شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

من غير فرق بين أن يكون الحكم من سنخ الأحكام التكليفيّة كما في مثال وجوب الزكاة ، أو من سنخ الأحكام الوضعيّة كما لو قال المولى « إذا قال الزوج لزوجته في حال وعيه أنت طالق وكانت في طهر لم يواقعها فيه فقد وقع الطلاق » ، فالحكم بالطلاق من سنخ الأحكام الوضعيّة وقد رتّب هذا الحكم على تحقّق الموضوع بحيثيّاته خارجا ، فالطلاق الفعلي « المجعول » منوط بتحقّق موضوعه خارجا ، وأمّا الحكم بالطلاق في مرتبة الجعل فموضوعه ما لاحظه المولى حين جعل الطلاق على نهج القضيّة الحقيقيّة.

٤١
٤٢

قاعدة تنوّع القيود وأحكامها

تنوّع القيود :

القيد في كل شيء ما يوجب تضييق دائرة المقيّد به ، فلا تكون الطبيعة معه مرادة على سعتها بل المراد منها حين تقيّدها هو الحصة الخاصة والتي هي الواجدة للقيد.

والقيود تارة ترجع إلى الحكم وأخرى إلى متعلق الحكم ، وفي الحالتين تكون القيود موجبة لتضييق دائرة الطبيعة « الحكم أو متعلق الحكم » التي تقيدت بها ، غايته أنّ قيود الحكم ينتج عدم فعلية الحكم ما لم تتحقق القيود المعتبرة في ترتّبه. فلا يكون المكلّف مسؤولا عن امتثال الحكم إلاّ أن تتحقق قيوده وتوجد ، فقيود الحكم تكون بمثابة العلل الموجدة للحكم أي لفعليته.

وهذا بخلاف القيود الراجعة لمتعلّق الحكم فإنّ فعليّة الحكم لا تكون منوطة بتحقق تلك القيود ، فسواء تحققت أو لم تتحقّق ففعليّة الحكم ـ إذا تحقّقت قيوده الراجعة إليه ـ ثابتة ويكون المكلّف مسؤولا عن امتثال الحكم بقطع النظر عن تحقق قيود المتعلّق أو عدم تحققها.

ومن هنا تكون قيود المتعلّق داخلة فيما يجب امتثاله إذا تحققت فعليّة الحكم.

٤٣

ويمكن التمثيل لقيود الحكم وقيود متعلّق الحكم بما لو قال المولى : « إذا زالت الشمس صلّ متطهرا » ، فإنّ الزوال في المثال من قيود الحكم « الوجوب » وهذا يقتضي إناطة فعلية الوجوب بتحقق الزوال فلا يكون المكلّف مخاطبا بامتثال الوجوب ما لم تزل الشمس. وأما الكون على طهارة فهو من قيود متعلق الحكم « الواجب » وهو الصلاة ولذلك لا تكون فعلية الحكم متوقفة عليه فسواء تطهر المكلّف أو لم يتطهر فهو مخاطب بامتثال الوجوب والإتيان بالصلاة إذا ما تحقق الزوال خارجا ، وهذا يقتضي دخول قيود متعلق الحكم « الطهارة » فيما يجب امتثاله ، إذ أنّ معنى تقييد المتعلّق « الصلاة » هو أنّ طبيعة الصلاة على سعتها ليست مرادة وإنّما المراد منها خصوص الحصة المتقيدة بالطهارة.

ومن هنا تكون الحصة الواقعة متعلقا للحكم مشتملة على شيء زائد على الطبيعة وهو الذي أوجب تحصيص الطبيعة بتلك الحصة أي الواجدة لذلك القيد ، فالواجب والذي هو متعلّق الحكم هو طبيعة الصلاة مع تقيّدها بالطهارة ، فالطهارة خارجة عن متعلّق الحكم أي أنّها ليست واجبة إلاّ أنّ تقيّد الصلاة بالطهارة داخل في متعلّق الحكم أي أن التقيّد بالطهارة داخل في الواجب.

