » فهنا أخذ العلم بنجاسة الفقّاع موضوعا لحرمة الشرب ، فالعلم بنجاسة الفقاع قطع موضوعي لحرمة الشرب ؛ وذلك لوقوعه في رتبة الموضوع للحرمة فهو المولّد للحرمة كما هو شأن سائر الموضوعات بالنسبة للأحكام المترتّبة عليها.

كما أنّ العلم بنجاسة الفقّاع قطع طريقي بالنسبة لثبوت الحكم بالنجاسة للفقاع ، وطريقيته باعتبار أنّ دوره بالنسبة لهذه القضيّة « الفقّاع نجس » دور الكاشف عنها.

إذن هو طريقي بالنسبة للحكم الأول وموضوعي بالنسبة للحكم الثاني. ومع اتّضاح هذه الحالة يتّضح إمكانها ، إذ لا محذور عقلا في جعل العلم ببعض الأحكام موضوعا لأحكام أخرى.

الحالة الثانية : أخذ العلم بحكم موضوعا لحكم آخر مضاد للحكم المأخوذ في الموضوع ، بمعنى أنّ الحكم المنكشف بالعلم الواقع في رتبة الموضوع مناف للحكم المجعول في رتبة المحمول ، ومنشأ المنافاة هو اتّحاد موضوع الحكمين المتنافيين الحكم المعلوم « الموضوع » والحكم المترتّب على العلم بالحكم الأول.

٨٢

ومثال ذلك أن يقول « إذا علمت بنجاسة الفقّاع فهو لك طاهر » فمنشأ المنافاة هنا هو أنّ موضوع الحكم بالطهارة وموضوع الحكم بالنجاسة واحد وهو الفقّاع ، غاية ما في الأمر أن العلم قد أخذ في موضوع الحكم بالطهارة إلاّ أنّ ذلك لا يرفع التنافي بين الحكمين ؛ وذلك لأنّ العلم بالحكم بالنجاسة لمّا كان من قيود الحكم بالطهارة فهذا يقتضي أنّ الطهارة ثابتة للفقّاع في ظرف ثبوت النجاسة للفقاع إذ أنّ القطع طريق لثبوت النجاسة للفقاع فتثبت النجاسة للفقّاع بواسطة القطع وبه يتولّد ثبوت الطهارة للفقّاع. فالفقّاع طاهر في حال نجاسته ، وهل شيء أوضح من هذا التنافي؟!

ومع اتضاح هذه الحالة تتضح استحالتها ؛ وذلك لأننا ذكرنا أنّ الأحكام التكليفيّة متضادة فيما بينها وإذا كان كذلك فيستحيل اجتماعها.

وبتعبير آخر : إنّ أخذ العلم بالحكم موضوعا لحكم آخر مضاد للحكم المأخوذ في الموضوع يلزم منه اجتماع الضدّين ولو في اعتقاد القاطع بالحكم الأول ، إذ أنّ المكلّف إذا كان قاطعا بثبوت حكم لموضوع فهذا يقتضي أن يقطع بعدم صوابيّة أي حكم آخر لنفس ذلك الموضوع وإلاّ لزم تبدّل قطعه وهو خلف الفرض.

الحالة الثالثة : أخذ العلم بحكم موضوعا لحكم آخر مماثل للحكم المأخوذ في الموضوع أي أن يجعل العلم بحكم قيدا لحكم آخر إلاّ أنّه مسانخ ومماثل للحكم الأول الواقع في رتبة الموضوع ، وبهذا يكون موضوع الحكمين واحد روحا كما بينا ذلك في الحالة الثانية.

ومثال ذلك « إذا علمت بحرمة الخمر حرم عليك » فالعلم بحرمة

٨٣

الخمر ترتبت عليه حرمة أخرى للخمر فيكون للخمر حكمان شخصيان من سنخ واحد.

وهذه الحالة ادّعي استحالتها ؛ وذلك لاستلزامها اجتماع حكمين متماثلين على موضوع واحد ، وهو مستحيل كما ثبت ممّا سبق.

