شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

فضوليّا ؛ ولهذا يتوقّف نفوذه على إجازة المالك ، فلو وقعت الإجازة من المالك بعد يومين من وقوع العقد الفضولي ، فإنّ هذه الإجازة ـ بناء على الكشف ـ تكون موجبة لنفوذ العقد وحصول النقل والانتقال من حين وقوع العقد أي قبل يومين من تحقّق إجازة المالك. فالإجازة المتأخّرة عن العقد أوجبت صحّة العقد « الحكم » المتقدّم عليها زمانا.

وأمّا القيود المتأخّرة الراجعة لمتعلّق الحكم « الواجب » فهي القيود التي أخذت على نحو تكون صحّة ما جاء به المكلّف من واجب منوطا بتحقّق ذلك القيد المتأخّر زمانا عن تحقّق الواجب.

ويمكن التمثيل لذلك بغسل المستحاضة في الليل ، فإنّه شرط في صحّة الصوم الواقع في النهار المتقدّم ، كما لو صامت المستحاضة في يوم السبت ، فإنّ صحّة صومها الواقع في يوم السبت منوط بشرط متأخّر وهو تحقّق الغسل منها في ليلة الأحد.

ومع اتّضاح الأقسام الثلاثة للقيود نقول : إنّه غالبا ما تكون القيود من سنخ القيود المقارنة أو المتقدّمة ، وأمّا القيود المتأخرة فقد يدّعى أنّها مستحيلة ؛ وذلك لأنّ القيود دائما تكون في رتبة العلل للمقيد بها ، وإذا كان كذلك فيستحيل تأخرها عن المقيّد لاستحالة تأخر العلة عن معلولها.

إلاّ أنّه في مقابل دعوى الاستحالة هناك دعوى بالإمكان وأنّه لا محذور عقلا في تأخر القيود عن المقيّد بها زمانا ؛ إذ أنّ دعوى الاستحالة نشأت عن توهّم كون القيود في رتبة العلل للمقيّد بها وهذا غير صحيح ، وذلك لأنّ قيود الواجب الشرعيّة لا تعني أكثر من أنّ الواجب ليس هو

٦١

الطبيعة على سعتها بل هو الحصّة الخاصّة من الطبيعة وهي الواجدة للقيد ، إذ أنّ المولى حينما يأخذ قيدا في الواجب فإنّه يضيّق من دائرة المطلوب ويجعل الواجب حصّة خاصّة من الطبيعة وهي المتقيّدة بالقيد ، وهذا التضييق لدائرة المطلوب قد يتمّ بواسطة جعل المطلوب هو الحصّة التي يسبقها القيد ، وقد يتم بواسطة جعل المطلوب هو الحصّة التي يقترن معها القيد ، وقد يتمّ بواسطة جعل المطلوب هو الحصّة التي يتعقّبها القيد ، وكلّ هذه الحالات يكون المولى قد ضيّق من دائرة المطلوب وحصّصه بحصة خاصة ، وليس في حالة من هذه الحالات يكون فيها ذات الواجب متوقفا على قيده بل إنّ هذه القيود لا تعني أكثر من تعيين ما هو المطلوب للمولى.

وبهذا لا تكون قيود الواجب بمثابة العلل للمقيّد بها ، فلا محذور حينئذ في أن يكون القيد متقدّما أو متأخّرا.

ففي مثالنا وهو اشتراط صحّة الصوم السابق بالغسل في الليلة اللاحقة لا يعني هذا الشرط أكثر من أنّ المطلوب للمولى هو الحصّة الخاصة من الصوم وهي الصوم الذي يتعقّبه غسل الاستحاضة.

وكذلك لا محذور في افتراض تأخر قيود الحكم عن الحكم ؛ وذلك لأنّ الحكم بمرتبة الجعل يجعل على نحو القضيّة الحقيقيّة والتي يكون موضوعها مقدر الوجود ، وهذا يعني أنّ القيود المأخوذة في الحكم بمرتبة الجعل هي قيود افتراضيّة ذهنيّة يلحظها المولى ثمّ يجعل الحكم عليها معلقا على ما لا حظه وقدّره من موضوع وقيود ، وإذا كان كذلك فالحكم بمرتبة الجعل يكون موجودا بمجرّد إنشاء المولى للقضيّة الحقيقيّة ؛ وذلك لأنّ الحكم لمّا كان معلقا على ما هو ملحوظ في الذهن فحتما يكون موجودا

٦٢

حين إنشاء القضيّة الحقيقيّة ، إذ أنّ القضيّة الحقيقيّة متقوّمة بتقدير الموضوع وتصوّره في الذهن وهو « الموضوع المقدّر » حاصل حين إنشاء الحكم حتما ، إذ أنّ هذا هو مقتضى جعل الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة.