والمراد من أن القيد « الطهارة » خارج عن الواجب وأن التقيّد بالطهارة داخل في الواجب ـ المراد من ذلك ـ أنّه ليس الواجب هو طبيعة الصلاة والطهارة ، ولذلك لو جيء بكل واحد منهما على حدة لما تحقق الامتثال ، فالواجب هو طبيعة الصلاة المتقيدة بالطهارة ، وهذا يعني أن الواجب هو الحصة الخاصة من طبيعة الصلاة وهي الحصة الواجدة للقيد ،

٤٤

إذ أنّ الطبيعة قد تكون واجدة للقيد وقد تكون فاقدة له والذي وقع متعلّقا للحكم هو الطبيعة الواجدة للقيد وهذا هو معنى أنّ التقيّد داخل في الواجب.

ومن هنا يتضح أنّ الإتيان بالطهارة ليس واجبا ، نعم الإتيان بالطهارة يكون مقدمة وعلّة لحصول التقيّد الواجب ، إذ أنّه لا يمكن تحقق التقيّد بالطهارة ما لم يأت المكلّف بالطهارة ، فإذا ما أتى بالطهارة أمكن الامتثال وهو الإتيان بالحصة الخاصة والتي هي الصلاة المتقيدة بالطهارة.

فعلاقة القيد بالتقيّد علاقة العلة بالمعلول ، فالقيد علة والتقيّد معلول له ؛ وذلك لأنّ معنى التقيّد هو اقتران الطبيعة بالقيد ، ومن الواضح أنّ الاقتران لا يمكن تحققه خارجا ما لم يوجد القيد ، فما لم تتحقّق الطهارة لا يمكن تحقّق إقتران الصلاة بالطهارة.

وعلاقة العليّة بين القيد والتقيّد لا تسري إلى نفس الطبيعة ؛ فالقيد ليس علّة للطبيعة ولا هو جزء علة لها.

ويمكن أن نستنتج مما ذكرناه أنّ قيود المتعلّق « الواجب » تقتضي أمورا ثلاثة :

الأول : هو تحصيص طبيعة المتعلّق بالحصّة الواجدة للقيد فلا تكون الحصة الفاقدة للقيد مشمولة للمتعلّق ، فطبيعة الصلاة على سعتها ليست واجبة وإنما الواجب منها هو حصة خاصة وهي الواجدة للطهارة.

الثاني : أنّ تقيّد المتعلّق يعني أنّ الواجب هو ذات الطبيعة والتقيّد بالقيد ويكون نفس القيد خارجا عن المتعلّق « الواجب ».

الثالث : أنّ العلاقة بين القيد والتقيّد علاقة العلة والمعلول فالقيد علّة

٤٥

والتقيّد معلول ، إذ أنه لا يمكن أن يتحقق التقيّد ما لم يتحقق القيد ، وهذا بخلاف علاقة نفس الطبيعة بالقيد ، فإنّ القيد ليس علة لها ولا هو جزء علّة لها.

القيود الراجعة للحكم ومتعلقه :

اتّضح مما ذكرناه أنّ القيود تارة ترجع إلى الحكم « الوجوب » وأخرى ترجع إلى المتعلّق « الواجب » ، وقد يتفق أن القيد يكون راجعا إلى الحكم وفي نفس الوقت يكون راجعا إلى المتعلّق.

ومقتضى رجوع القيد للحكم هو توقف فعلية الحكم على تحقق القيد كما أنّ مقتضى رجوعه إلى المتعلّق هو اختصاص المتعلّق بالطبيعة الواجدة للقيد ، أي أنّ الواجب هو الطبيعة مع التقيّد بالقيد.

ويمكن أن نمثّل لذلك بالزوال بالنسبة لصلاة الظهر.

فالزوال قيد لوجوب صلاة الظهر ، أي قيد للحكم ، وفي نفس الوقت هو قيد للواجب « المتعلّق » وهي الصلاة ، أي أنّ الواجب ليس هو الصلاة على إطلاقها بل إن الواجب هو حصة خاصة من الصلاة وهي الصلاة المقترنة بالزوال.

ومقتضى كون الزوال قيدا للوجوب هو أنّ المكلف لا يكون مخاطبا بالوجوب ولا مسؤولا عن الامتثال ما لم يتحقق الزوال خارجا.

كما أنّ مقتضى كون الزوال قيدا للواجب هو أنّ الواجب ليس هو طبيعة الصلاة على سعتها بل هي الحصة الخاصة وهي المتقيدة بالزوال.