ودعوى أنّ موضوع الحكمين مختلف غير مسموعة ؛ وذلك لأنّ القطع في نظر القاطع ليس أكثر من طريق لثبوت الحرمة الأولى للخمر ، ومع ثبوت الحرمة الأولى للخمر تثبت الحرمة الثانية باعتبار أنّ ثبوت الحرمة الأولى وقع قيدا للحرمة الثانية ، وهذا يقتضي أن تجتمع الحرمتان في آن واحد على موضوع واحد في نظر القاطع.

٨٤

أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّقه

ويقع البحث في المقام عن إمكان تقييد متعلق الأمر « الواجب » بقصد امتثال الأمر ، وقبل بيان ذلك لابدّ من ذكر مقدّمة :

وهي أنّ الواجب تارة يكون توصليّا وأخرى يكون تعبديّا.

أمّا الواجب التوصلي : فهو ما كان المطلوب فيه إيجاد الفعل الواجب من المكلّف دون أن يكون للمولى غرض في أن يؤتى بالفعل الواجب على وجه قربي. فالمكلّف يكون ممتثلا متى ما أوجد الفعل الواجب.

ومثال ذلك : دفن الميت وإنقاذ النفس المحترمة من الموت والنفقة على الزوجة وهكذا. فإنّ المكلّف في مثل هذه الواجبات لا يكون مطالبا بأكثر من إيجاد الفعل الواجب.

وأمّا الواجب التعبدي : فهو ما كان المطلوب فيه إيجاد الفعل الواجب بقصد الامتثال بحيث يكون غرض المولى قد تعلّق بإيجاد حصّة خاصّة من الطبيعة وهي الحصّة المقترنة بقصد امتثال الأمر ، فلذلك لو جاء المكلّف بالفعل الواجب دون أن يقصد حينذاك امتثال الأمر لا يعدّ ممتثلا ومحقّقا للغرض المولوي.

ومثال ذلك الصلاة والصوم والحج فإنّ المكلّف في مثل هذه الواجبات

٨٥

يكون مطالبا بإيجادها عن أمر المولى أي بقصد امتثال أمر المولى.

باتضاح هذه المقدمة يقع الكلام في إمكان أخذ قصد الأمر في الواجب بحيث يكون قصد الأمر من قيود الواجب.

وبتعبير آخر : إنّ المولى حينما يجعل الوجوب على فعل قد يجعله على مطلق الفعل وقد يجعله على حصّة خاصّة من الفعل وذلك بواسطة تقييد الفعل « متعلّق الوجوب » بقيد من قبيل تقييد الصلاة بالطهارة والاستقبال ، وهذا لا كلام فيه ، إنّما الكلام في إمكان أن يجعل المولى قيد الواجب هو قصد امتثال الأمر بالصلاة مثلا ، كأن يقول « صلّ بقصد امتثال الأمر « صلّ » فهل أنّ هذا القيد المأخوذ في متعلّق الأمر ممكن أو مستحيل؟

قد يقال بالاستحالة ؛ وذلك لأنّ قصد الأمر لمّا كان من قيود الواجب ـ بسبب أخذه في متعلّق الوجوب ـ فهذا يقتضي أن الأمر أيضا من قيود الواجب ، إذ القصد قد أضيف إلى الأمر فيكون المضاف ـ وهو القصد ـ والمضاف إليه ـ وهو الأمر ـ من قيود الواجب ، والقصد في حدّ ذاته وإن كان من الأمور الاختياريّة إلاّ أنّ الأمر « التكليف » ليس كذلك ، إذ هو من فعل المولى فهو الذي يأمر أو لا يأمر ، وهذا يعني أنّ الأمر خارج عن اختيار وقدرة المكلّف ، وإذا كان كذلك فيستحيل أخذه في قيود الواجب فحسب ؛ وذلك لأنّنا ذكرنا أنّ قيود الواجب إذا لم تكن قيودا للوجوب أيضا فيستحيل أن تكون غير اختياريّة أي يستحيل أن تكون خارجة عن قدرة المكلّف ؛ وذلك لأنّ قيود الواجب واجبة التحصيل ، وهذا يقتضي اختياريتها وإلاّ لزم التكليف بغير المقدور.