وبتعبير آخر : إنّ افتراض جعل الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة يقتضي كون الموضوع مقدرا ومتصورا حال إنشاء الحكم وجعله ، وإذا كان كذلك فالحكم بمرتبة الجعل لا يكون معلّقا على واقع القيود بل هو معلّق على القيود المفترضة وهي متحقّقة حين إنشاء وجعل الحكم على الموضوع أي أن قيود الحكم بمرتبة الجعل تكون دائما مقارنة للحكم ، وإذا كانت قيود الحكم بمرتبة الجعل مقارنة دائما للحكم فلا يضرّ أن تكون متأخرة خارجا عن الحكم ، إذ أنّ القيود الخارجيّة ليست قيودا للحكم بمرتبة الجعل ، فالقيود التي تكون خارجا متأخّرة عن الحكم هي مقارنة للحكم في مقام التصوّر والتقدير ؛ وذلك لأنّ موضوع الحكم هي القيود المقدّرة وهي حاصلة حين ترتيب الحكم عليها ، وهذا هو معنى مقارنة قيود الحكم بمرتبة الجعل للحكم.

وأمّا الحكم المجعول ـ والذي يعني تحقّق الفعليّة ـ فهو محض اعتبار ، أي أنّ المولى يعتبر ويفترض الحكم فعليّا متى ما تحقّقت قيوده خارجا ، فهو إذن ليس من سنخ الوجودات الحقيقيّة الخارجيّة.

وبهذا يتّضح بأنّه لا مانع من تعليق الحكم المجعول على قيد متأخر بعد أن كان الحكم المجعول وجودا اعتباريّا تابعا للمعتبر فإذا كان المعتبر قد جعل الفعليّة للحكم معلّقة على شرط متأخّر فإنّ هذا لا يعني أكثر من أن الاعتبار قد كيّف بهذه الكيفيّة ، فأي فرق بين اعتبار الفعليّة منوطة

٦٣

بشرط متقدّم أو بشرط متأخّر بعد أن كان الاعتبار بيد المعتبر يكيّفه كيف يشاء.

فتعليق نفوذ العقد الفضولي على الإجازة المتأخّرة لا يعني أكثر من أنّ المولى قد اعتبر العقد الفضولي نافذا من حينه إذ تعقبته الإجازة.

٦٤

زمان الوجوب والواجب

ويقع البحث هنا عن إمكان الواجب المعلّق أو استحالته.

وقبل بيان المراد من الواجب المعلّق وهل هو ممكن أو مستحيل لا بدّ من تقديم مقدّمة :

وهي أنّ العلاقة بين الزمن الذي تتحقّق فيه الفعلية للوجوب « المجعول » والزمن الذي أنيط به امتثال الواجب « متعلّق الحكم » يمكن أن تتصوّر لها ثلاث حالات :

الحالة الأولى : وهي أن يتّحد زمان الوجوب مع زمان الواجب ابتداء وبقاء ، وهذه هي الحالة الغالبة.

ويمكن التمثيل لها بالزمان الذي تتحقّق فيه فعليّة الوجوب لصلاة الظهر وزمان الواجب « متعلّق الوجوب » ، فإنّ زمانهما متحد ابتداء ـ وهو زوال الشمس ـ وبقاء ـ وهو زوال الحمرة المشرقيّة ـ ، فإنّ فعليّة الوجوب لا تتحقّق إلاّ حين تزول الشمس وكذلك امتثال الواجب يكون منوطا بتحقّق الزوال ، وتستمر الفعليّة إلى حين زوال الحمرة المشرقيّة وكذلك زمان امتثال الواجب.

الحالة الثانية : وهي افتراض تقدّم تمام زمان الوجوب على زمان الواجب بحيث يكون ابتداء زمان الواجب بعد انتهاء زمان الوجوب.

٦٥

وهذه الحالة مستحيلة التحقّق ؛ وذلك لأنّه بعد انتهاء أمد الفعليّة للوجوب لا يكون هناك موجب لمسؤوليّة المكلّف عن الإتيان بالواجب ، إذ أنّ مسؤوليّته عن الواجب إنّما تنشأ عن الوجوب ؛ ومع افتراض انتهاء أمد الوجوب لا يكون هناك منشأ يوجب الإتيان بالواجب.

الحالة الثالثة : أن يكون زمان الوجوب متقدّما على زمان الواجب إلاّ أنّ زمان الواجب يبدأ قبل انتهاء زمان الوجوب ويتحد بعد ذلك زمان الواجب مع زمان الوجوب ويكون انتهاء زمنيهما في آن واحد.

ويمكن التمثيل لذلك بوجوب صيام شهر رمضان ، فإنّ زمان وجوبه يبدأ برؤية الهلال أما زمان الواجب فيبدأ عند طلوع الفجر ، فزمان الوجوب تقدّم على زمان الواجب إلاّ أن زمان الإتيان بالواجب « الصوم » بدأ قبل انتهاء فعليّة الوجوب للصوم وبقيا متحدين إلى حين انتهاء أمديهما معا.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نقول : إنّ الحالة الثالثة هي التي يعبّر فيها عن الواجب بالمعلّق ، فالمراد من الواجب المعلّق هو ما يكون زمان الواجب متأخرا عن زمان تحقّق الفعليّة للوجوب بحيث لا يكون المكلّف ممتثلا للمأمور به إلاّ في حال وقوع الواجب في الزمن المحدّد والذي يكون متأخرا عن زمان الفعليّة للوجوب.