٤٦

أحكام القيود المتنوعة :

ويقع البحث هنا عن أحكام القيود واختلافها باختلاف أنحاء القيود ، وما هو الضابط في اختلاف أحكام القيود ، فنقول :

إنّ القيود تارة لا يجب تحصيلها ولا يكون المكلّف مسؤولا عن امتثالها بل إنّها تؤخذ مفروضة التحقّق ، فمتى ما اتفق تحقق هذا النحو من القيود خارجا ترتب المقيد بها وأصبح المكلف مسؤولا عن امتثاله. ويمكن التمثيل لذلك بالاستطاعة للحج ، فالاستطاعة هي القيد ووجوب الحج هو المقيد بها ، فهذا القيد قد أخذ مفروض التحقق ، فمتى ما تحقق خارجا ترتب المقيد وهو وجوب الحج ، وهذا معناه عدم وجوب تحصيل القيد « الاستطاعة » على المكلّف ، نعم لو اتفق حصول الاستطاعة « القيد » خارجا ترتّب المقيد وهو وجوب الحج ، وأصبح المكلّف مسؤولا عن امتثاله.

وهناك قيود يجب على المكلّف تحصيلها بحيث لو لم يحصّلها وجاء بذات المقيّد فإنّه لا يكون ممتثلا للمقيّد ويبقى مخاطبا بامتثال ذات المقيّد مقترنا بقيده.

ومثال هذه القيود الطهارة والاستقبال والساتر بالنسبة للصلاة ، فإن هذه القيود من سنخ القيود التي يجب تحصيلها والصلاة مقيدة بتلك القيود ، ولا يكون المكلّف ممتثلا لذات المقيد « الصلاة » ما لم يأت بالقيود ، فالواجب على المكلّف في مثل هذه الحالة هو امتثال المقيّد مقترنا بقيوده.

٤٧

الضابط لتشخيص حكم القيد :

عرفنا أنّ القيود منها ما يجب تحصيله ومنها ما لا يجب تحصيله ، والذي يميّز القيود الواجبة التحصيل عن القيود التي لا يجب تحصيلها هو ذات المقيّد ، فحينما تكون القيود راجعة إلى متعلق الحكم « الواجب » فهذه من القيود الواجبة التحصيل وهي المعبّر بمقدّمات الواجب ، ومعنى وجوب تحصيل هذه المقدمات هو أنّ الواجب ـ روحا ـ ذات المقيد « المتعلق » مقترنا بالقيد.

وبعبارة أخرى : إنّ الواجب ليس هو الطبيعة على سعتها بل هو الحصة الخاصة من الطبيعة وهي ذات الواجب مقترنا بالقيد ، فالواجب ليس هو الصلاة كيفما اتفقت وإنّما هو ذات الصلاة المتقيّد بالطهارة.

فإذن القيود التي يجب تحصيلها ويكون المكلّف مخاطبا بامتثالها هي القيود الراجعة إلى الواجب أي متعلّق الحكم ؛ ولهذا لا يتحقّق امتثال متعلّق الحكم ما لم يمتثل المكلف الحصّة الخاصّة من المتعلّق وهي الحصّة المقترنة بالقيود المأخوذة فيه.

وأمّا القيود التي لا يجب تحصيلها فهي القيود الراجعة إلى الحكم « الوجوب » وهي المعبّر عنها بمقدمات الوجوب ، فمقدمات الوجوب تؤخذ مفروضة التحقق ، أي متى ما اتفق تحقّقها فإنّ المكلّف بعد ذلك يكون مسؤولا عن امتثال الحكم.

ومن هنا لا تكون هذه المقدمات واجبة التحصيل ، إذ أنّ وجوب تحصيلها يقتضي أن يكون الحكم المقيّد بها فعليّا قبل تحقّق قيوده ، وهذا

٤٨

خلف كون هذه القيود هي الموجبة لتحقق الفعلية للحكم ؛ إذ أنّ هذه المقدمات واقعة في رتبة العلة لفعليّة الحكم فلا يعقل أن يترشح الوجوب من الحكم إليها إذ أنّ هذا يعني أنّ الحكم « الوجوب » فعلي قبل تحقّق مقدّماته خارجا ، وهذا خلف الفرض والذي هو توقف فعليته « المجعول » على وجود مقدّماته خارجا.