وبهذا يثبت أنّ قصد الأمر حال أخذه في متعلق الأمر « الواجب »

٨٦

لا بدّ أن يكون قيدا أيضا في الوجوب فيكون من قيود الواجب والوجوب.

وكون الأمر من قيود الوجوب مستحيل وذلك لأنّه يفضي إلى تقييد الأمر بالأمر فيكون الأمر قيدا للأمر كما يكون مقيدا بالأمر وهذا هو الدور المحال ، وذلك لأنّ افتراض الأمر قيدا للأمر يعني افتراضه علّة للأمر وافتراضه مقيدا بالأمر يعني افتراض الأمر معلولا للأمر.

وبتعبير آخر : لمّا كان الوجوب « الأمر » متوقفا على تحقّق قيوده خارجا فهذا يعني أنّ القيود بمثابة علّة الوجوب « الأمر » فيكون الأمر ـ والذي افترضناه قيدا للوجوب ـ علة للوجوب ومتقدما على الوجوب « الأمر » فيكون الوجوب ناشئا عن الوجوب كما يكون الوجوب منشئا ومحقّقا للوجوب.

أمّا أنّه ناشئا عن الوجوب فلأنّ الوجوب مقيّد به ، وأمّا أنّه منشئا ومحقّقا للوجوب فلأنّه قيد الوجوب ، فالأمر « الوجوب » في رتبة المعلول لا يتحقّق إلاّ بتحقّق الأمر في رتبة العلّة « القيد » كما أنّ الأمر في رتبة العلّة « القيد » لا يتحقّق إلاّ بتحقّق الأمر في رتبة المعلول « المقيّد ». وبهذا تثبت استحالة أخذ الأمر في متعلّق نفس الأمر.

الثمرة المترتّبة على القول بالاستحالة :

والثمرة المترتّبة على استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر هي عدم إمكان التمسّك بالإطلاق لنفي قيد قصد الأمر في حال الشك في أخذه قيدا أو عدم أخذه قيدا في الواجب ، وبهذا لا يمكن إثبات التوصلية في الواجبات في ظرف الشك في تعبديتها أو توصليتها.

٨٧

وبيان ذلك : إذا أمر المولى بإيجاد فعل ما وشككنا في أن الفعل الواجب إيجاده هل هو مشروط بقيد خاص أو هو مطلق من جهة هذا القيد ، مثلا إذا قال المولى « صلّ » وشككنا في اعتبار الجماعة في الصلاة المأمور بها أو عدم اعتبارها فإنّ بالإمكان التمسّك بإطلاق قول المولى « صلّ » لنفي اعتبار هذا القيد « الجماعة » وبهذا يكون الواجب مطلقا من هذه الجهة ، وبنفي القيد عن الواجب بواسطة التمسّك بالإطلاق يمكن إثبات نفي تعلّق غرض المولى بهذا القيد ، إذ أنّ غرض المولى لو كان متعلقا بإيجاد هذا القيد لكان قد كشف عن هذا الغرض بواسطة التقييد ، إذ لا محذور في التقييد بحسب الفرض ، إلاّ أنّ التمسّك بالإطلاق لنفي اعتبار قيد قصد الأمر غير ممكن بعد أن كان التقييد بقصد الأمر مستحيلا.

فعدم أخذ قصد الأمر قيدا في الواجب وإن كان محرزا ـ حيث إنّ المولى لم يذكره ـ إلاّ أننا وبواسطة علمنا باستحالة التقييد بهذا القيد نعلم بعدم أخذه قيدا للواجب من أول الأمر وقبل مراجعة كلام المولى ، ومع أنّنا نحرز بعدم أخذه في الواجب إلا أنّه لا يمكن استكشاف عدم إرادته ؛ وذلك لعدم إمكان أخذه قيدا في الواجب ، فيمكن أن يكون غرض المولى متعلقا بأخذ قصد الأمر قيدا في الواجب ويمكن أن لا يكون غرضه متعلقا بذلك ، ولا سبيل لنا للتعرّف على ما هو الغرض الواقعي للمولى تجاه هذا القيد.

