شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

شرح الأصول من الحلقة الثانية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ثامن الحجج
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

قاعدة تساقط المتعارضين

والبحث في المقام يقع عمّا هو مصير الدليلين المتنافيين فيما بينهما بعد تعذّر الجمع العرفي بينهما ، فهل أنّ القاعدة تقتضي سقوطهما معا عن الحجيّة أو سقوط أحدهما دون الآخر على نحو التخيير أو التعيين أو تكون الحجيّة ثابتة لهما معا؟

ويتحدد الجواب عن ذلك بملاحظة دليل الحجيّة والذي استفدنا منه حجية خبر الثقة مثلا ، وهل أنّ دليل الحجيّة يتسع لإثبات الحجيّة في حالات التعارض؟ وإذا كان كذلك فبأي مقدار تكون الحجيّة ثابتة لهما؟

وهذا ما سيتم البحث عنه في المقام إلاّ أنّه لا بدّ من التنبيه على أنّ البحث عن شمول الحجيّة للدليلين المتعارضين إنّما هو بقطع النظر عن الأدلّة التي تصدّت لعلاج التعارض بين الأدلّة ، على أنّه لا بدّ من الالتفات إلى أمر آخر وهو أنّ التعارض لا يكون إلاّ بين الدليلين المتكافئين من حيث الأهلية لثبوت الحجيّة لهما لولا التعارض ، أما الدليل الذي لا تشمله الحجيّة من أول الأمر فإنّه لا يصلح لأن يعارض الدليل المتوفّر على شرائط الحجيّة ؛ وذلك لسقوطه عن الحجيّة من أول الأمر فحتى لو لم يكن ما يعارضه فإنّه لا اعتبار به ولا يصلح لإثبات مؤداه.

وكيف كان فالبحث أولا يقع في مقام الثبوت وأي الافتراضات التي

٤٤١

تكون ممكنة من حيث إمكان اتساع الحجيّة لها وأيّ الافتراضات التي لا تكون ممكنة ، والبحث الإثباتي سوف يكون مقتصرا على خصوص الافتراضات الممكنة في مقام الثبوت أمّا الافتراضات غير الممكنة فإنّ عدم إمكانها كاف في عدم صلاحيتها لأن تبحث في مقام الإثبات بعد أن كان المفترض فيها غير مؤهل لأن تثبت له الحجيّة.

والافتراضات المتصورة في مقام الثبوت خمسة :

الافتراض الأول : هو شمول الحجيّة للدليلين المتعارضين بحيث يكون المكلّف مسؤولا عنهما معا وفي عرض واحد ولا يعذر في مخالفة أيّ واحد منهما.

وهذا الافتراض مستحيل غايته ؛ وذلك لاستحالة التصديق بالمتكاذبين فحينما يطلب منّا المولى التصديق بكلا المتعارضين فإنّه يطلب المستحيل.

ودعوى أنّ الحجيّة لا تستوجب التصديق والإذعان بمؤدى الدليلين المجعول لهما الحجيّة بل غاية ما توجبه الحجيّة هو الجريان على طبق مؤدى الدليلين المتعارضين ، وأين هذا من طلب المستحيل؟!

هذه الدعوى غير قادرة على إثبات إمكان جعل الحجيّة للدليلين المتعارضين ، إذ أنّ الجريان على طبق مؤدى الدليلين المتعارضين أيضا مستحيل ؛ وذلك لأن الدليل الأول إذا كان مقتضيا للحرمة فإنّ الجريان على وفقه يقتضي التجنّب عن متعلّق الحرمة فإذا كان الدليل الآخر مقتضيا للإباحة فالجريان على وفقه يقتضي السعة من جهة ترك متعلقه أو فعله فإذا التزم المكلّف بالثاني فهذا يعني عدم الجريان على وفق مؤدى الدليل الأول

٤٤٢

ومع التزامه بالأول يكون قد ناقض الثاني والذي يقتضي السعة ، ويكون الأمر أوضح في حالات اقتضاء الدليلين لحكمين إلزاميين متنافيين كما لو كان الأول يقتضي الوجوب والثاني يقتضي الحرمة فإنّه من المستحيل تنجّز كلا الدليلين كما هو أوضح من أن يخفى ، وبهذا اتضح سقوط الافتراض الأوّل.

