شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

الدليل العقلي

١ ـ إثبات القضايا العقلية.

٢ ـ حجيّة الدليل العقلي.

٥
٦

تمهيد

ونبيّن في هذا التمهيد المراد من الدليل العقلي ، وكيفية إثباته للحكم الشرعي ، وأيّ الأقسام من القضايا العقلية تبحث في علم الأصول ، وأيّها التي لا تبحث في علم الأصول ، فنقول :

أمّا ما هو المراد من الدليل العقلي في اصطلاح الأصوليّين فهو كل قضية يكون إثبات محمولها لموضوعها بواسطة المدركات العقلية بحيث تتأهل تلك القضية بعد ذلك لأن تكون لها صلاحيّة إثبات حكم شرعي أو نفي حكم شرعي.

فالقضية المدركة بالعقل هي المعبّر عنها بالدليل العقلي ، فمثلا « الظلم قبيح » قضية ثبت فيها حكم لموضوع ، وهذا الثبوت نشأ عن إدراك العقل ، فهي إذن قضية عقلية ، وإنّما سميّت « دليلا » باعتبارها صالحة للكشف عن حكم شرعي أو المساهمة في الكشف عن الحكم الشرعي ، فدليلية هذه القضية العقلية باعتبار توسطها في إثبات حكم شرعي.

ومن أجل أن يتّضح ما هو المراد من الدليل العقلي أكثر لا بدّ من بيان أمور :

الأمر الأول : إنّ المراد من المدركات العقليّة في اصطلاح الأصوليّين

٧

هو ما يدركه العقل ويستقرّ عليه بنحو الجزم دون أن يكون منشأ ذلك الإدراك هو الكتاب والسنة.

ثم إنّه لا فرق بين مدركات العقل النظري أو مدركات العقل العملي من حيث دخولهما في المقصود وأن كل قضية أدركت بواسطة العقل النظري أو العقل العملي إذا كانت صالحة لأن يستنبط منها حكم شرعي أو نفي حكم شرعي ، فهي داخلة تحت عنوان الدليل العقلي باصطلاح الأصوليّين.

ومثال ما يثبت بواسطة العقل النظري الاستلزامات العقلية ، كاستلزام وجوب شيء لحرمة ضدّه ، واستلزام وجوب شيء لوجوب مقدّمته ، فإنّ إدراك العقل لذلك هو إدراك لواقع الملازمة دون أن يكون لهذا الإدراك تأثير عملي مباشر ، أي أنّ إدراك العقل لواقع الملازمة ليس له أيّ انعكاس واقتضاء للعمل على طبق ما يقتضيه ذلك المدرك ابتداء ، نعم قد يؤثّر هذا المدرك النظري عمليّا إذا انضمت إليه مقدمة أخرى.

فمثلا إدراك العقل النظري للملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه هو إدراك لكون الوجوب علّة لثبوت حرمة الضد واقعا ، وهذا لا يدعو ولا يستوجب موقفا عمليّا مطابقا لما هو مقتضى ذلك الإدراك ، نعم هو يساهم في التأثير العملي إذا ضممنا إليه مقدمة أخرى ، وهي قيام الدليل الشرعي على وجوب الصلاة مثلا ، فيثبت بذلك حرمة الضد للصلاة ، وهذه النتيجة تستوجب موقفا عمليّا مطابقا لها.

وتلاحظ أنّ المدرك بالعقل النظري هنا قد استوجب موقفا عمليّا ، ولكن بواسطة انضمام مقدمة أخرى إليه.

ومثال ما يثبت بواسطة العقل العملي المستقلات العقلية ، مثل إدراك

٨

العقل لقبح الظلم وحسن العدل ، فإنّ هذا الإدراك يستتبع موقفا عمليّا مطابقا لمقتضاه دون الحاجة إلى توسّط مقدمة أخرى ، كما هو الحال فيما يدرك بالعقل النظري.