وبهذا لا يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات عدم إرادة القيد أي لا يمكن إثبات توصليّة ذلك الواجب ونفي كونه تعبديّا.

وبنفس هذا البيان يمكن أن نثبت عدم إمكان التمسّك بالإطلاق في مورد الشك في اعتبار قيد العلم بالحكم لنفس ذلك الحكم ، حيث إنّه لمّا كان

٨٨

أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم مستحيلا فلا يمكن استكشاف عدم إرادته بواسطة عدم ذكر المولى له في كلامه ، إذ لعلّة كان مريدا وكان المانع من عدم ذكره هو استحالة أخذه قيدا.

وبهذا لا يمكن إثبات اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل بواسطة التمسّك بالإطلاق وعدم ذكر تقيّد الحكم بالعلم بنفس الحكم. فلعلّ هذا القيد وهو اختصاص الأحكام بالعالم داخل في غرض المولى إلاّ أنّه لم يذكره لاستحالة ذكره.

٨٩
٩٠

اشتراط التكليف بالقدرة بمعنى آخر

كنّا قد ذكرنا في بحث استحالة التكليف بغير المقدور أن كلّ تكليف فهو مشروط بالقدرة على إيجاد متعلّقه. وكان المقصود من القدرة هناك هو تمكّن المكلّف تكوينا من امتثال التكليف لو خلّي ونفسه بقطع النظر عن عجزه بسبب امتثال تكليف آخر.

والقدرة المقصودة في المقام هي عدم العجز عن امتثال التكليف بسبب الاشتغال بامتثال تكليف آخر ، فالمكلّف قد لا يكون عاجزا عن الإتيان بأصل الفعل الواجب إلاّ أنّه بسبب اشتغاله بامتثال تكليف يصبح من المتعذّر عليه امتثال التكليف الآخر.

مثلا لو أمر المولى المكلّف بالكون في عرفات يوم التاسع من ذي الحجّة فإنّ امتثال هذا الأمر يوجب عجز المكلّف عن امتثال التكليف بالكون في كربلاء يوم التاسع من ذي الحجّة فالتكليفان وإن كانا مقدورين للمكلّف بالمعنى الأول إلا أنّ القدرة بالمعنى الثاني غير متحقّقة ؛ وذلك لعجز المكلّف عن الجمع بين الامتثالين.

ومن هنا يكون التكليف مشروطا بشرط آخر غير القدرة بالمعنى الأول ، وهو عدم الاشتغال بتكليف آخر يناظره في الأهميّة أو يزيد في الأهميّة عليه.

٩١

ويمكن أن يصطلح على اشتراط القدرة في التكليف بالمعنى الأول القدرة بالمعنى الأخص ، ويصطلح على القدرة بالمعنى الثاني القدرة بالمعنى الأعم ، ومنشأ التعبير عنها بالمعنى الأعم هو أنّ كلّ تكليف مشروط بالقدرة بالمعنى الثاني يكون مشروطا بالقدرة بالمعنى الأول بخلاف اشتراط التكليف بالقدرة بالمعنى الأوّل فقد لا يكون مشروطا بالقدرة بالمعنى الثاني ، فمثلا حينما يكون أحد التكليفين أكثر أهميّة من الآخر فإنّه لا يكون مشروطا بعدم امتثال التكليف الأقل أهميّة ؛ لأن التكليف الأقل أهميّة لا يزاحم الأكثر أهميّة فلا يكون امتثال الأهم مشروطا بعدم امتثال المهم بخلاف العكس ، فإنّ امتثال التكليف الأقل أهميّة مشروط بعدم امتثال التكليف الأهم.