الافتراض الثاني : أن تكون الحجيّة ثابتة للمتعارضين على نحو يكون الالتزام بأحدهما موجبا لسقوط الحجيّة عن الآخر ، فثبوت الحجيّة لأحد الدليلين منوط بعدم الالتزام بمؤدى الدليل الآخر.

والإشكال على هذا الافتراض هو أنّ المكلّف لو أهمل كلا الدليلين ولم يلتزم بهما معا فإنّ حجيّة كل واحد منهما تكون فعلية لتنقح موضوعها ، إذ أنّ موضوع الحجيّة ـ كما هو الفرض ـ للدليل الأول هو عدم الالتزام بالثاني وهو غير ملتزم بالثاني ـ بحسب الفرض ـ وموضوع الحجيّة للدليل الثاني منوط بعدم الالتزام بالأول وهو غير ملتزم به أيضا فيكون كلا الدليلين متوفّر على شرط الحجيّة فتتنجّز حجيّة المتكاذبين في عرض واحد وهذا يؤول إلى الافتراض الأول ، وبهذا يسقط الافتراض الثاني لاستحالته وعدم إمكانه.

الافتراض الثالث : أن تكون الحجيّة ثابتة لأحد المتعارضين تعيينا بأن يختار المولى نفسه أحد الدليلين ويجعل له الحجيّة ويسقطها عن الآخر ، وذلك لملاك يقتضي التعيين ، وهذا الافتراض لا محذور فيه ثبوتا.

الافتراض الرابع : أن تكون الحجيّة مجعولة لكلا الدليلين ولكن بنحو التخيير ، وهذا يقتضي ألا يكون المكلّف في سعة من جهة كلا الدليلين معا

٤٤٣

بل هو ملزم بأحدهما غير المعيّن ، نعم متى ما التزم بأحدهما فإنّ الآخر لا يكون منجّزا عليه ، فلو كان مؤدى أحد الدليلين هو الحرمة والآخر الإباحة فإنّ المكلّف في سعة من جهة اختيار أحدهما غير المعيّن ، فمتى ما التزم بمؤدى الدليل الأول فإنه يكون مسؤولا حينئذ عن امتثال مؤداه وهو الحرمة ومتى ما التزم بالآخر فإنّه يكون في سعة من جهة مؤدى الدليل الأول ويكون الدليل الآخر صالحا لتأمينه عن مخالفة الدليل الأول ، وهكذا الكلام لو كان أحد الدليلين الوجوب والآخر الحرمة ، وهذا الافتراض لا محذور فيه أيضا ؛ إذ لا مانع عقلا في أن يجعل المولى الحجيّة للدليلين المتعارضين بنحو التخيير.

الافتراض الخامس : ألا تكون الحجيّة ثابتة للدليلين المتعارضين ، بمعنى أنّ المولى لم يجعل الحجيّة للدليل الذي له معارض ، فكلّ دليل وإن كان واجدا لشرائط الحجيّة في نفسة إلاّ أنّه إذا كان مبتليا بمعارض فهو غير مشمول لأدلّة الحجيّة ، وهذا الافتراض ممكن ولا محذور فيه.

وأمّا مقام الإثبات :

والبحث في هذا المقام عن أيّ الافتراضات التي تتناسب مع دليل الحجيّة.

أمّا الافتراض الأول والثاني : فلا مجال للبحث عنهما في مقام الإثبات ؛ وذلك لاستحالتهما في نفسيهما ، وإذا كان كذلك فهما غير مرادين من دليل الحجيّة قطعا فلا نحتاج لعرضهما على دليل الحجيّة.