الأمر الثاني : إنّ المدركات العقلية التي هي محلّ البحث في علم الأصول هي المدركات التي يمكن أن يستفاد منها استكشاف حكم شرعي أو نفي حكم شرعي ، فهي إذن المدركات التي تكون في عرض الكتاب والسنة ، والتي يكون لها نفس الدور الثابت للكتاب والسنة ، وهو الدليلية والكاشفية عن الأحكام الشرعيّة ، وبهذا يتّضح خروج نحوين من المدركات العقلية عن بحث الأصول.

النحو الأول : وهو المدركات العقلية التي تثبت بها حجية الكتاب والسنة ، فإنّ هذا النحو من المدركات ليست في رتبة الكتاب والسنة ، بل هي الموجبة لحجّيتهما ، إذ أنّ ثبوت الحجيّة لهما لا يمكن أن يثبت بواسطة نفس الكتاب والسنة وإلا لزم الدور المستحيل ، كما أنّ الاعتقاد بصدق الكتاب والسنة من الأصول الاعتقادية التي لا يكتفى فيها بالظن ، فلا سبيل للعلم بحجّيتهما إلا الأدلة العقلية القطعية ، وهذه الأدلة العقلية ليست محلا للبحث ولم تقع محلا للنزاع.

النحو الثاني : وهو المدركات العقلية الواقعة في رتبة معلولات الأحكام الشرعية أي أنّها متأخّرة عن الحكم الشرعي ويكون الحكم الشرعي بمثابة العلة لوجودها ، فلولا تقرّر الحكم الشرعي في رتبة سابقة لما كان لذلك الإدراك وجود.

ومثاله إدراك العقل لحسن الطاعة وقبح المعصية ، فإنّ هذا الإدراك

٩

مترتّب على وجود أوامر للمولى ، إذ أنّ العقل لا يحكم بحسن الطاعة وقبح المعصية لو لم تكن أوامر للمولى ، فلو قطع العبد بعدم وجود تكليف إلزامي تجاه فعل معيّن فهنا لا يحكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية ؛ إذ أنّ موضوع حكم العقل بذلك هو وصول التكليف الإلزامي للمكلّف وقد افترضنا عدمه.

ومع اتّضاح هذا النحو من المدركات العقليّة يتّضح خروجه عن محلّ البحث ؛ إذ أنّ البحث الأصولي مختصّ بالمدركات العقلية الواقعة في رتبة الكتاب والسنة والتي يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي ، لا المدركات التي تثبت بعد تقرّر الحكم الشرعي.

الأمر الثالث : إنّ الدليل العقلي تارة يكون واسطة في إثبات حكم شرعي وأخرى يكون واسطة في نفي حكم شرعي دون أن تكون له صلاحيّة لإثبات حكم آخر.

ومثال الأول : إدراك العقل لملاك الحكم وأنّه المصلحة التامة المقتضية لترتّب الحكم مع افتراض عدم وجود المانع من تأثير تلك المصلحة أثرها في ترتّب الحكم ، فحينئذ يكون هذا الإدراك موجبا لثبوت الحكم الشرعي بنحو الدليل اللمي الكاشف عن ثبوت المعلول بواسطة ثبوت العلّة.

ومثال الثاني : إدراك العقل لاستحالة اجتماع الأمر والنهي ، أو إدراكه لاستحالة اجتماع حكمين متضادين ، فإنّ إدراك العقل للاستحالة يوجب إدراكه لنفي حكم شرعي يلزم من ثبوته المحال ، فلو قطع المكلف مثلا بحرمة شرب الخمر فإنّ العقل هنا ينفي الحليّة الشرعية عن شرب الخمر ، وذلك لإدراكه استحالة اجتماع حكمين متضادين على موضوع واحد.

١٠

الأمر الرابع : إنّ دليليّة الدليل العقلي منوطة بتحقق مقدّمتين تكون إحداهما صغرى والأخرى كبرى لقياس نتيجته دليليّة الدليل العقلي ، وذلك بواسطة ثبوت الحد الأكبر ـ والذي هو الحجية ـ للأصغر وهو متعلّق المدرك العقلي.