الدليل على اشتراط التكليف بالقدرة بالمعنى الأعم :

وحاصل هذا الدليل : أنّ التكليف إذا كان مطلقا من جهة القدرة بالمعنى الأعم ـ أي أنه لا يشترط في التكليف عدم الاشتغال بتكليف آخر مضاد له ـ فإنّ ذلك يلزم منه أحد لازمين باطلين على سبيل مانعة الخلو :

الأول : هو أنّ المكلّف مسؤول عن امتثال كلا التكليفين المتضادين فهو في الوقت الذي يكون مسؤولا عن الكون في عرفات يوم التاسع من ذي الحجة هو مسؤول أيضا عن الكون في كربلاء يوم التاسع من ذي الحجة ، وهذا هو مقتضى الإطلاق للتكليف من جهة اشتراط القدرة بالمعنى الأعم ، إذ أنّ معنى إطلاق التكليف من هذه الجهة هو أنّ الكون في عرفات في يوم عرفة واجب سواء كان المكلّف غير مشتغل بامتثال التكليف

٩٢

بالكون في كربلاء أو كان مشتغلا بذلك ، وكذلك الكلام في مقتضى إطلاق التكليف بالكون في كربلاء.

وهذا اللازم ـ وهو مسؤوليّة المكلّف عن تكليفين متضادّين في آن واحد ـ لا يمكن الالتزام به لاستلزامه التكليف بغير المقدور.

الثاني : أنّ التكليف المطلق يراد منه بعث المكلّف نحو امتثاله وصرفه عن امتثال التكليف الآخر المضاد له ، وهذا اللازم لا يمكن الالتزام به أيضا ؛ وذلك لاستلزامه إما الترجيح بلا مرجّح أو ترجيح المرجوح ؛ لأنّه إن كان التكليف الذي يراد صرف المكلّف عن امتثاله يناظر التكليف الآخر في الأهميّة فهذا ترجيح بلا مرجّح ، وإن كان يفوقه أهميّة فهذا من ترجيح المرجوح.

ومع عدم إمكان الالتزام بأحد هذين اللازمين يتعيّن تقييد كل تكليف بعدم الاشتغال بامتثال تكليف آخر مضاد له ومناظر له في الأهميّة أو يفوقه أهميّة.

حالات التزاحم :

والمراد من التزاحم هو تنافي التكليفين أو التكاليف في مقام الامتثال بحيث يكون المكلّف عاجزا عن الجمع بينها في مقام الامتثال كما لو توجّه أمر للمكلف بإنقاذ غريق ونهي عن دخول الأرض المغصوبة ، وكان إنقاذ الغريق لا يتمّ إلاّ بواسطة العبور في الأرض المغصوبة ، فهنا يتزاحم التكليفان ، أي أنّ المكلّف عاجز عن امتثالهما معا ، فإمّا أن يمتثل وجوب الإنقاذ ـ وهذا يستوجب عدم امتثال حرمة دخول الأرض المغصوبة ـ وإمّا أن يمتثل الحرمة فيجتنب عبور الأرض المغصوبة ، وهذا يستوجب عدم

٩٣

امتثال وجوب الإنقاذ.

وفي حالات من هذا القبيل يستحيل أن يكون المكلّف مسؤولا عن امتثال كلا التكليفين إذ أنّه تكليف بغير المقدور ، كما يستحيل أن يكون المكلّف مسؤولا عن امتثال أحدهما دون الآخر بنحو مطلق لأنّه ترجيح بلا مرجّح لو افترض تساويهما في الأهميّة ، نعم لو كان أحدهما أهم ملاكا من الآخر لكان هو المتعيّن ولا يكون هذا التكليف الأهم مشروطا بعدم امتثال المهم على العكس من التكليف الأقل أهميّة فإنّه مشروط بعدم امتثال الأهمّ ملاكا.

ومن هنا يتّضح أنّ التزاحم يقتضي نفي امتثال أحد التكليفين لموضوع التكليف الآخر ؛ إذ أنّ امتثال أحد التكليفين المتساويين موجب لعدم تحقّق شرط الآخر ؛ وذلك لأنّ كلّ تكليف فهو مشروط بعدم الاشتغال بالتكليف الآخر المضاد وما دام المكلّف قد اشتغل بأحد التكليفين فهذا يعني أنّ التكليف الآخر لم يتحقّق شرطه وهو عدم الاشتغال بالتكليف المضاد ، وبهذا تنتفي فعليّة التكليف الآخر ومحركيته. وهذا الكلام لو كان أحد التكليفين أهم من الآخر فإنّ امتثال الأهم ناف لموضوع المهم ، إذ أنّ المهم مشروط بعدم امتثال الأهم.