وأما الافتراض الثالث : ـ وهو ثبوت الحجيّة لأحد المتعارضين تعيينا فإنّ أدلّة الحجيّة لا تساعد عليه ؛ وذلك لعدم وجود ما يقتضي ترجّح أحد

٤٤٤

الدليلين على الآخر بعد أن كان كلاهما واجدا لشرائط الحجيّة لولا التعارض ، فافتراض أحدهما المعين حجّة دون الآخر بلا مبرّر ، وهذا ما يوجب استظهار عدم إرادة هذا الافتراض من دليل الحجيّة.

وأمّا الافتراض الرابع : ـ وهو ثبوت الحجيّة للمتعارضين بنحو التخيير ـ فهو أيضا مخالف لمقتضى الظهور في دليل الحجيّة ، إذ أنّ دليل الحجيّة يثبت الحجيّة للأدلّة بنحو التعيين بمعنى أنّ كلّ دليل واجد لشرائط الحجيّة فهو حجّة تعيينا ويكون المكلّف مسؤولا عن الجريان على طبقة لا المسؤولية عنه أو عن غيره فإنّ ذلك خلاف ما هو المستظهر من دليل الحجيّة فلا مصحح لهذا الافتراض ما لم يبرز مدّعي هذا الافتراض قرينة في دليل الحجيّة توجب استظهار هذا الافتراض ، وملاحظة أدلّة الحجيّة يمنع من وجود هذه القرينة ، وبهذا يسقط هذا الافتراض أيضا.

وأمّا الافتراض الخامس : ـ وهو سقوط الحجيّة عن كلا المتعارضين ـ فهو المتعيّن ، إذ لا دليل على حجيّة المتعارضين ، ومع عدم الدليل على الحجيّة لا سبيل لإثباتها ، فلا أقل من الشك في الحجيّة وهو مساوق للقطع بعدمها.

مقدار ما يسقط عن الحجيّة في حال التعارض :

بعد أن اتّضح أنّ القاعدة في حالات التعارض هي التساقط يقع البحث عن مقدار ما يسقط بالتعارض.

وبيان ذلك : إنّ الدليلين المتعارضين على نحوين :

النحو الأول : ألا يكون لهما مدلول التزامي أو أن المدلول التزامي لأحد المتعارضين مناف للمدلول الالتزامي للدليل الآخر ، فهنا لا إشكال

٤٤٥

في أنّ وجودهما كالعدم من جهة الحجيّة.

مثلا لو كان مفاد الدليل الأول هو صحة بيع الغرر وكان مؤدى الدليل الثاني هو فساد بيع الغرر فهنا لا يكون للدليلين المتعارضين مدلول التزامي يتفقان على نفيه ، فهو وإن كان للدليل الأول مدلول التزامي إلاّ أنّه مناف للمدلول الالتزامي للدليل الآخر.

فالمدلول الالتزامي لفساد بيع الغرر هو حرمة التصرّف في الثمن المنتقل عن بيع الغرر وهذا بخلاف المدلول الالتزامي لصحة بيع الغرر ، ومن هنا قلنا إنّ هذا النحو من الأدلّة المتعارضة يكون وجودها كالعدم من جهة الحجيّة.

النحو الثاني : أن يكون للدليلين المتعارضين مدلول التزامي يتفقان عليه.

ويمكن التمثيل لذلك بما لو كان مؤدى الدليل هو وجوب صلاة الجمعة ومؤدى الدليل الآخر هو حرمة صلاة الجمعة فإنهما وإن كانا بحسب المدلول المطابقي متنافيين إلاّ أنّهما يشتركان في نفي الاستحباب مثلا عن صلاة الجمعة إذ أن لازم الحرمة هو عدم الاستحباب كما أنّ لازم الوجوب هو عدم الاستحباب لأن الأحكام متنافية فيما بينها فيستحيل اجتماع حكمين متغايرين على متعلّق واحد ، وهذا هو منشأ المدلول الالتزامي ، فكل دليل يثبت حكما لموضوع فإنّه ينفي الأحكام الأخرى عن ذلك الموضوع.