هل الواجب المعلّق ممكن أو مستحيل؟

ذهب المصنّف رحمه‌الله إلى استحالة أن يكون الواجب معلقا ؛ وذلك لأنّ معنى أن يكون الواجب معلقا هو أن يكون مقيدا بزمن ، والزمن ليس من القيود الاختياريّة ، وقد ذكرنا أنّ قيود الواجب يستحيل أن تكون غير

٦٦

اختياريّة ، إذ أنّ المكلّف مسؤول عن تحصيلها وإيجادها ولا يمكن أن يكون المكلّف مسؤولا عمّا هو خارج عن قدرته لاستحالة التكليف بغير المقدور ، نعم يمكن تقييد الوجوب والواجب معا بقيد غير اختياري لأنه في مثل هذه الحالة لا يكون المكلّف مطالبا بتحصيل القيد ـ كما اتّضح ذلك مما سبق ـ ، وأمّا أن نقيّد الواجب وحده بقيد غير اختياري فهذا مستحيل ، ومن هنا لا بدّ من أن يكون زمان الواجب قيدا للوجوب أي أن فعليّة الوجوب تبدأ حين يتحقّق زمان الواجب ، وهذا يعني عدم تأخر زمان الواجب عن زمان الفعليّة.

وخلاصة الكلام أنّ الزمان لمّا كان من القيود غير الاختياريّة فيستحيل تقييد الواجب وحده به ، فلابدّ أن يكون القيد راجعا إلى الوجوب ، فإذا كانت فعليّة الوجوب مقيّدة بتحقّق زمان الواجب فهذا يقتضي عدم تحقّقها إلى حين تحقّق زمان الواجب ، وهذا يعني عدم تقدّم زمان الفعليّة على زمان الواجب وعدم تأخّر زمان الواجب عن زمان الفعليّة ، وبهذا تثبت استحالة الواجب المعلّق.

وفي مقابل القول بالاستحالة ذهب جماعة من الأصوليّين إلى إمكان الواجب المعلّق ، إذ أنّه أيّ محذور في أن يكون الوجوب فعليّا وتكون المسؤوليّة عن الإتيان بالواجب معلّقة على زمن متأخر.

الثمرة المترتّبة على القولين :

أمّا الثمرة المترتّبة على القول بإمكان الواجب المعلّق فهو وجوب المقدّمات المفوتة.

وبيان ذلك : إنّ دعوى استحالة وجوب المقدّمات المفوتة نشأت عن

٦٧

أنّ زمان الواجب متحد مع زمان فعليّة الوجوب وأنّ الفعليّة لا تتحقّق إلاّ في زمان الواجب ، إذ أنّ هذا هو مقتضى اشتراط الفعليّة بزمان الواجب ، وفي مثل هذه الحالة لا يكون المكلّف مسؤولا عن مقدّمات الواجب قبل تحقّق الفعليّة للوجوب ومع تحقّق الفعليّة للوجوب يكون المكلّف عاجزا عن تحصيل مقدّمات الواجب كما هو مقتضى الفرض.

وبتعبير أوضح : إنّ مقدّمات الواجب لا يكون المكلّف مسؤولا عن تحصيلها إلاّ بعد تحقّق الفعليّة للوجوب ، فلو افترضنا المكلّف يعلم بعدم قدرته على تحصيل مقدّمات الواجب في حينه إلا أنه قادر قبل ذلك على تحصيل المقدّمات ، فإنه في مثل هذه الحالة لا يكون مسؤولا عن تحصيل المقدّمات وإن كان قادرا على تحصيلها ؛ وذلك لان وجوب تحصيل مقدمات الواجب منوط بتحقّق الفعليّة للوجوب والفعليّة منوطة بتحقّق زمان الواجب وفي حال تحقّق زمان الواجب يكون المكلّف عاجزا عن تحصيل المقدّمات ، ومن هنا لا تكون المقدّمات المفوتة واجبة التحصيل.

أمّا لو افترضنا أن زمان الوجوب يمكن أن ينفك عن زمان الواجب ويتقدّم عليه ، فإنّه بتحقق الفعليّة للوجوب يكون المكلّف مسؤولا عن تحصيل المقدّمات ومنها المقدّمات المفوتة ؛ إذ أن وجوب مقدّمات الواجب مترشّح عن فعليّة الوجوب وهو حاصل بناء على إمكان الواجب المعلّق ، فالمكلّف وإن كان غير قادر على الاغتسال من الجنابة في زمان الواجب « الفجر » إلاّ أنّه قادر عليه ليلا ولمّا كان زمان الوجوب يبدأ من حين رؤية الهلال فهذا يقتضي مسؤوليّة المكلّف عن تحصيل كلّ المقدّمات التي يتوقف عليها امتثال الواجب « الصوم » والتي منها الاغتسال عن الجنابة.