وبما ذكرناه يتّضح معنى قول الأصوليين « إن الأمر بالضدين لا يكون إلاّ على وجه الترتّب » أي أنّ الأمر بتكليفين متضادّين ومتنافيين في مقام الامتثال لا يكون إلاّ على وجه يكون كلّ منهما مشروطا بعدم امتثال الآخر أو يكون التكليف المهم مشروطا بعدم امتثال التكليف الأهم.

والمصحّح للترتب بين التكليفين المتضادين هو ما ذكرناه من حكم

٩٤

العقل باستحالة تكليف العاجز أو استحالة الترجيح بلا مرجّح واستحالة ترجيح المرجوح.

إذا عرفت ما ذكرناه فحالات التزاحم الموجبة للترتّب يمكن إجمالها في هذا البيان ، وهو أنّه لو افترضنا وجود تكليفين مقدورين للمكلّف بالمعنى الأخص ، أي أنّ المكلّف قادر تكوينا على إيجاد كلّ واحد منهما لو خلّي ونفسه إلاّ انه عاجز عن امتثالهما معا ، فهنا تارة يفترض تساوي التكليفين في الأهمية وتارة يفترض أنّ أحد التكليفين أكثر أهميّة من التكليف الآخر ، وقد اتّضح ممّا سبق أنّ الحالة الأولى يكون كلّ واحد من التكليفين مشروطا بعدم امتثال الآخر ، وأنّ الحالة الثانية يكون التكليف الأهم مطلقا ويكون التكليف الأقل أهميّة مشروطا بعدم امتثال التكليف الأهم.

الإشكال على الترتّب :

إنّ دعوى الترتّب بين التكليفين المتضادين ـ وأنّ كل واحد مشروط بعدم امتثال الآخر ـ تؤول إلى التكليف بغير المقدور وهو محال.

وبيان ذلك :

إنّ التكليف إذا كان مشروطا بعدم امتثال الآخر فهذا يعني تحقّق فعليّة التكليف في حال عدم امتثال التكليف الآخر ، فلو افترضنا أنّ المكلّف لم يمتثل التكليفين معا فهذا يقتضي تحقّق الفعليّة لكلا التكليفين ؛ لأنّ كل واحد منهما يصبح واجدا لشرطه وهو عدم امتثال الآخر ، وهذا يعني مسؤوليّة المكلّف عن كلا التكليفين المتضادين ، فهو مسؤول عن الأوّل لتحقّق شرطه وهو عدم امتثال الثاني ومسؤول عن الثاني لتحقق شرطه وهو عدم امتثال الأول ، فيكون المكلّف في مثل هذه الحالة مخاطبا بامتثال

٩٥

كلا التكليفين وهو محال لأنّه تكليف بغير المقدور.

والجواب عن هذا الإشكال :

إنّ فعليّة كلا التكليفين لا محذور فيه بعد أن كان امتثال أحدهما يوجب سقوط الآخر عن الفعليّة ، حيث قلنا إنّ مؤدى الترتّب هو نفي أحد التكليفين عند امتثاله لموضوع الآخر ، وذلك لعدم تحقّق شرطه.

ومن هنا لا تكون فعليّة كلا التكليفين في الحالة المفترضة موجبة للتكليف بغير المقدور ؛ إذ أنّه بمجرّد أن يحرّكه التكليفان للامتثال فإنّه سيبدأ بأحدهما لا محالة وبامتثال أحدهما تسقط فعليّة الآخر لانتفاء شرطه فلا تكون فعليّة التكليفين إذن موجبة لمسؤوليّة المكلّف عن الجمع بين التكليفين المتضادّين ، فالفعليّة في مثل المقام لا تعني أنّ كلا التكليفين مطلوبان للمولى ، ولهذا لو اتّفق محالا أنّ المكلّف أتى بكلا التكليفين المتضادّين لما كان ذلك يعني أنّ كليهما كان مطلوبا للمولى ؛ إذ أنّ غير المقدور يستحيل أن يكون مطلوبا للمولى.