وهذا النحو من الأدلّة المتعارضة هو محل البحث ، إذ يقع الكلام في أنّ سقوط الحجيّة عن الدليلين المتعارضين هل هو خاص بمدلوليهما المطابقي حيث إنّهما مركز التنافي أو أنّ السقوط عن الحجيّة يشمل المدلول الالتزامي

٤٤٦

لكلا الدليلين رغم أنّ المدلول الالتزامي لكلا الدليلين واحد؟

ويتحدّد الجواب عن ذلك بنتيجة بحث تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في السقوط عن الحجيّة والتي تقدم البحث عنها.

فإن كنّا نبني على التبعية في السقوط فالمدلول الالتزامي للدليلين المتعارضين ساقط عن الحجيّة تبعا لسقوط المدلول المطابقي في كل من الدليلين المتعارضين.

وإن كنا نبني هناك على عدم التبعية في السقوط فإنّه لا مانع من ثبوت الحجيّة للمدلول الالتزامي رغم سقوط المدلول المطابقي لكل من الدليلين.

٤٤٧
٤٤٨

قاعدة الترجيح للروايات الخاصّة

ما ذكرناه من أنّ القاعدة في حالات التعارض هي التساقط إنّما هو في حالات عدم وجود دليل شرعي يقتضي ثبوت الحجيّة لأحد الدليلين المتعارضين ، وأمّا مع وجود دليل على ثبوت الحجيّة لأحد المتعارضين فإنّه لا يصح التمسك بقاعدة التساقط ؛ وذلك لأن التساقط منشؤه عدم شمول دليل الحجيّة لكلا الدليلين المتعارضين فإذا ثبت أنّ الدليل الشرعي يجعل الحجيّة لأحّد الدليلين الواجد لأحّد المرجّحات الموجبة للترجيح بمقتضى الدليل الشرعي فلا مبرّر حينئذ للتمسّك بقاعدة التساقط في ذلك المورد.

ومن هنا ذهب مشهور الفقهاء « رضوان الله عليهم » إلى أنّ قاعدة التساقط لا تجري في حالات التعارض بين الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ؛ وذلك لقيام الدليل الخاص على ثبوت الحجيّة للخبر الواجد لبعض المرجّحات ، نعم إذا انتفت تمام المرجّحات المذكورة عن كلا الخبرين المتعارضين فإن الملجأ حينئذ هي قاعدة التساقط.

وقد ذكر المصنّف رحمه‌الله من هذه الأدلّة ـ التي استدلّ بها على قاعدة الترجيح في الأخبار ـ معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : قال الصادق عليه‌السلام « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه ، فإن لم تجدوهما في

٤٤٩

كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه » (١).

وقد طرحت هذه الرواية الشريفة مرجحين رتبت بينهما في مقام الترجيح أي جعلت المرجح الثاني منوطا بفقدان المرجح الأول ، ومن هنا لا يلجأ إلى المرجح الثاني إذا ما كان المرجح الأول موجودا كما لا يلجأ إلى قاعدة التساقط إذا كان المرجح الثاني موجودا.

وهنا لا بدّ من بيان المراد من المرجحين :

أمّا المرجّح الأول :

وهو تقديم الخبر الموافق لكتاب الله عز وجل على الخبر المخالف لكتاب الله تعالى ، وهو يستوجب بيان معنى الموافقة لكتاب الله تعالى ومعنى المخالفة للكتاب.

أمّا المراد من الموافقة : فالذي ينسبق إليه الذهن بدوا من معنى الموافقة هو مطابقة مفاد الخبر لمفاد النص القرآني إلاّ أنّه مع الالتفات إلى أنّ القرآن الكريم لم يتصدّ لبيان تفاصيل الأحكام وغاية ما هو موجود في القرآن الكريم هو مجموعة من العمومات والإطلاقات ، وهذا يقتضي أن تكون موارد الاستفادة من المرجح الأول محدودة جدا لو كان المراد من الموافقة هو مطابقة مفاد الخبر للنص القرآني ، وهذه المحدودية والندرة تبعّد استظهار هذا المعنى ، إذ مع الالتفات إلى أنّ القرآن الكريم لم يتعرّض إلاّ لبيان العمومات وأنّ الأخبار المتعارضة غالبا ما تكون متصدّية لبيان

__________________

(١) الوسائل باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٢٩.