وأمّا الثمرة المترتبة على القول باستحالة الواجب المعلّق فبناء على

٦٨

استحالة الشرط المتأخّر تكون فعليّة الوجوب منوطة بتحقّق زمان الواجب ولا يمكن أن تتقدّم الفعليّة على تحقّق زمان الواجب. وبيان ذلك :

أنّه إذا بنينا على استحالة تعلّق فعليّة الحكم « الوجوب » على شرط متأخر فهذا يعني استحالة كون زمان الواجب شرطا متأخرا لفعليّة الوجوب.

ومن هنا لا بدّ أن يكون شرطا مقارنا للوجوب فمتى ما تحقّق زمان الواجب تحقّقت الفعليّة وقبل ذلك لا تكون هناك فعليّة للوجوب ، إذ أنّ تحقّق الفعليّة قبل تحقّق زمان الواجب يعني إمكان أن يكون الحكم « الوجوب » معلقا على شرط متأخّر وقد افترضنا استحالته ، ومن هنا لا يكون هناك ما يبرّر وجوب تحصيل المقدّمات المفوتة لأنّه قبل تحقق زمان الواجب لا يكون الوجوب فعليّا فلا موجب حينئذ لتحصيل مقدّمات الواجب وبعد تحقّق زمان الفعليّة بتحقّق زمان الواجب يكون المكلّف عاجزا عن تحصيل المقدّمات.

وأمّا بناء على إمكان الشرط المتأخر فلا محذور في إناطة الحكم بشرط متأخر وهو زمان الواجب.

وتلاحظون هنا أنّ فعليّة الوجوب تبقى منوطة بتحقّق زمان الواجب ، غاية ما في الأمر أنّ زمان الواجب يكون شرطا متأخرا ، وهذا لا يسوّغ إمكان الواجب المعلّق ؛ إذ أنّ فعليّة الحكم تبقى معلقة على زمان الواجب ، نعم المقدّمات المفوتة بناء على هذا الفرض واجبة التحصيل لو اتّفق تحقّق زمان الواجب بعد ذلك ، أمّا لو لم يتحقّق زمان الواجب فإنّ ذلك يكشف عن عدم وجوب المقدّمات المفوتة ؛ وذلك لأن عدم تحقّق زمان الواجب يعني عدم تحقّقق الفعليّة للوجوب من أوّل الأمر فلا موجب لتحصيل مقدّمات الواجب ، إذ أنها مترشحة عن فعليّة الوجوب وهي غير

٦٩

حاصلة لو اتّفق عدم تحقّق زمان الواجب.

وهذا بخلاف ما لو قلنا بإمكان الواجب المعلّق ، فإنّ المقدّمات المفوتة تكون واجبة التحصيل على أية حال سواء تحقّق زمان الواجب بعد ذلك أو لم يتحقّق ، إذ أنّ مقدّمات الواجب التي منها المفوتة مترشحة عن فعليّة الوجوب وهي غير منوطة بزمان الواجب ، فسواء اتّفق حصول زمان الواجب أو لم يتّفق حصوله فالفعليّة للوجوب ثابتة.

وخلاصة الكلام : أنّه بناء على القول باستحالة الواجب المعلّق وإمكان الشرط المتأخر يمكن أن يناط الوجوب « المجعول » بتحقّق زمان الواجب فيكون زمان الواجب من شرائط الوجوب ، ففي المثال الذي ذكرناه وهو وجوب الصوم في شهر رمضان يكون منوطا بشرطين :

الأوّل : هو رؤية الهلال ، وهذا الشرط يوجب تحقّق فعليّة وجوب الصوم بمجرّد تحقّقه فيكون وجوب الصوم مزامنا لتحقّق الرؤية للهلال.

الثاني : هو طلوع الفجر ، فالمكلّف الذي رأى هلال شهر رمضان وكان ممّن سيطلع عليه الفجر وهو قادر على الصيام فوجوب الصوم يكون عليه فعليا ، وبهذا يكون مسؤولا عن المقدّمات المفوّتة من قبيل الغسل عن الجنابة.

أما من رأى الهلال إلا أنه في علم الله لن يوفق لإدراك الفجر أو يدركه وهو عاجز عن الصوم فهذا ممّن لا تجب عليه المقدّمات المفوّتة واقعا ؛ إذ أن عدم إدراك الفجر يكشف عن عدم تحقّق فعليّة الوجوب للصوم من أوّل الأمر ، وهذا يعني عدم وجوب المقدّمات المفوتة ، إذ أنّها فرع تحقّقق الفعليّة لوجوب الصوم.

٧٠

متى يجوز عقلا التعجيز؟

والغرض من عقد هذا البحث هو بيان الموارد التي يحكم العقل فيها بجواز تعجيز النفس عن إيجاد الواجب والموارد التي يحكم العقل فيها بعدم جواز التعجيز.