وهناك حالة ثالثة تكون فيها القيود راجعة إلى الحكم وإلى متعلّق الحكم ، أي أنّ هذه القيود في الوقت التي تكون قيودا للوجوب هي قيود للواجب. وهنا أيضا لا يكون المكلّف مطالبا بتحصيل هذه القيود ؛ وذلك لعدم فعلية الوجوب قبل تحقّق القيود ، فلا يترشّح عن الوجوب ما يقتضي وجوب مقدماته.

وبعبارة أخرى : لمّا كانت فعليّة الوجوب منوطة بتحقّق مقدّماته فهذا يقتضي عدم وجود الفعليّة قبل وجود المقدّمات ، ولو اتّفق حصول المقدّمات فإنّ الوجوب وإن أصبح فعليّا إلاّ أنّه لا يمكن أن يترشّح عنه وجوب للمقدّمات أيضا ؛ وذلك لأنّه تحصيل للحاصل ، نعم في مثل هذا الفرض ـ وهو تحقّق الفعليّة للوجوب بعد تحقّق مقدّماته ـ يكون المكلّف مخاطبا ومطالبا بالإتيان بالواجب مقترنا بالقيد ، أي أنّه متى ما تحقق الوجوب لتحقّق قيده يكون المكلّف ملزما بتحصيل الواجب وهو الحصة الواجدة للقيد.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ للقيود ثلاثة أنحاء كل نحو يقتضي حكما خاصّا :

النحو الأوّل : هو رجوع القيد للحكم « الوجوب » وهذا يقتضي

٤٩

عدم مسؤولية المكلّف عن تحصيل القيد.

النحو الثاني : هو رجوع القيد لمتعلّق الحكم « الواجب » وهذا يقتضي مسؤوليّة المكلّف عن تحصيل القيد.

النحو الثالث : هو رجوع القيد للحكم والمتعلّق وهذا يقتضي عدم مسؤوليّة المكلّف عن تحصيل القيد إلاّ أنّه حينما يصبح الحكم فعليّا يكون المكلّف مسؤولا عن تحقيق التقيّد بعد افتراض تحقّق القيد ، أي أنّ المكلّف لا يكون ممتثلا ـ بعد فعليّة الحكم بتحقّق قيده ـ إلا أن يأتي بالواجب مقترنا بالقيد ، فلو نذر المكلّف أن يصوم الجمعة واتفق حصول يوم الجمعة فإنّ وجوب صوم يوم الجمعة يصبح فعليّا وذلك لتحقق قيده وهو يوم الجمعة وبهذا يكون المكلّف مسؤولا عن التقيّد ، أي أنّه لا يكون ممتثلا إلاّ أن يأتي بالصوم مقترنا بيوم الجمعة ، وهذا بخلاف ما لو كان القيد راجعا للحكم فحسب فإنّه بتحقّق القيد يكون المكلّف مطالبا بالإتيان بمتعلّق الحكم كيفما اتّفق وليس المطلوب منه حصّة خاصّة وهي المتقيّدة بالقيد.

ومع اتّضاح ما هو الضابط لتشخيص حكم القيد يتّضح أنّ قيود الوجوب لا يلزم أن تكون مقدورة للمكلّف ؛ وذلك لعدم مسؤوليّة المكلّف عن تحصيلها ، إذ أنّها أخذت مفروضة التحقّق ، فلا يلزم من عدم اختياريّة القيود أي محذور بعد أن لم يكن المكلّف مطالبا بإيجادها ؛ ولذلك نلاحظ أنّ من قيود الوجوب ما هو اختياري مثل الاستطاعة ومنها ما هو خارج عن الاختيار والقدرة مثل هلال شهر رمضان بالنسبة لوجوب الصوم والزوال بالنسبة لوجوب الصلاة.

وأمّا قيود الواجب فيلزم أن تكون مقدورة للمكلّف ؛ وذلك لأنّ هذه

٥٠

القيود واجبة التحصيل ويكون المكلّف عاصيا بتفويتها ، فلو كانت خارجة عن قدرة المكلّف واختياره لكان التكليف بها تكليفا بغير المقدور ، وقد اتّضح ممّا سبق استحالة التكليف بغير المقدور من غير فرق بين أن التكليف بمعنى المؤاخذة والإدانة أو أن يكون المراد من التكليف هو أصل التشريع فإنّ كلا منهما مستحيل في ظرف عدم قدرة المكلّف على الامتثال.

قد يقال إنّ الزوال مثلا قد افترض من قيود الواجب وهو خارج عن اختيار المكلّف ، فإذا كانت قيود الواجب واجبة التحصيل لزم من ذلك التكليف بغير المقدور.