٤٥٠

تفاصيل الأحكام يحصل الاطمئنان بعدم إرادة المعنى المذكور ، وبهذا يتعيّن أن يكون المراد من الموافقة هو عدم المخالفة لكتاب الله جلّ وعلا.

وأمّا المراد من المخالفة لكتاب الله جلّ وعلا :

فهي محتملة لمعنيين :

المعنى الأول : المخالفة لكتاب الله تعالى بنحو التباين بحيث لا يمكن الجمع العرفي بين مؤدى الخبر وبين النص القرآني ، كما لو كان مؤدى الخبر هو حليّة شرب الخمر.

وهذا المعنى غير مراد حتما ، إذ أنّ فرض الكلام هو واجديّة الخبر لشرائط الحجيّة لولا التعارض وتكون المخالفة لكتاب الله تعالى هي الوسيلة للتعرّف على الخبر الحجة في حالات التعارض ومع افتراض كون المخالفة بمعنى التباين التام بين مؤدى الخبر ومؤدى النص القرآني لا يكون الخبر واجدا للحجيّة من أول الأمر ، إذ أنّ شرط الحجيّة للخبر هو عدم منافاته للنص القرآني ، فكلّ خبر حتى ولو لم يكن له معارض إذا كان مخالفا لكتاب الله عزّ وجلّ بهذا النحو من المخالفة يكون ساقطا عن الحجيّة فلا يكون مكافئا للخبر الآخر حتى يتحقق التعارض.

المعنى الثاني : أن يكون المراد من المخالفة هي المخالفة التي يمكن معها الجمع العرفي كما لو كان النص القرآني عاما وكان خبر الثقة خاصا أو كان النص القرآني محكوما أو مورودا وكان خبر الثقة حاكما أو واردا.

ومن الواضح أنّه لولا التعارض بين الخبر المخالف بهذا النحو من المخالفة وبين الخبر الآخر لكان الخبر المخالف تام الحجية فيصلح لتقييد وتخصيص عمومات الكتاب ويصلح أن يكون قرينة على المراد الجدّي من

٤٥١

النص القرآني.

وهذا النحو من المخالفة هو الظاهر من الرواية الشريفة ، إذ هو الذي يتناسب مع صلاحيّة هذا الخبر لأن يعارض ، فإذا كان معنى المخالفة لكتاب الله تعالى هي المخالفة بنحو الإطلاق والتقييد والقرينة مع ذي القرينة فهذا يقتضي أنّه في كل مورد تعارض فيه خبران فإنّ المقدّم هو الخبر الذي لا يخالف كتاب الله بهذا النحو من المخالفة التي لو كان هذا الخبر غير مبتل بالمعارضة لكان واجدا للحجية وصالحا لتقييد إطلاقات الكتاب وصالحا لصرف ظهورات الكتاب إلى النحو الذي يتناسب مع ظهوره.

والمتحصّل ممّا ذكرناه أنّ المرجح الأول هو مخالفة أحد الخبرين للكتاب فإنّ ذلك يقتضي ترجيح الآخر ، وأمّا الموافقة بمعنى التطابق التام بين مؤدى الخبر والنص القرآني فليس مرجحا ، إذ ليست هي المقصود من الرواية الشريفة.

وأمّا المرجّح الثاني :

وهو الترجيح بما خالف أخبار العامّة فهو يأتي في المرتبة الثانية من المرجّح الأوّل ، وهذا يقتضي عدم صحة التعويل عليه في حالات تواجد المرجّح الأول.