والمراد من تعجيز النفس هو أن يوجد المكلّف ما يوجب انسلاب قدرته عن الإتيان بالمأمور به. والمراد من القدرة الأعم من القدرة التكوينيّة كأن يؤخر الآفاقي سفره إلى مكة المكرّمة إلى حد لا يمكن معه أداء مناسك الحج في وقتها ، إذ أنّ أداء مناسك الحج في ذي الحجة متوقف تكوينا بالنسبة للآفاقي على السفر إلى مكّة المكرّمة قبل وقت أداء المناسك.

أو القدرة الشرعيّة والتي تعني القدرة على الإتيان بالواجب مقترنا بالقيد الشرعي ، ويمكن التمثيل له بمن يشرب عمدا ما يوجب التقيّء في نهار شهر رمضان ، أو يفعل ما يوجب فقدان الوعي في تمام وقت الصلاة.

وباتّضاح ما ذكرناه نقول : إنّ تعجيز المكلّف نفسه عن إيجاد الواجب يمكن تصويره في موردين :

المورد الأوّل : أن يوجد المكلّف ما يوجب تعجيز نفسه عن إيجاد الواجب بعد تحقّق الفعليّة للوجوب ، وفي مثل هذه الحالة لا إشكال في عدم جواز تعجيز النفس عقلا ؛ وذلك لأنّ المكلّف لمّا كان مسؤولا عن الإتيان بالواجب فإن تعجيز النفس يساوق ترك الواجب اختيارا ، وهذا هو معنى المعصية والتي يحكم العقل بقبح صدورها من العبد.

٧١

ومثال ذلك أن يشرب المكلّف ما يوجب انسلاب وعيه في حالة يكون فيها وجوب الصلاة فعليّا كأن يشربه بعد الزوال ويكون مفعوله مستمرا إلى حين زوال الحمرة المشرقيّة. أو أن يؤخر الآفاقي المستطيع سفره إلى مكّة المكرّمة إلى أن يتضيّق وقت أداء فريضة الحج بحيث لا يتمكن تكوينا من أداء فريضة الحج.

المورد الثاني : أن يعجّز المكلّف نفسه عن أداء الواجب ولكن قبل تحقّق فعليّة الوجوب ، كما لو أحدث بالجنابة اختيارا قبل طلوع الفجر وهو يعلم بعدم قدرته على الاغتسال إلى حين طلوع الشمس.

وفي هذا المورد ذهب المصنّف رحمه‌الله إلى جواز تعجيز النفس وذلك لعدم وجود ما يوجب التحفّظ على القدرة بعد افتراض عدم فعليّة الوجوب ، وأمّا بعد تحقّق زمان الفعليّة للوجوب يكون المكلّف عاجزا عن إيجاد الواجب ومع عجزه يستحيل تكليفه لاستلزامه التكليف بغير المقدور.

وتطبيق ما ذكرناه على المثال أنّ المكلّف حينما أحدث بالجنابة لم يكن هناك تكليف بالصلاة عن طهارة مائية ؛ وذلك لأنه أحدث بالجنابة قبل طلوع الفجر أي قبل مخاطبته بالصلاة ، وبعد أن طلع الفجر لم يكن قادرا على الإتيان بالصلاة عن طهارة مائية ، وهذا ما يستوجب عدم إمكان تكليفه بالصلاة عن طهارة مائية لاستحالة تكليف العاجز ، فالمكلّف وإن كان هو الذي منع عن تحقّق الفعليّة للوجوب إلاّ أنّ ذلك غير ضائر بعد أن كانت الفعليّة منوطة بزمان لم يكن متحقّقا حين التعجيز فلم تصدر من المكلّف معصية ، إذ أنّ المعصية هي مخالفة التكليف ولم يكن تكليف حينما عجّز نفسه.

وبهذا اتّضح جواز تعجيز النفس عن إيجاد الواجب إذا لم تكن الفعليّة

٧٢

قد تحقّقت ، إلاّ أنه يمكن أن يقال في مثل هذا المورد بالتفصيل بين التكليف الذي تكون مبادؤه مختصّة بظرف القدرة ـ أي أنّ القدرة شرط شرعي له ـ ، وبين التكليف الذي لا تكون مبادؤه مختصة بظرف القدرة ـ أي أنّ القدرة شرط عقلي له ـ ، فإنه في الأول يجوز تعجيز النفس عن إيجاد الواجب قبل تحقّق الفعليّة وفي الثاني لا يجوز. وبيان ذلك :

إننا ذكرنا في بحث استحالة التكليف بغير المقدور أن مبادئ التكليف لا تكون دائما منوطة بالقدرة فقد تكون المصلحة والمحبوبيّة ثابتة للفعل حتى في ظرف عدم القدرة كما في إنقاذ المؤمن من الغرق فإنّه واجد للمصلحة والمحبوبيّة حتى وإن كان المكلّف عاجزا عن إنقاذه ، وفي مثل هذه الحالة تكون القدرّة ـ المعتبرة في تحقّق الفعليّة للتكليف ـ عقليّة ، إذ أنّ المقتضي لتحقّق الفعليّة للتكليف موجود « الملاك والإرادة » إلاّ أن الذي سبّب المنع عن تحقّق الفعليّة هو عجز المكلّف والذي هو موضوع لحكم العقل باستحالة التكليف.