وبالتأمّل فيما ذكرناه سابقا يتّضح جواب هذا الإشكال ، حيث قلنا إنّ الذي يجب تحصيله هو التقيّد والذي هو امتثال المتعلّق مقترنا بالقيد ، وهذا ليس خارجا عن اختيار المكلّف كما هو واضح ، ففي الزوال مثلا لا يكون مسؤولا عن تحصيل الزوال حتى يلزم من ذلك التكليف بغير المقدور ، بل إنّ الذي يجب على المكلّف تحصيله هو الصلاة المتقيّدة بالزوال ، أي أنّ الواجب ليس هو طبيعي الصلاة بل الحصة التي تكون فيها الصلاة مقترنة مع الزوال.

قيود الواجب على قسمين :

يمكن تصنيف قيود الواجب إلى قسمين :

القسم الأوّل : وهو ما يعبّر عنه بالقيود أو المقدّمات الشرعيّة ، وهي قيود الواجب المستفادة بواسطة الشارع المقدّس ، وذلك بأن يجعل الشارع امتثال الواجب معلّقا على قيد من القيود ، وبهذا التعليق يصبح الواجب هو

٥١

الحصة المقترنة بذلك القيد.

ويمكن التمثيل لذلك بالطهارة والاستقبال والساتر للصلاة ، فإنّ هذه القيود شرعيّة باعتبار أنّها تثبت عن الشريعة ، وهذا الاعتبار الشرعي أوجب تحصيص الصلاة الواجبة بالحصة المشتملة والمقترنة بهذه القيود والمقدّمات.

وهذه المقدّمات لا تكون واجبة التحصيل إلاّ بعد افتراض تحقق الفعلية للوجوب ؛ إذ أنّ أصل الواجب « متعلّق الوجوب » لا يكون المكلّف مسؤولا عن إيجاده ما لم تتحقّق فعليّة الوجوب ، ومن الواضح أنّ مقدّمات الواجب إنّما يؤتى بها باعتبار توقف امتثال الواجب عليها ، إذ أنّ الواجب ليس هو طبيعي المتعلّق كيفما اتّفق بل هو الحصّة المقترنة بالقيود.

وإذا كان كذلك فوجوب تحصيلها إنّما يثبت بعد تقرّر فعليّة الوجوب للواجب ، فما لم تتحقّق فعليّة الوجوب فلا موجب عقلا لوجوب تحصيل المقدّمات.

وبتعبير آخر : إنّ العلّة في وجوب تحصيل المقدّمات هو فعليّة الوجوب « المجعول » وهذا يقتضي عقلا تأخّر المسؤوليّة عن تحصيل المقدّمات حتى تتحقّق الفعليّة للوجوب.

فالطهارة مثلا لا تكون واجبة التحصيل ما لم تتحقّق فعليّة الوجوب للصلاة ، إذ أنّه قبل تحقّق فعليّة الوجوب للصلاة لا مبرّر لثبوت المسؤوليّة على المكلّف تجاه الطهارة ، إذ أنّ وجوب المقدّمة مترشح عن وجوب ذي المقدّمة.

القسم الثاني : هو ما يعبّر عنه بالقيود العقليّة للواجب ، وهي قيود

٥٢

الواجب التي يتوقّف عقلا تحقّق الواجب عليها ، أي أنّها القيود التي لولاها لما أمكن تكوينا تحقّق الواجب وذلك مثل السفر للحج بالنسبة للآفاقي ، فإنّ الآفاقي لا يمكنه تكوينا أداء فريضة الحجّ ما لم يسافر إلى مكّة المكرّمة.

ومن هنا لو ثبت وجوب الحج في حقّ مكلّف فإنّه يكون مسؤولا عقلا عن تحصيل السفر ؛ وذلك لأنّه مطالب بامتثال الوجوب وهذا غير ممكن ما لم يسافر ، نعم لا يكون المكلّف مسؤولا عن السفر ما لم تثبت فعليّة الوجوب للحج لعين ما ذكرناه في المقدّمات الشرعيّة ، حيث قلنا إنّ وجوب المقدّمة مترشّح عن وجوب ذي المقدّمة ، فافتراض عدم فعليّة وجوب ذي المقدّمة يساوق عدم وجوب المقدّمة المترشّحة عنها ، أمّا في حالة وجوب ذي المقدّمة فحيث إنّ امتثال الوجوب متوقّف تكوينا على تحصيل المقدّمة فالعقل يحكم بلزوم تحصيل المقدّمة.