وكيف كان فمفاد الرواية الشريفة هو أنّ المرجح الثاني هو مخالفة أخبار العامة فمتى ما كان أحد الخبرين موافقا لأخبارهم وكان الآخر مخالفا لأخبارهم فإنّ مقتضى مفاد الرواية الشريفة هو سقوط الخبر الموافق عن الحجيّة ، ومنه ينقدح هذا الاستفهام وهو أنّ المرجح هل هو خصوص الموافق لأخبار العامة فلا يشمل الموافق لفتاواهم لو لم يكن مستندها

٤٥٢

أخبارهم أو انّ المرجّح هو مطلق ما عليه العامّة من آراء ومتبنيات ولو كانت مستندة إلى غير الأخبار كالقياس والاستحسان؟

والجواب : أنّ المرجّح هو مطلق ما عليه العامة من آراء وفتاوى ، إذ أنّ هذا هو مقتضى مناسبات الحكم والموضوع فإنّه مع الالتفات إلى أنّ هذا المرجح ليس مرجحا تعبديا صرفا بل هو مبتن على الظروف التي كانت تقتضي التقية الداعية لصدور بعض الأحكام على نحو لا تكون مرادة جدا وواقعا ، بل إنّ الغرض منها التحاشي عن مخالفة العامة ومصادمتهم لما يترتّب عن مخالفتهم آنذاك من مضاعفات تعود بالضرر على أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم « أعزهم الله تعالى » وإذا كان هذا هو المبرّر لهذا المرجح الجهتي فمن الواضح أنّه لا يختلف الحال فيه بين الموافقة للأخبار أو للفتاوى الغير المستندة إلى الأخبار وهذا ما يستوجب استظهار المثالية لعنوان أخبار العامة في الرواية الشريفة ، ويمكن تأييد ما ذكرناه بما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليا عليه‌السلام لم يكن يدين الله بدين إلاّ خالفت عليه الأمّة إلى غيره ، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الشيء الذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم ، جعلوا له ضدا من عندهم ليلبسوا على الناس » (١).

__________________

(١) الوسائل باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٢٤.

٤٥٣
٤٥٤

قاعدة التخيير للروايات الخاصّة

كنا قد خرجنا عن قاعدة التساقط في خصوص الروايات المتعارضة ؛ وذلك لوجود الدليل الخاص على تقديم الخبر المشتمل على بعض المرجحات المنصوصة وقلنا إنّه في حالات عدم وجود المرجّح لأحد الخبرين المتعارضين فإنّ المرجع حينئذ هو قاعدة التساقط إلاّ انّه قد يدعى انّ قاعدة التساقط لا تجري مطلقا في الأخبار المتعارضة حتى في حالات فقد المرجحات المنصوصة ؛ وذلك لوجود أدلّة خاصة تدلّ على انّ الوظيفة في حالات فقد المرجّح المنصوص هو التخيير أي أنّ المكلّف في سعة من جهة اختيار أحد الخبرين المتعارضين ، فتكون هذه الروايات الخاصة قد كشفت عن جعل الشارع الحجيّة للأخبار المتعارضة ، ولكن بنحو تكون هذه الحجيّة مجعولة للخبرين المتعارضين على نحو التخيير بنفس التقريب الذي ذكرناه في الافتراض الرابع ، فنحن وإنّ قلنا هناك انّ أدلّة الحجيّة قاصرة عن إثبات الافتراض الرابع إلاّ أنّه كنّا نقصد من ذلك قصور أدلّة الحجيّة العامة فإذا كان هناك دليل يثبت جعل الحجيّة التخييريّة في حالات التعارض بين الخبرين فلا مانع من الالتزام به بعد إمكانه ثبوتا كما اتضح مما تقدم.

وكيف كان فلابدّ من ملاحظة هذه الأدلة الخاصة لنرى أنّها صالحة

٤٥٥

لإثبات هذه الدعوى وأنّ المرجع في حالات التعارض بين الأخبار وعدم وجود المرجح هو التخيير وليس هو قاعدة التساقط أو أنّ هذه الأخبار الخاصة لا تنهض لإثبات هذه الدعوى.