فدليليّة الصغرى باعتبار وقوعها صغرى لقياس نتيجته دليليّة الدليل العقلي ، ودليليّة الكبرى باعتبار وقوعها كبرى لقياس نتيجته دليليّة الدليل العقلي.

فالصغرى وحدها ليست كافية لإثبات الدليليّة إذا لم تنضم إليها الكبرى ، وهي حجية الدليل العقلي ، كما أنّ الكبرى وحدها ليست كافية لإثبات دليليّة الدليل العقلي إذا لم تنضم إليها الصغرى ؛ وذلك لانعدام موضوع دليليّة الدليل العقلي ـ الذي هو نتيجة القياس ـ ؛ إذ الصغرى مشتملة على موضوع النتيجة ـ وهو الحد الأصغر ـ كما أنّ الكبرى مشتملة على محمول النتيجة ـ وهو الحد الأكبر ـ وهذا هو الذي يقتضي ركنيّة الصغرى والكبرى لإثبات دليليّة الدليل العقلي ، والذي هو نتيجة القياس المثبت لدليليّة الدليل العقلي ، ولتوضيح المطلب نذكر هذا المثال :

* العقل يحكم بوجوب مقدمة الواجب * وكلّ ما حكم به العقل فهو حجّة * إذن : وجوب مقدمة الواجب حجّة.

وتلاحظون أنّ الصغرى ساهمت في النتيجة كما أن الكبرى ساهمت أيضا في النتيجة ، ومن هنا عبّرنا عن القضايا العقلية الصغروية كما عبّرنا عن الكبرى بالدليل العقلي.

١١

وتلاحظون أيضا أنّ نتيجة هذا القياس هو دليليّة الدليل العقلي ، إذ أنّ الدليلية تعبير آخر عن الحجية والتي هي محمول النتيجة والحد الأكبر للكبرى ، كما أنّ الدليل العقلي تعبير آخر عن الحد الأصغر والذي هو متعلّق المدرك العقلي ، وفي المثال « وجوب مقدمة الواجب ».

ومع اتّضاح ذلك نقول إنّ البحث الصغروي بحث عن أن العقل هل حقا يدرك هذه القضية؟

وبتعبير آخر : البحث الصغروي بحث عن الأدلّة على إثبات أن العقل يدرك هذه القضية أو لا يدركها ، فمثلا نبحث في البحث الصغروي عن أن حسن العدل وقبح الظلم هل هو من مدركات العقل أو ليس هو من مدركات العقل وما هو الدليل على ذلك؟

وأما البحث الكبروي فهو متأخر عن إثبات القضايا العقلية ، وأن العقل فعلا يدرك صحة هذه القضية ، فإذا ثبت أنّ العقل يدرك صحة قضية من القضايا ، نبحث بعد ذلك عن أن ما أدركه العقل هل هو حجة أو لا؟

إذ أنّ إدراك العقل لقضية من القضايا لا ينهي البحث ولا يثبت الدليليّة لما أدركه العقل ، بل إننا نحتاج إلى إثبات حجية ما يدركه العقل ، فإذا ثبت أنّ ما يدركه العقل حجّة فحينئذ تثبت دليليّة الدليل العقلي.

انقسام القضايا العقلية إلى قسمين :

القسم الأول : القضايا العقلية التي لو تمّت لأمكن الاستفادة منها لاستنباط كثير من الأحكام الشرعية في مختلف الأبواب الفقهيّة ، وذلك مثل إدراك العقل لاستحالة التكليف بغير المقدور ، ومثل إدراك العقل

١٢

للملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، أو وجوب شيء وحرمة ضدّه ، أو إدراكه للملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع ، وكذلك إدراكه لحجية المدركات العقلية القطعية ، فإنّ مثل هذه القضايا لو افترض تماميّتها لأمكن الاستفادة منها لاستنباط كثير من الأحكام الشرعية ، فمثل إدراك العقل لاستحالة التكليف بغير المقدور يمكن أن يستفاد منه لنفي كل تكليف يلزم من ثبوته التكليف بغير المقدور ، كما يمكن أن يساهم هذا المدرك العقلي في إثبات شرطية القدرة في كلّ التكاليف التي ثبت أن المكلّف مسؤول عن امتثالها.