نعم لو كانت المقدّمة العقليّة من قبيل مقدّمات الوجوب ـ أي من قيود الحكم ـ فلا يكون المكلّف مطالبا بإيجادها بعد أن لم يكن هناك موجب لتحصيلها ؛ إذ أنّ الوجوب إنّما هو متأخر عنها.

ويمكن التمثيل لمقدمات الوجوب العقليّة بالعلم بوقوع المنكر ، فهو مقدّمة لوجوب النهي عن المنكر ، إذ من الواضح أنّ وجوب النهي عن المنكر متوقف عقلا على العلم بوقوع المنكر فمع عدم العلم بوقوع المنكر لا يكون هناك فعليّة لوجوب النهي عن المنكر ، ومن هنا لا يجب تحصيل مقدّمة الوجوب وهي العلم بوقوع المنكر ؛ وذلك لتأخّر فعليّة الوجوب عنها وكونها العلّة لتحقّق الفعليّة.

٥٣

المسؤوليّة قبل الوجوب :

اتّضح ممّا تقدّم أنّه لا مسؤوليّة على المكلّف عن تحصيل مقدّمات الواجب ما لم تتحقّق فعليّة الوجوب ، إلاّ أنّه قد يتفق العلم بعدم التمكّن من تحصيل المقدّمات بعد تحقّق فعليّة وجوب ذيها وكان المكلّف قبل تحقّق الفعليّة للوجوب قادرا على تحصيل تلك المقدّمات ، فهل يلزمه في مثل هذا الفرض أن يأتي بالمقدّمات قبل تحقّق الفعليّة للوجوب أو أنّه لا يلزمه ذلك؟

وبتعبير آخر : إنّ هناك بعض التكاليف يعلم المكلّف بتحقّق فعليّتها فيما يستقبل من الزمان ، وهذه التكاليف لو اتّفقت فعليّتها فإنّ امتثالها يكون متوقفا على مقدّمات شرعيّة ، فلو علم المكلّف أنّ هذه المقدّمات لا يمكن إيجادها عند تحقّق زمان فعليّة الوجوب إلاّ أنّها متيسّرة قبل زمان الفعليّة فهل أن المكلّف في مثل هذا الفرض أيضا لا يكون مسؤولا عن تحصيل المقدّمات أو أنّ العقل في مثل هذا الفرض يحكم بلزوم تحصيل هذه المقدّمات؟ وذلك لأنّ عدم الإتيان بها قبل زمان الفعليّة يقتضي فوات الواجب في حينه ، ومن هنا سمّيت مثل هذه المقدّمات بالمقدمات المفوتة ، ويمكن التمثيل للمقدمات الشرعية المفوتة بالطهارة في فرض عدم القدرة على تحصيلها بعد تحقّق زمان فعليّة الوجوب للصلاة في حين أنّها مقدورة قبل زمان الفعليّة.

ومثال المقدّمات العقليّة المفوتة السفر ، فلو كان البناء على أنّ زمان فعليّة الوجوب للحج يبدأ بهلال شوال ـ أول أشهر الحج ـ وعلمنا بعدم

٥٤

إمكان السفر في أشهر الحج إلاّ أنّه ممكن قبل أشهر الحج أي قبل تحقّق فعليّة الوجوب للحجّ.

فهنا نقول : إنّه هل يلزم المكلّف الإتيان بالطهارة في المثال الأوّل والسفر في المثال الثاني قبل تحقّق زمان الفعليّة للوجوب باعتبار ما يحكم به العقل من لزوم التحفّظ على امتثال الواجب في حينه وعدم تفويته بترك المقدّمات التي يتوقف امتثال الواجب في حينه عليها؟ أو أنّ المكلّف غير مطالب بتحصيل المقدّمات ما لم تتحقّق فعليّة الوجوب وإن لزم من عدم تحصيلها قبل زمان الفعليّة فوات الواجب في حينه؟