وبهذا اتّضح عدم وجود محذور في الالتزام بإمكان الأمر بالضدّين ولكن بنحو يكون كلّ منهما مقيّدا بعدم امتثال الآخر ، أي يكون الأمر بالضدّين بنحو الترتّب.

٩٦

التخيير والكفائيّة في الواجب

إنّ استفادة التخيير من الخطاب الشرعي يتم بواسطة أحد أمرين :

الأمر الأول : القرينة العقليّة ، وذلك بأن يجعل المولى الوجوب على الطبيعة دون أن يقيّدها بحصّة خاصّة ، وفي حالة من هذا القبيل يمكن التمسّك بالإطلاق بواسطة قرينة الحكمة وأن عدم تقييد الطبيعة كاشف عن عدم إرادته.

وهذا الإطلاق ينتج التخيير بين أفراد الطبيعة على نحو البدل بحيث يكون المكلّف في سعة من جهة اختيار أي فرد من أفراد الطبيعة في مقام امتثاله للتكليف.

وهذا النحو من التخيير يسمّى بالتخيير العقلي ؛ وذلك لأن القاضي به هو العقل حيث يدرك أنّ المولى لمّا جاء بالطبيعة القابلة للتقييد ولم يذكر القيد رغم أنّه في مقام البيان ، فلو كان مريدا للقيد ومع ذلك لم يذكره لكان ناقضا لغرضه والحكيم لا ينقض غرضه ، وبهذه القرينة العقليّة يفهم العرف إرادة المولى للإطلاق البدلي والذي هو عبارة ثانية عن التخيير بين أفراد الطبيعة وأن للمكلّف أن يختار في مقام الامتثال أحد أفراد الطبيعة ليجعله واسطة في سقوط التكليف عنه.

مثلا لو قال المولى « أكرم فقيرا » فإنّ الواجب هنا طبيعي الإكرام كما

٩٧

أنّ الموضوع هو طبيعي الفقير ، وبهذا يمكن إجراء قرينة الحكمة العقليّة لإثبات الإطلاق البدلي في المتعلّق « الإكرام » وفي الموضوع « الفقير » وبه يثبت التخيير العقلي ، فيكون المكلّف في سعة من جهة اختيار أي فرد من أفراد طبيعة المتعلّق « الإكرام » فله أن يعطي الفقير هدية كما له أن يدعوه على طعام ، وهكذا يكون للمكلّف الخيار في تطبيق طبيعة الموضوع على أيّ فرد من أفراد الفقير.

الأمر الثاني : تصريح الشارع في مقام جعل التكليف بالتخيير وأنّ الواجب أحد شيئين أو أشياء.

مثلا قوله تعالى : ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ .. ) (١) ، فإنّ استفادة التخيير هنا بين خصال الكفارة تمّ بواسطة بيان الشارع لذلك.

وهذا النحو من التخيير يعبّر عنه بالتخيير الشرعي باعتبار أنّ استفادته تمّت بواسطة الخطاب الشرعي.

التخيير الشرعي في الواجب :

اتّضح ممّا تقدّم أنّ التخيير الشرعي هو ما كانت استفادته بواسطة الشارع ابتداء ودون توسط قرينة عقليّة وهذا لا كلام فيه ، كما لا كلام في وقوع الوجوبات التخييريّة في الشرع وعند العقلاء ، وبهذا لا يصغى إلى دعوى استحالة الوجوب التخييري بزعم أنّ الوجوب التخييري يستلزم

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٨٩.

٩٨

اجتماع النقيضين بتقريب أنّ الواجب هو ما يكون المكلّف مسؤولا عن إيجاده ويعدّ عاصيا بتركه ، فإذا جاز ترك الفعل الواجب فهذا يقتضي إمّا انتفاء كونه واجبا وهذا يعني انسلاخ الفعل عن عنوان الواجب ، وإمّا أن يكون الواجب غير واجب التحصيل ، أي لا يلزم المكلّف إيجاده ولا يعدّ عاصيا بتركه.