وعمدة هذه الأدلّة هي معتبرة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ فقال عليه‌السلام : « يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه » (١).

وتقريب الاستدلال :

هو أنّ الإمام عليه‌السلام قد جعل المكلّف في سعة من جهة الخبرين المتعارضين وهذا يساوق معنى التخيير ، إذ لو كان الخبران ساقطين عن الحجيّة لما كان المكلّف في سعة من جهة الأخذ بأي الخبرين بل يلزمه عدم التعويل عليهما والرجوع في ذلك إلى ما تقتضيه الأدلّة العامّة أو الرجوع إلى الأصول العمليّة التي قد تقتضي التنجيز في بعض الحالات وهو ما ينافي السعة ، فلا محيص عن فهم التخيير من هذه الرواية الشريفة ، وبهذا يثبت المطلوب.

والإشكال على تقريب الاستدلال :

هو أنّ هذا الفهم غير متعيّن من الرواية ؛ إذ من المحتمل قويا أن يكون المراد من السعة في الرواية هو السعة من حيث لزوم الفحص عمّا هو الواقع والذي يستوجب مؤنة زائدة وهي تحرّي وجود الإمام عليه‌السلام والسفر إليه

__________________

(١) الوسائل باب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ٥.

٤٥٦

لغرض سؤاله عن الواقع ، فهو في سعة من هذه المؤنة ، نعم لو اتفق أن التقى بالإمام عليه‌السلام فإنه ملزم بسؤاله عن الواقع ، ويبقى الكلام عن الوظيفة المتوجّهة للمكلّف في مثل هذه الحالة وهذه الجهة لم تتصدّ الرواية لبيانها فيكون المرجع حينئذ ـ وبمقتضى الإطلاق المقامي ـ هو البناء على الضوابط العامة أي الجريان على وفقها وكأنّه لم يرد عليه هذان الخبران المتعارضان ، فإن كان هناك عمومات أو إطلاقات فهي المرجع وإلاّ فالمرجع هو الأصول العملية بحسب ترتبها في الحجيّة.

وأمّا كيف يكون ذلك هو مقتضى الإطلاق المقامي فلأنّ الإمام عليه‌السلام لمّا كان في مقام البيان من جهة تحديد الوظيفة المتوجهة للمكلّف في الحالة المفترضة فكلّ شيء من المحتمل أن يكون المكلّف مسؤولا عنه ومع ذلك لم يذكره الإمام عليه‌السلام فهو يكشف عن عدم مسؤوليّة المكلّف عن ذلك الشيء.

وبعبارة أخرى : قد ذكرنا أنّ الإطلاق المقامي ينشأ عن استظهار أنّ المولى في مقام تعداد موضوعات الحكم المذكور في كلامه فلو كان في مقام بيان أجزاء المركب الواجب ولم يذكر أحد الأجزاء التي من المحتمل جزئيتها للمركب فهذا يكشف عن عدم كونها جزء لذلك المركب ، أو كان المولى مثلا في مقام تعداد مفطرات الصائم فإنّ الذي لم يذكره لا يكون من المفطرات بمقتضى الإطلاق المقامي.

والمقام من هذا القبيل ، إذ أنّ الإمام في مقام بيان الوظيفة تجاه حالة التعارض بين الخبرين فإذا جعل السعة من جهة الخبرين فحسب ولم يذكر أنّ المكلّف في سعة أيضا من جهة العمومات والإطلاق الخارجة عن أطراف المعارضة وكذلك لم يذكر أنّ المكلّف في سعة من جهة الأصول

٤٥٧

العمليّة فعدم ذكره كاشف عن عدم شمول السعة للعمومات والأصول العمليّة.

والمتحصّل أنّ من المحتمل قويّا أن يكون المراد من السعة في الرواية الشريفة هو السعة من حيث لزوم الفحص المستوجب للمؤنة الزائدة ، وإذا كان كذلك فالرواية مجملة فلا يمكن استظهار المعنى الأول منها.

وبهذا لا تكون صالحة للاستدلال بها على جعل الحجيّة بنحو التخيير للخبرين المتعارضين.