وفي الحالة الثانية تكون فيها المصلحة والمحبوبيّة منوطة بالقدرة فلا مصلحة ولا محبوبيّة للفعل في ظرف عدم القدرة ، وفي مثل هذه الحالة تكون القدرة ـ المعتبرة في تحقّق الفعليّة للتكليف ـ شرعيّة ؛ وذلك لأنّ المقتضي للتكليف في ظرف عدم القدرة منتف ، وهذا ما أوجب التعبير عن القدرة المعتبرة في فعليّة التكليف بالقدرة الشرعيّة لتتميّز عن القدرة المعبّر عنها بالعقليّة. ومع اتضاح هذه المقدّمة نقول :

إنّه يجوز للمكلّف أن يعجّز نفسه عن إيجاد الواجب قبل تحقّق الفعليّة للوجوب إذا كان الوجوب منوطا بالقدرة الشرعيّة ، إذ أنّه في مثل هذه الحالة لا تكون هناك مصلحة فائتة ؛ وذلك لأنّ المصلحة في هذا الفرض

٧٣

منوطة بالقدرة ، وبتعجيز المكلّف نفسه تكون المصلحة منتفية عن الفعل فلا يلزم من منع المكلّف عن تحقّق الفعليّة للتكليف تفويت المصلحة على المولى.

وهذا بخلاف ما إذا كان الوجوب منوطا بالقدرة العقليّة فإنّه لا يجوز للمكلّف تعجيز نفسه عن إيجاد الواجب ، إذ أنّ المصلحة تبقى منحفظة في ظرف عدم القدرة ، وهذا يعني أنّ المصلحة تفوت بتعجيز المكلّف لنفسه ، والعقل يحكم بقبح تفويت ملاكات المولى.

وبتعبير آخر : إنّ مبادئ الحكم إذا كانت ثابتة في حال عدم القدرة فإنّ ذلك يقتضي فواتها بسبب استحالة التكليف بغير المقدور ، فإذا كان العجز ناشئا عن ظروف قاهرة فالمكلّف معذور في عدم تحصيل مبادئ الحكم والمحافظة على ملاكات المولى ، أمّا إذا كان منشأ العجز هو المكلّف نفسه فهذا يعني أنّه سبّبب في فوات ملاكات المولى وهو قبيح عقلا.

وبهذا يثبت عدم جواز تعجيز النفس عن إيجاد الواجب قبل تحقّق الفعليّة للوجوب إذا كان الوجوب مشروطا بالقدرة العقليّة أي إذا كانت المصلحة ثابتة حتى في ظرف عدم القدرّة ، ويترتّب على هذا التفصيل وجوب المقدّمات المفوتة إذا كان التكليف الموجب لها من قبيل التكاليف المشروطة بالقدرة العقليّة بخلاف ما لو كان التكليف من قبيل التكاليف المشروطة بالقدرة الشرعيّة.

وذلك لأن التكاليف المشروطة بالقدرة العقليّة تكون المبادئ فيها محفوظة حتى في ظرف عدم القدرة ، فعدم تحصيل المقدّمات المفوتة يعني التسبيب في فوات تلك المبادئ والذي هو قبيح عقلا ، أمّا التكاليف المشروطة بالقدرة الشرعيّة فلمّا لم تكن مبادؤها ثابتة في ظرف العجز ، فعدم تحصيل المقدّمات المفوّتة لا يلزم منه تفويت ملاكات المولى لعدمها في ظرف العجز.

٧٤

أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم

استحالة اختصاص الحكم بالعالم به :

ذكرنا في بحث القطع الطريقي والقطع الموضوعي أنّ موضوع كلّ حكم يقع دائما في رتبة متقدّمة على ترتّب الحكم ، فما لم يتنقح الموضوع ويتقرّر يكون ترتّب الحكم مستحيلا ، وبهذا يكون الموضوع مولّدا للحكم.

وذكرنا أيضا أنّ الموضوع ليس له دور الكشف عن الحكم وإنّما الكاشف عن الحكم هو الأدلّة الإثباتيّة فهي التي تكشف عن ثبوت الحكم لموضوعه وبهذا تكون الأدلّة الإثباتيّة متأخرة عن ثبوت الحكم لموضوعه في نفس الأمر والواقع ، فما لم يكن هناك منكشف فأيّ شيء تكشف عنه الأدلّة الإثباتية؟

وباتّضاح هذه المقدّمة نقول : إنّه وقع البحث عن إمكان أو استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم أي جعل العلم بالحكم جزءا لموضوع نفس ذلك الحكم ، وذلك بأن يجعل المولى حكما على نهج القضيّة الحقيقيّة ويكون موضوع تلك القضيّة المقدّر مشتملا على العلم بنفس الحكم المنشأ في القضيّة نفسها ، مثلا لو قال المولى « الخمر حين العلم بحرمته حرام » فالحكم المنشأ بواسطة هذه القضيّة هو « الحرمة » وموضوع هذا الحكم مركّب من جزءين ، الأول هو الخمر والثاني هو العلم

٧٥

بحرمته أي العلم بحكم الخمر ، وبهذا يكون العلم بالحرمة المأخوذ في موضوع القضيّة قيدا من قيود الحكم « الحرمة » ومن هنا ادّعي استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ؛ وذلك لاستلزامه الدور المحال ، إذ أنّ الحكم في هذه القضيّة قد توقف على نفسه.