وهذا ما يجعل مثل هذه القضايا عناصر مشتركة في الاستنباط.

القسم الثاني : القضايا العقليّة التي لو تمّت لما أمكن الاستفادة منها إلا في موردها ، فهي وإن كانت صالحة لأن يستنبط منها حكم شرعي ، إلا أنّ هذه الصلاحية غير مطّردة ، فيكون وزان هذه القضايا وزان بحث مسألة الصعيد والكر أو أنّ هذه الرواية معتبرة سندا ، فكما أنّ إثبات اعتبار رواية ما لا يساهم إلا في الكشف عن الحكم الشرعي المختص بموردها ، فكذلك هذا النحو من القضايا العقلية.

ويمكن التمثيل لهذه القضايا بما يدركه العقل من قبح ضرب اليتيم تشفيّا ، فإنّ هذه القضية وإن كانت تصلح للكشف عن حكم شرعي وهو حرمة ضرب اليتيم شرعا إلا أنها لا تصلح للكشف عن أحكام شرعية أخرى لا تتصل بموردها.

وكذلك يمكن التمثيل بما يدركه العقل من حرمة فعل اعتمادا على ما ثبت عن الشارع من ثبوت نفس ذلك الحكم لموضوع آخر.

١٣

ومنشأ ذلك الإدراك هو العلم باتحاد الموضوعين في علّة الحكم ، فلو ثبت عن الشارع حرمة أكل التراب وذلك لكونه مضرّا فإنّ العقل بذلك يدرك حرمة أكل السم.

ومنشأ إدراك العقل لحرمة أكل السم هو العلم باتّحاد التراب والسم في علّة الحكم ، فما أدركه العقل من حرمة أكل السم يصلح للكشف عن حكم شرعي وهو حرمة أكل السم شرعا ، وهذا المقدار هو الذي تكشف عنه هذه القضية العقلية ، أي أنّها لا تصلح للكشف عن أكثر من موردها.

وهنا أمر لابدّ من التنبيه عليه ، وهو أنّ هذه القضية العقليّة نشأت عن قضية عقلية أخرى ، وهي قياس المساواة وليست هي المقصودة في المثال ، إذ أنّ قياس المساواة من القضايا العقلية التي يمكن الاستفادة منها في استنباط كثير من الأحكام الشرعية ، فهي إذن من العناصر المشتركة.

والمراد من قياس المساواة هي إدراك العقل بترتّب الحكم الثابت شرعا لموضوع على كل الموضوعات المشتملة على علّة ذلك الحكم ، فلو ثبت عن الشارع حرمة شرب الخمر وثبت بأي وسيلة من وسائل الإثبات أنّ علة ثبوت الحرمة للخمر هي الإسكار ، فإنّ العقل يدرك عندئذ أنّ كلّ موضوع اشتمل على نفس العلة فهو حرام.

وتلاحظون أنّ هذه القضية العقلية تصلح لأن يستنبط منها كثير من الأحكام الشرعيّة في مختلف الأبواب الفقهيّة.

وتلاحظون أيضا أنّ منشأ القضية العقلية القاضية بحرمة السم هي من صغريات قياس المساواة ، فحرمة أكل السم قضية عقلية إلا أنها عنصر مختص ، وقياس المساواة قضية عقلية إلا أنّها عنصر مشترك.