٤٥٨

التعارض بين الأصول العمليّة

وكيفية تصوير التعارض في الأصول العمليّة هو أن يفترض عروض أصلين عمليين على موضوع واحد يكون أحدهما مقتضيا لثبوت المنجزيّة ويكون الآخر مقتضيا لنفيها أو يكون أحدهما مقتضيا لأثر شرعي ويكون مقتضى الآخر أثرا شرعيا منافيا للأثر الشرعي الأول كما في حالات استصحاب مجهولي التاريخ.

وحالات التعارض المستحكمة تجري فيها قاعدة التساقط ، وقد لا يكون التعارض بين الأصول مستحكما ، كالتعارض البدوي الواقع بين أصالة الاحتياط العقلي وبين أصالة البراءة الشرعيّة فالتعارض في هذا المورد غير مستقر ؛ وذلك لأن العلاقة بينهما علاقة الوارد والمورود فأصالة البراءة واردة على أصالة الاحتياط العقلي.

وتقريب ذلك : أنّ أصالة البراءة الشرعيّة تنفي موضوع أصالة الاحتياط العقلي حقيقيّة ؛ وذلك لأنّ موضوع أصالة الاحتياط العقلي هو احتمال التكليف مع عدم الترخيص الشرعي ، * وأصالة البراءة الشرعيّة تنفي عدم الترخيص ، إذ أنّها ترخيص في الترك حقيقة ، غايته أنّ الترخيص تمّ بواسطة التعبّد الشرعي وهذا هو معنى الورود كما بينا ذلك.

وقد لا تكون العلاقة بين الأصلين علاقة الوارد والمورود كما في

٤٥٩

حالات التعارض البدوي بين البراءة والاستصحاب ، ومثاله ما لو كان المكلّف يعلم بحرمة العصير العنبي ثمّ إنّه لمّا ذهب ثلثاه بواسطة الشمس شك في بقاء الحرمة فإنّ مقتضى أصالة الاستصحاب هو الحرمة ومقتضى أصالة البراءة هو عدم الحرمة.

وهنا ذهب مشهور الفقهاء « رضوان الله عليهم » إلى أنّ المقدم في مثل هذه الحالات هو أصالة الاستصحاب واستدلوا على ذلك بدليلين :

الدليل الأوّل : هو حكومة أصالة الاستصحاب على أصالة البراءة ؛ وذلك لأنّ دليل الاستصحاب ناظر إلى دليل البراءة وناف لموضوعها تعبدا وتنزيلا ، إذ أنّ موضوع أصالة البراءة هو عدم العلم بالحرمة وأصالة الاستصحاب قد نزّلت مشكوك الحرمة المعلومة سابقا منزلة اليقين ببقائها ، وهذا اللسان قرينة على النظر ـ كما بيّنا ذلك ـ وبالتالي يكون أصل الاستصحاب حاكما على أصالة البراءة لأنّه ينفي موضوعها تنزيلا ويعتبر الشك في الحرمة المسبوقة بالعلم علما ، فكأنّ الاستصحاب يلغي موضوع البراءة وهو الشك ويجعله علما عملا وفي مقابل ذلك لانجد أنّ دليل أصالة البراءة يعتبر عدم العلم بالحرمة علما بعدم الحرمة ، بل إنّ غاية ما يثبته دليل البراءة هو أنّه متى ما تحقّق الشك فإنّ المكلّف في سعة من جهة التكليف المشكوك ، ومن هنا لا يكون لدليل البراءة نظر لأيّ دليل آخر.

وممّا ذكرناه يتّضح أنّ كل مورد يكون مجرى للأصلين فإنّ أصالة الاستصحاب تكون متقدّمة باعتبار حاكميتها على أصالة البراءة.

الدليل الثاني : أظهرية دليل الاستصحاب على دليل البراءة فيقدم دليليه على دليل البراءة لقاعدة تقديم الأظهر على الظاهر والتي منشؤها

٤٦٠