وبيان ذلك :

إننا قد ذكرنا فيما سبق أنّ فعليّة الحكم « المجعول » منوطة بتحقّق قيوده خارجا ، فقيود الحكم تقع في رتبة العلّة لفعليّة الحكم ، وإذا كان كذلك فلابدّ من تقدمها على الحكم ويكون الحكم متأخرا عنها تأخر المعلول عن علّته.

فإذا افترضنا أن العلم بالحكم هو من قيود الحكم فهذا يقتضي توقّف الحكم على تحقّق العلم بالحكم خارجا كما هو الحال في سائر قيود الحكم.

ومن الواضح أنّ العلم بالحكم مستحيل ما لم يكن الحكم ثابتا في مرتبة سابقة ؛ وذلك لأنّ العلم كاشف فهو متفرع عن وجود المنكشف « الحكم » ، فالعلم بالحكم في الوقت الذي يكون فيه قيدا وعلة لثبوت الحكم يكون معلولا لثبوت الحكم.

إذن فالحكم علّة العلم بالحكم ـ إذ لولاه لتعذّر العلم ـ والعلم بالحكم علّة لتحقّق الحكم ، وبهذا يكون الحكم علّة لثبوت نفسه ومعلولا لنفسه.

أمّا أنّه علّة لثبوت نفسه فلأنه علّة للعلم الذي هو علة لثبوت الحكم ، وأمّا أنه معلول لنفسه فلأنّه معلول للعلم بالحكم ، وإذا كان معلولا للعلم بالحكم فهو معلول للحكم ، إذ أنّ العلم بالحكم « الكاشف » معلول للحكم « المنكشف ».

٧٦

ولمزيد من التوضيح نطبّق ما ذكرناه على المثال السابق : إنّ أخذ العلم بحرمة الخمر في موضوع حرمة الخمر يعني أنّ العلم بحرمة الخمر قيد لحرمة الخمر وإذا كان كذلك فتحقّق فعليّة الحرمة للخمر منوط بتحقّق العلم بحرمة الخمر ؛ إذ أنّ هذا هو مقتضى قيديّة العلم بالحرمة للحكم « الحرمة » ، فثبوت الفعليّة لحرمة الخمر إذن متوقفة على تحقّقق العلم بحرمة الخمر ولمّا كان العلم بالحرمة متوقفا على تقرّر الحرمة وثبوتها في مرحلة سابقة فهذا يقتضي أنّ ثبوت الحرمة متوقف على العلم بالحرمة والعلم بالحرمة متوقف على ثبوت الحرمة ، وهذا يعني توقّف حرمة الخمر على حرمة الخمر.

إذ أنّ الحرمة للخمر متوقفة على العلم بالحرمة لأنها أخذت قيدا للحرمة ولمّا كان العلم بالحرمة منوطا بثبوت الحرمة فهذا يعني توقف العلم بالحرمة على الحرمة المتوقّفة على العلم بها.

وبهذا يثبت أنّ أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم يلزم منه الدور المحال.

الجواب على دعوى الدور :

ذكر المصنّف رحمه‌الله جوابين على دعوى الدور :

الجواب الأوّل :

إنّه وإن كنّا نسلّم بتوقف فعلية الحكم على تحقّق قيوده خارجا وبالتالي تكون فعليّة الحكم متوقفة على العلم بالحكم إلاّ أنّه لا نسلّم بتوقف العلم بالحكم على الحكم ؛ وذلك لأنّ العلم بالحكم ليس معلولا للحكم بل إنّه معلول لما يحضر من صورة المعلوم في ذهن العالم به.

وبتعبير آخر : إنّ علّة العلم ليس هو الثابت في نفس الأمر والواقع

٧٧

وإلاّ لكان كلّ علم مطابقا للواقع ، إذ أنّه إذا كان علة العلم هو الثابت في الواقع فهذا يقتضي أن لا علم في ظرف عدم الثبوت في الواقع ؛ وذلك لأنّ انتفاء الثبوت يعني انتفاء علة العلم ، وكيف يكون هناك معلول « العلم » مع انتفاء علّته؟!

وهذا خلاف ما نجده من أن العلم قد يكون موجودا ولا يكون معلومه ثابتا في الواقع ممّا يعبّر عن أنّ العلم ليس معلولا لما هو الثابت واقعا وإلاّ لزم أن ينشأ المعلول عن غير علته أو من غير علّة وهو محال كما هو واضح.

وبهذا يثبت عدم توقف العلم بالحكم على الحكم نفسه ، وإنّما هو متوقّف على الصورة الحاضرة في الذهن وهي المعلوم بالذات ، ومنشأ كون المدرك الذهني هو المعلوم بالذات أن العلم هو الرؤية ، والمرئي للعالم حقيقة هو الصورة الذهنيّة.