١٤

ومع اتضاح ما تنقسم عليه القضايا العقلية يتّضح ما هو الداخل منها في علم الأصول ، وما هو الخارج عن بحث علم الأصول ، فإنّه لمّا كانت ضابطة المسألة الأصوليّة هي كل دليل يمكن أن يقع في طريق استنباط كثير من الأحكام الشرعية في مختلف الأبواب الفقهيّة ، فهذا يقتضي أن يكون القسم الأول من القضايا العقلية داخلا في البحث الأصولي ، غاية ما في الأمر أنّ بعض القضايا تبحث على أساس أنّها صغرى لدليلية الدليل العقلي ، والبحث الآخر ـ وهو حجية الدليل العقلي ـ تبحث على أساس أنّها كبرى لدليليّة الدليل العقلي ، فيكون مسار البحث في الصغرى هو البحث عن إدراك العقل لقضية من القضايا وعدم إدراكه وما هو المصحّح لهذا المدرك العقلي ، ويكون البحث عن الكبرى بحثا عن أن مدركات العقل هل هي حجة أو لا؟ وما هو الدليل على حجيّتها؟

فمثلا نبحث في علم الأصول عن إدراك العقل للملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وما هو المصحّح لهذه القضية العقلية ، وهذا بحث صغروي ، ونبحث أيضا عن حجيّة هذه القضية العقلية ، وهل أنّها صالحة للكشف عن الحكم الشرعي ، وهذا هو البحث الكبروي.

أما القسم الثاني من القضايا العقلية ، فلمّا لم يكن عنصرا مشتركا ، فهذا يقتضي خروجه عن البحث الأصولي ، ويتم بحثه في علم الفقه نظير البحث عن مسألة الصعيد ومسألة الكر ، نعم البحث الكبروي وهو البحث عن حجية هذا النحو من القضايا العقلية داخل في البحث الأصولي ؛ وذلك لأنّ الكبرى من القضايا العقلية الصالحة لأن يستنبط منها أحكام شرعية من مختلف الأبواب الفقهيّة ، إذن البحث الكبروي بحث أصولي على

١٥

أية حال.

ثم إنّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه ، وهو أنّ القضايا المدركة بالعقل تارة تكون قطعيّة وأخرى تكون ظنّيّة ، والتي نحتاج للبحث عن حجيّتها هي القضايا العقلية الظنية ، أمّا القضايا العقليّة القطعية ، فيكفي في إثبات حجّيتها ما تقدم من أنّ القطع حجة بذاته ويستحيل المنع عن حجّيته.

ولتوضيح المطلب أكثر نقول : إنّ محلّ النزاع في حجّية الدليل العقلي يمكن تصنيفه إلى موردين :

المورد الأول : في حجيّة الأدلة العقلية الظنية كحجّية القياس الظني والاستقراء الناقص والاستحسان والمصالح المرسلة ، وهذا النزاع واقع بين أبناء العامّة ومذهب الإماميّة ، فمذهب الإمامية قاطبة على عدم حجيّة هذا النحو من القضايا العقليّة ، وأكثر العامة يبنون على حجيّة هذه القضايا العقليّة.

المورد الثاني : في حجية الأدلة العقلية القطعيّة كحجيّة ما يدركه العقل من قبح الظلم ، والنزاع هنا واقع بين الإماميّة أنفسهم ، فمذهب مشهور الأصوليّين هو حجيّة هذا النحو من القضايا العقلية ؛ وذلك لحجيّة القطع بذاته سواء كان ناشئا عن الكتاب والسنة أو كان ناشئا عن مقدمات عقلية ، وأمّا مذهب الأخباريين فهو عدم حجية هذا النحو من القضايا العقلية وإن كانت موجبة للقطع ؛ إذ أنّ حجية القطع في نظرهم مختصّ بما إذا كان ناشئا عن الكتاب والسنّة.

وحيث إننا بحثنا حجية القطع وثبت لنا أن القطع حجّة بنحو مطلق فلا نحتاج لإعادة البحث عن حجيّة القضايا العقلية القطعيّة ؛ فلذلك سوف

١٦

يتركّز البحث الكبروي عن حجيّة القضايا العقليّة الظنيّة ، وسيتّضح عدم حجّيتها.