والتحقيق أنّ ما تقتضيه القاعدة العقليّة هو عدم وجوب تحصيل مقدّمات الواجب في مثل هذا الفرض ؛ وذلك لأنّه قبل تحقّق زمان الفعليّة لا وجوب حتى يترشّح عنه وجوب لتحصيل المقدّمات ، وبعد تحقّق الزمان الذي يفترض أن يكون الوجوب فيه فعليّا لا يكون هناك فعليّة للوجوب ؛ وذلك لتعذّر امتثال الواجب في حينه فيكون التكليف به تكليفا بغير المقدور وهو منفيّ عقلا. وبيان ذلك :

إنّ وجوب تحصيل مقدّمات الواجب العقليّة والشرعيّة مترشّح عن تحقّق الفعليّة لوجوب الواجب وقبل تحقّق زمان الفعليّة لا وجوب حتى يكون المكلّف مسؤولا عن إيجاد مقدّماته وبعد تحقّق زمان الفعليّة يكون الامتثال خارجا عن القدرة ، وذلك لتعذّر تحصيل المقدّمات المتوقّف تحصيل الواجب عليها ـ كما هو مقتضى الفرض ـ وقد ثبت استحالة التكليف بغير المقدور فلا تكليف حتى يترتّب عليه وجوب المقدّمات.

فالطهارة قبل الزوال والسفر قبل أشهر الحج ليسا واجبي التحصيل

٥٥

لعدم فعليّة وجوب الصلاة قبل الزوال والحج قبل أشهر الحج ، وبعد تحقّق الزوال وابتداء أشهر الحج لا يكون وجوب الصلاة والحج فعليّا أيضا ، وذلك لعدم القدرة على امتثال وجوب الصلاة والحج ، إذ أنّ امتثال الوجوب ـ والذي يقتضي الإتيان بالصلاة والحج ـ يكون متعذرا بعد تعذّر المقدّمات المتوقّف الامتثال عليها فيكون التكليف بهما تكليفا بغير المقدور وهو مستحيل.

والخلاصة أنّ مقدّمات الواجب المفوتة غير واجبة التحصيل كما هو الحال في سائر مقدّمات الواجب قبل تحقّق فعليّة الوجوب.

إلاّ أنّه تبقى مشكلة تحتاج إلى علاج ، وهي أنّ بعض مقدّمات الواجب لا تكون إلاّ من قبيل المقدّمات المفوّتة أي أنّه يتعذّر دائما تحصيلها بعد زمان فعليّة الوجوب ويلزم دائما من تأخير إيجادها إلى زمان الفعليّة فوات الواجب في حينه ، ونجد الفقهاء في مثل هذه الحالة يفتون بلزوم تحصيل هذه المقدّمات المفوّتة.

فمثلا الطهارة من الحدث الأكبر « الجنابة » من مقدّمات الواجب وهو الصوم في شهر رمضان ، إذ أنّ من الثابت فقهيّا أنّه لا يمكن امتثال التكليف بوجوب الصوم إلاّ أن يكون الصوم الممتثل مقترنا بالطهارة من الحدث الأكبر.

ونلاحظ أنّ زمان فعليّة الوجوب للصوم هو الفجر ومقتضى القاعدة أنّ الكون على الطهارة من الحدث الأكبر إنّما يجب تحصيله بعد تحقّق زمان فعليّة الوجوب للصوم « الفجر » إلاّ أنّ تأخير التطهر من الحدث الأكبر إلى ما بعد تحقّق زمان الفعليّة « الفجر » يقتضي دائما العجز عن الإتيان

٥٦

بالواجب « الصوم » مقترنا بالطهارة من الحدث الأكبر ، إذ أنّ الوقت الذي يؤتى فيه بالطهارة لا يكون الصوم مقترنا بالطهارة.

ومن هنا تكون الطهارة من الحدث الأكبر من المقدّمات المفوتة ، ومع ذلك نجد الفقهاء يفتون بلزوم التطهر من الحدث الأكبر قبل طلوع الفجر أي قبل زمان فعليّة الوجوب للصوم.

ويمكن التمثيل لمقدّمات الواجب المفوتة بمثال آخر يناسب مقدّمات الواجب العقليّة ، وهو السفر لعرفات فإنّه مقدّمة للوقوف بعرفات الواجب ، ومقدار الوقوف الواجب يبدأ من زوال الشمس ليوم عرفة ، فإذا كانت فعليّة الوجوب للوقوف متوقّفة أيضا على تحقّق الزوال من يوم عرفة فهذا يقتضي عدم مسؤوليّة المكلّف عن السفر لأرض عرفات قبل زوال يوم عرفة ، في حين أنّ تأخير السفر إلى ما بعد تحقّق الفعليّة يقتضي دائما عجز المكلّف عن الإتيان بالواجب في حينه.