والمقصود من كون المدرك الذهني هو المعلوم بالذات يتّضح من هذا البيان :

وهو أنّ العلم عبارة ثانية عن رؤية المعلوم ، فالمرئي للعالم حقيقة هو الصورة الذهنيّة الحاضرة في نفس العالم بها ، فحينما ندرك معنى النار لا يكون واقع النار هو الحاضر في الذهن وإنّما الذي يحضر في الذهن هو صورة النار فهي المعلوم أولا وبالذات لأنّها هي عين المدرك في الذهن ، فتكون النار الخارجيّة معلومة لنا بالتبع أي بواسطة الصورة الذهنيّة والتي هي عين المعلوم.

ويمكن تنظير ذلك بالمرآة ، إذ أنّ المرئي بواسطة المرآة هي الصورة

٧٨

وليس هو الوجود الخارجي ، نعم الصورة المرئيّة بواسطة المرآة تكون كاشفة عن الوجود الخارجي ، فصورة وجه زيد هي المرئية بواسطة المرآة أولا وبالذات ووجه زيد الخارجي إنّما انكشف لنا بواسطة الصورة ، وهذا يعني أنّ المرآة كشفت عن وجه زيد الخارجي بالتبع وبالعرض.

وبهذا يتّضح أنّ العلم بالحكم معلول للصورة الذهنيّة للحكم وليس هو معلولا لواقع الحكم ، فقد لا يكون هناك حكم في الواقع فكيف يكون علّة وهو عدم ، وهذا بخلاف الصورة الذهنيّة فإنّها تكون ثابتة في ظرف العلم ، وبهذا تسقط دعوى الدور لبطلان دعوى توقف العلم بالحكم على نفس الحكم أي واقع الحكم.

والإشكال على هذا الجواب : هو أنّه وإن كانت كبراه مسلّمة إلاّ أنّه لا ينفع في دفع غائلة الدور ؛ وذلك لأنّه لا ريب في أنّ العلم ليس له إلاّ دور الكاشفيّة عن متعلقه « المعلوم » وأخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم يعني أنّ العلم صار له دور توليد الحكم ، إذ أنّ الموضوع ـ كما قلنا ـ يولّد الحكم.

وبعبارة أخرى : إنّه لمّا كان العلم بالحكم جزءا لموضوع نفس الحكم فهذا يعني أنّ العلم بالحكم ساهم في إيجاد الحكم ، والحال أنّ العلم ليس له إلاّ دور الكشف عن الحكم وهذا ما يقتضي تأخّره عن الحكم الذي يكشف عنه ، فما ينبغي أن يكون متأخرا صار متقدّما ومولّدا وهذا غير معقول ، إذ كيف يكون الكاشف مولّدا لمنكشفه الذي من المفترض أن يكون متقدما في وجوده عليه؟ فهل من المعقول أنّ المرآة توجد ما تكشف عنه والحال أنّ كاشفيّتها عنه تقتضي تقرّر المنكشف في رتبة سابقة على الكاشفيّة؟!

٧٩

الجواب الثاني :

إنّ استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم إنّما هي في حالة كون الحكم في رتبة الموضوع هو عين الحكم في رتبة المحمول ، أمّا لو كان الحكم في الموضوع مغايرا للحكم في رتبة المحمول فلا استحالة إذ لا دور. وبيان ذلك :

إنّ الحكم المأخوذ في الموضوع هو الحكم الإنشائي « الجعل » والحكم المنوط بالعلم بالحكم هو الحكم المجعول ، والذي يعني الفعليّة للحكم ، ولا يلزم من ذلك الدور ، إذ أنّ الذي توقف عليه الحكم المجعول هو الحكم الإنشائي والذي هو الجعل فالمتوقّف غير المتوقّف عليه.

وبتعبير آخر : إنّه يمكن التفصّي عن إشكال الدور بدعوى أنّ الذي وقع قيدا لفعليّة الحكم هو الحكم الإنشائي ، فالقيد هو العلم بالحكم الإنشائي والمقيّد هو الحكم الفعلي « المجعول » ، ومن الواضح أنّ العلم بالحكم الإنشائي « الجعل » لا يتوقف على تحقّق الفعليّة للحكم ، فكأنّما المولى قال « إذا علمت أنّ الخمر قد جعلت له الحرمة فإنّ الحرمة تكون بذلك فعليّة » فكما أن تحقّق الزوال والاستطاعة موجب لتحقّق فعليّة الوجوب للصلاة والحجّ فكذلك عندما يتحقّق العلم بجعل الحرمة على الخمر فإنّ ذلك موجب لتحقّق الفعليّة للحرمة. وليس في ذلك دور ؛ إذ أنّ المقيد وهو الحكم المجعول غير القيد « الجعل ».

الثمرة المترتّبة على القول بالاستحالة :

والثمرة المترتّبة على القول باستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع

٨٠