ومن هنا سوف يقع البحث أولا عن القضايا العقلية الصغروية التي لو تمّت لكانت عنصرا مشتركا ، ويقع البحث ثانيا عن حجيّة القضايا العقليّة الظنية والتي لو تمّت لكانت كبرى لقياس نتيجته دليلية الدليل العقلي.

١٧
١٨

إثبات القضايا العقلية

تقسيمات للقضايا العقلية :

وقد ذكر المصنّف رحمه‌الله ثلاثة تقسيمات للقضايا العقليّة :

التقسيم الأول :

هو انقسام القضايا العقلية إلى ما يعبّر عنه بالمستقلات العقلية ، وغير المستقلات العقلية.

أمّا المستقلات العقلية : فهي القضايا العقلية التي يمكن الاستفادة منها لاستنباط حكم شرعي دون الحاجة لأن تنضم معها مقدمة شرعية ، وعبّر عنها بالمستقلات لأنّ العقل فيها يستقلّ في إثبات الحكم الشرعي دون أن يستعين في ذلك على مقدمة شرعيّة ، فالاستقلاليّة بلحاظ المقدمات الشرعية ؛ إذ أنّ المستقلات العقلية قد تحتاج في مقام إثبات حكم شرعي إلى مقدمة غير شرعيّة.

ويمكن التمثيل للمستقلات العقلية بما يدركه العقل من حسن العدل وقبح الظلم ، فإنّ هذه القضية يمكن الاستفادة منها في مقام الكشف عن حرمة ضرب اليتيم تشفّيا شرعا دون أن نستعين في ذلك بمقدّمة شرعيّة.

وكذلك يمكن التمثيل للمستقلات العقليّة أيضا بما يدركه العقل من أنّ كل ما يحكم به العقل يحكم به الشرع ، فإنّ هذه القضيّة يمكن أن يستنبط

١٩

منها حرمة الكذب شرعا ـ باعتبار حكم العقل بقبحه ـ دون الحاجة إلى توسّط مقدّمة شرعيّة.

وأمّا غير المستقلاّت العقليّة : فهي قضايا عقليّة صالحة لأن يستنبط منها حكم شرعي ، ولكن بواسطة انضمام مقدّمة شرعيّة إليها ، فالتعبير عن مثل هذه القضايا بغير المستقلاّت ناشيء عن أنّ هذه القضايا لا يمكن الاستفادة منها في الكشف عن الحكم الشرعي دون الاستعانة بمقدّمة شرعيّة ، وهذا لا يعني أنّ نفس إدراك العقل لمثل هذه القضايا متوقّف على مقدّمة شرعيّة ، إذ أنّه لا فرق بين المستقلات وغير المستقلاّت من جهة أنّها من مدركات العقل ، وإنّما الفرق بينهما هو مقام الدليليّة على الحكم الشرعي ، وأنّه متى تتأهّل القضيّة العقليّة للكشف عن الحكم الشرعي؟

فإن كانت محتاجة في مقام الكشف عن الحكم الشرعي إلى مقدّمة شرعيّة ، فهذه القضيّة من غير المستقلاّت العقليّة ، وإلاّ فهي من المستقلاّت العقليّة.

ويمكن التمثيل لغير المستقلاّت العقليّة بما يدركه العقل ، من أنّ وجوب شيء يقتضي حرمة ضدّه ، فإنّ هذه القضيّة لا يمكن الاستفادة منها لإثبات حرمة الصلاة مثلا إلاّ إذا ثبت شرعا وجوب الإزالة.

وكذلك يمكن التمثيل بما يدركه من أنّ النهي في العبادات يقتضي الفساد ، فإنّه لا يمكن استنباط حكم شرعي وهو بطلان صوم يوم العيد مثلا إلاّ بتوسّط مقدّمة شرعيّة ، وهي النهي عن صوم يوم العيد.

التقسيم الثاني :

وهو انقسام القضايا العقليّة إلى قضايا تحليليّة وأخرى تركيبيّة :

المراد من القضايا التحليليّة : هي القضايا التي يبحث عن واقعها ،

٢٠