وبهذا اتّضح أنّ السفر إلى عرفات من المقدّمات العقليّة المفوّتة ، والفقهاء ملتزمون بوجوب تحصيل هذه المقدّمة قبل تحقّق زمان فعليّة الوجوب للوقوف.

ومن هنا فقد تصدّى الأصوليّون لبيان ما هو المنشأ للحكم بلزوم تحصيل المقدّمات المفوّتة التي يقتضي تأخيرها إلى زمان فعليّة الوجوب عجز المكلّف عن الإتيان بالواجب في حينه ، وقد ذكروا لذلك مجموعة من التوجيهات أرجأ المصنّف رحمه‌الله البحث عنها أو عن بعضها إلى الحلقة الثالثة.

٥٧
٥٨

القيود المتأخّرة زمانا عن المقيّد

القيود سواء كانت راجعة إلى الوجوب « الحكم » أو كانت راجعة إلى الواجب « متعلّق الحكم » يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : القيود المقارنة : ويعبّر عنها بالشرط المقارن ، وهي القيود المأخوذة على نحو تكون متحدة زمانا مع المقيد ، فالقيود الراجعة للوجوب هي القيود الموجب تحقّقها تحقّق فعليّة الوجوب بحيث لا تكون هناك فاصلة زمنيّة بين تحقّق القيود خارجا وبين ترتّب الفعليّة للوجوب ، فمتى ما تحققت القيود تحقّقت معها الفعليّة.

ويمكن التمثيل لذلك بالزوال بالنسبة لفعليّة الوجوب للصلاة ، إذ أنّ فعليّة الوجوب للصلاة مقارنة زمانا لتحقق الزوال خارجا.

وأمّا القيود المقارنة للواجب فهي القيود المأخوذة على نحو يكون امتثال الواجب منوطا بتواجدها في تمام زمان الامتثال بحيث لا يكون الواجب حين امتثاله فاقدا لذلك القيد.

ويمكن التمثيل لذلك بالاستقبال والساتر والكون على طهارة ، فإنّ كل هذه الشروط من الشروط المقارنة للصلاة فلا يكون المكلّف ممتثلا ما لم تكن هذه القيود مقترنة بالصلاة حين امتثالها.

القسم الثاني : القيود المتقدّمة : ويعبّر عنها بالشرط المتقدّم ،

٥٩

وهي القيود التي أخذت متقدّمة على المقيّد بها ، أي يلزم أن يكون وجودها قبل وجود المقيّد بها.

فالقيود المتقدّمة الراجعة للحكم هي القيود التي افترضت على نحو تكون فعليّة الوجوب متأخرة عنها وتكون هي متقدّمة على الفعليّة ، ومثاله الاستطاعة بناء على أنّ الفعليّة لوجوب الحج إنّما تكون بعد تحقّق أشهر الحج.

وأمّا القيود المتقدّمة للواجب فهي القيود التي أخذت على نحو تكون متقدّمة على امتثال الواجب بحيث لا يكون المكلّف ممتثلا ما لم يتحقّق القيد أولا.

ويمكن التمثيل لذلك بالوضوء والغسل والتيمّم للصلاة فإنّ هذه القيود أخذت على نحو يكون تحصيلها قبل الإتيان بالواجب « الصلاة ».

القسم الثالث : القيود المتأخّرة : ويعبّر عنها بالشرط المتأخر ، وهي القيود التي أخذت على نحو تكون متأخرة عن زمان المقيّد.

فالقيود المتأخّرة الراجعة للحكم هي القيود المتأخّرة عن الحكم زمانا والموجبة لفعليّته من حين وقوع متعلّقه.

ويمكن التمثيل لذلك بعقد الفضولي بناء على الكشف ؛ وذلك لأنّه بناء على الكشف تكون إجازة المالك موجبة لنفوذ العقد من حين وقوعه فتكون الإجازة المتأخّرة شرطا في نفوذ ما وقع من عقد في زمن متقدّم.

وبيان ذلك :

لو باع شخص ما لا يملك دون إذن المالك فإنّ هذا البيع يكون

٦٠