أمّا الشقّ الأول فهو خلف الفرض ؛ إذ الكلام عن الفعل الواجب الذي يجوز تركه مع احتفاظه بعنوان الواجب ، وأمّا الشقّ الثاني فهو المتعيّن ولا يمكن الالتزام به لاستلزامه الجمع بين النقيضين ؛ وذلك لأنّ جواز ترك الفعل الواجب يناقض لزوم تحصيل الفعل الواجب ، فالفعل الواجب واجب التحصيل ـ بمقتضى كونه واجبا ـ وغير واجب التحصيل ـ كما هو مقتضى الفرض ـ ، وهذا من الجمع بين النقيضين وهو ما يؤول إليه الوجوب التخييري ؛ وذلك لأنّ الواجب في الوجوب التخييري يجوز تركه إلى بدل.

وقد قلنا إنّ هذه الدعوى لا يصغى إليها لعدم الإشكال في وقوع الوجوب التخييري في الشرع وعند العقلاء ، والوقوع أقوى شاهد على الإمكان ، إلاّ أنّه مع ذلك لابدّ من بيان حقيقة الوجوب التخييري ليتّضح عدم تأتّي هذا الإشكال وأن الوجوب التخييري ممكن. فنقول إنّه ذكر للوجوب التخييري عدّة تفسيرات ذكر المصنّف منها تفسيرين :

التفسير الأول : ويمكن تقريره بهذا البيان وهو أنّه قد يكون هناك ملاك يمكن استيفاؤه بواسطة أحد شيئين أو أكثر على نحو البدل ، ويمكن التمثيل لذلك بما لو تعلّق غرض المولى بإكرام زيد فيقول لعبده « اكس زيدا حلّة أو أعطه دابّة أو التمس له جارية » فإنّ واحدا من هذه البدائل يفي

٩٩

بالملاك ، ومن هنا فهذه الوجوبات المتعدّدة ترجع روحا إلى وجوب واحد متعلقه هو الجامع بين هذه البدائل التي يفي كلّ واحد منها بملاك الوجوب ، غايته أنّ المولى بدل أن يجعل الوجوب على المتعلّق الكلّي « الجامع » جعله على أفراد الجامع ابتداء.

ثمّ إنّ الجامع ـ الذي هو متعلّق الوجوب روحا ـ قد يكون من قبيل العناوين المتأصّلة التي لها تقرّر وثبات في الواقع ولا تكون مخترعة ، وذلك مثل عنوان الفقير والإنسان وهكذا. وقد يكون الجامع من قبيل العناوين الانتزاعية والتي ينتزعها الذهن بواسطة نسبة شيء إلى آخر كعنوان أحدهما أو عنوان الأصغر أو الأكبر أو الكثير أو القليل وهكذا ، فإنّ هذه العناوين ليس لها تقرّر في الواقع وإنّما هي عناوين يدركها الذهن بواسطة إضافة عنوان أصيل مثلا إلى عنوان أصيل آخر. كما لو نسبنا حجم الشمس إلى حجم القمر فإنّ الذهن ينتزع من هذه النسبة والإضافة عنوان الأكبر للشمس وعنوان الأصغر للقمر ، وهكذا الحال في المقام فلو كان هناك شيئان بينهما تمام التباين إلاّ أنّ كلّ واحد منهما قابل لأن يفي بغرض المولى فإنّ الذهن وبواسطة ملاحظتهما من جهة اشتراكهما في الوفاء بالغرض ينتزع عنوان « أحدهما ».

وبهذا تمّ بيان التفسير الأول للوجوب التخييري الشرعي وهو يرجع روحا إلى التخيير العقلي ؛ وذلك لأنّنا ذكرنا أنّ التخيير العقلي هو عبارة عن وجوب واحد متعلّق بالجامع الكلي ويكون المكلّف في سعة من جهة اختيار أي فرد من أفراد الجامع في مقام امتثال التكليف ، غاية ما في الأمر أن الوجوب التخييري العقلي لا يتصدّى فيه المولى لبيان أفراد الجامع وإنّما

١٠٠